جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة التفاسير (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=660)
-   -   مسائل تفسير المعوذتين من كتاب قرة العينين (http://jamharah.net/showthread.php?t=23159)

عبد العزيز بن داخل المطيري 18 ربيع الثاني 1435هـ/18-02-2014م 09:28 PM

مسائل تفسير المعوذتين من كتاب قرة العينين
 
مسائل تفسير المعوذتين من كتاب قرة العينين بتفسير المعوِّذتين

تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد يسّر الله تعالى لي إلقاء دورة في تفسير المعوذتين في عشر ذي الحجة من عام 1433هـ، وقد جمعت المادة العلمية لدروس تلك الدورة وراجعتها وأخرجتها في كتاب، ثم رأيت من المفيد تقريب ما تضمنه الكتاب في موضوع واحد جامع لأطراف مسائله.

وقد أُعدّ هذا الدليل لهذا الغرض، وأسأل الله تعالى أن يتقبّل هذا العمل وأن ينفع به إنه قريب مجيب.

وأشكر المشرفة الفاضلة "أروى المطيري" على إدراج المادّة العلمية للكتاب هنا، ووضع الروابط لتسهيل الوصول إلى المعلومة.




* اضغط على عنوان المسألة لتطّلع على ما قيل فيها.

...
مقدمات في تفسير المعوذتين

خطبة تفسير المعوذتين
بيان معنى المعوِّذتين
- المراد بالمعوذات
- صفة الرقية بالمعوّذات
- ورود تقديم النفث على القراءة والعكس

فضائل المعوذتين
متى نزلت المعوذتان؟
ما قيل في نزول المعوذتين بسبب حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم
- الذي سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو لبيد بن الأعصم وكان يهوديا منافقاً من بني زريق
- إنكار المعتزلة لحادثة سَحْر النبي صلى الله عليه وسلم ، والرد عليهم
- أثر السحر على النبي صلى الله عليه وسلم
- مدّة لبث النبي صلى الله عليه وسلم مسحوراً
- التنبيه على ضعف بعض الروايات الواردة في هذه الحادثة وتضمّنها زيادات منكرة

تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}
معنى الغاسق
- ما يفيده تنكير الغاسق في الآية
- أقوال العلماء في المراد بالغاسق
- ما قيل في سبب وصف الليل بأنه غاسق
- القول الراجح في معنى الغاسق في اللغة
- القول الراجح في المراد بالغاسق في هذه الآية
ما قيل في تفسير الغاسق بالقمر
تفسير الغاسق بالكوكب
تفسير الغاسق بالذَّكَر
الحكمة من تقييد الاستعاذة من شرّ الغاسق بإذا الظرفية
أنواع الغواسق
بيان معنى الوقوب
- معنى الوقوب في اللغة
- الوقوب من الأضداد
- اشتقاق لفظ "الوقوب"

معاني وقوب الغواسق

تفسير قول الله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد}

تفسير قول الله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد}
المراد بالحاسد في الآية
معنى الحسد وبيان أنواعه
• الفرق بين الحسد والغبطة
معنى التقييد بالظرف في قوله تعالى: {إذا حسد}
• أنواع الحاسدين
ما هو شر الحاسد؟
• حكم الحسد
• الأسباب التي تحمل الحاسد على الحسد
• أصل معنى الحسد في اللغة
• أصول مهمّة في علاج الحسد
- الحسد عمل قلبي
- الحسد فيه شرّ متعدّ ولذلك أمرنا بالاستعاذة منه
- الحسد داء من الأدواء يمكن أن يتعافى منه الحاسد والمحسود بإذن الله
- وقوع الحسد على العبد دائر بين العقوبة والابتلاء
- الحسد من البلاء الذي يبتلي الله به من يشاء من عباده ولا يكشفه إلا الله جل وعلا
- على المؤمن أن يكون وسطا في شأن الحسد بين الغالي والمفرّط
- تأثير الحسد روحيّ في الأصل ويؤثّر في الأجساد تبعا
- لقوّة الروح وضعفها أثر في مقدار تأثير الحسد على المحسود

- لطائف لغوية في سورة الفلق


تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس}

لمن الخطاب في السورة؟
معنى الاستعاذة ولوازمها
الحكمة من الأمر بالاستعاذة بهذه الصفات الجليلة {رب الناس . ملك الناس . إله الناس}
- الفرق بين استعاذة المؤمنين واستعاذات المشركين
- آثار التعبّد لله تعالى بهذه الصفات الجليلة {رب الناس . ملك الناس . إله الناس}
- سبب تسلّط الشيطان على العبد
- نجاة العبد من كيد الشيطان تكون بالتذكّر والتبصّر والإنابة
- مدار التذكر على أصول العبادات القلبية: المحبة والخوف والرجاء
- الخلاصة

الحكمة من ترتيب هذه الصفات الثلاث بهذا الترتيب
- تضمّن هذه الصفات الثلاث للمبدأ والولاية والغاية
- بيان كون هذه الصفات الثلاث حجة قاطعة على وجوب التوحيد
- أصل بلاء الناس إنما هو في الشرك في هذه الأمور الثلاثة (الربوبية والملك والألوهية)
- بيان وجوب التعبّد لله تعالى بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث، وبيان الآثار الجليلة لهذا التعبّد
- مدار الخلق والأمر على هذه الصفات الثلاث
- مدار عمل الشيطان على إخلال العبد بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث
- بيان ما تضمّنته هذه السورة من إيجاز بديع لمدار الابتلاء في هذه الحياة الدنيا وسبيل النجاة منه
- من حقق الإخلاص في التعبّد لله تعالى بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث كان في عصمة من كيد عدوّه
- أسعد الناس: من رضي بالله ربّا ورضي به ملكاً مدبّراً للأمر ورضي به إلها


بيان معنى الوسواس والخناس والحكمة من اقترانهما
المراد بالوسواس الخناس
سبب خنوس الوسواس
كيف يوسوس الوَسواس؟
تفسير قول الله تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس}
تفسير قول الله تعالى: {من الجنة والناس}
اشتمال السورة على الاستعاذة من وسوسة شياطين الإنس والجن إلينا وعنّا، ووسوسة نفوسنها لنا ولغيرنا
درجات كيد الشيطان
- الدرجة الأولى: الوسوسة
- الدرجة الثانية: التسلط الناقص وهو على أنواع
- الدرجة الثالثة: التسلط التام
بيان معنى النزغ والهمز والنفخ والنفث
- خطر اتباع خطوات الشيطان
أصول مهمّة في دفع كيد الشيطان
- أن الشيطان عدّو مبين، وتعرف عداوته بمقاصد ما يوسوس به
- أنه يجب علينا أن نتّخذ الشيطان عدواً
- أن الله أمر في مواضع من كتابه الكريم بأن لا نتبع خطوات الشيطان
- لا ضمان للعبد ولا أمان له إلا باتباع هدى الله تعالى
- اتباع هدى الله يفضي بصاحبه إلى العاقبة الحسنة
- الشيطان يحضر ابن آدم عند كلّ شيء من شأنه
- لا عذر للعبد إذا نزغه الشيطان فأطاعه
- للشيطان مداخل يتسلّط بها على الإنسان ويشتدّ فيها كيده



أروى المطيري 21 ربيع الثاني 1435هـ/21-02-2014م 07:23 PM

خطبة تفسير المعوّذتين


الحمد لله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء رحمة وعلماً، وتمّت كلمته صدقاً وعدلا، لا مبدل لكلماته، ولا مغير لسنته، ولا رادّ لفضله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، جعل لكل شيء قدْراً، ولكل قدَر أجلاً، ولكل تقدير منه حكمة، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، تعالى بأسمائه وصفاته عما يشرك المشركون، ويظن الجاهلون، لا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، ولا يشغله شأن عن شأن، يعلم السر وأخفى، فلا تخفى عليه وساوس النفوس، ولا خطرات القلوب، ولا ما كان ولا ما سيكون.
لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره،
يا من يرى مد البعوض جناحها ..... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحـــــــرها ..... والمخّ في تلك العظام النحل
امنن علي بتوبـــــــــــــة تمحــــــو بها ..... ما كــــان مني في الزمان الأول
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم اهدنا بالقرآن، وبما آتيت نبيك من التبيان، واجعل لنا من لدنك فرقاناً ونوراً نمشي به على صراط مستقيم.
اللهم أدخلنا في رحمة منك وفضل، واهدنا إليك صراطاً مستقيماً، وارزقنا من لدنك رزقاً كريماً.
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
أما بعد:
فهذه دروس ملخّصة في هدايات المعوذتين، نتدارسها في هذه الأيام الفاضلة، ونسأل الله عز وجلّ أن يمنّ علينا بحسن القصد والقول والعمل، وحسن الفهم والبيان، وحسن الدعوة إليه والجهاد في سبيله بما يحب، وكما يحب إنه سميع مجيب.

أروى المطيري 21 ربيع الثاني 1435هـ/21-02-2014م 11:12 PM

معنى المعوِّذَتين

المراد بالمعوذات
المعوِّذتان هما سورتا الفلق والناس {قل أعوذ برب الفلق} ، و{قل أعوذ برب الناس}.
وتسميتهما بالمعوذتين مشهورة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ{قل هو الله أحد} وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده).
وفي جامع الترمذي وسنن ابن ماجة والنسائي من حديث سعيد الجُريريّ عن أبي نضرة العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجانّ وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان؛ فلما نزلتا أخذ بهما ، وترك ما سواهما).
وفي هذه التسمية أحاديث أخرى وآثارٌ عن الصحابة والتابعين.
وإذا قيل المعوذات فالمراد: سور الإخلاص والفلق والناس، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مَرِضَ أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات؛ فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظمَ بركةً من يدي).
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث.
قالت: (فلمَّا اشتدَّ وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها).


صفة الرقية بالمعوّذات
وقد ورد في الأحاديث ما يفيد مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة المعوذات والرقية بها؛ ففي صحيح البخاري أيضاً من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كلَّ ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما ؛ فقرأ فيهما: {قل هو الله أحد}، و{قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس} ؛ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده؛ يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
وفي هذا اللفظ ما يفيد هذا الترتيب: يجمع كفيه، ثم ينفث فيهما، ثم يقرأ مباشرة ، ثم يمسح جسده، فتكون الرقية على الكفين وما فيهما من الريق الذي نفثه.
وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله إذا أراد النوم جمع يديه فينفث فيهما ثم يقرأ {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ، ثم يمسح بهما وجهه ورأسه وسائر جسده).
قال عُقيل -راوي هذا الحديث عن ابن شهاب الزهري-: ورأيت ابن شهاب يفعل ذلك.
وفي صحيح البخاري عن معمر أنه سأل الزهري: كيف ينفث؟ قال: (كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه).
وهذا كما تقدم لتبلغ الرقية الريق الذي في الكفين ثم يمسح جسده بما قد قرئ عليه من الريق وباطن الكفين.


ورود تقديم النفث على القراءة والعكس
وقد ورد عن الصحابة العمل بالأمرين: تقديم النفث على القراءة وهو الأكثر، وورد تقديم القراءة على النفث، وفي ذلك آثار عن الصحابة لا نطيل بذكرها.
فجاء عن ابن مسعود وحنظلة بن حذيم وغيرهما تقديم النفث على القراءة.
وجاء عن أبي سعيد الخدري وعلاقة بن صحار رضي الله عنهما تقديم القراءة على النفث.
وأسأل الله أن ييسر دورة أخرى في الرقية وأحكامها وطرقها وما روي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذلك فالحاجة ماسة إلى بيان الهدى في مسائل الرقى التي عمّت بها البلوى.
ولعل هذه الدروس تجلي جوانب مهمة فيما يتعلق بما يحتاجه العبد في التعوذ من الشرور والآفات، وأنواع ما يحول بينه وبين الخير والفضل والبركات، وما هو الهدي النبوي في التخلص من الآفات والشرور وكيف يحصّن العبد نفسه منها، وكيف دلت المعوّذتان على ذلك كله.





أروى المطيري 21 ربيع الثاني 1435هـ/21-02-2014م 11:13 PM


فضل المعوذتين

فالمعوّذتان كرامة من الله تعالى لهذه الأمة، لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلهما.
بل ثبت في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((ألم تر آيات أُنزلتِ الليلة لم ير مثلهنَّ قط؟! {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس})).

-وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (اتبعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو راكبٌ فوضعت يدي على قدمه؛ فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف.
فقال: ((لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس})) ).
وفي رواية عند النسائي والحاكم : (قال: ((يا عقبة اقرأ بـ{قل أعوذ برب الفلق} فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله عز وجل وأبلغ عنده منها؛ فإن استطعت أن لا تفوتك فافعل)) ).
ففي هذه الرواية تخصيص لسورة الفلق بمزيد فضل.
- وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة بسند صحيح عن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقْب من تلك النقاب؛ إذ قال لي: « يا عقبة ! ألا تركب؟! ».
قال: فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه.
ثم قال: «يا عُقيب ! ألا تركب؟!».
قال: فأشفقت أن تكون معصية.
قال: فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم وركبت هُنيَّة ، ثم ركب.
ثم قال: «يا عقيب ! ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟!».
قال: قلت : بلى يا رسول الله
قال: فأقرأني {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس}.
ثم أقيمت الصلاة ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما، ثم مرَّ بي؛ قال: «كيف رأيت يا عقيب؟! اقرأ بهما كلما نِمْتَ ، وكلما قُمْتَ».
قوله: ((اقرأ بهما كلما نِمت)): أي كلما أردت النوم.
- وعن عقبة بن عامر أيضاً قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بـ(أعوذ برب الفلق) و(أعوذ برب الناس) ويقول: ((يا عقبة ، تعوَّذ بهما؛ فما تعوَّذ متعوِّذ بمثلهما)).
قال: (وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة).
وهذا الحديث رواه أبو داوود والطحاوي والطبراني وغيرهم كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبيه عن عقبة، وهذا إسناد حسن وعنعة ابن إسحاق هنا محتملة لأنه موثق في سعيد المقبري، والحديث صححه الألباني.
- وعن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعوذتين: ((ما تعوّذ الناس بأفضل منهما)). رواه النسائي.
- وعن فروة بن مجاهد اللخمي عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (( يا عقبة بن عامر! صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)).
قال: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((يا عقبة بنَ عامر! املُك لسانك، وابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)).
قال: ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي: ((يا عقبة بنَ عامر! ألا أعلمك سوراً ما أنزلت في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلهن؟!! لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتهن فيها {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس})).
قال عقبة: (فما أتت علي ليلة إلا قرأتهن فيها، وحقَّ لي أن لا أدَعَهنَّ وقد أمرني بهن رسول الله صلى الله عليه و سلم).
وكان فروة بن مجاهد إذا حدث بهذا الحديث يقول: (ألا فَرُبَّ من لا يملك لسانه، أو لا يبكي على خطيئته، ولا يسعه بيته). رواه أحمد وصححه الألباني.
وفروة بن مجاهد هذا من العبَّاد الزهاد؛ قال عنه البخاري: (كانوا لا يشكّون أنه من الأبدال).
فللمعوذتين شأن رفيع، وفضائل عظيمة، وهدايات جليلة، وبركات كثيرة، حريٌّ بالمؤمن اللبيب أن لا يحرم نفسه من التعرض لذلك كله، وأن يرغب فيما رغّب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأنت ترى الناس ينساقون إلى ما يُمدح لهم اسياقاً عجيباُ، وربّما تكلّفوا فيه التكاليف،؛ فكلام الله تعالى أحق أن يُعظّم، وثناء النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن يُنساق إليه، فهو أصدق الناس وأعلم الناس، وما ينطق عن الهوى، وقد رغّب في المعوّذتين ترغيباً عظيماً، وكان يواظب على قراءتهما والرقية بهما ويأمر بذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحقّ من عرف قدر المعوذتين، وقبل كرامة الله تعالى لهذه الأمة بهما، وأيقن بعظيم هذه المنّة، وبلّغ الأمة بذلك أبلغ بيان.
ولا ينبغي لعاقل تبلغه هذه الأحاديث في فضائل المعوّذتين ثم يزهد في دراستهما والتعرف على ما فيهما من الهدايات العظيمة.
قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة). رواه أحمد والنسائي.
ولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن خبيب: (( {قل هو الله أحد}، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثاً تكفيك من كل شيء)).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أوتر بالمعوذت، وكان يقرأ بهما في الصلاة.
وفي الباب أحاديث عن عائشة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن أنيس وغيرهم.
فينبغي لنا أن نتعلمها ونتدبرها ونتفكر فيها حتى ننال من فضل الله عز وجل وبركاته خيراً كثيراً عظيماً مباركاً فيه، ونحصّن أنفسنا بإذن الله تعالى من شرور عظيمة وآفات كثيرة على نور وهدى من الله تعالى.

أروى المطيري 21 ربيع الثاني 1435هـ/21-02-2014م 11:15 PM


متى نزلت المعوذتان؟

الصحيح أن المعوذتين مدنيتان؛ ويدل على ذلك حديثان صحيحان:
الأول: حديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم وسنن النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((ألم تر آيات أُنزلتِ الليلة لم ير مثلهنَّ قط؟! {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس})).
وعقبة بن عامر الجهني ممن أسلم بعد الهجرة.
وقول النبي صلى الله عليه سلم له: ((أنزلت الليلة)) يدل على حداثة نزولها عند التحديث.
والحديث الآخر: حديث أبي سعيد الخدري المتقدم آنفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما.
وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه من صغار الأنصار من لدات أنس بن مالك وعبد الله بن عمر قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو غلام.
فالصحيح أن المعوذتين مدنيتان، وقد قال بذلك من المفسرين والقراء: الثعلبي وأبو عمرو الداني وأبو معشر الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

وذهب بعض المفسرين إلى أنهما مكيتان، وهو قول ضعيف لا يصح.
وممن قال بذلك: الزجاج والواحدي وأبو المظفر السمعاني وابن عطية وابن عاشور.

ومن المفسرين من حكى الخلاف ولم يرجّح.

أروى المطيري 21 ربيع الثاني 1435هـ/21-02-2014م 11:22 PM

ما قيل في نزول المعوذتين بسبب حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم


الذي سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو لبيد بن الأعصم وكان يهوديا منافقاً من بني زريق

وأما نزول المعوذتين بسبب حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم ففيه خلاف؛ وقد فصلت القول فيه في كتاب جمهرة التفاسير ؛ فليطالعه من شاء.
لكن الخلاصة أن الحادثة صحيحة لكن نزول المعوذتين بسبب تلك الحادثة فيه خلاف ولبس.
وأمثل ما يستدل به على ذلك هو ما رواه عبد بن حميد والطحاوي من طريق أحمد بن يونس عن أبي معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيّان عن زيد بن الأرقم قال: (سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود.
قال: فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين، قال: إن رجلاً من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان.
قال: فأرسل علياً فجاء به.
قال: فأمره أن يحلّ العُقد وتُقرأ آية؛ فجعل يقرأ ويحلّ حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أُنشِطَ من عقال).
وهذا الحديث رجاله ثقات، لكن ذكر نزول المعوذتين والرقية بهما من ذلك تفرد به أحمد بن يونس، وهو إمام ثقة، لكن خالفه جماعة من الأئمة الثقات رووا هذا الحديث من غير هذه الزيادة.
فذكر نزول المعوذتين هنا والرقية بهما من السحر، مما تفرّد بذكره أحمد بن يونس وهو إمام ثقة، لكنه خولف في هذه الزيادة فقد حدَّث بهذا الحديث عن أبي معاوية: أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة وهناد بن السري ولم يذكروا هذه الزيادة.
والحديث له نحو أربع طرق كلها ليس فيها ذكر هذه الزيادة.
فمن اعتبر هذه الزيادة مخالفة؛ حكم عليها بالشذوذ لمخالفة أحمد بن يونس بقية الرواة عن أبي معاوية ثم مخالفة هذه الزيادة لطرق الحديث الأخرى، ومن اعتبرها من باب زيادة الثقة؛ صححها كما فعل الألباني .


وأما حادثة سَحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فهي صحيحة ثابتة ، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة المعروفة من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشيءَ وما فعله حتى كان ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ؛ ثم قال: (( يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي؛ فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟
فقال: مطبوب.
قال: من طبه؟
قال: لبيد بن الأعصم.
قال: في أي شيء؟
قال: في مشط ومشاطة وجُفّ طلع نخلة ذكر.
قال: وأين هو؟
قال: في بئر ذروان)).
فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فجاء فقال: ((يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين)).
قلت: يا رسول الله؛ أفلا أستخرجه.
قال: ((قد عافاني الله ؛ فكرهت أن أثوّر على الناس فيه شراً))
فأمر بها فدفنت.
والحديث رواه جمع من الأئمة في مصنفاتهم وهو حديث صحيح لا مطعن فيه.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود). رواه أحمد وعبد بن حميد والطحاوي والطبراني؛ بإسناد صحيح؛ وقد صححه الحافظ العراقي، وقال الألباني: هو على شرط مسلم.


في الحديث الأول أن الذي سحره رجل من بني زريق.
وفي الحديث الثاني: الذي سحره رجل من اليهود.


والجمع بينهما ما بينته روايات صحيحة في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سحر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ من يهود بني زريق).
وبنو زريق بطن مشهور من الخزرج وهم من الأنصار، وقد أسلم أكثرهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان لهم مسجد معروف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق.
وكان كل من الأوس والخزرج لهم حلفاء من اليهود في الجاهلية، وكان بعض الأوس والخزرج قد تهوّد.
قال ابن عباس: (كانت المرأة تكون مِقْلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده [تلتمس بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام ، وفيهم منهم] فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار؛ فقالوا : لا ندع أبناءنا؛ فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ} [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيروا أصحابكم ، فإن اختاروكم ، فهم منكم ، وإن اختاروهم ، فهم منهم))]). رواه أبو داود والسياق له، والطحاوي وما بين المعكوفين له، ورواه أيضاً البيهقي وابن حبان بألفاظ مقاربة.
وقال مجاهد: (كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم؛ فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت {لا إكراه في الدين}). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فقول اليهود: (لا ندع أبناءنا) يريدون أبناءهم من الرضاعة، ممن أرضعوهم فتهودوا من الأوس والخزرج قبل مجيء الإسلام.
فلذلك كان لبيد بن الأعصم يهودياً وهو من بني زريق.
وفي رواية في صحيح البخاري أن الذي سحره لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقاً.
فيكون هذا الخبيث قد جمع أوصاف الخبث؛ فهو يهودي منافق ساحر.
وقول عائشة: (حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشيءَ وما فعله) جاء مفسراً من رواية أخرجها البخاري في صحيحه من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن.
قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا.


إنكار المعتزلة لحادثة سَحْر النبي صلى الله عليه وسلم ، والرد عليهم
وقد أنكر هذه الحادثة بعض المعتزلة ، وزعموا أن الإقرار بها قدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه موافقة للكفار في قولهم فيما حكى الله عنهم: {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً}.


وأجاب أهل العلم عن إيراد المعتزلة بأن المسحور في هذه الآية المراد به الذي أصابه جنون بسبب السحر فخبَّله السحر وأذهب عقله، أمَّا الذي لم يؤثر السحر في عقله وإدراكه ومنطقه فغير مراد هنا ولا حجة لهم في المنع من تصديق قوله بسبب هذا السحر.

أثر السحر على النبي صلى الله عليه وسلم

والسحر الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم غير مؤثر في عقله وتبليغه الرسالة بلا خلاف بين أهل العلم.
قال السهيلي (ت:581هـ): (الحديث ثابت خرَّجه أهل الصحيح ، ولا مطعن فيه من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن العصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم، وأما أبدانهم فإنهم يُبتلون فيها، ويُخلَصُ إليهم بالجراحة والضرب والسموم والقتل، والأُخذة التي أُخِّذَها رسول الله صلى الله عليه من هذا الفنِّ ، إنما كانت في بعض جوارحه دون بعض) ا.هـ.
الأُخذَة: السحر.
قال ابن القيم: (اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء ، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين) ا.هـ.
يقصد بالمتكلمين: المعتزلة، وهم الذين اشتهر عنهم إنكار هذه القصة.

ومِنَ المعتزلة ومَن وافقهم في بعض أصولهم من ينكر هذه الحادثة لإنكاره حقيقة السحر أصلاً كما فعل ذلك الجصاص والنحاس، ونُقِل ذلك عن القاضي عبد الجبار وأبي بكر الأصم.
ومنهم من أعرض عن ذكرها في تفسيره كما فعل الزمخشري.
والماوردي حكى القولين وتوقف، وهو موافق للمعتزلة في بعض أصولهم.

ولا خلاف بين السلف في ثبوت هذه القصة ، كما أنه لا خلاف في أنها غير مؤثرة في تبليغه صلى الله عليه وسلم للرسالة.


مدّة لبث النبي صلى الله عليه وسلم مسحوراً
وأما مدة لبث النبي صلى الله عليه وسلم مسحوراً فقد اختلف فيها على أقوال، وقد روى الإمام أحمد من حديث رباح بن زيد عن معمر بن راشد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي...) وذكرت الحديث.
ورجاله ثقات.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي فأقام أربعين ليلة، وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد ستة أشهر، ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوما من استحكامه) ا.هـ.
وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه من طريق عطاء الخراساني عن يحيى بن يَعْمَر البصريّ، قال: (حُبِس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة سنة). فلا يصحّ.

التنبيه على ضعف بعض الروايات الواردة في هذه الحادثة وتضمّنها زيادات منكرة

وروي في تفاصيل هذه الحادثة أمور لا تصح وفيها زيادات منكرة اشتهرت في بعض كتب التفسير، كالحديث الذي يرويه محمد بن عبيد الله العرزمي عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة عند البيهقي في دلائل النبوة وغيره ولا يصح، فالعرزمي متروك الحديث، وكذلك الحديث الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عند البيهقي أيضاً، وقد جمع الثعلبي هاتين الروايتين والرواية الصحيحة المعروفة من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأدخل بعضها في بعض وساقها مساقاً واحداً اختصاراً، وشاع نقل ذلك في كتب التفسير بعده، وقد تضمن ذلك السياق زيادات منكرة، نبّه عليها ابن كثير رحمه الله وأعلى درجته.





أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:14 AM

تفسير سورة الفلق


عدد آيات سورة الفلق
سورة الفلق مدنية كما تقدَّم ، وهي خمس آيات باتفاق علماء العدد.


أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:16 AM

تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق}

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أصالةً ولكل مؤمن بالتبع.

الحكمة من إثبات "قل" في التلاوة

فإن قيل: لِمَ أثبتت {قل} في التلاوة؟، ولم لا يبدأ القارئ بـ(أعوذ برب الفلق)؟
قيل: قال زرُّ بن حبيش رحمه الله: سألت أُبيَّ بن كعب -رضي الله عنه- عن المعوذتين فقال: (سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: (( قيل لي فقلت)) فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه البخاري.
فكلمة {قل} من القرآن الذي أُمِرْنا بتلاوته فهي من كلام الله، ولو حذفت لأوهمَ ذلك استعاذة الرب جلَّ جلاله، وهو متنزه عن ذلك؛ فإن الله يعيذ ولا يستعيذ ، وإنما أَمَر عباده بالاستعاذة به.

معنى (أعوذ)
{أعوذ} أي: ألتجئ وأعتصم وأستجير {برب الفلق}.
وحقيقة الاستعاذة: طَلَبُ الأمان مما يُخاف منه.

سَعَة معاني الفلَق
{برب الفلق} أي: مالكه ومدبر أمره والمتصرف فيه، والفَلَقُ: اسم لكل ما يُفلَقُ أي: يُشق فيخرج منه ما شُقَّ عنه، كفَلَقِ الصبح الذي ينشق من جوف الليل بعد اشتداد الظلمة؛ فيخرج الصبح مشعاً منتشراً باسطاً نورَه على البسيطة، بعد ما كانت الظلمة بها محيطة ، وكما تُفلَق الحبة المصمتة التي لا مخرج فيها؛ فيفلقها الله فيخرج منها نباتُ الأرض الذي يأكل منه الناس والأنعام، وكما يَفلق النوى الذي ينبت منه النخلُ ذو الطلع النضيد، قال الله تعالى: {الله فالق الحب والنوى}.
وكما يَفلق للجنين الذي في بطن أمه مخرجاً يسهّل له به خروجه فيخرج حياً سليماً تبتهج بخروجه النفوس.
وهذه آيات يشاهدها الناس في يومهم وليلتهم وفي طعامهم وأنعامهم وأنفسهم فيها عبرة وتذكير وتنبيه لأمور أرشد الله إلى التفكر فيها.
ومن قال من أهل العلم: {الفلق}: الصبح؛ فهو تفسير بالمثال لتوضيح الصورة وتقريبها للذهن لا لحصر معنى الفلق في الصبح.
فهو أحد معاني الفلق، لكن لا يقصر المعنى عليه؛ فإن اللفظ الواحد في لغة العرب ربما دلَّ على معان متعددة، ومنها لفظ الفلق فإنه يدل على معانٍ واسعة جليلة لمن تدبر وتفكر وأناب وتذكر، فالذي يَفْلِقُ الصبحَ بعد اشتدادِ الظلمة فيشعُّ منه النور، ويفلق الحبة فيخرج منها النبات الذي هو أصل الطعام وعماده ، ويفلق للأجنَّة في بطون أمهاتها مخرجاً فتخرج منه وتحيا بإذن الله : قادرٌ على أن يفلق لك مخرجاً من الشرور وإن أحاطت بك من كل جانب.
وهذا من معاني تخصيص الاستعاذة بـ(رب الفلق) في هذه السورة واختيار هذه الربوبية الخاصة على ما سواها ، لحسن مناسبتها لما يستعاذ منه.
فالذي يفلق هذه الأمور العظيمة التي تتكرر كل يوم في صور شتى لا تعد ولا تحصى؛ لا يعجزه أن يفرّج عنك كربك ويصرف عنك ما تخشى من الشر والسوء، ويجعل لك فرجاً ومخرجاً.
وتأمل ما قصَّه الله من أنباء الرسل والصالحين وكيف فرَّج الله عنهم بعدما كاد أن يحيط بهم الكرب من كل مكان فجعل الله لأوليائه فرجاً ومخرجاً.
ولك في قصة موسى وأصحابه مع فرعون وجنوده عظة وعبرة؛ فإنه لما تراءى الجمعان وقال أصحاب موسى إنا لمَدركون؛ وذلك لمَّا رأوا أن البحر أمامهم وفرعونَ وجنودَه خلفهم، ولم يبصروا طريقاً يسلكونه للنجاة؛ فقالوا: {إنا لمدركون} فقال موسى عليه السلام: {كلا إن معي ربي سيهدين} فهداه ربُّ الفَلَق؛ ففلق له البحرَ {فكان كل فرق كالطود العظيم} فخرج موسى وأصحابُه يمشون في طرق يابسة وسط البحر حتى استتموا خارجين منه، وتبعهم فرعون وجنوده حتى استتموا داخلين في البحر فانطبق عليهم؛ فنجى الله موسى وأصحابَه وأهلك فرعون وجنوده وجعلهم عبرة وآية يعتبر بها المؤمنون فيوقنون بأنَّ الله ينجّي عبادَه المؤمنين مهما ادلهمَّت عليهم الخطوب وأحاطت بهم الكروب ؛ فربُّ الفلق قادرٌ على أن يفلق لهم مخرجاً ينجيهم به.
وبهذا تعلم المناسبة بين وصف المستعاذ به والمستعاذ منه؛ فإن الله تعالى هو رب الفلق أي: مالكه والمتصرف فيه فلا يكون فَلْقٌ إلا بإذنه، ولا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه.
وكل بلاء وشرٍّ يعرض للعبد فإنه لا ينجيه منه إلا ربُّ الفلق؛ لأن العبد يحتاج إلى أن يُفلق عنه هذا الشر الذي أحاط به ليخرجَ منه سليماً، ولا يملك ذلك إلا ربُّ الفلق.
{من شر ما خلق} هذا عام لجميع الشرور، لا يخرج عن هذا العموم شيء منها.
والله تعالى لم يأمرك بالاستعاذة به إلا ليعيذك، والله تعالى يحبُّ أن يعيذ من استعاذ به؛ فهو الملك الجليل الذي يجير ولا يجار عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر: (( يا عقبة اقرأ بـ{قل أعوذ برب الفلق} فإنك لن تقرأ سورة أحبَّ إلى الله عزَّ وجلَّ وأبلغ عندَه منها؛ فإن استطعت أن لا تفوتك فافعل)). رواه النسائي والحاكم.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:19 AM


بيان الاستعاذة الصحيحة النافعة

ولكن الشأن كلَّ الشأن في تصحيحِ الاستعاذةِ وإحسانها؛ فإن الاستعاذة الصحيحة هي التي تنفع العبد بإذن الله تعالى، وهي التي يكون فيها صدق التجاء القلب إلى الله تعالى، واتباع هداه، فيما يأمر به العبد وينهاه، فإذا سلك العبد سبيل النجاة نجاه الله.
وأما من يستعيذ بلسانِه وقلبُه معرضٌ عن صدق الالتجاء إلى الله، أو يستعيذ بلسانه ولا يتبع هدى الله فاستعاذته كاذبة.
والمسلمون يتفاضلون في إحسان الاستعاذة، ومن كملت استعاذته كملت إعاذته وكان له عهد رباني: [ولئن استعاذني لأعيذنه].

درجات الناس في الاستعاذة
ولذلك فإنَّ الناس في الاستعاذة على درجات:
الدرجة الأولى: الاستعاذة الباطلة، وهي الاستعاذة التي تخلَّف عنها أحد شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة؛ وهؤلاء استعاذتهم من جَهْد البلاء، لأنهم يستعيذون بالله وبغيره فيشركون بالله، ويدعونَ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وكذلك أصحاب الاستعاذات البدعية مما يحدثه بعض الناس من التعويذات المبتدعة، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الدرجة الثانية: الاستعاذة الناقصة، وهي استعاذة خلت من الشرك والبدعة، لكنها استعاذة ناقصة ضعيفة لما فيها من ضعف الالتجاء إلى الله، وضعف الاستعانة به، والتفريط في اتباع هداه؛ فيستعيذ أحدهم وقلبه فيه غفلة ولهو عن الاستعاذةِ.
والاستعاذةُ نوع من أنواع الدعاء وقد رُوي من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله لا يستجيب لعبد دَعَاه عن ظهر قلب غافل )) والحديث حسَّنه الألبانيّ رحمه الله.
قال ابن القيّم رحمه الله في الجواب الكافي كلاماً معناه: الدعاء دواء نافع مزيل للداء لكن غفلة القلب عن الله تضعف قوَّته.
وكذلك من يستعيذ بقلبه لكن في اتباعه لهدى الله عز وجلَّ ضعف وتهاون وتفريط فتكون استعاذته ناقصة بذلك، والاستعاذة الناقصة تنفع أصحابها بعضَ النفع بإذن الله تعالى.

الدرجة الثالثة: استعاذة المتقين، وهي الاستعاذة الصحيحة المتقبَّلة التي تنفع أصحابها بإذن الله، وهي التي تكون بالقلب والقول والعمل:
فأما تصحيح الاستعاذة بالقلب؛ فذلك بأن يكون في قلب صاحبها التجاء صادق إلى الله جل وعلا، فيؤمن بأنه لا يعيذه إلا الله، ويتوكل على الله وحده، ويحسن الظنَّ به، ويصبر على ما يصيبه حتى يفرج الله عنه، ولا ينقض استعاذته ولا يضعفها بالاستعجال وترك الدعاء أو التسخط والاعتراض.
وأما الاستعاذة بالقول؛ فتكون بذكر ما يشرع من التعويذات المأثورة، وما في معناها مما يصحّ شرعاً.
وأما الاستعاذة بالعمل؛ فتكون باتباع هدى الله جلَّ وعلا، ولا سيما في ما يتعلق بأمر الاستعاذة.
ولتوضيح هذا الأمر يقال:
مَن استعاذ بالله جل وعلا من شر الشيطان، فيجب عليه أن يتبع هدى الله بأن لا يتبع خطوات الشيطان، وأن يذكر الله ويسميه في المواضع المأثورة، ونحو ذلك مما هدى الله إليه للعصمة من شر الشيطان وكيده؛ فمن اتبع هدى الله كانت استعاذته صحيحة.
ومن كان يستعيذ بالله من الشيطان وهو يتبع خطوات الشيطان ويُعرِضُ عن هدى الله فاستعاذته غير صحيحة.
والمقصود أن استعاذة المتقين هي التي جمعت شروط الصحة وهي التي يترتب عليها أثرها بإذن الله تعالى.

الدرجة الرابعة: استعاذة المحسنين، وهي أعلى درجات الاستعاذة وأحسنها أثراً، وأصحاب هذه الدرجة هم ممن أوجبَ الله تعالى على نفسه أن يعيذهم إذا استعاذوه، وهم الذين حققوا صفات ولاية الله تعالى كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله قال: [ من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه] )).
وهؤلاء هم الذين أحسنوا الاستعاذة بقلوبهم؛ حتى إنهم يستعيذون بالله كأنهم يرون الله جل وعلا، ويكثرون من ذكر الله، ويحسنون اتباع هدى الله تعالى؛ فتراهم يسارعون في الخيرات، ويتورعون عن الشبهات، ويحسنون التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
فهؤلاء أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واستعاذتهم سريعة الأثر في الغالب، كما كانت استجابتهم لله تعالى سريعة لا تردد فيها ولا توانٍ.

وبهذا يتبيَّن أن الناس يتفاضلون في الاستعاذة، بل أصحاب كلّ درجة يتفاضلون فيها، وكلما كان العبد أحسن استعاذةً كانت استعاذته أنفعَ وأحسنَ أثراً بإذن الله تعالى.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:21 AM


الحكمة من تخصيص الاستعاذة بربّ الفلق

وتأمل معنى الاستعاذة بـ{رب الفلق} فإن ذكر ربوبية الله تعالى للفلق لها أثر عظيم في نفس المستعيذ الصادق ؛ فمن آثار ربوبية الله تعالى للفلَق أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويخرج أولياءه المؤمنين من الظلمات إلى النور فيفلق عنهم الظلمات فيتجلى لهم الحق كما يتجلى الصبح بانفلاقه من ظلمة الليل.
والعبد إنما يمنعه عن رؤية الحق ما يُجعل على بصره من الغشاوة ؛ وهذه الغشاوة قد تكون بسبب الجهل الأصلي للإنسان كما قال الله تعالى عن الإنسان: {إنه كان ظلوماً جهولاً} وقال تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم)).
ولا يتجلى الحق للعبد إلا أن يفلق الله له الحجاب الذي يحول بينه وبين رؤيته؛ فإذا فلق الله له الحجاب أبصر الحق وعرفه، فإن آمن وشكر زاده الله هدى ومعرفة بالحق، وجعل له فرقاناً يلازمه ويفلق له الحجب التي تحول بينه وبين رؤية الحق كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}.
وقد ذكر جماعة من أئمة اللغة كأبي منصور الأزهري وغيره أن من معاني الفلق في اللغة: بيان الحق بعد إشكاله، ومن شواهد هذا المعنى حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوَّل ما بدئ به من أمر الوحي الرؤيا الصادقة في المنام فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رواه البخاري.
أي: واضحة بيّنة كوضوح الصبح لا تلتبس عليه.
فبيان الحق للمؤمنين المتقين هو من آثار ربوبية الله تعالى للفلق.
فإذا وفّق العبدُ شَكَر نعمة الله واتبع هداه ولا يزال يزداد من الهدى ومعرفة الحق حتى يبلغ الدرجات العالية؛ نسأل الله من فضله.
وأما إذا كفَر العبد بالحق ولم يشكر نعمة معرفته وأعرض عن هدى الله ، فإنه يعاقب بالغشاوة الشديدة على بصره والختم على قلبه ويكون كالذين ذكر الله مَثَلهم في سورة البقرة {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون}
فالمنافق والكافر الذي يَسأل عن الحق كالذي يستوقد النار، {فلما أضاءت ما حوله} فعرفوا الحق وتبيَّن لهم كما يعرف من تضيء له النار ما حولها، ثم كفروا به وأعرضوا عنه بعد هذا التبيّن؛ فجعل الله عقوبتهم أن {ذهب الله بنورهم} فكانت الظلمة الثانية أشد عليهم من الظلمة الأولى، وهي ظلمة لا يعذرون فيها بخلاف الظلمة الأصلية فإنها ظلمة جهل لا يؤاخذون به، وهي ظلمة أخف من الثانية، لأن الظلمة الثانية ظلمة عقوبة وغضب، والعياذ بالله.
ولا يزالون يتمادَون في الإعراض عن هدى الله تعالى ويدخلون في ظلمة بعد ظلمة بعد ظلمة ويبعدون عن الحق جداً فلا يرونه ولا يسمعونه ولا ينطقون به فهم في أمور الحق {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
فهذا حال المنافقين والكافرين والعياذ بالله، وأما المؤمنون فإن الله يخرجهم من الظلمات إلى النور فيرون الحق ويعرفونه ويتكلمون به ويعملون به ويتبعون هدى الله ولايزالون يتخلصون من الظلمات ظلمة تلو ظلمة حتى يتمحضوا للنور التام ، ويكون من جزائهم أن يجعل الله نورهم تاماً يوم القيامة؛ نسأل الله من فضله.
وأما المسلم الذي يكون لديه نور الإسلام وظلمات المعاصي فإنه يبقى صاحب نور وظلمة ، قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فليس من الكفار الذين هم في ظلمات لا يبصرون، وليس من أهل النور التام من المؤمنين المتقين، ويكون توفيقه على قدر ما معه من النور.
وهذا نور معنوي يجعل الله أصله في قلب عبده المؤمن فيضيء له حتى يميز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والسنة من البدعة، وإذا وردت عليه الفتن التي تلتبس على المنافقين والذين ظلموا أنفسهم جعل الله له نوراً يهديه به فيثبت في وقت الفتنة ولا ينخدع بغرور الباطل وزخرف قول المضلين، وتزيين الشياطين، بل يسير بنور الله على هدى من الله سوياً على صراط مستقيم حتى يلقى الله عز وجل وهو راض عنه، نسأل الله من فضله.
والمقصود بيان أن العبد إنما يحول بينه وبين الهداية وفعل الصواب في أموره كلها ما يُجعل أمامه من الظلمات والحجب إما فتنة له أو عقوبة له على بعض ما اكتسب من الإثم، ولذلك فإن المؤمن أخوف ما يخاف من الذنوب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجُو إلا ربه).
وهذه الظلمات لا يفلقها له إلا رب الفلق جل وعلا.
فتلخص من هذا البيان أن الفلق عام في الخلق والأمر، وأن الشرور الحسية والمعنوية بأنواعها قد تحيط بالعباد ولا يفلقها عنهم إلا رب الفلق، وإذا فلق الله لعبده المؤمن مخرجاً سار فيه آمناً مهتدياً سوياً على صراط مستقيم.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:22 AM


أنواع الشرور

قول الله تعالى: {من شر ما خلق}
أي: من شر جميع المخلوقات ؛ وهذا يعمُّ الشرور كلها؛ فهي استعاذة عامة من كل شر.
والشرور على نوعين:
- شرور حجب وإمساك.
- وشرور هجوم واعتداء.
فأما شرور الإمساك فهي ما يُحجب بسببه عن العبد ما يحتاج إليه ؛ فيقف هذا الشر حائلا بين العبد وبين ما ينفعه.
وهذا يكون في الأمور الحسية والأمور المعنوية.
وأما شرور الاعتداء فهي الشرور التي تهجم على العبد فتؤذيه وتضرُّه وربما تمرضه وتقتله.
فقد يكون في بعض المخلوقات ما يغلب عليه النوع الأول من الشرور، ومنها ما يغلب عليه النوع الثاني، ومنها ما يجمع النوعين والعياذ بالله من كل شر.

حاجة الروح والجسد إلى الغذاء والحماية
والجسد والروح كلاهما بحاجة إلى غذاء يقوي، ووقاية تحمي؛ فغذاء الروح ما تستمد به قوتها من العلم النافع والسلوك الحسن وأصل ذلك الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح.
وتحتاج إلى وقاية تحميها مما يضرها من كيد أعدائها من شياطين الإنس والجن، ومن علل النفس وأدوائها؛ فإذا حصلت لها هذه الحماية والوقاية وحصل لها الغذاء الذي يقوّيها زكت النفس وقويت واستنارت بنور الله فأبصرت الحقائق وأدركت المعالي وتخلصت من الرذائل وتطهرت من الأدناس.
وكذلك الجسد يحتاج إلى غذاء نافع ينميه ووقاية تحميه من الآفات، بل كل عضو من أعضاء الجسد يحتاج إلى مادة تغذيه ووقاية تحميه، وأيما عضو من الأعضاء ضعفت وقايته كان عرضة للآفات، وأيما عضو أحاط به من الشر ما يعوّق وصول إمداده إليه ضعف وأنهك وربما تلف.
والعبد يخشى من نوعي الشر على جسده وروحه ؛ الشر الذي يحجب عنه ما ينفعه، والشر الذي يهجم عليه بما يضره.
فما يحجب عن النفس ما ينفعها هو الشرور المعنوية من الجهل والضلال وعقوبات الذنوب التي ترين على القلب فتحجب عنه معرفة الهدى بعد ما كانت تبصره؛ فيدخل العبد في أنواع من الظلمات ويخرج من أنواع من النور كلما أوغل في الغي والضلال والإعراض عن هدى الله.
فتكون حاجة العبد ماسة إلى أن يُفلق عنه هذا الحجاب الذي يحول بينه وبين ما ينفعه من العلم والهدى؛ ليخرج من الظلمات إلى النور.
وكذلك الجسد إذا أصيب عضو من أعضائه بآفة تمنع عنه ما يمدُّه من الغذاء وأسباب القوة ضعف ذلك العضو واشتكى ؛ فإذا كثرت الإصابة في أعضائه أنهك ذلك الجسد وضعف ؛ فلا يفلق عنه هذا الحجاب إلا رب الفلق جل جلاله.
فإن كل عضو من أعضاء الجسد إذا وصل إليه ما يحتاجه من الغذاء ووُقي من نوعي الشر السابقين كان صحيحاً سليماً معافى بإذن الله.

والضرر الذي يخشاه الناس راجع إلى هذين النوعين : شر يحجب عنهم ما ينفعهم، وشر يهجم عليهم بما يضرهم، ومن وقي هذين الشرين فقد وقي.
وهذا أمر عام ينطبق على الفرد وعلى الجماعة أيضاً، ويبيّن هذا المعنى ويزيده وضوحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)). رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وهذا لفظ البخاري.
فالخذلان يُحجب به سبب النصر، والمخالفة آفة تهجم عليهم، والمخالفات على درجات وتكون من أنواع من الأعداء كل يخالف على درجته .
ومن أصحاب الشرور من يجمع الآفتين: الخذلان والمخالفة ، كأهل الحسد والبغي الذين يظن فيهم النصر والتأييد فإذا هم أهل خذلان ومخالفة.
فضمن الله تعالى لمن يقوم بأمره أن لا يضره من يخذله ولا من يخالفه مهما كانت درجة الخذلان ومهما كانت درجة المخالفة.
وَفِقْهُ هذه المسألة يفيد كل مؤمن قائم بأمر الله ، وكل جماعة قائمة بأمر الله كأصحاب الأعمال الدعوية وغيرهم؛ فكل مؤمن قائم بأمر الله فإنه يبتلى بالخذلان ويبتلى بالمخالفة فإذا قام بأمر الله كما يحب الله لم يضره من خذله ولا من خالفه؛ فإن الله تعالى ينصره ويهديه ويفلق له سبباً ينصره به.
كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً}.
والمؤمنون هم أتباع الأنبياء ينالهم من جنس ما ينال الأنبياء من الابتلاء، وقد جعلهم الله أسوة لنا وأمرنا أن نقتدي بهم.

شرط ضمان الهداية والنصر
وقد تكفل الله لأوليائه بالهداية والنصر، فبالهداية يسيرون في الطريق الصحيح، وبالنصر يتغلبون على أعدائهم ممن خذلهم وخالفهم.
وتقديم الهداية على النصر في الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهدايةَ من ثمرات العلم ، والنصرَ من ثواب العمل.
والنصر له معانٍ وأسباب ؛ ونصر الله لعباده المؤمنين حق وعد الله به كما قال تعالى : {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} .
فهو وعد صادق لا يتخلف لكن قد يعجّل الله به ، وقد يؤخره لحكمة.

وشرط هذا الضمان بالهداية والنصر هو القيام بأمر الله ؛ فإذا قام العبد بأمر الله على ما يستطيع {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، فإن الله يضمن له الهداية والنصر.

وأنت إذا تأملت هذا المعنى حق التأمل؛ تبيَّن لك أن الإنسان إذا لم يقم بأمر الله فإنه هالك لا محالة، ولذلك قال سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري: (ما في القرآن آية أشد علي من {لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}).
فإذا كان العبد لا يقيم ما أنزل الله عليه فإنه ليس على شيء؛ فلا ضمان له من الله، ولا عهد، ولا أمان له، ولا سبب له إلى النجاة ، بل هو هالك لا محالة إلا أن يتوب إلى الله ويقوم بأمر الله.
وعلى قدر ما يقوم به العبد من أمر دينه يكون نصيبه من النصر ومن الهداية.
فمن الناس من يكون محسناً في القيام بأمر الله فهذا نصيبه من الهداية والنصر أحسن النصيب {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} .
ومن كان في قيامه بأمر الله بعض الإساءة والتردد وضعف العزيمة تخلف عنه من الهداية والنصر بقدر ما فرط وضيَّع وأساء.
أما من ضيَّع أمر الله جملةً كالكفار والمنافقين فهؤلاء ليسوا على شيء كما قال الله تعالى لكفرة أهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) . رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ورأس الأمر هو أصله ، كما يقال: رأس المال، فمن ذهب رأس ماله بقي مفلساً لا مال له، وكذلك من ذهب إسلامه فهو على غير شيء؛ لأن رأس أمره قد ذهب.
أما من صح إسلامه فمعه العهد العظيم الذي بينه وبين ربه بأن يدخله الجنة وينجيه من النار فهو على شيء عظيم بهذا العهد.
فالمسلم وإن عذب ببعض ذنوبه في الدنيا أو في قبره أو يوم القيامة فمآله إلى الجنة بإذن الله تعالى.
ولكنَّ عذاب الله شديد ، ومن يطيق عذاب القبر وعذاب النار ولو لحظات؟! .

وأنتم ترون أن العبد إذا عذب على بعض ذنوبه في الدنيا اشتدَّ ذلك عليه جداً وعرف أنه لا طاقة له به؛ فكيف بعذاب القبر وعذاب النار؟!
نسأل الله العافية.

والخلاصة التي نستفيدها من هذا التصوير المقتضب لما يحتاجه الجسد والروح ولما تحتاجه الأمة وما يحتاجه كل مؤمن، وشرط ضمان النصر والهداية وهو القيام بأمر الله، وبيان نوعي الشرور أنَّ كل ذلك مهم في فهم دلائل آيات هذه السورة العظيمة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه إدارك المعاني وعقلها، وربما قرن في أذهانهم بعض الأمور المعنوية ببعض الصور الحسية ليؤثر ذلك في نفوسهم قوة استحضار المعنى وجلاءه ووضوحه؛ كما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) ).

أثر قوّة استحضار المعاني في الرقية
واستحضار هذه المعاني التي تضمنتها سورة الفلق مهم في الرقية بها وقوة التأثير بها؛ فإن الرقية كلام مؤثر، وتأثيره معنوي يخلص إلى الأمور الحسية بإذن الله بحسب ما يقدره الله من قوة هذا التأثير.
وليس تأثير الرقية بكثرتها وطولها، وإنما بقوتها وقوة عقل المعاني واستحضارها وإرادة التأثير، ولا يتنفع مع هذا إلا إذا أذن الله بنفعها.

وأنا لا أعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين رقية مطولة كما يفعله بعض الناس اليوم.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:22 AM


خلاصة الدرس

ذكرتُ في هذا الدرس بيانَ معنى الاستعاذة، ومعنى تخصيص الربوبية للفلق، ومناسبته للاستعاذة من أنواع الشرور كلها، وأن الله تعالى هو رب الفلق، لا رب له سواه، وأنه لا يملك الفلق إلا الله جل وعلا، وأنه يقع على معانٍ كثيرة متعددة في الخلق والأمر، وذكرتُ بعض آثار ربوبية الله تعالى للفلق في عالم الخلق وعالم الأمر، وأن تفسير بعض أهل العلم للفلق بأنه الصبح تفسير بالمثال، وهو مسلك من مسالك التفسير المعتبرة.

وممن نص على عموم معنى الفلق وأنه لا يقصر على فلق الصبح: ابن جرير الطبري وأبو إسحاق الزجاج وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
قال ابن جرير: (ولم يكن -جلَّ ثناؤه- وضع دلالة على أنه عنى بقوله: {رب الفلق} بعضَ ما يُدعى الفلق دون بعض، وكان الله -تعالى ذكره- ربَّ كلِّ ما خلق من شيء : وجب أن يكون معنياً به كل ما اسمه الفلق) ا.هـ.
وقال أبو إسحاق الزجاج (ت:311هـ): (ومعنى الفلق: الخلق، قال الله عز وجل: {فالق الإصباح}، {فالق الحبّ والنوى} ، وكذلك فَلَقَ الأرض بالنبات والسحاب بالمطر، وإذا تأمّلت الخلق تبيّن لك أن خلقَه أكثره عن انفلاق؛ فالفلق جميع المخلوقات وفلق الصبح من ذلك) ا.هـ.
وقال ابن تيمية: (الفَلَق فعل بمعنى مفعول ، كالقبض بمعنى المقبوض ، فكل ما فلقه الرب فهو فلق).
وقال ابن القيم: (واعلمْ أنَّ الخلقَ كلَّه فَلَقٌ، وذلك أنَّ فَلَقًا فَعَلٌ بمعنى مَفعولٍ: كقَبَضٍ وسَلَبٍ وقَنَصٍ بمعنى مَقبوضٍ ومَسلوبٍ ومَقنوصٍ.
واللهُ - عزَّ وجَلَّ - فالِقُ الإصباحِ وفالقُ الحَبِّ والنَّوى وفالِقُ الأرضِ عن النباتِ، والجبالِ عن العُيونِ، والسَّحابِ عن المطَرِ، والأرحامِ عن الأَجِنَّةِ، والظلامِ عن الإصباحِ، ويُسَمَّى الصبْحُ الْمُتَصَدِّعُ عن الظُّلْمَةِ: فَلَقًا وفَرَقًا، يُقالُ: هو أبيضُ من فَرَقِ الصُّبْحَ وفَلَقِه.
وكما أنَّ في خَلْقِه فَلْقًا وفَرْقًا؛ فكذلك أمْرُه كلُّه فُرْقَانٌ يَفْرُقُ الحقَّ والباطلَ فيَفْرُقُ بينَ ظلامِ الباطلِ بالحَقِّ كما يفْرُقُ ظلامَ الليلِ بالإصباحِ، ولهذا سَمَّى كتابَه الفُرْقَانَ، ونَصْرَه فُرْقَانًا لتَضَمُّنِه الفَرْقَ بينَ أوليائِه وأَعدائِه، ومنه فَلْقُه البَحْرَ لموسى فَلْقًا وسَمَّاهُ، فظَهَرَتْ حِكمةُ الاستعاذةِ برَبِّ الفَلَقِ في هذه الْمَواضعِ، وظَهَرَ بهذا إعجازُ القرآنِ وعَظَمَتُه وجَلالتُه، وأنَّ العِبادَ لا يَقْدِرون قَدْرَه، وأنه {تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ})ا.هـ.
وتفطَّن إلى أن قول ابن القيم فيه أن الفلق يعمّ الخلق والأمر ، وهذا له ما يؤيده من الإطلاق اللغوي كما سبق نقله عن أبي منصور الأزهري، وقد تقدّم شرح ذلك.
بل شيخ الإسلام ابن تيمية له كلام في أن الفلق يعمّ الخلق والأمر.
والمقصود أن ربوبية الله تعالى للفلق ربوبيّة عظيمة القدر ، عظيمة الآثار في الخلق والأمر، وأنها من معاني ملك الله عز وجل وتصرفه وتدبيره؛ فلا يكون فلق إلا بإذنه، ولا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه، ولا يكشف حجاب عن حق إلا بإذنه، ((يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) وهذا يعمّ الهداية العامة لدين الإسلام والهدايات التفصيلية في شؤون العلم والعمل والدعوة بل في شؤون الدين والدنيا.
فإنه إذا لم يكشف الحجاب بين العبد وبين الحق لم يَره ولم يهتدِ إليه، وإذا لم يكشف له الحجاب بينه وبين ما ينفعه في أمور دنياه لم يهتدِ له، بل ربما أضاع الإنسان من جهده ووقته وماله شيئاً كثيراً في تحصيل ما يريد ويتعسر عليه، وهو في حقيقة الأمر قريب المتناول لكنه لا يبصره ولا يهتدي إليه.
ولا يملك هدايته لذلك إلا رب الفلق جل وعلا، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده الله فلا مضلّ له.

والعبد إذا أيقن بهذا استراح من عناء كثير من جانب التعلق بالخلق وما يترتب على التعلق بهم من آثار سيئة كبيرة قد تفسد الدين والعقل والمروءة والخلق.
ومن جانب آخر تقتضي منه استشعار مسؤولية القيام بأمر الله كما يحب الله عز وجل، وأن فلاحه وسعادته وضمان أمره إنما هو بالقيام بأمر الله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله}.
ومن قام بأمر الله لم يضره من خذله ولا من خالفه، بل له عهد الهداية والنصر من الله جل وعلا.
فيكون الشأن كل الشأن؛ كيف يقوم العبد بأمر الله؟
والجواب: أن العبد لا يكلف من ذلك إلا ما يستطيع، وليبدأ بإصلاح قلبه ونيته، فإنه إذا صلح القلب صلح سائر الجسد.
ولذلك فإن العناية بالعبادات القلبية لها أثر عظيم في صلاح العبد.

قوله تعالى: {من شر ما خلق} هذا يعمّ جميع الشرور، ويفيد بأن الشر مختص بعالم الخلق دون عالم الأمر؛ فإن الله تعالى لا يكون في أمره شر، وإنما يكون الشر في بعض مخلوقاته.
وفي هذه الآية استعاذة من جميع الشرور ؛ فلا يخرج منها شرّ من الشرور؛ فهي تشمل شر النفس، وشر سيئات الأعمال، وشر الشيطان، وشر السحرة والحسدة والبغاة، وشرور كل دابةّ ، بل ما في الكون كله من شرور.
وقد ذكرنا لكم أن الشرور تنقسم إلى نوعين:
شرور حجب وإمساك للخير، وشرور عدوان وهجوم بالشر.
وأن الشرور منها شرور حسية، ومنها شرور معنوية.
وأن الجسد والروح كلاهما بحاجة إلى غذاء يقوّي ، ووقاية تحمي، فإذا حجب الغذاء أو خرقت الوقاية لم يأمن العبد من الضرر والتعرض للآفات بسبب ذلك.
وأن هذا كما ينطبق على الفرد فهو كذلك ينطبق على الجماعة، وعلى ما يكون بينهما من الأواصر والروابط والمؤاخاة.
وفهم هذه التقسيمات يعين على فهم كلام أهل العلم في تفسير هذه الآيات، ويعين على الترجيح بين ما اختلف فيه من الأقوال.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:24 AM

تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}

ما يفيده تنكير الغاسق في الآية
{غاسق} التنوين هنا للتنكير المفيد للعموم، أي: من شر كل غاسقٍ، وهذا يدل على أن الذي يغسق أشياء كثيرة.
قال ابن جرير: (كل غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شرِّه إذا وقب).

أقوال العلماء في المراد بالغاسق
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح في تفسير الغاسق ما يدل على أنه يقع على أشياء متعددة يجمعها وصف الغسوق.
ففُسِّرَ الغاسق بالليل، وفسر بالقمر، وفسر بالكوكب، وفسر بالثريا، وفسّر بغير ذلك.
فأما تفسيره بالليل فعليه أكثر المفسرين من التابعين وعلماء اللغة ، ولا شك أن الليل يغسِق وقد قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}.
دلوك الشمس: زوالها ، وقيل: غروبها، وقيل: دنوّها للغروب، ثلاثة أقوال.
وغسق الليل فيه ثلاثة أقوال أيضاً: أول ظلمته عند غروب الشمس، وأول العشاء عند غياب الشفق، وحين اشتداد ظلمة الليل واجتماعها، وذلك نصف الليل.
وهذه الأقوال كلها صحيحة وهي تنتظم مواقيت الصلوات بَدْءًا وانتهاء سوى صلاة الفجر، فقال تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}.
فقول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} فسر بأنه "الليل إذا دخل"، وهذا قول مجاهد بن جبر.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن معنى {وقب} أي: "أقبل ودخل على الناس".
وروى عن معمر عن قتادة أن معنى {وقب} أي: "غاب وذهب".
فإذا صحَّ قول قتادة -وهو من أهل عصر الاحتجاج- فاللفظ من الأضداد، فيكون لليل وقوب عند دخوله ووقوب عند ذهابه.
فكأن الوقوب وصف لحالة دخوله وحالة خروجه.
ومما يقوّي هذا أن المعوذتين تسن قراءتهما عند الإصباح وعند الإمساء.
ومن أهل العلم من أنكر معرفة المعنى الذي ذكره قتادة؛ قال ابن جرير: (ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك من كلام العرب، بل المعروف من كلامها من معنى وقب: دخل)
وقال أبو جعفر ابن النحاس: (وقول قتادة : "وقب: ذهب" لا يعرف).
وقتادة من أهل عصر الاحتجاج والإسناد إليه صحيح؛ فلا يدفع كلامه بمثل هذا النفي.
لكن هذه المسألة فيها لبس يزول بإذن الله بمعرفة أصل لفظ الوقوب عند العرب.
وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله وذكر ما يشهد لقول قتادة من كلام العرب، بعد تمام الكلام على معنى الغاسق.

ما قيل في سبب وصف الليل بأنه غاسق
فالذين فسروا الغاسق بأنه الليل منهم من تكلم في علة وصف الليل بالغسوق واختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن الليل سمي غاسقاً لأنه مظلم، وكل ما يُظلِم فهو غاسق، والظلمة غسق.
وهذا قول الفراء وابن قتيبة وابن جرير الطبري وجماعة من اللغويين منهم: الأخفش واليمان البندنيجي وابن خالويه وغيرهم.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (وقوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه) ا.هـ.
وهؤلاء يذهبون إلى أن الغاسق هو كل ما كان فيه ظلمة من الليل وغيره، فكل ظلمة هي غسق.
والقول الثاني: أن الليل سمي غاسقاً لأنه أبرد من النهار، وهذا قول الزجاج فإنه قال: (قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد ، والغسق: البرد).
والزجاج ومن قال بقوله ممن أتى بعده يُستدل لهم بقول الله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق} وقوله: {لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا * إلا حميماً وغساقاً} قرئ بالتخفيف والتشديد. غسّاقاً وغساقاً.
فالحميم: الحار، والغسَّاق: البارد الذي يحرق من شدة برده على أحد الأقوال، وهو قول ابن عباس في الغساق: "الزمهرير"، وقال به مجاهد وأبو العالية.
وذلك أن أهل النار يعذبون بشدة الحر وبشدة البرد، والعياذ بالله من عذابه.
وعند هؤلاء أن كل بارد فهو غاسق؛ سواء أكان مظلماً أم غير مظلم.
وعند الأولين: كل مظلم فهو غاسق؛ سواء أكان بارداً أم غير بارد.
وقيل غير ذلك من الأقوال، وكل طائفة منهما أصابت بعض الحق.

القول الراجح في معنى الغاسق
ويجمع هذين القولين قول هو الصواب والتحقيق إن شاء الله ،
وهو ما قاله الماوردي في تفسيره إذ قال: (أصل الغسق: الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم: غسقت القرحة إذا جرى صديدها).

قوله: (الجريان بالضرر) لو قال: (بما يحتمل الضرر) لكان أدق في العبارة وأصوب.
وهذا المعنى – إذا تأملته وجدته - يجمع الأقوال التي قيلت في تفسير الغاسق كلها، وهو معنى صحيح تدل عليه شواهد اللغة.
ولذلك ينبغي لطالب علم التفسير إذا وصل إلى مرحلة المتوسطين فيه أن يحرص على معرفة إطلاقات اللفظ عند العرب، ثم يحاول أن يستخرج المعنى الكلي للفظ من المعاني التي تحتملها تلك الإطلاقات؛ كما فعل القاضي الماوردي هنا، وقد أحسن في ذلك؛ فإن العرب تقول: غسَق الجرح، إذا سال صديده.
وغسَقت العين: إذا جرى دمعها بما يخالطه من قذى العين وغمصها ورمصها.
قال العوام بن عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى يبكي على امرأة كان يريدها فماتت فتصبَّر عن البكاء عليها حتى سمع صوت حمامة تنوح فهيجت ما في نفسه فبكى وأنشد يعاتب نفسه على البكاء:


أأن سجعت فى بطن وادٍ حمامةٌ.......تجاوب أخرى ماء عينيك غاسق
كأنك لم تسمع بكاء حمامة.......بليلٍ ولم يحزنك إلف مفارق
ولم تر مفجوعا بشىء يحبه.......سواك ولم يعشق كعشقك عاشق
بلى فأفق عن ذكر ليلى فإنما.......أخو الصبر من كف الهوى وهو تائق

وهذه الأبيات ذكرها أبو علي القالي في أماليه، والشاهد منها قوله: (ماء عينيك غاسق) أي: جارٍ بالدمع وما يصحبه من قذى العين على إثر البكاء الذي جاشت به النفس.
وغَسَقُ الطعامِ عند العرب هو: قُمَاشُه وما يكون فيه من أخلاط يسمونه غسقاً.
وتقول العرب: غَسَقَ اللبنُ إذا انصبَّ من الضرع.
وغسقت السماء إذا أمطرت وإذا أظلمت.
وهذه المعاني مذكورة بشواهدها في كتب اللغة.
وفي حديث عمر موقوفاً: (ولا تفطروا حتى يغسِقَ اللّيلُ على الظِّرابِ) أي: حتى تغشى ظلمةُ الليل الظرابَ وهي الجبال الصغار، وذلك إذا كانت الشمس متوارية بسبب غيم أو جبال ولم يتبيَّن غروبُها، فلا يفطر الصائم حتى يغسِق الليل وهو أوَّل ظلمته.
وكان الربيع بن خثيمٍ الثوري يقول لمؤذنه يوم الغيم: "أَغْسِقْ أَغْسِقْ"، أي: لا تؤذن للمغرب حتى تبدوَ ظلمةُ الليل.
وقال الحارث بن جحدر الحضرمي وهو جاهلي قديم:

أقولُ لِفَتْلاءِ المَرافِقِ سَمْحَةٍ ..... ولِلَّيلِ كِسْرٌ يَصْنع البيدَ غاسِقُه
أي: أن ظلمة الليل تجعل الأرض كأنها بيداء مستوية لأن الليل يغطي الجبال والشعاب بظلمته حين يغسق عليها.
فتبيَّن بذلك أن الغسق شيء ينتقل ويجري وربما يتغشى وربما يكون فيه ما يكون من الأخلاط والآفات.
ويجمع ذلك أنه يقب كما سيأتي شرحه إن شاء الله.
وإذا تأملت هذا المعنى وجدته يصدق على جميع الأقوال:
فالليل يغسق إذا غطَّى بظلمته، ويكون معه ما يكون من الفتن والآفات والشرور، وفي الصحيحين من حديث أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنهما قال: (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة ثم قال: ((هل ترون ما أرى؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر)) ).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: ((سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن!! وماذا فتح من الخزائن!!
أيقظوا صواحبات الحُجَر؛ فربَّ كاسية في الدنيا عاريةٍ في الآخرة)) ).
فظلمة الليل تغسِق أي: تتغشى الأفق بما يخالطها من الفتن والشرور والآفات ، وذلك كل ليلة، ونحن نستعيذ بالله من شر غسوق الليل وما يكون فيه من الفتن والآفات والشرور.
والبَرْدُ كذلك يغسِق لأنه يتغشى من يصيبه البرد شيئاً فشيئاً، ويدخل البرد إلى أعضائه دخولاً يكون فيه شرور وآفات، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لرعيته لما حضر الشتاء: (فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه). رواه ابن المبارك كما في لطائف المعارف لابن رجب.
والجرح يغسق إذا سال بصديده، ويكون غسوقه مصحوباً بأخلاط قد تُرى وقد لا تُرى، وقد يكون أثرها محسوساً وقد يكون خفياً غير محسوس.
والسِّحر يغسِق ، والحسد يغسِق، والعين تغسق، وسائر الشرور تغسق على الإنسان فيحصل بسبب ذلك من الضرر والأذى ما يحصل مما يأذنُ الله به، ويعصمُ الله من شره من استعاذ به.
فدلَّ هذا على أن لفظ الغاسق يقع على أشياء متعددة ومن أشهرها ما ذكره المفسرون من باب التمثيل لا الحصر.

القول الراجح في المراد بالغاسق

قال ابن جرير: (الليلُ إذا دخل في ظلامه: غاسق، والنجم إذا أفل: غاسق، والقمر: غاسق إذا وقب، ولم يخصِّص بعضَ ذلك، بل عمَّ الأمرَ بذلك ، فكلُّ غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالاستعاذة من شرّه إذا وقب) ا.هـ.
وقال محمد بن كعب القرظي: {ومن شر غاسق إذا وقب} هو النهار إذا دخل في الليل. رواه ابن جرير.
وقال الزهري: (الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت). رواه ابن وهب في جامعه.
وقال الزمخشري: (ويجوز أن يراد بالغاسق : الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه).
وهذا القول لا يُؤثر عن أحد من السلف، لكن يشمله المعنى العامّ للآية، لأن السمَّ يجري في الجسد بما يحتمله من الضرر.


أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:30 AM

ما قيل في تفسير الغاسق بالقمر

وأما تفسير الغاسق بالقمر؛ فقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والنسائي في السنن الكبرى وغيرهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدِي فأرانيَ القمر حين طلع ؛ فقال: ((تعوَّذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب)) ).
والحديث أخرجه أيضاً الترمذي والحاكم وأبو يعلى وغيرهم لكن هذا اللفظ (فأراني القمر حين طلع) تفرد به أبو داوود الحفري عن ابن أبي ذئب عند أحمد والنسائي وفيه فائدة لغوية لم أجدها في الطرق الأخرى وهي معنى الوقوب في هذا الحديث.
والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقد أشكل هذا الحديث على بعض أهل العلم حتى أورده الطحاوي في شرح مشكل الآثار ولهم أجوبة عنه .
وقد ذهب إبراهيم الحربي في غريب الحديث والطحاوي وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقهم إلى أن مناسبة ذكر القمر في الحديث للآية أنه آية الليل واستدلوا بقوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} .
وفي هذا التوجيه نظر.
وقال بعضهم: {ومن شر غاسق إذا وقب} أي: القمر إذا خَسَف، وهؤلاء أرادوا أن القمر إذا خَسَف اسودَّ فيكون ذلك غسوقه لأنهم فهموا من معنى الغسوق الإظلام، والقمر إذا كسف أظلم، وهذا التعليل ذكره ابن قتيبة في غريب القرآن والبغوي في معالم التزيل، وهو خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى القمر لم يكن منكسفاً.
وقد ضعَّف هذا القولَ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأحسنا في ذلك.
وأغرب منه قول ابن خالويه في توجيه هذا القول بأن الغاسق إذا وقب: القمر إذا ذهب ضوءه، قال: (وإنما يكون ذهابُ ضوئه أمارة لقيام الساعة).
والصواب أن يقال: إن القمر غاسق من جملة ما يغسق، ودلَّ الحديث على أن لغسوقه شرّا عظيماً لا نعلمه ولا ندركه بحواسنا؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الشر في الليل والخلوة فيه ما لو علمناه ما سار راكب بليل وحده أبداً.
فهذا يدل على أن الشرور التي يغيب عنَّا علمها وإدراكها كثيرة، وهي قد تصيب بعض الخلق بأمر الله تعالى .
وهذا نظير ما صحَّ أن الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان كما في صحيح مسلم وسنن أبي داوود من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)).
والشيطان يقارن الشمس عند طلوعها ، فإذا ارتفعت فارقها ، فإذا استوت في كبد السماء قارنها ، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها .
وهذا الاقتران يكون معه شر وفتنة لبعض الخلق، ويعصم الله منه من اتبع هداه، وهذا يكون كلَّ يوم حتى يأتي اليومُ الموعود الذي تطلع فيه الشمسُ من مغربها، إلا ما ذكر في صبيحة ليلة القدر إن صحَّ فيه ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس موقوفاً: (إن الشيطان يطلع مع الشمس كل ليلة إلا ليلة القدر، وذلك أنها تطلع يومئذ بيضاء لا شعاع لها).
فطلوع الشمس وغروبُها بين قرني شيطان دليل على اقتران شرٍّ بطلوعها وغروبها لا ندركه، وإنما نعلم منه ما دلَّ عليه الدليل.
فكذلك اقتران طلوع القمر بشرّ لا نعلمه يكون له أثر على الخلق هو أمر من أمور الغيب نؤمن به ولا نتكلم في تعيينه ولا وصفه إلا بما دل عليه الدليل، وما ظهر لنا علمه.
وقد حذّر الله تعالى من الافتتان بالشمس والقمر وجمع بينهما في قوله تعالى: {ومن آياته الليل النهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}.
فدل هذا على أن من الناس من يسجد للشمس ومنهم من يسجد للقمر، وهذا من الفتنة بهما.
وبعض الفتن تقع في الناس على التدريج؛ ومن ذلك ما حذر منه العلماء مما يعرف بالرياضات الروحية كاليوجا وغيرها، فإن من أصحابها من يتحرّى في بعض التمرينات طلوع الشمس وغروبها ويتجهون إليها ويؤدّون حركات مصحوبة بخضوع وتأمل وصمت، ويزعمون بذلك أنهم يستلهمون الطاقة، وهم إنما يتقربون للشياطين بذلك في حقيقة الأمر.
وقد ذكر الرازي في تفسيره قولاً له حظ من النظر في معنى وصف القمر بأنه غاسق، وهو أن القمر غاسق بطَبعه لأنه جسم مظلم غير مُنيرٍ بنفسه كما يقول أهل العلم بالفلك وإنما تكون إنارته التي تظهر للناس بسبب عكسه لإضاءة الشمس، وهذا ظاهر لأن القمر لو كانت إنارته من قِبَلِ نفسه لما كان هلالاً أوَّل الشهر وآخره، ولأضاءَ جميعُ ما يرى منه .
لكن الرازي قال إن الوقوب هو انمحاء نور القمر في آخر الشهر. وهذا التفسير لا تدل عليه اللغة.
وقد ذكر الرازي من الفوائد أن السحرة يتحينون لعمل سحر التمريض آخر الشهر لأجل ازدياد ظلمة القمر، والرازي له معرفة بالسحر وقد ألف فيه كتاباً ثم تاب من ذلك، فإن صح ما ذكره فهذا نوع من أنواع السحر يتحينون فيه هذا الوقت، وقد يكون لأنواع أخرى منه أوقاتاً أخرى يتحينها السحرة وغيرهم من أصحاب الشرور.
بل إن المنجّم أبا معشر جعفر بن محمد البلخي (ت:272هـ) وكان رئيس المنجمين زمن الخليفة العباسي المعتز بالله، وهو من المؤلفين في التنجيم والسحر وطرقه وأوقاته، ألَّفَ كتاباً سمَّاه (مصحف القمر) قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه).
والمقصود أن القمر غاسق، وفي وقوبه شر عظيم الله أعلم به؛ فما يجعله السحرة من مواقيت أعمالهم لها تعلُّق بمنازل القمر، وما يكون من الآفات والشرور التي تُبث في الفضاء والتي تخرج من الأرض في مواقيتَ مقدرَّةٍ لها تعلق بمنازل القمر، وما تتحينه الشياطين وبعض الحيوانات من أوقاتٍ مقدرة تنتشر فيها أو تخرج من بياتها لها تعلق أيضاً بمنازل القمر ووقوبه من منزلة إلى منزلة.





أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:33 AM

تفسير الغاسق بالكوكب


وقد رَوى ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الغاسق كوكب.
ورَوى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: (كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها).
ويُروى في هذا المعنى حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (النجم الغاسق) رواه ابن جرير في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة كلاهما من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عمِّه أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قال ابن كثير: (وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ا.هـ.
وهذا التفسير إن صح فهو جزء من المعنى، وتفسير بالمثال للتنبيه عليه، والله تعالى أعلم بما يُحدث في خلقه من الفتن والشرور، ونحن علينا الإيمان واتباع هدى الله تعالى؛ فمن اتبع هدى الله فإن الله يضمن له أن لا يخاف ولا يحزن، وأن لا يضل ولا يشقى، ومن استعاذ بالله أعاذه.



أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:34 AM

تفسير الغاسق بالذَّكَر

وأغرب ما ذكر في تفسير هذه الآية هو ما ذكره أبو المظفر السمعاني، عن أبي بكر النقاش المفسّر -وهو تلميذ ابن خزيمة-، أنه روى في تفسير بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قالَ: {مِن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ}: "مِن شرِّ الذَّكَرِ إذا دَخَلَ".

قالَ النَّقَّاشُ: فذَكَرْتُ ذلك لمحمَّدِ بن إسحاقَ ابن خُزيمةَ، وقلْتُ: هل يَجوزُ أن تُفَسِّرَ القرآنَ بهذا؟
قالَ: نعم , قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ مَنِيِّي)).
وعلى كلٍّ فتفسير النقاش مفقود لكن إن صحَّ هذا التفسير عن ابن عباس فهو تنبيه منه على أن هذا مما يشمله اسم الغاسق.
فإن الفرج من أكثر ما يدخل الناس النارَ، ويكون بسبب الوطء المحرم من الشرور شيء عظيم في الإثم وعقوباته وما يتبع الفاحشة من تبعات يكون فيها شرُّ عظيم لمن لم يعصمه الله ويرحمه، فإنه قد يجر إلى شرور عظيمة مِن الحملِ سفاحاً، والخزي والعار، وربما قتل النفس بغير الحق، وتسلط الشياطين، وإذلال بعض الناس لبعض، إلى غير ذلك من الشرور العظيمة التي كان مبدؤها إيلاج في فرج محرَّم، ودخول هذا الغاسق في وَقْبٍ محرم.
بل حتى الوطء المباح في أصله قد يحصل بسببه شرور وإن كان العبد لا يأثم بها، لكن قد يحصل بسببه شر وأذى، ولذلك سُنَّ للزوجين أن يقولا عند الجماع: ((اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)).
وبهذا تعلم أن الأقوالَ المرويةَ عن السلف في تفسير الغاسق هي من باب التمثيل، وهذا كثير في تفاسير السلف.

الخلاصة:
والخلاصة أن قوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} التنكير هنا لإرادة العموم، أي: من شر كل غاسق، ما علمنا منه وما لم نعلم.

والغاسق مقابل للفلق، فهو شر يغسق على العبد ويقب ؛ فيمنع عنه ما ينفعه؛ فيحتاج العبد إلى أن يوقى شرَّ ما غسق عليه.
وهذا الغاسق يكون في الأفق عامة، ويكون في جسد الإنسان، ويكون في روحه، ويكون على الفرد ، ويكون على الجماعة.
ويجمعه وصف الغاسق.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:36 AM


الحكمة من تقييد الاستعاذة من شرّ الغاسق بإذا الظرفية

وأشد ما يخشى شر الغاسق عند وقوبه؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكفِّ الصبيان عند بدء الإظلام كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كفّوا صِبيانكم حتى تذهب فَحْمَةُ -أو فورة- العشاء ساعةَ تهبُّ الشياطين)). رواه البخاري في الأدب المفرد من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا حبيبُ المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر، وصححه الألباني.
ورواه الحميدي في مسنده قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفوا صبيانكم عند فحمة العشاء، وإياكم والسَّمَرَ بعد هَدْأة الرِّجْل؛ فإنكم لا تدرون ما يبثُّ الله من خلقه؛ فأغلقوا الأبواب، وأطفئوا المصباح، وأَكْفِؤا الإناء، وأوكوا السقاء)).
قال أبو سليمان الخطابي: (هَدْأَةُ الرِّجل يريد به: انقطاع الأرجل عن المشي في الطريق ليلاً، وأصل الهدوء: السكون).
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داوود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترسلوا فَواشيَكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فَحْمَةُ العشاء، فإنَّ الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء)).
قال أبو داوود: (الفواشي ما يفشو من كل شيء).
وقال النووي: (قال أهل اللغة: الفواشي: كل منتشر من المال كالإبل والغنم وسائر البهائم وغيرها، وهى جمع فاشية لأنها تفشو أى: تنتشرُ فى الأرض).
وفحمة العشاء هي: أوَّل سواده ، وذلك بين الصلاتين.
فهذا في وقوب أوَّل الليل، والليل له وقوب عند أوَّله ، وله وقوب عند اشتداد ظلمته، لأن الإظلام يزداد شيئاً فشيئاً ؛ فهو يغسق مرة بعد مرة.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في الوَحدة ما سار راكب وحده بليلٍ أبداً)).
وهذا يدلّك على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم في الليل والخلوة من الشرور ما لو يعلمه الناس لم يسر راكب وحدَه بليل أبداً.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن لهذا الحديث سبباً ؛ وهو ما أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج رجل من خيبر فتبعه رجلان، ورجل يتلوهما يقول: ارجعا حتى أدركهما؛ فردَّهما.
ثم قال: إن هذين شيطانان؛ فاقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلامَ وأعلمه أنا في جمع صدقاتنا، لو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه).
قال: (فلمَّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم حدَّثه ، فنهى عند ذلك عن الخلوة).
والمقصود أن غسق الليل يكون في الأفق بعامة ؛ لأن الأفق يظلم بسببه ويحصل فيه من الشرور والآفات والفتن ما الله به عليم.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:38 AM

أنواع الغواسق

ويكون الغسق على الفرد وعلى الجماعة ، ويكون على جسد الإنسان، وعلى روحه، بل يكون على بعض أعضائه، فإنه يغسق عليه من أنواع الغواسق ما يكون معه من الشرور والأذى الذي يهجم عليه أو يمنع عنه أسباب ما ينفعه ما يحتاج معه إلى أن يوقى شرَّ هذا الغاسق، ويفلق عنه ما أحاط به من الشرَّ.

ومن ذلك : أن القلب له سحابة كسحابة القمر إذا غطت القلبَ نسي الإنسان ما شاء الله أن ينسى فإذا تجلت هذه السحابة ذَكَرَ ما كان نسيه.
وقد روى الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في معرفة الصحابة قصة مجلس مذاكرة جمع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، وفيه أن عمر سأل علياً : (ممَّ يذكر الرجل؟ ومم ينسى؟).
فقال علي: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علت عليه سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء، وبينا الرجل يحدث إذ علته سحابة فنسي، إذ تجلت عنه فذكر)) ). والحديث حسنه الألباني.
ويروى في معناه حديث مشتهر في كتب أهل اللغة رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس مرفوعاً: (إن للقلب طخاة كطخاة القمر).
ولا يصح إسناده ، لكن صح في معناه الحديث السابق، وقد تكلم أهل اللغة في تفسيره ، فقال الخليل بن أحمد: (وفي الحديث: ((إن للقَلبِ طَخْأَةً كطَخْأَةِ القَمَر)) إذا غَشِيَه الشّيء، وكلُّ شيءٍ أُلبِسَ شيئاً فهو طَخاءٌ له، والطَّخْياءُ : ظُلْمةُ الغَيْمِ). ا.هـ.
يقال: طَخْأَةٌ، وطَخَاة بالتسهيل، ويقال: طَخْيَةٌ وطِخية وطُخية بتثليث الطاء ، كما نص عليه المبرد في الكامل.
والعرب تسمي الظلمة الشديدة: الطِّخية.
كما قال أعشى بني باهلة في رثائه المنتشر الباهلي:

إما سلكتَ سبيلاً أنتَ سالِكُهُ ..... فاذهبْ فلا يبعدَنْكَ اللهُ منتشرُ
وَرَّادُ حَربٍ شِهابٌ يُستضاءُ بهِ ..... كما يضيءُ سوادَ الطِّخْيَةِ القمرُ
فالطخية هنا : الظلمة الشديدة.
والمقصود أن الطخية مما يشمله اسم الغاسق.
وطخاء القلب هو نوع من أنواع الغسق، وذلك أن سحابة القلب تتغشاه فينسى العبدُ ما كان يذكره، وأشدُّ من ذلك الرَّين والطبع والختم فإنها إذا جعلت على القلب قسا وغفل عن الحق غفلة شديدة وعمي عنه فلا يبصره ولا يريده من شدة إعراضه؛ فيكون العبد بذلك من الذين هم في طغيانهم يعمهون.
وكلما استرسل العبد في المعاصي واتباع خطوات الشيطان وأعرض عن هدى الله ازداد الرَّين على قلبه حتى يُطبعَ على قلبه فلا يفقه ولا يهتدي للحق، والعياذ بالله.
وهذا حال المنافقين الذين قال الله فيهم: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.
قال عَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ رضِيَ اللهُ عنهُ: (الإيمانُ يَبْدَأُ لُمْظَةً بيضاءَ في القلبِ، كُلَّما ازدادَ الإيمانُ ازدادت بَياضًا حتى يَبْيَضَّ القلبُ كلُّه، وإن النِّفاقَ يَبْدَأُ لُمْظَةً سوداءَ في القلبِ فكلما ازدادَ النفاقُ ازدادت حتى يَسْوَدَّ القلبُ كلُّه). رواه ابنُ أبي شَيْبةَ في كتابِ الإيمانِ، والبيهقيُّ في شُعب الإيمانِ.
والُّلمْظَةُ هي كالنُّقْطةِ الصغيرةِ.
وأصل علة اسوداد القلب وتسلط الشياطين عليه : الإعراض عن ذكر الله عز وجل ، وقد قال الله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}.
فأخطر ما يكون على الإنسان أن يعرض عن ذكر ربه فإذا تليت عليه آيات الله نفر منها، وإذا وعظه واعظ الله في قلبه أعرض عنه وأقبل على غيّه ؛ فهذا هو منشأ الضلال وسببه.
وبذلك تعلم أن أصل الهدى والخير والفلاح هو الإنابة إلى الله تعالى فيكون العبد مقبلاً بقلبه على الله ، معظماً لله ، معظماً لذكر الله ، ولآيات الله ، يعلم أن اتباعه لهدى الله خير له وأحسن عاقبةً في الأمور كلها ؛ فيوفَّق العبد بسبب الإنابة للهداية ويؤتى من حسن التذكر وفهم القرآن العظيم ما لا يؤتاه غيره، ويفتح له من أبواب التفكر فيه والانتفاع به ما لا يفتح لغيره.
وقد قال الله تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} ، وقال: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}، وقال: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} ، وقال: {واتبع سبيل من أناب إلي} ، وقال: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد}.
ولا يندفع شر الشيطان بمثل الإنابة إلى الله تعالى، وإقبال القلب عليه جل وعلا، والالتجاء إليه ، ومحبة ذكره وطاعته وتلاوة كتابه .
فإذا قرأ العبد أذكاره بقلب منيب إلى الله فقد هدي إلى الصراط المستقيم ، وعصم من الشيطان الرجيم، وكان من أهل العبودية الخاصة، الذين هم أولياء الله وصفوته من خلقه.
والمقصود هنا بيان أن الغاسق له معنى كبير يقع على أشياء كثيرة متعددة؛ فيقع على الأفق عامة ، كما في غسق الليل الذي يغسق على الأفق فيظلم ويكون في وقوبه -وهو أول دخوله- ما يكون من الشرور العظيمة والفتن والآفات التي يصيب الله بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء.
ويكون الغسق أيضاً على الجماعة من الناس ، فإنه قد يغشاهم شر أو فتنة تحيط بهم فتصرفهم عن الحق أو عن بعض ما ينفعهم ، ويكون وقوبها عليهم وقوب شر وبلاء.
ويكون الغاسق أيضاً على الواحد من الناس ، فيغشاه من الشر في جسده أو روحه ما يحجب عنه ما ينفعه أو يكون معه فتنة أو شر يصيبه بما يضره بإذن الله، وقد يطول أمد هذا الغاسق، وقد يقصر، وقد تكثر عليه بسببه الفتن والآفات والشرور وقد تقل ، وقد يعظم أثرها عليه جداً وقد يخف بحسب ما يقدّره الله عليه من ذلك كله.
والخلاصة أننا نستعيذ بالله من شر كلّ غاسق إذا وقب ، علمناه أو لم نعلمه.
ولعل هذا الشرح والتفصيل يطلعك على بعض معاني عظمة هذا القرآن العظيم ؛ فانظر ما دلت عليه هذه الكلمة من معانٍ عظيمة جامعة لأشياء كثيرة لا نحصيها.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:40 AM

تفسير قوله تعالى: {إذا وقب}

تقدم تفسير الحسن وقتادة لهذا اللفظ ، وأن الحسن فسَّر الوقوب بالدخول، وأن قتادة فسَّره بالذهاب.
وقال بقول الحسن عامة المفسرين، وأما قول قتادة فمن أهل العلم من نص على أنه لا يُعرف كما ذكر ذلك ابن جرير والنحاس.
وقتادة هو ابن دعامة السدوسي من التابعين ، يروي عن أنس بن مالك ، ولد سنة ستين للهجرة تقريباً ، فهو من أهل عصر الاحتجاج ولا يدفع قوله بمثل هذا النفي العام.
ولقوله شواهد تشهد له؛ فإن العرب تقول: وقبت الشمس إذا غابت؛ بل روي فيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو عبيد في غريب الحديث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الشمس قد وقبت قال: (هذا حينُ حلِّها)، أي: صلاة المغرب.
قال أبو عبيد: (وقوله: (وقبت) يعني غابت ودخلت في موضعها) ا.هـ.
وتقول العرب: وقبت العينان؛ إذا غارتا.

معنى الوقوب في اللغة
والوقوب في اللغة : هو الدخول في الوقبة.
وأصل هذا اللفظ (الوقبة) يطلق على : النقرة التي تكون في الحَجَر أو الجَبَل يجتمع فيها الماء.
قال الراعي النميري: وعينٍ كَمَاء الوَقْبِ أشرفَ فوقَها ..... حِجاجٌ كأرجاءِ الرَّكِيَّةِ غائِرُ
قال الأصمعي: (الوقب: النقرة في الجبل).
فهذا أشهر استعمالات هذا اللفظ عند العرب، ويطلقونه على غيرها ، بل كل نقرة تكون في حَجَرٍ أو عظم أو غيرهما يسمونها وقبة.
فالنقرة التي في كتف الإنسان تسمَّى وقبة، ووقب العين هو تجويف عظامها لأنه كالنقرة؛
وفي خبر سرية أبي عبيدةَ عامر بن الجراح في صحيح مسلم وغيره أنه أجلس ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة في وَقْبِ عين الحوت، وقال جابر: (ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه القلالَ من الدهن).
والكُوَّة التي تكون في الجدار ونحوه تُسمَّى وقباً ، وجمعها أوقاب وهي النافذة في استعمالنا.
والمقصود أن الخرق المتسع الذي يكون في الجدار يسمَّى وقباً عند العرب.
وقال أبو فيد مؤرج السدوسي (ت:195هـ) وهو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، في كتاب الأمثال له: ("الوقبة " و " الوقب ": النقرة في الحجر وفي الجبل، فأولى بالوقب والوقبة من الحجر الشيخ الخرف؛ يقولون للشيخ الذي كَبَر وانفتح دُبُره، وربما كان لغير الكِبَر، إذا انفتح دبره؛ لخلقة أو لداء، إلا أنه أكثرُ ما يصيب الدالفَ من الهَرَم.
وقال الأسود بن يعفر، يهجو بني نُجيح:
أبَـنِــي نُـجَـيْـحٍ إنَّ أُمَّـكُــمُ ..... بشِمَتْ وإنَّ أباكُمُ وَقْبُ
قال أبو فيد: فلم أسأل أحداً من عشيرته، إلا قال ما وصفت. ويقولون: " استه مثلُ الوَقْبِ في الحجَر" ) ا.هـ.
وذلك لأنه صار فيه مثل النقرة، وهذا إنما نذكره لمعرفة المعنى اللغوي لهذه اللفظة ومواضع استعمالها في لسان العرب، ولذلك فوائد كثيرة منها أن طالب العلم يعرف مناسبة اختيار هذا اللفظ على ما سواه من الألفاظ المترادفة والمتقاربة.
فالوَقْبَةُ والوَقْبُ: اسمان ، وَوَقَبَ - فِعْلٌ - أي: دخل في الوقبة.
والوقوب مصدر؛ فهو وصف جامع لحال دخول الغاسق في وقبته.
وهذا يدلك على أن للغاسق محلاً يقب من خلاله أو يقب فيه ويكون هو وقبه.
فالوَقْبُ قد يكون مصمتاً غير نافذ مثل النقرة التي تكون في الجبل أو في العظم تسمَّى وقباً وهي غير نافذة لكنها تجويف قد يقب فيه ما يقب.
وقد يكون الوقب نافذا كالكوَّة التي في الجدار وغيره؛ فيكون الوقوب فيه الدخول من خلاله.
وعلى هذا ؛ فالليل له وَقْبٌ يدخل فيه قال الله تعالى: {يولج الليل في النهار} ، فهذا الولوج هو وقوب الليل، أي: دخوله في وقبته، أي: الموضع الذي يتغشاه الليل .
قال عنترة العبسي:
فسَرَيْتُ في وَقْبِ الظَّلامِ أقودُهمْ ..... حتَّى رأيتُ الشَّمسَ زالَ ضحاها

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:43 AM

معاني وقوب الغواسق

وكلُّ ما فُسِّرَ به الغاسق فله موضع يدخل فيه أو يدخل من خلاله هو وقبته التي يكون وقوبه فيها أو من خلالها.
وأنت إذا تأملت أنواع الغواسق وما يكون معها من الشرور العظيمة علمت أن لها محلاً تقب من خلاله أو محلاً تقب فيه فإذا وقبت فيه أثرت وضرَّت بإذن الله.
فالسحر الذي يتضرر به الإنسان له موضع يدخل فيه في جسد الإنسان وتتأثر به روحه، وكذلك العين، وكذلك الفتنة وغيرها من الشرور لها مواضع تدخل إليها فتؤثر بذلك ولا سيما إذا تمكنت.
حتى الكلمة ربما دخلت موضعاً في قلب الإنسان فتمكنت منه فتأثر بها جداً .
قال طرفة بن العبد:
رأيتُ القوافي يتَّلِجْنَ موالِجاً ..... تَضَيَّقُ عنها أن تولَّجَها الإِبَر

والنفاق ينبت في القلب كاللمظة الصغيرة ثم يكبر ويزداد حتى يستوليَ على القلب كله إذا لم ينب العبد إلى ربه ويعمل من الصالحات ما يُذهبُ النفاق من القلب أو يضعفه.
ولذلك كان السلف يخافون النفاق على أنفسهم خوفاً شديداً، لأنهم يعلمون أن العبد إذا غفل عنه وأعرض عن ذكر الله وطال عليه الأمد؛ نسي وازدادت قسوة قلبه وزاد إعراضه عن ذكر الله ، فكان عرضة لاستيلاء النفاق على القلب حتى يكون العبد منافقاً خالصاً ، والعياذ بالله.
هذا ما تيسر الحديث عنه في تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} وهي إضاءات تدلك على ما وراءها من المعاني العظيمة حيث جمعت هذه الآية الاستعاذة من أنواع كثيرة جداً من الشرور لا يحيط بها إلا الله جل وعلا.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:45 AM

أقوال العلماء في المراد بالنفاثات في العقد

اختلف المفسرون في المراد بـ"النفاثات في العقد" على أقوال:
القول الأول: أن المراد السواحر والسحرة، وهذا قول الحسن البصري رواه الطبري في تفسيره وصححه ابن حجر في فتح الباري.
وهذا التفسير يقتضي شمول دلالة اللفظ للذكور والإناث من السحرة.

القول الثاني: المراد النساء السواحر ، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ثم قال به مقاتل بن سليمان والفراء وأبو عبيدة، ثم قال به محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، ثم صدَّر به ابن جرير تفسيره للآية.
ثم اشتهر هذا القول شهرة كبيرة في كتب التفسير وشروح الحديث وكتب اللغة، فأكثر العلماء إذا فسروا النفاثات قالوا: هنَّ السواحر.
وهذا القول له تخريجان:
التخريج الأول: أنه تفسير بالمثال ، وهذا مسلك من مسالك التفسير عند السلف، والتفسير بالمثال لا يقتضي حصر المراد فيه.
وعلى هذا فالسحرة من الرجال يدخلون في هذه الآية كما هو قول الحسن البصري.
التخريج الثاني: أن التأنيث هنا خرج مخرج الغالب، فيتعلق الحكم بالعلة لا بصيغة الخطاب، كما في قول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} المحصنات هنا هنَّ العفيفاتُ متزوجاتٍ أو غير متزوجات.
فاللفظ مؤنث {المحصنات}. ومن رمى رجلاً عفيفاً بالزنا فإنه يجلد كذلك لأن علة الحكم واحدة وهي القذف بالزنا، لكن خرج الخطاب مخرج الغالب، لأن أكثر ما يُقذف النساء.
وهذا التخريج ذكره شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، في مواضع من دروسه، وهو تخريج جيد معتبر.
فالنفث في العقد هنا المراد به: السحر بإجماع السلف، والاستعاذة هنا تشمل سحر الرجال وسحر النساء.
وقد ذكر بعض المفسرين تخريجاً ثالثاً لكنه باطل لا يصح، وهو أن المراد بالنفاثات هنا بنات لبيد بن الأعصم على اعتبار أن السورة نزلت بسبب حادثة سَحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول ذكره النحاس ولم ينسبه لأحد معروف، ونسبه الواحدي لأبي عبيدة معمر بن المثنى وتبعه على ذلك البغوي ثم كثر في التفاسير نسبةُ هذا القول لأبي عبيدة وبعضهم يذكره دون عزو، حتى إن ابن جزيء الكلبي رجح هذا القول في تفسيره، وهو قول لا أصل له، فالذي سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو لَبيدُ بن الأعصم وليس بناته، وليس في شيء من الأحاديث والآثار الصحيحة ولا الضعيفة أن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم بنات لبيد.
والمقصود أن القول الثاني وهو أن المراد بالنفاثات في العقد النساء السواحر هو قول جمهور المفسرين.
ولعل سبب شهرة هذا القول أن ابن جرير صدَّره في تفسيره للآية، وقبله البخاري في صحيحه فسَّر النفاثات بالسواحر.
قال ابن جرير: (وقوله: {ومن شر النفاثات في العقد}: السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها).
وبذلك قال جماعة من أهل اللغة كأبي عبيدة والفراء وابن قتيبة والزجاج كلهم فسروا النفاثات بالسواحر.
مع وجود أخطاء في نسبة هذا القول لمجاهد وعكرمة وقتادة والحسن البصري فأدى كل ذلك إلى شهرة هذا القول.
ومما ينبغي لطالب العلم أن يتفطن له أن بعض التفاسير يقع فيها اختصار في حكاية الأقوال وخطأ في نسبة بعضها لقائليها ولا سيما في حال نسبة القول لجماعة دون ذكر نصوص أقوالهم.
وهذا لا يدركه طالب العلم إلا بمعرفة الأقوال من مصادرها الأصلية ثم ينظر في حكاية المفسرين لهذه الأقوال؛ فإن من المفسرين من يكون القول ظاهراً عنده فيختصر حكاية الأقوال ويجمع بينها باختصار مخل ثم قد يشيع عنه ذلك، وقد يكون لبعض العلماء ما يعذر به لأن اختصاره كان لأجل نقل قدر من المعنى لا إشكال فيه.
ومن ذلك هذا المثال:
قال ابن كثير: (وقوله: {ومن شر النفاثات في العقد} قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك: "يعني السواحر"، قال مجاهد: "إذا رقين ونفثن في العقد").
وهذا الكلام إذا قرأه طالب العلم لأول وهلة قد يفهمُ منه إجماعَ المفسرين على أن المراد بالنفاثات: النساء السواحر، لأنه نقل هذا التفسير عن هؤلاء الأئمة ولم يذكر قولاً غيره.
وهذا الكلام اختصره ابن كثير من تفسير ابن جرير لكنه كان اختصاراً غير دقيق، ولعل مما يعتذر له به أن ابن جرير صدر تفسيره للنفاثات بأنهن السواحر ثم قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل).
ثم أورد آثاراً عن هؤلاء الأئمة، لكن هذه الآثار ليس فيها نص على أن المراد بالنفاثات السواحر إلا ما رواه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
فالحسن البصري قال: (السواحر والسحرة).
وقتادة لما تلا قوله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} قال: (إياكم وما خالط السحر من هذه الرقى).
ومجاهد قال في تفسير النفاثات: (الرقى في عقد الخيط).
وعكرمة قال: (الأُخَذُ في عُقَد الخيط) الأُخَذ جمع أُخذة ، وهي أخذة السحر.
فهؤلاء كلهم لم ينصوا على أن النفاثات السواحر.
على أن الإسناد إلى مجاهد وعكرمة فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو رافضي متهم بالكذب.
بل قول الحسن البصري (النفاثات: السواحر والسحرة)، خارج عن هذا القول.
ومجاهد وعكرمة وقتادة لا يصح أن يُنسب إليهم هذا القول.
وقول ابن كثير عن مجاهد أنه قال: (إذا رقين ونفثن في العقد) هذا نقل بالمعنى ، وفيه تجوّز أداه إليه اختياره للقول ثم اعتماده وحكايته عن هؤلاء الأئمة ثم تغيير الضمير لأجل أن يتناسب مع ذلك.
ونص كلام مجاهد فيما رواه ابن جرير في تفسير النفاثات: (الرقى في عقد الخيط).
وابن جرير استدل بأقوالهم على أن هذه الآيات في الاستعاذة من شر السحر، وهذا القدر مجمع عليه لا خلاف فيه.
ولعل هذا هو ما فهمه ابن كثير أيضاً، وبذلك يعتذر له فيه، فتكون مسألة شمول لفظ الآية للسحرة من الرجال مسألةً أخرى زائدة على القدر الذي وقع عليه الإجماع.
فابن جرير استدل بأقوال من نقل أقوالهم على أن المراد بالآية الاستعاذة من شر السحرة، وهذا يُخرِج قول المعتزلة الذين ينكرون حقيقة السحر، وقول الفلاسفة الإسلاميين في تفسيرهم للآية كما سيأتي.
وأما هل المراد بالنفاثات النساء السواحر فقط أم هل يشمل اللفظ السواحر والسحرة فهذه مسألة أخرى، وسيأتي بيانها بإذن الله.
والخلاصة أن هذه المسألة وهي المراد بالنفاثات ليس فيها تفسير يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المراد بالنفاثات، ولا عن أحد من الصحابة.
وأقدم من أُثر عنه أنه تكلم في هذه المسألة اثنان من التابعين هما:
1: الحسن البصري، قال: (السواحر والسحرة).
2: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: (السواحر).
وقول الحسن البصري أرجح من قول ابن زيد من هذه الجهة.
لكن قول عبد الرحمن بن زيد اشتهر شهرة كبيرة.
ويمكن الجمع بين القولين بالتخريجين المذكورين آنفاً.

القول الثالث: أن المراد : النفوس النفاثات، وهذا القول أول من علمته ذكره الزمخشري في الكشاف، وذكره من باب الاحتمال حيث قال: (النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين).
ثم ذكره الرازي ثم ذكره عدد من المفسرين كأحد الأقوال التي قيلت في تفسير الآية، ورجحه ابن القيم في بدائع الفوائد ومحمد بن عبد الوهاب في اختصاره لتفسير المعوذتين.
قال ابن القيم: (الجواب المحقق أن النفاثات هنا هنَّ الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات ، لأن تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة ، وسلطانه إنما يظهر منها؛ فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير والله أعلم) ا.هـ.
فيكون الموصوف هنا محذوفاً ، والتقدير: ومن شر النفوس النفاثات.
وكون الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة مؤثرة في انعقاد السحر حق لا يُدفع، لكن هل هذا هو المراد باللفظ؟
الذي يظهر لي بعدُه -وإن كان اللفظ مؤنثاً- لثلاثة أمور:
أولها: أن هذا غير المتبادر إلى الذهن ، وإنما قاد إليه إرادة الهروب من إشكال ورود اللفظ بصيغة المؤنث.
ولو كان متبادراً إلى الذهن لوجد من المفسرين طيلة خمسة قرون قبل الزمخشري من يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى فيقول به أو يذكره، ثم إن الزمخشري ذكره احتمالاً فترقَّى القول بعد قرنين بأن رجَّحه ابن القيم وعدَّه القول المحقق، وابن القيم إمام له قدره في التفسير والعربية والإمامة في الدين لكن هذا القول لا تظهر لي صحته.
الأمر الثاني: أن النفث في العقد هنا نظير الحسد من جهة أن التأثير فيهما من قبل الأنفس ، ومع ذلك ورد لفظ (الحاسد) بصيغة المذكر ، وورد النفث بصيغة المؤنث، فيكون في هذا ما يلزم من التفريق بين المتماثلين، وهو باطل.
الأمر الثالث: أن المعهود في خطاب الشرع إسناد الفعل للشخص لا للنفس، وعند إرادة إسناده للنفس يصرح بذكر النفس كما في قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} ، وقوله: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}.

القول الرابع: {النفاثات} الجماعات التي تنفث، والتأنيث لأجل الجماعة مستعمل في اللغة صحيح، وأوّل من ذكر هذا القول الزمخشري في تفسيره حيث قال: (النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر).
فهو ذكر هذه الاحتمالات الثلاث لأنها هي المعاني التي يمكن أن يؤنث اللفظ لأجلها.
لكن هذا القول فسّره الرازي تفسيراً فيه بُعْد فقال: (لأنه كلما كان اجتماع السحرة على العمل الواحد أكثر كان التأثير أشد). وهذا التعليل اشتهر في كتب التفسير المتأخرة التي تنقل كثيراً عن الرازي والزمخشري.
ولا ينكر أن اجتماع السحرة على العمل من أسباب قوة تأثيره، لكن كون هذا هو المراد بعيد لأنه يُخرج إرادة عمل الفرد منهم وهو كثير جداً، وما يجتمع عليه السحرة من العمل قليل جداً في جنب ما ينفرد به كل ساحر.
والأقرب منه أن يكون الجمع لأجل طوائف ما ينفث.
فالسحرة الرجال ينفثون ويعقدون، والسواحر من النساء ينفثن ويعقدن، وسحرة الجن ينفثون وبعقدون، والشياطين تنفث وتعقد كما صحّ في الحديث، بل بعض الحيوانات تنفث ويستخدمها بعض السحرة في أعمال السحر.
وهذه الطوائف التي تنفث يصح جمعها على (النفاثات) كما تقول: المخلوقات، والكائنات، وذوات الحوافر، وذوات الأظلاف، مع أن فيها الذكور والإناث، لكن لما أريد الجماعة أنّث اللفظ لذلك.
وهذا القول الذي يظهر لي أنه صحيح لغةً ، لكن لم أر من نصَّ عليه من المتقدمين في تفسير الآية، لكن يغني عن النص على ذلك اجتماعهم على أن هذه الآية تشتمل على الاستعاذة من شرّ كل سحر نفث فيه وعُقد.
ولا شك أن الاستعاذة من شر النفاثات في العقد تشمل الاستعاذة من شرّ كل ما ينفث ويعقد، من سَحَرة الإنس، وسَحَرة الجن، والشياطين.

الخلاصة:
والخلاصة: أن الاستعاذة من شر النفاثات في العقد تشمل الاستعاذة من شرور هؤلاء كلهم، وفي الآية دلالة على كثرة ما ينفث ويعقد، وأن لذلك شرا عظيماً يستدعي الاستعاذة بالله منه، وقد ذكرت فيما مضى شروط الاستعاذة الصحيحة وأنها تكون بالقلب والقول والعمل.


معنى النفث
والنفث هو: النفخ اليسير مع ريق قليل متفرق في قطرات صغيرة جداً يدفعها النافث بفيه مع الهواء.
فإن كان الريق كثيراً فهو التفل، وإن زاد فهو البصاق، وإن كان بلا ريق فهو النفخ، وكلها تستعمل في الرقية، والأكثر النفث.

أنواع النفاثات
والسحرة ينفثون ويعقدون، وفي حديث الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلَّم: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثم نَفَثَ فيها فَقدْ سَحَرَ، ومَنْ سَحَرَ فَقَدْ أشرَكَ، ومَن تَعلَّق شيئا وُكِلَ إليهِ» رواه النسائي وابن عدي والطبراني، ورواية الحسن عن أبي هريرة مختلف فيها، لكن للحديث شاهد من حديث عمران بن الحصين أخرجه البزار.
والشياطين كذلك تنفِث وتعقد، وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَعْقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكمْ ثَلاثَ عُقَدٍ إِذا نامَ، بكلِّ عُقْدَةٍ يضرب عليكَ ليلاً طوِيلاً، فإذا استيقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدةٌ، وإذا توضَّأ انحلَّتْ عنهُ عُقْدتانِ، فإِذا صَلَّى انحلَّتِ العُقَدُ، فأَصبَحَ نَشِيطًا طيِّب النَّفْسِ، وَإِلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النفْسِ كسْلانَ».
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منْ ذكرٍ وَلاَ أُنثَى إِلا وعلى رَأْسِهِ جَرِيرٌ مَعْقُودٌ ثَلاَثَ عُقَدٍ حينَ يرقدُ فإِن استيقظَ فذَكرَ الله تعالى انحلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فإِذَا قام فتوضَّأ انحلَّت عقْدةٌ؛ َإِذا قامَ إلى الصَّلاة انحلَّتْ عُقَدُهُ كلُّها)).
ورواه ابن حبان وزاد: ((وَإِنْ أصبحَ ولَم يذْكرِ اللهَ أصبحَ وعُقَدهُ عليهِ، وأصبح ثقيلاً كسلانا لم يُصِبْ خيرًا)).
ولابن خزيمة وابن حبان وأبي يعلى : ((ما من مسلم ولا مسلمة ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد...)) الحديث.
الجَرير: هو الحبل المفتول.
قال البيضاوي: (التقييد بالثلاث إما للتأكيد أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء الذكر والوضوء والصلاة، فكأنه منع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على رأسه، وكان تخصيص القفا بذلك لكونه محل الوهم ومجال تصرفه وهو أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة لدعوته).


أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:48 AM

القراءات الواردة في {النفّاثات}

بقي أن نبيّن أن النفاثات فيها أربع قراءات:
القراءة الأولى: النَّفَّاثات ، وهي القراءة المشهورة وهي قراءة الجماعة.
القراءة الثانية: النافثات ، وهي رواية لرويس عن يعقوب الحضرمي من طريق طيبة النشر.
روى أبو علي الأهوازي في الوجيز عن أبي بكر التمّار أنه قال: (قرأت على رُويس ليعقوب سبع ختمات، وأخذ علي في أربع منها: {ومن شر النافثات}).
القراءة الثالثة: النُّفَاثات ، وهي قراءة رواها أبو الكرم الشهرزوري القارئ عن رَوح.
والنُّفَاثَة هي ما يخرج من الفم بالنفث، واحدتها نفاثة، والجمع نُفَاثات.
القراءة الرابعة: النَّفِثات ، وهي قراءة عزاها ابن الجزري في النشر للحسن البصري وأبي الربيع.
وقد تكلم ابن الجزري في النشر في توجيهها وشرح معانيها بما لا نطيل به.
وذكر السمين الحلبي قراءة خامسة، وهي (النُّفَّاثات) على وزن التفاحات ونسبها للحسن البصري، ولا أصل لها.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:49 AM


أقوال المعتزلة والفلاسفة الإسلاميين في تفسير النفاثات في العقد

ولبعض المعتزلة أقوال في تفسير النفاثات في العقد بأنهن النساء ينقضن عزائم الرجال، وهذا تأويل لا يصح، وإنما قادهم إلى ذلك أنهم ينكرون حقيقة السحر.
وذكر الزمخشري قولاً آخر؛ وهو أن النفاثات في العقد النساء الكيَّدات تشبيها لكيدهن بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهن لهم.
وهذا القول محدث باطل.
وكذلك قول البيضاوي: (وقيل: المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل). قول محدث لا يصح.
والمعتزلة لهم قول معروف في إنكار حقيقة السحر، ولذلك يؤولون ما يرد في النصوص من ذكر السحر بتأويلات تصرفها عن ظاهرها إلى استخدام الحيل والكذب وسقي العقاقير والإيهام ونحو ذلك.
وابن سيناء -رئيس الفلاسفة في زمانه- له كلام في تفسير الغاسق والنفاثات -نقله الألوسي وقبله البيضاوي- بأن الغاسق: القوة الحيوانية وما فيها من الظلمة، والنفاثات: النباتات التي تزداد طولاً وعرضاً وعمقاً ، فجعل هذه الأبعاد الثلاثة مرموزاً لها بالعُقَد ، وهو قول ظاهر البطلان، ولا أصل له عن السلف، ولا تدل عليه اللغة، وهو قول محدث.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:50 AM


تخريج لغوي

النفاثات جمعُ نَفَّاثة، على وزن فَعَّالة ، ومثال فعَّالة يرد على وجهين: على المبالغة، وعلى الجَمْع.
فأما الوجه الأول: فكما يقال: علامة وفهَّامة ونسَّابة، وهذه الصيغة إذا أفردت صلحت للذكر والأنثى؛ فيصحّ أن تقول: امرأة نفَّاثة، ورجل نفَّاثة، للمبالغة.
وجمع هذه الصيغة جمع تكسير لا إشكال فيه، ونظيره قول الراجز:

لقد علمتُ والأجلِّ الباقي ..... أن لا يردَّ الأجلَ الرواقي
قال الجوهري في الصحاح: (كأنه جمع امرأة راقية أو رجل راقية بالهاء للمبالغة).
فَجَمْعُ مثالِ المبالغة الذي يصلح للذكر والأنثى جمع تكسير معروف مستعمل، لكن جمعه جمعَ الإناث المختوم بالألف والتاء غير معروف ولا مستعمل – فيما أعلم - إلا أن يكون جَمْعَ الجمع.
والمعروف الشائع أن تجمع هذه الصيغة إذا أريد بها المذكَّر جمع تصحيح كما في قوله تعالى: {وفيكم سماعون لهم} [التوبة: 47]، وقوله: {سماعون للكذب أكالون للسحت} [المائدة: 42] أو جمع تكسير كما في المثال السابق.
وإذا أريد بها المؤنث جُمعت جمع المؤنث المختوم بالألف والتاء؛ فتقول: امرأة سحَّارة، ونساء سحَّارات.
وأما الوجه الآخر: وهو أن يكون لفظ (نَفَّاثة) جمعاً على مثال فَعَّالة؛ فهو كما يقال: رَجَّالة وخيالة ونبَّالة وعسَّاسة وسيَّارة.
قال ابن السكيت: (تقول: هؤلاء قومٌ رَجَّالة، وهؤلاءِ قومٌ خَيَّالة، أي أصحاب خيل)
ويقال: خَيلٌ لا رَجَّالةَ فيها.
والجموع التي على وزن فَعَّالة وفِعَالَة وفَاعِلَةٍ ومُفَعِّلَة ونحوها يصحّ أن تجمع جمعاً مختوماً بالألف والتاء؛ فتقول : فَعَّالات وَفِعَالات وفَاعِلات ومُفَعِّلات، تريد بذلك جَمْعَ الجَمْعِ.
- قال الله تعالى: {إنها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر} وفي قراءة سبعيّة [جِمَالات صفر] ، فالجِمَالة جمع، والجِمَالات جمع الجمع.
قال الخليل بن أحمد: (فأما قوله تعالى : [كأنّه جِمالاتٌ صُفْرٌ] فهو الأيْنُقُّ السُّودُ من غير أن يُفرَد الواحد، ولكنْ يقال لكلِّ طائفةٍ منها جِمَالةٌ، والجميعُ جِمَالاتٌ وجَمائلُ).
- وقال الفرَّاء في قوله تعالى: {له معقبات}: (ملائكة معقِّبةٌ. ومعقِّبات: جمع الجمع).
والقول بأن النفَّاثَاتِ جمع الجمع تجتمع به القراءتان: {النفَّاثات} و{النافثات} لأنهما جمع نَفَّاثَةٍ وَنَافِثَة، وكلا اللفظين يصحُّ أن يرادَ به الجمع، كما تقول الخيالة والرجَّالة، وكما تقول: العادية والهادية للجماعة من الإبل أو الخيل، وتُجمع على العاديات والهاديات.
فبهذا يصحّ أن يراد بالنافثة والنفاثة الجمع، ويراد بالنفاثات والنافثات جمع الجمع.
والمتأمّل في هذا التخريج اللغوي يجده موافقاً لشمول معنى اللفظ لطوائف كثيرة تنفث وتعقد؛ فكثير من أصحاب الديانات الوثنية وهم طوائف كثيرة يستعملون السحر ويتقربون للشياطين وينفثون ويعقدون، وكذلك اليهود والنصارى فيهم سحرة، وهم طوائف كثيرة، وكذلك بعض الفرق المنتسبة للإسلام يشيع فيها عمل السحر ككثير من الطرق الصوفية الغالية، وطوائف من الرافضة، والفِرق الباطنية، وكذلك بعض الجهلة من المنتسبين للسنة، وهذه الطوائف الكثيرة المنتشرة في الأرض يشيع فيها عمل السحر، وفي الجنّ سَحرة كما روى ابن أبي شيبة بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في الجن: (لهم سحرة كسحرتكم)، ويسنده مرسل عبد الله بن عبيد بن عمير: (الغيلان سحرة الجنّ) رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وذكر النووي في المنهاج أن السَّعَالِي من سَحَرَةِ الجنّ.
وكذلك الشياطين تنفث وتعقد وهي كثيرة جداً وهذا النفث يكون لكل مسلم ومسلم حين يرقد كما سبق بيانه.
فبذلك تعلم أن الطوائف النفاثات في العُقَدِ كثيرة جداً؛ وورود هذا اللفظ بصيغة جمع الجمع أدلّ على الكثرة، وبناء مفرده على المبالغة فيه زيادة دلالة على كثرة وقوع ذلك.
فاجتمعت الكثرتان: كثرة العدد، وكثرة وقوع الفعل.
والخلاصة أن الاستعاذة بالله رب الفلق من شر النفاثات في العقد تشمل الاستعاذة من جميع طوائف السحرة من الجن والإنس، وأنه لا يحلّ عُقَدَ السحر إلا ربّ الفلق جلَّ وعلا.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:51 AM


المراد بالحاسد في الآية

في المراد بالحاسد في هذه الآية أقوال:

القول الأول: المراد كلُّ حاسد، وهذا مفهوم قول قتادة وعطاء الخراساني، ونص عليه ابن جرير.
قال ابن جرير: (أُمِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر كل حاسد إذا حسد).
وهذا هو الصواب إن شاء الله، وقد قال به جمهور المفسرين.
القول الثاني: المراد بالحاسد هنا اليهود، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد ومقاتل بن سليمان، واختاره البغوي في تفسيره، وأما في شرح السنة فاختار القول الأول.
القول الثالث: المراد به لبيد بن الأعصم، لأنه هو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم حسداً وبغياً، وهذا قول الفراء، وذكره بعض المفسرين بعده.
والقول الأول هو الأولى بالصواب؛ فقوله تعالى: {ومن شر حاسدٍ إذا حسد}؛ {حاسدٍ} هنا نكرة، والتنكير فيه لإرادة العموم، أي: ومن شر كل حاسدٍ.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:52 AM

معنى الحسد وبيان أنواعه

والحاسد هو الذي يتمنّى زوال النعمة عن المحسود أو دوام البلاء عليه؛ فيحسده على النعمة الحادثة أو يحسده على النعمة التي يحتاجها، وكل ذلك من الحسد.
ولذلك فإن الحسد على نوعين:
أحدهما: تمنّي زوال النعمة الموجودة.
والنوع الآخر: تمنّي دوام البلاء.
قال ابن القيم في صاحب هذا النوع من الحسد: (فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحبّ أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله، أو قلّة دينه، فهو يتمنّى دوام ما هو فيه من نقص وعيب) ا.هـ.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:53 AM

الفرق بين الحسد والغبطة

أهل العلم فرقوا بين الحسد والغبطة في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكم فهو يقضي بها ويعلّمها)). متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
فهذا الحسد هو الغبطة وهو أن يتمنّى مثل النعمة التي أعطيها أخوه المسلم من غير أن يتمنى زوالها عنه.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:54 AM


معنى التقييد بالظرف في قوله تعالى: {إذا حسد}

والحسد أصله صفة كامنة في كثير من النفوس، وإذا بقي الحسد كامنا فإنه لا يضر، لكن {إذا حسد} أي: إذا فَعل هذا الفعل وهو الحسد؛ فإنه يضر بإذن الله تعالى.
ولذلك أمرنا بالاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد.
وهذا كما يقال في المرأة: هي مرضع؛ أي إذا كان لها ولد في سِنّ الرَّضاع ، ولها ما ترضعه.
ويقال: هي مرضعة، إذا كانت تُرضِع بالفعل، فالصفة الأولى للقدرة على الفعل وقابلية الاتصاف به، والصفة الثانية للفعل نفسه.
ولذلك تسمّى المرأة مرضعاً وإن لم تكن مرضعة في الحال.
قال الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها}
فالمرضعة هي التي ترضع ولدها بالفعل فهو يلتقم ثديها، إذا رأت الساعة ذهلت عن رضيعها.
وهكذا الحاسد، حسده كامن في نفسه، فإذا رأى النعمة على غيره ظهر هذا الحسد، وخرج من نفسه وعينه سهام مسمومة على المحسود فتؤثر فيه بإذن الله، ومنهم من يحمله الحسد على الكيد والبغي.
وأما من يكون في نفسه وطبعه حسد كامن وإذا رأى ما يعجبه من النعمة على غيره دعا للمنعم عليه بالبركة واستعاذ بالله من شر نفسه، فإن حسده لا يضره ولا يضر صاحب النعمة، ومن كان كذلك في معاملة نفسه بكفّها عن الحسد، بالدعاء بالبركة وسؤال الله من فضله فإن صفة الحسد تضعف عنده حتى تضمحلّ ويحلّ محلها إرادة الخير للناس ومحبة نفعهم ، فيكون سليم الصدر طيب القلب ، لا يحسد ولا يحقد.
ويثاب على ذلك بأنواع من الفضل العظيم؛ والله تعالى يحبّ من عبده أن لا يحسد أحداً على فضل آتاه الله إياه؛ ولذلك فإن العبد قد يُبتلى بما يرى على غيره من النعم، فإن حسدهم فقد كره قسمة الله تعالى وتصريفه الرزق بين عباده. (ق)
وبذلك تعلم أن الحسد من أعظم الذنوب ، وأنه مما يقدح في التوحيد.
والمؤمن الصالح إذا رأى نعمة على غيره وهو يحب مثلها لنفسه دعا لأخيه بالبركة وسأل الله من فضله، فكان حريّاً بأن يستجاب له.
وقد قال الله تعالى: {واسألوا الله من فضله}.
وأما من أطلق لنفسه العنان في الحسد، وإذا رأى ما يعجبه من النعم حسد أصحابها، فإن هذه القوة الحاسدة تنمو لديه وتعظم ويعظم أثرها حتى يكون حسوداً كثير الحسد شديد الأذى.
وبهذا تعلم أن الحاسدين على درجات، وأن من أهل الحسد من يكون حسده كثيراً شديداً، ومنهم من يكون حسده دون ذلك، ومنهم من يحسد أحياناً.
فقد يكون الحسد في طبع المرء، ويعرف من نفسه الحسد، لكنه لا يحسد كثيراً من الناس وإنما يقع حسده على فئة بعينها أو شخص بعينه.
فأظهر الأقوال في معنى التقييد بالظرف في الآية في قوله تعالى: {إذا حسد} هو ما تقدم من العمل بالحسد سواء أكان العمل قلبياً أم بالجوارح.
وقد عبّر عنه ابن القيم تعبيراً حسناً فقال: (قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، ووَجّهت إليه سهامَ الحسد من قِبَله، فيتأذى المحسود بمجرّد ذلك) ا.هـ.
وبنحو هذا القول قال جماعة من المفسرين.
وبما تقدم نعرف جواب السؤال الذي أثاره بعض المفسرين عن معنى التقييد بالظرف في قوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} وقوله: {ومن شر حاسد إذا حسد} دون أن يكون هذا التقييد في النفاثات.
وقد اختلفت أجوبة المفسرين على هذا السؤال ، وأقرب الأقوال أن الغاسق يكون شره عند وقوبه فإذا كفي العبد شرّه عند وقوبه فقد سلم منه.
وكذلك الحاسد فإن حسده كامن في نفسه لا يضر أحداً إلا {إذا حسد}، ولذلك قد يَرى الحاسد صاحب نعمة ولا يحسده ، إما لأن نفسه لا تتعلق بتلك النعمة أو لأنه لا عداوة بينه وبين ذلك المنعم عليه، فلا يضره.
وأما النفاثات في العقد فإن النفث في العقد هو نفسه هو فعل للسحر فيضر ، فهو نظير فعل الحسد ووقوب الليل.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:55 AM


أنواع الحاسدين

والحاسدون كثيرون، وقد أخبرنا الله بحسد بعضهم في كتابه الكريم، وحذرنا منهم .
فمنهم إبليس وذريته من الشياطين.
ومنهم الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم : قال الله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير}.
وقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}.
وقد روى البخاري في الأدب في المفرد وإسحاق ابن راهوية من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين)).
وفي رواية لابن خزيمة: ((إن اليهود قوم حُسُد وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين)).
وبذلك تعلم أن الحسد منه حسد عام وحسد خاص.
فالحسد العام: هو حسد الكفار للمؤمنين، وحسد الشياطين لبني آدم، وحسد المنافقين، وحسد السحرة.
والحسد الخاص: هو الحسد الذي يكون على الشخص نفسه أو على طائفة بخصوصها.
وكلا النوعين فيهما شر يُستعاذ منه، لذلك ينبغي أن يستحضر المستعيذ الاستعاذة من الحسد كله عامّه وخاصه.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:56 AM

ما هو شر الحاسد؟

وههنا مسألة مهمة تتعلق بتفسير الآية: وهي ما هو شر الحاسد؟
والخلاصة: أن شر الحاسد على نوعين:
النوع الأول: شر نفسه وشر عينه، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} قال: (من شرّ عينه ونفسه).
والفرق بين النفس والعين هنا أن العين: ما كان عن معاينة وحضور، فيصيبه بعينه بإذن الله فيؤثر فيه ذلك.
والنفس: هي تعلّق نفس الحاسد بالنعمة التي لدى المحسود فيؤثر فيها ذلك بإذن الله.
النوع الثاني: ما ينشأ عن الحسد من الكيد والبغي وقول السوء بل ربما يصل الأمر ببعض الحسدة إلى استعمال السحر والعياذ بالله للإضرار بالمحسود؛ فهذا كله من شر الحاسد.
وهذا الشر قد يكون في حَجْب ما ينفع المحسود، وقد يكون في جَلْب ما يضرّه، وكل ذلك من الحسد.
فبعض الحسدة إذا ذكر عنده من يراد نفعه بشيء اجتهد في صرف ذلك النفع عنه حسداً وبغياً، وهو قد لا يسعى في الأذية والنكاية المباشرة وجلب الضرر، لكنه لا يودّ أن ينال هذا المحسود ما استحسنه من الخير.
وبعض الحسدة يجاوز هذا إلى إرادة الإضرار والاجتهاد في إيقاع الأذى بما يستطيع من الوسائل والعياذ بالله.
وأنت إذا تأملت هذا وجدت أن الحُسَّادَ على درجات وأنواع كثيرة في حسدهم.
والاستعاذة بالله من شر الحاسد تشتمل على هذه الأنواع كلها: من شر نفسه وعينه، ومن شر بغيه وكيده، ومن شر سعيه في صرف الخير أو جلب الضر.
وإذا كانت استعاذة العبد بالله من شر الحاسد استعاذة صحيحة فإن الله يعيذه، ولا بدّ، لأن الله قد أمر بالاستعاذة به من شر الحاسد إذا حسد، وهذا يتضمن وعده جلّ وعلا بالإعاذة، والله تعالى لا يُخلف الميعاد، وإنما يؤتى العبد من قبل نفسه، ولذلك كان بعض السلف يقولون: (إنا لا نحمل همّ الإجابة، وإنما نحمل همّ الدعاء).
نسأل الله تعالى أن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا، ومن شرور أهل الحسد.
قال ابن جرير: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر كل حاسد إذا حسد؛ فعانه أو سحره، أو بغاه سوءاً).

وبعض المعتزلة خرجوا بقولين في هذه المسألة وهي مسألة المراد بشر الحاسد:
القول الأول: شر كيده وبغيه.
والقول الثاني: شر إثمه وسماجة حاله ورأيه، وقبح ما أظهر من الحسد.
وهذان القولان ذكرهما الزمخشري في تفسيره، وسبب ذلك أن المعتزلة ينكرون الإصابة بالعين والنفس.
فقولهم الأول حقّ وهو جزء من المعنى المراد، لكن لا يُقصر عليه.
وأما قولهم الثاني فإنا وإن كنا لا ننكر أن الحاسد آثم وأنَّ عمله قبيح وحالَه سمجة بالحسد إلا أننا نرى أن هذا شر قاصر على الحاسد لا يتعدّى لغيره؛ والمناسب في هذه الحال هو سؤال العافية مما ابتلي به لا الاستعاذة منه.
والآية دلت على أن شر الحاسد متعدٍّ غيرِ قاصر.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 12:56 AM


حكم الحسد

ونحن قد نهينا عن الحسد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَقَاطَعُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ)). رواه البخاري ومسلم، ولهما من حديث أبي هريرة نحوه.
قال الإمام مالك: (لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن أخيك المسلم فتدبر عنه بوجهك).
وفي مسند الإمام أحمد ومصنف عبد الرزاق وجامع الترمذي وغيرها من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبّت ذلك لكم، أفشوا السلام بينكم)).
وفي رواية: ((أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
وفي سنن النسائي وصحيح ابن حبان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)).
الإيمان المنفي هنا: هو الإيمان الواجب، وليس أصل الإيمان.
وفي النهي عن الحسد والتحذير أحاديث في بعضها مقال كحديث: (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). رواه البخاري في التاريخ الكبير وأبو داوود في سننه.
قال البخاري: لا يصح.
وضعفه الألباني.
وحديث: (الحسد يطفئ نور الحسنات). في سنن أبي داوود، وفيه ضعف.
وما تقدم من الأحاديث الصحيحة في النهي عن الحسد والتحذير منه فيه كفاية وغنية.
وقد نقل النووي إجماع الأمة على تحريم الحسد.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:01 AM

الأسباب التي تحمل على الحسد

قال البيهقي في شعب الإيمان: (الحاسد يعتبر إحسان الله تعالى إلى أخيه المسلم إساءة إليه، وهذا جهل منه لأن الإحسان الواقع بمكان أخيه لا يضره شيئاً، فإن ما عند الله واسع).
وقد تكلّم بعض أهل العلم في الأسباب التي تحمل الحاسد على الحسد ؛ فقال الشيخ عطية سالم: (الحامل على الحسد أصله أمران:
الأول: ازدراء المحسود.
والثاني: إعجاب الحاسد بنفسه) ا.هـ.
ولذلك ينبغي للمسلم أن لا يحقر مسلماً ولا يزدريه ولا يفخر عليه، وليعلم أن لبعض الناس خبايا من الأعمال الصالحة قد لا يدركها كثير من الناس، وإن لم يكن يُعرف عنهم كثرة عبادة وصلاة ، ولا كثرة علم ولا ذكاء ؛ فإن الأسباب التي يوفق الله تعالى بها عباده قد تكون خفية على كثير من الناس.
فمن أبصر هذا حقيقة لم يحقر مسلماً ولم يزدريه، وبذلك يقضي على نصف الحسد، ويبقى عليه النصف الآخر، وهو الإعجاب بنفسه واعتقاد فضيلتها وأنها تستحق أن تُكرم بما يرى أنه يليق بها، فيبتغي بذلك الشرف عند عامة الناس أو عند أهل العلم والدين، وإذا استؤثر عليه بشيء من التكريم أو كُرِّم مكانه غيره انبعثت نار الحسد من قلبه، وكرِه ذلك جداً، وتمنّى انتقال ذلك التكريم إليه وحرمانه من يحسده.
فهذا ينبغي له أن يُعالج قلبه، ويعرف قدر نفسه، وأن فضل الله تعالى لا يُدرك بمعصية الله، وإنما يُطلب من الله بما هدى الله إليه.
فإذا ذهب عنه إعجابه بنفسه واعتقاده فضيلتها ولم يحتقر غيره، لم يحسد لذهاب دوافع الحسد وأسبابه التي تثيره وتحمل عليه.
لكن هذه الدرجة لا يبلغها إلا من وفقه الله ، وكان بصيراً بعيب نفسه مشتغلاً به عن عيوب الناس، مقبلا على ما ينفعه ويقربه من الله، يعتقد أن الفضل لله وحده يؤتيه من يشاء.


أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:03 AM

أصل معنى الحسد في اللغة

وقد ذكر بعض علماء اللغة أن أصل لفظ الحسد مشتقٌّ من القَشْرِ؛ وذكروا أن القُراد سمّي حِسْدِلاً لهذا المعنى.
قال ابن الأعرابي (الحِسْدِلُ: القُرَادُ). قال: (ومنه أُخذ الحَسَد لأنه يَقْشِرُ القَلْب كما يَقْشر القُراد الجلد فيمتص دمه).
وهذا ذكره أبو منصور الأزهري وغيره.
وقال البغوي في شرح السنة: (الحسد يقشر القلب، كما يقشر القراد الجلد، فيمص الدم) ا.هـ.
فكأن الحسد يلصق بقلب صاحبه كما يلصق القراد بالجلد، حتى يكاد يفعل به كما يفعل القراد بالجلد، فيمتص دم صاحبه ويودعه من الحُرَق والضيق ما تضيق به حاله ويتنكّد به عيشه.
فهذا وجه.
ووجه آخر أن الحاسد تتعلق نفسه بصاحب النعمة كتعلّق القُراد بالجلد فهو دائم التفكير فيه والتذكر له، ونفسه نهمة شرهة تريد أن يُسلب هذه النعمة، وأن تُستخرج من صاحبها، كما يَستخرج القُراد الدم ويمتصه.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:04 AM

أصول مهمة في علاج الحسد

وقد عرفنا بما تقدّم معنى الحسد لغة، وتعريف العلماء للحسد، وأنه تمنّي زوال النعمة عن المحسود، وعرفنا أنواع الحسد.
وأما حقيقة الحسد ومصدر انبعاثه، وكيفية خروجه ووصوله إلى المحسود وتأثيره فيه، وما هو مبلغ أثره، وما الذي يصحّ أن يكون من أثره، وما الذي لا يصح.
فهذه المسائل كلها فيها مواضع معلومة لا يُختلف فيها غالباً، وفيه مواضع اختلف فيها أهل العلم.
حتى قال الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان: (وأما حقيقة الحسد فيتعذر تعريفه منطقياً).
وذكر قولَ بعضهم في بيان حقيقته: أنه إشعاع غير مرئي ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود. إلخ ما ذكر رحمه الله.
لكن ينبغي لطالب العلم أن يعرف أصولاً صحيحة في هذا الباب حتى يستقيم له فهم كثير من النصوص والآثار الواردة فيه، ويفهم مسائل الحالات التي تعرض له في الواقع فهماً سليماً مبنيّاً على أصول صحيحة بإذن الله.
ويسلم بذلك من كثيرٍ من الأخطاء الشائعة في هذا الباب.
وما عدا ذلك من الأمور والتفصيلات الدقيقة فلا يضره الجهل بها بإذن الله، وبعضها من علم الغيب الذي لا يدركه الناس.
ونحن إنما علينا اتباع هدى الله جلّ وعلا، وما نحتاج إلى معرفته من ذلك فإن الله تعالى قد تكفل ببيانه، كما قال تعالى: {إن علينا للهدى}.
فإذا اتبعنا هدى الله أنجز الله لنا ما وعدنا به من السلامة من الضلال والشقاء والخوف والحزن، وهدانا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
فلذلك ينبغي أن يكون عملنا هو في طلب هذا الهدى من الله جلّ وعلا، بما فصّله في كتابه ، وبما بينه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هديه أحسن الهدي، وبما أوضحه أهل العلم والإيمان الذين هم ورثة الأنبياء والمؤتمنون على هذا العلم رواية ودراية ورعاية.
وبيان هذه الأصول يستدعي بسطاً وتفصيلاً لا يحتمله هذا المقام، ولعل الله يوفق لحسن بيانه في مقام آخر.

لكن من خلاصة ما ينبغي علمه في هذا الباب هذه الأصول التي أذكرها بإيجاز:
الأصل الأول: أن الحسد عَملٌ قلبيّ، لاتفاق العلماء على أنه تمنّي زوال النعمة عن المحسود، والتمنّي عملٌ قلبي.
وبعضهم ينسبه إلى النفس، فيقول الحسد من عمل النفس.
كما قال الطَّرِمَّاح:
فبيت ابنِ قحطانَ خير البيوتْ ..... على حسد الأنفس الكاشحة
ولا تعارض بين الأمرين لأن القلب لا حياة له إلا بالنفس التي هي الروح.
والقلب الميّت ليس له عمل، وإنما الذي يحسد قلب الحي لا قلب الميّت؛ فانبعاث الحسد هو من قلب الحاسد الحيّ.

الأصل الثاني: أن الحسد فيه شرّ متعدٍ، ولذلك أُمرنا بالاستعاذة من شرّ الحاسد إذا حسد، وهذا الحسد شرّ في نفسه، وقد ينتج عنه شرور متعددة ذات أنواع كثيرة لا يحيط بها إلا الله جلّ وعلا.
وهذا يدفع قول من يُنكر أن الحسد فيه شرّ متعدي.

الأصل الثالث: أن الحسد داء من الأدواء، وآفة من الآفات ، يمكن أن يتعافى منه الحاسد والمحسود إذا اتبعا هدى الله جل وعلا؛ فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله.

الأصل الرابع: أن من يُبتلى بالحسد ، ويؤثر فيه شيئاً من الأذى في جسده أو روحه أو أهله أو ماله ؛ فإن هذا البلاء في حقه دائر بين العقوبة والابتلاء، والعقوبة فيها تكفير للمسلم، فقد يكون حسد غيرَه؛ فسُلِّط عليه من يحسده، وقد يكون آذى أو ظلم فسُلّطت عليه آفات في نفسه وما يحبه؛ ولو تخلّص العبد من تزكيته لنفسه ومبالغته في إحسان الظنّ بها ، وتأمّل كم حَسد من مرة، وكم تسبب في أذية مسلم ونكده، وكم تسبب في صرف نفع عن إخوان له بغياً وعدواناً وحسداً؛ لعلم أنه لو عوقب بكلّ ذلك ، لكان في ذلك هلاكه وشقاؤه.
وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له : حدّثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي صحيفة، فقال: (هذا ما كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم).
فنظرت فيها فإذا فيها : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت). فقال: ((يا أبا بكر! قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً، أو أجره إلى مسلم)). هذا لفظ البخاري في الأدب المفرد، والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي.
صححه الألباني، وفسّر قول الرواي كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمر بالكتابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب كما هو ثابت.
فمما ينبغي أن يحرص عليه المؤمنُ تزكيةَ نفسه وتطهيرَ قلبه من الحسد والغل والحقد، وأن يكفّ أذاه عن المسلمين.
لأنه إن لم يفعل ذلك فلا يأمن أن يُعاقب على أذيته بما لا يحتمله.
وكثرة الاستغفار وتكرار التوبة وفعل الخير من الأسباب التي يدفع الله عز وجلّ بها هذه العقوبات.
فهذا في شأن من يكون هذا البلاء في حقهم عقوبة؛ هو شرّ من جهة، ومن جهة أخرى فتنة وابتلاء لهم لأنهم إذا أنابوا إلى الله وتضرعوا إليه وتابوا توبة صحيحة من الظلم والعدوان رُفعت عنهم العقوبة لزوال موجبها.
ويكون ما أصابهم من ذلك تكفيراً لسيئاتهم.
وأما من استمرأ الحسد والأذى وهو يُعاقَب، فيحسد ويؤذي ويعرض عن ذكر الله واتباع هداه فإنه على خطر أن يُطبع على قلبه فلا يهتدي للتوبة.
لكن ما دام المرء باقيا على الإسلام فإن ما يصيبه من العقوبات في الدنيا على ذنوبه تكفير لسيئاته، وما يعفو الله عنه أكثر، وقد يبقى عليه من العقوبات بعد موته عذاب لا يطيقه في قبره أو يوم القيامة أو في النار والعياذ بالله، حتى لا يدخل الجنة إلا وقد تطهّر قلبه وذهب ما فيه من الحسد والبغضاء للمسلمين.
ومن المؤمنين المتقين من يصيبه شيء من ذلك ابتلاء واختباراً فإن اتبع هدى الله كان ذلك رفعة لدرجاته وإحساناً من الله إليه أن جعل له بذلك سبباً يحلّ عليه رضوانه.
وأصل هذا كله أن يكون العبد راضياً بالله جل وعلا ربّا، وأن يحسن الظن بربه، فيما أصابه من البلاء، وأن يحرص على الصبر والتقوى فيكون بذلك من المحسنين الذين كتب الله لهم العاقبة الحسنة.
قال الله تعالى: {والعاقبة للتقوى} وقال: {فاصبر إن العاقبة للمتقين} ، وقال: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فجعل الإحسان لأهل البلاء هو الصبر والتقوى.

الأصل الخامس: أن الحسد من البلاء ، والعبد لا اختيار له في نوع البلاء الذي يُبتلى به، بل الله تعالى هو الذي يبتلي عباده بما يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء، والعبد لا يستطيع أن يدفع البلاء عن نفسه، ولا يكشف الضر عنها ، إنما مردّ ذلك إلى الله جل وعلا.
قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}.
فمحاولات العبد وتكليفه نفسه رفع البلاء نوع من العناء ومكابدة الشقاء، فإنه لا يرفع البلاء إلا الله، وإنما يُطلب من العبد اتباع هدى الله.
فيرفع الله عنه البلاء متى شاء، وكيف يشاء، لا اختيار للعبد في كل ذلك.
فالعبد بما يبذله من الأسباب إنما يتعرض لنفحات الله، فإن فعل ما يهدي الله إليه من الأسباب النافعة كان موعوداً بأن تكون عاقبته خيراً.
فإذا ابتلي العبد ببلاء فليكن أول ما يفكر فيه هو التعرف على هدى الله في هذا البلاء خاصة، وما الذي يُحبّ الله من عبده أن يفعله؟، فلا تخلو حال من أحوال العبد من هدى لله يحب أن يُتبع.
وهذا الهدى من طلبه بصدق وجده، وله طرق تدل عليه وتبيّنه، أهمها وأولها صدق الإنابة إلى الله تعالى قال الله تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} وقال: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
فمتى أناب العبد إلى الله فهو موعود بالهداية.
وإذا حصل عند العبد يقين أنه على طريق الهدى وكان لديه نور وفرقان يميز به بين ما يجب عليه أن يفعله وما يجب عليه أن يجتنبه اضمحلَّ عنه كثير من كيد الشيطان وتثبيطه وتحزينه وتيئيسه ، وحل محلَّ ذلك السكينة والطمأنينة والرضا بالله بل الفرح بفضله والاستبشار بنعمته وهدايته .
{أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم}
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيما}
قول الله تعالى: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} يدل على أن الرحمة والفضل يحيطان بهم من كل الجوانب حتى كأنهم منغمسون فيها، ومن كان داخلاً في رحمة الله هذا الدخول فلن يستطيع أحد مهما كان أن ينزع عنه رحمة الله وفضله.
وهذا وعد من الله متحقق لا يتخلف.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، من تأملها وعقل معانيها، وفقه هداياتها، أثمر له ذلك من العلم والإيمان وصفاء الحال خيراً عظيماً، ووجد بركات ذلك في شؤونه كلها.
وأحسن من وجدته تكلم في بيان الهدى للأسباب التي يدفع الله بها شر الحاسد : ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه بدائع الفوائد.

الأصل السادس: أن يكون المؤمن على الحال الوسط بين الغلو والتفريط، فمن غلا وهوّل شأن الحسد والعين حتى يغفل قلبه عن التوكل على الله والرضا به والثقة في حفظه ووقايته وإعاذته لمن يستعيذ به ؛ فهذا على غير الهدى الصحيح، بل يُخشى عليه أن يناله شرّ لمخالفته هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وضعف تعلق قلبه بالله جل وعلا ، ورضاه به.
ومَن هوّن من شأن الحسد والعين ، وفرّط في تحصين نفسه بما وصى الله به، وأرشد إليه، لم يأمن أن يصيبه بسبب هذا التفريط ما يصيبه البلاء والشر.
وكلّ من الغالي والمفرّط عاقبتهما سيئة إلا أن يعفو الله عنهما عفواً من عنده؛ فإن المسلم ما دام باقياً على الإسلام فإنه تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء عاقبه.
لكن السعيد الموفّق من يتبع هدى الله تعالى في عافيته وبلائه فهذا إن عوفي وإن ابتلي كانت عاقبته حسنة، لأن له عهداً من الله لا ينقضه، ووعد لا يخلفه.
وبذلك تعلم أن من الناس من يكون مفرّطا في الأذكار وتحصين نفسه، وهو فيما يرى الناس معافى من البلاء.
ومنهم من يكون شديد المحافظة على الأذكار بلسانه، ويصيبه مع ذلك من البلاء ما يصيبه.
فسلامة المحسود لها أسباب كثيرة، وذلك نظير الآفات الكثيرة في الهواء والطعام والشراب والزحام، وهي آفات يسلم منها كثير من الناس، ويصيب بعضهم من ذلك ما يقدّر الله عليهم.
فمن استدلّ بسلامة بعض أصحاب النعم على تفريطهم في الأذكار فهو كمن يستدل بسلامة من يتعرض لتلك الآفات وهو غير متحصن على عدم وجودها.
كلاهما قد يسلم، لكنها سلامة قد تغرّ، ومن يتعرضْ للبلاء ويغشَ مظانه فلا يأمن أن يصيبه منه شيء، فليست سلامته دليلاً على عدم وجود البلاء.
كما أن عدم تحصّنه ليس موجباً لحصول البلاء والآفات.

الأصل السابع: أن الحسد في الأصل من التأثيرات الروحية التي تنطلق من الأرواح فتصيب الأرواح بالأصل وتؤثر في الأجساد تبعاً، ولها تعلّق بالقدر بتقدير البلاء، وهذا له تقرير آخر.
وإنما المقصود هنا أن الحسد إذا إذا أصاب نفساً غير محصنة أثر فيها بإذن الله تعالى.
والنفس كالبدن في بعض الأمور؛ فكما أن في الأجسام ما هو صحيح قويّ لا يتأثر بالآفات اليسيرة، بل ربما لو يصيب بمرض ظاهر بقي في جسده قوة تقاوم وتدفع البلاء بإذن الله حتى يُشفى منه.
ومن الناس من يكون جسمه ضعيف تمرضه أدنى آفة تصيبه، وإذا أصابه مرض يسير أنهكه وربما أقعده طريح الفراش أياماً معدودة، وذلك لضعف مناعة جسمه في مقابل ما أصابه من الداء.
فكذلك أرواح الناس، منها أرواح قويّة وفيها عزيمة على المقاومة فلا تستلم لكثير من الآفات بل تبقى فيها قوة تقاوم البلاء حتى تدفعه بإذن الله أو تخفف أثره.
ومن الناس من يكون في نفسه وهن وَضَعْف فإذا أصابته أدنى آفة تأثر بها وتأذى وتضرر، بل ربما سمع الكلمة تؤذيه فيمرض بسببها.
بل ربما رأى من أحد الناس تصرفاً ففهمه على غير وجهه فتأثر بذلك وتضرر.
فمثل هذا إذا أصابت نفسه آفات من العين والسحر والحسد والوسوسة كان أثرها فيه أسرع وأبلغ إلا أن يحصّن نفسه بالأذكار.
وسبب ذلك وهن نفسه وضعف احتمالها، فإن للروح قوة وطاقة كما للجسد، وفي الروح قوة تدافع البلاء وتمانع الآفات كما في الجسد.

ولعلنا نكتفي ببيان هذه الأصول السبعة في هذا المقام، وعسى الله أن ييسر مقاماً آخر يبسط فيه بيان هذه المسائل بسطاً حسناً لحاجة الناس لبيان الهدى في هذا الباب، وكثرة ما يُلحظ من ازدياد هذه الآفات ومعاناة الناس منها ، وما يحصل من لبس وتخليط في بعض المسائل من بعض من ينتسب للرقية الشرعية فيحدث بكلامه وهناً في النفوس وضعفاً وتهويلاً للشياطين والجنّ وأمر العين والسحر والحسد ، ويعظّم بعض الطرق العلاجية والأسباب المادية حتى تتعلق بها بعض القلوب وتغفل عن الله جل وعلا.

لطائف لغويّة
من اللطائف اللغوية في سورة الفلق: أن هذه الأفعال "غسق" و"نفث" و"حسد" يجوز في عين مضارعها الوجهان الكسر والضم: غَسَقَ يَغْسِقُ وَيَغْسُقُ، وَنَفَثَ يَنْفِثُ وَيَنْفُثُ، وَحَسَدَ يَحْسِدُ وَيَحْسُدُ.




أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:06 AM


لمن الخطاب في السورة؟
{قل} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أصالة، ولأمته تبعاً؛ فكلهم مأمورون بهذه الاستعاذة.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:07 AM


معنى الاستعاذة ولوازمها

{أعوذ} أي: ألجأ وأعتصم، فمقصود المستعيذ هو العصمة من شر المستعاذ منه.
قال الحصين بن الحمام المري:

فعوذي بأفناء العشيرة إنما ..... يعوذ الذليلُ بالعزيز ليُعصما
فالمستعيذ ملتجئ معتصم بمن يرجو منه العصمة مما يخافه؛ والعصمة هي المنَعَة والحماية ، قال الله تعالى: {لا عاصم من أمر الله إلا من رحم}، وقال: {ما لهم من الله من عاصم}.
والاستعاذة فيها معنى الإقرار بالذلِّ والضعف والافتقار إلى عزة المستعاذ به ورحمته، وقدرته على عصمة من يستعيذ به.
فهذه العبادة تستلزم عبادات جليلة أخرى، وتستلزم الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا؛ فيؤمن بعلم الله وسمعه وبصره وعزته ورحمته وقدرته ولطفه وملكه وغير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تقتضيها عبادة الاستعاذة.
وقيام هذه المعاني التعبدية في قلب المؤمن خالصةً لله جلّ وعلا هو مظهر من مظاهر العبودية لله جل وعلا، ودليل من دلائل التوحيد .
وبهذا تعلم شيئاً من الحكمة من وجود الأشياء الضارة والمؤذية، وأن من مقاصد ذلك أن يلتجئ العباد إلى ربهم جل وعلا ويستعيذوا به.
ولو قُدّر خلو العالم الدنيوي من الشرور التي يُستعاذ منها لفات على العباد فضيلة التعبد لله تعالى بالاستعاذة به، وفاتهم من المعارف الإيمانية الجليلة ما يناسب ذلك.
فحياة العباد وما يعترضهم من الحوادث والابتلاءات هي ميدان عظيم ليتعرفوا على ربهم جل وعلا ويؤمنوا به وبأسمائه وصفاته، وليجدوا ما أخبرهم به وما وعدهم به على لسان رسله صدقاً وحقاً.
وهذا الأمر العظيم بالاستعاذة بالله جل وعلا يتضمن وعداً كريماً من الله جل وعلا بأن يعيذ من استعاذ به.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:07 AM

الحكمة من الأمر بالاستعاذة بهذه الصفات الجليلة {رب الناس . ملك الناس . إله الناس}

وذكر هذه الصفات الجليلة (رب الناس) ، (ملك الناس) ، (إله الناس) دليل على إرشاد العبد إلى استحضار ما تتضمنه من المعاني الجليلة.
فيقوم في قلب المستعيذ عند استعاذته من المعاني التعبّدية الجليلة ما يدلّ على صدق الالتجاء إلى الله تعالى، وتعظيمه ومحبته وإجلاله، فهي مظهر من مظاهر العبودية، وعلامة من علاماتها.
وأنت إذا تأملت أحوال العباد وجدتهم محتاجون بل مضطرون إلى من يلجؤون إليه ويستعيذون به؛ فلا يخلو عبد من الحاجة إلى الاستعاذة بمن يعيذه.
فأما المؤمنون فيخلصون هذه العبادة لله تعالى ليلاً ونهاراً؛ فلا تلتجئ قلوبهم لغير الله جلّ وعلا.
فتكون هذه العبادة في قلوبهم عبادة دائمة لأنهم ما بين استصحابها واستصحاب حكمها.

الفرق بين استعاذة المؤمنين واستعاذات المشركين
وأما المشركون فاستعاذتهم فيها شرك بالله جل وعلا؛ لأنهم يستعيذون بالله وبغير الله، كما هو حال من يستعيذ بالأوثان والأولياء فيشركهم مع الله جل وعلا في هذه العبادة العظيمة.
فلذلك تجد كثيراً منهم تتعلق قلوبهم بأوليائهم ليدفعوا عنهم الضر ويحموهم من العين والحسد والأذى ويعلّقون التمائم الشركية لدفع البلاء، وهم بذلك مشركون متعرضون لسخط الله جل وعلا.
فلذلك تتسلط عليهم الشياطين بسبب شركهم فتزيدهم عذاباً ورهقاً وضلالاً بعيداً؛ لأنهم خرجوا من النور إلى الظلمات باتباعهم للطواغيت والتجائهم لغير الله تعالى، وإعراضهم عن ذكر الله جل وعلا.
وقد قال الله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}.
وقال تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}.
وقال: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}.

سبب تسلّط الشيطان على العبد

وتسلط الشيطان على العبد سببه اتباعه وتولّيه والإشراك به؛ فإن من اتبع الشيطان أرداه الشيطان؛ كما قال الله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير}.
فهذا أمر مكتوب على من تولّى الشيطان.
وتولي الشيطان هو مرتبة في اتباعه من وصل إليها فهو قد عبد الشيطان من دون الله جلّ وعلا.
فشر الشيطان يبدأ بالوسوسة وما يتبعها من النزغ والهمز والنفخ والنفث وغيرها؛ يريد بذلك أن يستزل العبد ليتبع خطواته؛ فإذا اتبع الإنسانُ خطوات الشيطان كان للشيطان نصيب من التسلط عليه بسبب هذا الاستزلال، وخرَق الإنسان من جُنَّته ووقايته بمقدار ما مكّن للشيطان من التسلط عليه.
فإذا أراد الله به خيراً عصمه وقذف في قلبه التوبة والإنابة إليه فيتذكر ويستبصر؛ كما قال الله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون}.
فالمتقي إذا مسه {طائف من الشيطان} وفي القراءة الأخرى {طيف من الشيطان} أي: ألمّ به شيء من كيد الشيطان استزله به، فإنه يتذكّر، فإذا تذكر أبصر وعرف طريق الهداية، وعرف ما يجب عليه أن يفعله ، وما يجب عليه أن يتركه، فيتبع رضوان الله جل وعلا؛ وهذا هو حال المؤمن المتقي.
وبهذا تعلم أن التذكر نجاة للعبد من كيد الشيطان:
- فيتذكر العبد ما ينبغي لله تعالى من المحبة والطاعة والتسليم؛ فينفعه هذا التذكر، ويترك ما يُسخِط اللهَ محبةً لله تعالى.
- ويتذكر ما أعدَّ الله من الثواب لمن أطاعه واتبع رضوانه؛ فينفعه هذا التذكر؛ فيترك معصية الله رجاء ثواب الله وعوضه.
- ويتذكر ما أعد الله لمن عصاه وأعرض عن ذكره من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ فينفعه هذا التذكر فيترك معصية الله خوفاً من عذاب الله.
وكلما كان تذكر العبد أحسن وأسرع كان نصيبه من البصيرة أكمل وأعظم.
وبهذا يتبيّن أن مدار التذكر على العبادات القلبية الثلاث: المحبة والخوف والرجاء.
فهذا هو حال المؤمن، يكون بعد التوبة خيراً منه قبلها، وأحسن بصيرة، وأعظم هداية.
وأما إخوان الشيطان الذين لازموا اتباع خطواتهم وتمادوا في صحبتهم حتى عُدّوا إخوانهم، فإن شياطين الإنس والجن تمدّهم أي: تزيدهم من مدد الضلال والطغيان والغواية حتى لا ينتهوا في ذلك عن حد من حدود الله جل وعلا؛ بل يكونوا من أولياء الشيطان.
وسنأتي بإذن الله تعالى على بيان درجات كيد الشيطان ، وأنواعه، وأسباب العصمة من كيده بعد تمام تفسير السورة بإذن الله تعالى.

الخلاصة:
والخلاصة مما تقدّم أن الاستعاذة عبادة عظيمة يجب إخلاصها لله جل وعلا، وأنها تستلزم ما تستلزم من الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العليا فالمستعيذ يؤمن بسعة علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته ورحمته وعزته وملكه وغيرها من الصفات الجليلة التي يجد المؤمن الذي يحسن الاستعاذة أن الإيمان بها ضروري لتحقيق معنى الاستعاذة.
وهي تقتضي من العبد محبة الله تعالى وحسن الظن به والإنابة إليه والتوكل عليه واعتقاد أن النفع والضر بيده وحده جل وعلا؛ فيحصل للعبد بذلك من السكينة والطمأنينة والثقة بالله جل وعلا ما لا تقوم له وساوس الشيطان ولا الشرورُ كلها؛ لأن الله تعالى مع عباده المؤمنين المتقين، وهو وليّهم الذي ينصرهم ويؤيدهم ويحفظهم، ويحبهم ويحبونه؛ فلا يخذلهم ولا يتخلى عنهم، ولا يعجز عن نصرهم، ولا يُشقيهم بعبادته وتوحيده.
بل يريهم أن السعادة والفوز والفلاح في الإيمان به واتباع رضوانه.





أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:09 AM


الحكمة من ترتيب هذه الصفات الثلاث بهذا الترتيب

{برب الناس} أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمورهم.
{ملك الناس} المتصرف فيهم بما يشاء، فلا يخرج أحدٌ منهم عن ملكه وتصرفه.
{إله الناس} معبودهم الذي يألهونه ويخضعون له ويتقربون إليه ، فيحبونه غاية المحبة، ويعظمونه غاية التعظيم، ويخضعون له غاية الخضوع، وهو إلههم الذي لا إله لهم سواه.
فهو مُنشؤهم من العدم، ومدبر أمورهم، والمتصرف فيهم، وهو منتهى حاجاتهم وآمالهم.
وهذه الصفات الثلاث قد رتبها الله جل وعلا أحسن الترتيب، والاستعاذة بها تكشف للمؤمن اللبيب؛ أصولاً عظيمة تنتظم كثيراً من المسائل في الخلق والأمر.

وأسأل الله تعالى أن يعين على بيان ذلك بياناً حسناً .
فأقول: تخصيص الاستعاذة بهذه الصفات الجليلة يتضمن الدلالة على أمور عظيمة:

تضمّن هذه الصفات الثلاث للمبدأ والولاية والغاية

الأمر الأول: أنها تضمنت المبدأ والولاية والغاية؛ فالله تعالى هو ربُّ الناس الذي أنشأهم من العدم؛ وأنعم عليهم بالنعم، وهو الملك الذي يتولى أمورهم ويملك نفعهم وضرّهم، وهو المتصرف فيهم لا يعجزه أحد منهم، وهو إلههم الذي يجب أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يتوجهوا إليه بقلوبهم ودعائهم ومحبتهم وخشيتهم ورجائهم.
فهو تعالى: (رب الناس) (ملك الناس) (إله الناس).
فمنه مبدؤنا بخلقه وإنعامه وفضله، وهو الملك المتصرف الذي يملكنا ويدبر أمورنا، وإليه غاية قصدنا ومبتغانا.

بيان كون هذه الصفات الثلاث حجة قاطعة على وجوب التوحيد
الأمر الثاني: أن هذه الصفات الثلاث حُجّة قاطعة على وجوب التوحيد؛ فالله تعالى هو الذي خلق الناس وأنعم عليهم ولم يخلقهم غيره وما بهم من نعمة فمنه جل وعلا، وهو ملك الناس لا يملكهم غيره ولا يملك ضرهم ونفعهم إلا هو جل وعلا، فيجب أن يكون هو إله الناس لا يعبدون غيره.
فالله تعالى ليس له شريك في ربوبيته، وليس له شريك في الملك، فيجب أن لا يكون له شريك في الألوهية.

أصل بلاء الناس إنما هو في الشرك في هذه الأمور الثلاثة (الربوبية والملك والألوهية)

الأمر الثالث: أن أصل بلاء الناس إنما هو في الشرك بالله جل وعلا في هذه الأمور الثلاثة (الربوبية، والملك، والألوهية)، وضعف التعبد لله تعالى بها.
وكل شرك فيها فإنما حصل بوسوسة الشيطان، وهذا هو حظ الشيطان من الناس.
وهذه الأمور الثلاثة يقع فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ويقع فيها الشرك الجلي والشرك الخفي.
فالمشركون بالله الشركَ الأكبر منهم يقع في الشرك في الربوبية بنسبة بعض الخلق أو النعم إلى غير الله جل وعلا، ويقع منهم شرك في الملك باعتقاد النفع والضر والتصرف في غير الله جل وعلا، ويقع منهم الشرك في عبادة الله جل وعلا بدعاء غيره والتقرب إليه بأنواع العبادات.
ومِن عصاة المسلمين من يقع منه الشرك الأصغر في هذه الأمور؛ إما بالغفلة عن نسبة النعم لله عز وجل والغفلة عن شهود إنعامه بها، ونسبة ذلك لأحد من الخلق مع هذه الغفلة،
فيقول: لولا الطبيب الفلاني لهلكت، ومطرنا بنوء كذا وكذا، ونحو ذلك من أنواع الشرك في الربوبية.
وإما بتعظيم بعض الخلق بشهود الظاهر من تصرفه وتسببه في النفع والضر حتى يطيعه في معصية الله جل وعلا إن كان فاجراً أو يغلوَ فيه إن كان صالحاً، وهذا من الشرك في ملك الله جل وعلا.
وإما بتعلق القلب بغير الله جل وعلا فيكون في القلب نوع تأله وتعبّد لغير الله تعالى.
وكل ذلك إنما هو من الشيطان لأن عبادة غير الله عز وجل إنما هي عبادة للشيطان كما قال الله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلا تعقلون}.
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه آزر: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}.
فجعل إبراهيم عليه السلام عبادة أبيه للأصنام التي سماها آلهة عبادة للشيطان.
لأن الشرك في حقيقته عبادة للشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}.
وكل شرك في أي نوع من هذه الأنواع له آثاره السيئة على العبد، من تسلط الشياطين، ومن عقوبات الذنوب والمعاصي.

الأمر الرابع: أن التعبد لله جل وعلا بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث أمر واجب، والتقصير في ذلك ظلم من العبد لنفسه، وهذا الظلم هو منشأ شقاء العبد وضلاله وتسلط الشياطين عليه وإضلالهم له.
وإذا أحسن العبد التعبد لله تعالى بهذه الصفات الثلاث فاز فوزاً عظيماً وسَعِد سعادة عظيمة في الدنيا والآخرة.

بيان وجوب التعبّد لله تعالى بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث، وبيان الآثار الجليلة لهذا التعبّد

- فأما الإيمان بربوبية الله تعالى للناس؛ فيقتضي التصديق بأنه خالقهم ومنشؤهم من العدم، ومصور صورهم ومقدر أرزاقهم وأقدارهم وآجالهم، وهو المنعم عليهم فما من نعمت دقت ولا جلّت إلا والله تعالى هو المنعم به المتفضل بها على عباده من غير استحقاق سابق، فيؤثر هذا في قلب المؤمن الاعتراف بنعم الله جل وعلا وشكرها بالقول والعمل.
- وأما الإيمان بملك الله جل وعلا للناس؛ فيقتضي التصديق الجازم بأن الله تعالى هو الذي يملك الناس كلَّهم، لا يخرج أحد منهم عن ملكه، بل هو مالكهم الذي له جميع معاني الملك، فهو يملك أجسادهم وأرواحهم وجميع أعضائهم ومنافعهم، ويملك تصرفاتها، ويملك تدبيرها والتصرف فيها، فلا تتصرف إلا بإذنه، ولا ينطبق جفن على جفن إلا بإذنه، ولا يتنفّس متنفّس إلا بإذنه، وهو الذي يملك بقاءهم وفناءهم؛ فيبقيهم متى شاء، ويفنيهم إذا شاء، ويعيدهم إذا شاء، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
- ولا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه جل وعلا، فلا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، ولا يجلب النفع إلا الله، ولا يدفع البلاء ولا يرفعه إلا الله تبارك وتعالى.
- وهذا مما يوجب إخلاص العبادة لله وحده، ولذلك أنكر الله تعالى على من يعبد غيره فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}.
- وأما الإيمان بألوهية الله تعالى للناس؛ فتقتضي إخلاص العبادة لله وحده؛ واجتناب جميع ما ينقض الإخلاص أو يضعفه.



مدار الخلق والأمر على هذه الصفات الثلاث
الأمر الخامس: أن الاستعاذة بربوبية الله وملكه وألوهيته تقتضي تعظيمها وأن لها شأناً عظيماً وآثاراً جليلة في الخلق والأمر، فكل ما في الكون مبني على هذه الصفات الثلاث العظيمة.
فكله من خلق الله وإيجاده ، وكل مخلوق يأتي إمداده من الله جل وعلا بما يحتاج إليه وما يقدره له.
وكل مخلوق فهو تحت تصرّف الله وملكه لا يملكه أحد إلا الله جل وعلا.
وكل شيء فهو عابد لله يسبح بحمده {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}.
فهذا في عالم الخلق بدؤه وملكه غايته لله تعالى وحده لا شريك له.
وكذلك عالم الأمر: فالله تعالى هو رب الناس وهو الذي يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يشاء ويحلّ لهم ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء ؛ كل ذلك من آثار ربوبيته لهم.
وهو تعالى ملك الناس: يثيب من يشاء ، ويعاقب من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويقرّب من يشاء، ويبعد من يشاء.
وهو سبحانه الحكم العدل في كل ذلك، فله المثل الأعلى، وله الأسماء الحسنى.

مدار عمل الشيطان على إخلال العبد بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث
الأمر السادس: أن مدار عمل الشيطان على إخلال العباد بهذه الأمور الثلاثة؛ وتأمل ما يقدح في التوحيد تجده راجعاً إلى هذه الأمور الثلاثة؛ فمن الناس من يكون عنده شرك في الربوبية يقل أو يكثر، ومنهم من يشرك في الملك، ومنهم من يشرك في الألوهية، كما سبق بيانه.
فميدان الصراع مع الشيطان هو في هذه الأمور الثلاثة؛ فمن أخلصها لله جل وعلا؛ فقد خلص من شر الشيطان وشركه، وكان من عباد الله المخلصين.

بيان ما تضمّنته هذه السورة من إيجاز بديع لمدار الابتلاء في هذه الحياة الدنيا وسبيل النجاة منه

الأمر السابع: أن هذه السورة تضمنت إيجازاً بديعاً لمدار الابتلاء والامتحان فبين الله للناس فيها أنه ربهم وملكهم وإلههم، وأن عدوهم هو الشيطان الرجيم، وأن سلاحه هو الوسوسة وأنه سعيه إنما هو ليشركوا بالله جل وعلا في ربوبيته وملكه وإلهيته ليكون مصيرهم إلى عذاب الله وسخطه، ولو تأملت المناسبة بين أول المصحف وآخره لوجدته يصدق بعضه بعضا؛ فقد ذكر الله في أول سورة البقرة أصل نشأ جنس الإنسان في الحياة الدنيا لما أهبط الله أبوينا وإبليس إلى الأرض وأخبر أن بعضهم عدو لبعض وضمن لمن اتباع هداه ألا يخاف ولا يحزن.
وذكر في هذه السورة مصداق ذلك ، وميدان وسوسة الشيطان، وسلاحه، وسبيل النجاة من كيده وشره.
وأنه إنما يكون بالاستعاذة بالله جل وعلا بالقلب والقول والعمل، وهذه هي الاستعاذة الصحيحة كما سبق بيانه في أول هذه الدروس.

من حقق الإخلاص في التعبّد لله تعالى بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث كان في عصمة من كيد عدوّه
الأمر الثامن: أن العبد المؤمن حينما ينادي ربه هذا النداء ويستعيذ به فهو لاجئ إلى ربه وملكه وإلهه ليعيذه من شر عدوه، وإذا حقق العبد الإخلاص في هذه الأمور الثلاثة وأحسن التعبد لله تعالى بها فقد أوى إلى معاذ منيع وحصن حصين، وكان في عصمة الله تعالى وضمانه وأمانه.
وإذا وقع منه تفريط في شيء من ذلك وتقصير فليبادر بالتوبة إلى الله تعالى، ويحسن الإنابة إليه ويتبع السيئة الحسنة لتمحوها.

فقوله تعالى: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس}
فيه أن من رضي بالله ربَّا، ورضي به ملكاً، ورضي به إلها، وأحسن التعبد لله تعالى بهذه الصفات الجليلة فقد حُفظ من كيد كل وسواس خناس ، وكان في حفظ الله ورعايته ومعيّته، لا يخاف ولا يحزن، ولا يضلّ ولا يشقى.

فقولك: {قل أعوذ برب الناس} فيه إقرار منك بأن الله تعالى هو ربّ الناس، وهذا الإقرار له ما يتبعه؛ فليس هو إقرار باللسان دون أن يكون لذلك أثر على القلب واللسان والجوارح.
فإذا كنت تؤمن بأن الله تعالى هو ربّ الناس فليظهر أثر هذا الإيمان على عامّ شأنك وخاصّه، وفي حال الشدة والرخاء، وحال العافية والبلاء.
والتقصير في هذا الأمر عند العباد يكون في حالي الرخاء والشدة.
فمنهم من إذا كان في عافية وَدَعَة نسي أن الله تعالى هو ربّ الناس، وهو وإن كان يقر بذلك بلسانه لكنّ قلبه في غفلة عن ذلك، وعملُه عمل الغافل اللاهي عن هذه الحقيقة العظيمة وهي أن الله ربّ الناس، فتراه يعظّم ما حقّره الله، ويستهين بما عظّمه الله، ويقبل على ما أمر الله بالإعراض عنه من اللغو واللهو المحرم، ويعرض عما أمر الله بالإقبال عليه من ذكره وشكره وحسن عبادته، ومن حسن استماع آياته، والتفكر في مخلوقاته.
بل تجد منهم من يحبّ من يبغضهم الله، ويعظّم ما أوتوه من متاع الحياة الدنيا ويتمنّى أن يكون له مثلُ ما أوتوا، كما حكى الله عمّن أعجبته زينة قارون فقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}.
فهذا مثال لطائفتين:
الطائفة الأولى: لم تقم بما تقتضيه ربوبية الله تعالى للناس، فعظّموا شان الحياة الدنيا ومتاعها وزخرفها واغتروا بها وغفلوا عمّا خلقهم له رب الناس.
والطائفة الثانية: هم أهل العلم والإيمان الذين رغبوا فيما رغّب الله فيه من فضله وثوابه، ولم تلتفت قلوبهم لما أوتي أعداء الله من متاع الحياة الدنيا وزينتها.
فكانت عاقبة هذه الطائفة المتقية حسنة، وأما الطائفة الأولى فندمت على مخالفتها وتقصيرها وتفريطها في جنب الله وتمنّيهم ما تمنوا.
قال الله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

وكذلك في حال الشدة ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
- قسم يتضرعون إلى الله ويوحدونه ويمجدونه ويتوبون إليه ويستعيذون به فينجيهم الله ويتوب عليهم.
- وقسم يلجؤون إلى غيره ويستعيذون بغيره فيحق عليهم الغضب.
- وقسم يكون أصل لجوئهم واستعاذتهم بالله، لكن يكون في تلك الاستعاذة من التفريط والتقصير وضعف التوبة ما يجعلهم متذبذبين بين العافية والبلاء، وبين الطمأنينة والشقاء، وهم على درجات في ذلك.

والمقصود أن إيمانك بأن الله تعالى رب الناس هو إقرار يجب أن تكون له آثاره وكلما كان العبد أحسن قياماً بما يقتضيه التعبد لله تعالى بهذا كان نصيبه من السعادة بآثاره أعظم.
وكذلك إيمانك بأن الله تعالى هو ملك الناس، وهو الذي بيده النفع والضر، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والبدء والإعادة، وهو الذي يعلي من يشاء ويخفض من يشاء، ويقبض ما يشاء ويبسط ما يشاء، وهو الذي يملك القلوب ومحبتها وبغضها ، فيحبب من يشاء إلى من يشاء، ويبغّض من يشاء إلى من يشاء، كما قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}.
فمن شهد هذا حقيقة علم أنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وأثمر له ذلك حسن التوكل على الله جلّ وعلا.
ولم يستعجل شيئاً قبل أوانه، ولم يطلب فضل الله بمعصية الله، بل يسير بنور من الله على هدى من الله ويصبر على ما ابتلاه به الله، حتى يفرج الله عنه، لا يتكلّف شيئاً قبل أوانه فيطلبه بمعصية الله، ولا يفرّط ويهمل ويترك ما أمر الله به من بذل الأسباب المشروعة لجلب النفع ودفع الضر.
فإذا فعل العبد ذلك كان مهتدياً بالله متبعاً لرضوان الله في هذا.
وكذلك إيمان العبد بأن الله تعالى هو إله الناس يثمر له اليقين بأنّ كل ما يُدعى من دونه فهو باطل، وكلّ تعلّق بغيره فهو عناء وشقاء، وكل ما يطلبه الناس لجلب النفع أو دفع الضر بغير هدى الله فإنما ذلك عليهم وبال وشقاء.

أسعد الناس: من رضي بالله ربّا ورضي به ملكاً مدبّراً للأمر ورضي به إلها
وأنت إذا تأمّلت ما تقدّم كله تبيّن لك بيانا جلياً أن أسعد الناس هو من رضي بالله ربَّا ورضي به ملكاً ورضي به إلها؛ لأنه يستريح من العناء الكثير والشقاء العظيم الذي وقع فيه من لم يتبع هدى الله في كل ذلك.
- فالذي يتسخط مما ابتلي به لم يرض بالله ربّا.
- والذي يصدّق السحرة والكهنة والجهلة فيما يزعمون من التصرفات ويستعجل دفع البلاء أو جلب النفع بالذهاب إليهم واللجوء إليهم واتباعهم فيما يأمرون مما يسخط الله لم يرض بالله ملكاً.
وإن من أكثر ما يضر بالناس استعجالهم دفعَ البلاء بالطرق المحرَّمة؛ فإنَّ هذا دليل ضعف الصبر وضعف اليقين وعاقبة ذلك عليهم سيئة، وقد جرت سنة الله على أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ولا يمكن أن ينال العبد أمراً يكون خيراً له بمعصية الله.
والعبد إذا ابتلي ببلاء فإن الله تعالى يبيّن له ما يتقي؛ كما قال الله تعالى: {وما كان الله ليضلَّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون}
فإذا اتقى وصبر هُدي إلى ما يسلم به من شر بلائه، وكانت عاقبته حسنة.
وبيان ذلك: أن العبد إذا ابتلي ببلاء فهو إما أن يتبع هدى الله أو يضل عنه؛ والذي لا يتّقي ما بيَّنه الله له وأوجب عليه أن يتقيه؛ متسببٌ على نفسه بالضلال.


- والذي لا يلجأ إلى الله تعالى في السراء والضراء ولا يدعوه ولا يرجوه لم يرض بالله إلها.
وفي الأدب المفرد للبخاري والسنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)). وفي وراية عند الحاكم: ((من لم يدع الله يغضب عليه)).

وتبيَّن بما تقدم مناسبة الاستعاذة بـ(رب الناس) ، (ملك الناس) ، (إله الناس) لحال الاستعاذة من كيد كل وسواس خناس، وسيأتي في الدرس القادم بإذن الله تعالى مزيد بيان لهذا.




أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:10 AM


بيان معنى الوسواس والخناس والحكمة من اقترانهما

التعريف في {الوسواس} للجنس على الراجح من أقوال المفسرين؛ فيشمل كل وسواس.
و{الخناس}: صفة مبالغة من الخنوس، وهو الاختفاء، وهذا يعني أنه كثير الخنوس أو شديد الخنوس، لأن المبالغة هنا تكون لأحد هذين المعنيين، الكثرة والشدة ، والله تعالى أعلم.
وكذلك الوسوسة تتفاوت كثرة وشدة.
واقتران الصفتين ببعضهما دليل على تلازمها ، وهذا التلازم فيه شر إضافي.
ففي وسوسته شر ، وفي خنوسه شر، وفي كثرة وقوع الوسوسة والخنوس وتتابعهما شر عظيم يستوجب الاستعاذة بالله تعالى من شره.
والأمر بالاستعاذة من شره دليل على أن العبد لا يستطيع بنفسه أن يعصم نفسَه من كيد الشيطان ، وكل موسوس خناس.
وإنما يحتاج إلى الاستعاذة بمن يعصمه منه، وهو الله جل وعلا وحده.
وإذا أحسنَ العبدُ الاستعاذةَ بالله تعالى بالقلب والقول والعمل -كما تقدم بيانه- لم يضرَّه كيد الوسواس الخناس.

والوَسواس بالفتح هو اسم للموسوس.
والوِسواس بالكسر مصدر؛ تقول: وسوس وِسواساً فهو وَسواس، وهو مشتق من الوسوسة ، وهي التحديث بصوت خفيّ.
قال الأعشى:

تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت ..... كما استعان بريح عشرقٌ زجِل
والوَسْوَسَة قد تكون بصوت بخفيّ كما في الشاهد السابق، وقد تكون همساً يحسّ المرءُ أثرَهُ ولا يُسمع صوتَه ، كما في وسوسة النفس ووسوسة الشيطان للإنسان. فهو إلقاء خفي للإنسان.
قال ابن القيم: (ولما كانت الوسوسة كلاماً يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها؛ فقالوا : وسوس وسوسة؛ فراعَوا تكرير اللفظ ليُفهم منه تكرير مسمّاه) ا.هـ.
والخناس: فعَّال من الخنوس وهو الاختفاء ، وقيل: الاختفاء بعد الظهور؛ وهو اختفاء فيه معنى الانقباض والتواري والرجوع.

أروى المطيري 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م 01:11 AM


المراد بالوسواس الخناس

في هذه المسألة قولان:
القول الأول: المراد به الشيطان ؛ وهو المشهور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن البصري، وقال به جمهور المفسرين.
القول الثاني: كل موسوس من شياطين الإنس، وشياطين الجن ووسوسة النفس الأمارة بالسوء.
قال ابن الجوزي في تفسير قول الله تعالى: {من الجنة والناس}: (قوله تعالى: {من الجِنَّة والناس} الجِنَّة: الجن.
وفي معنى الآية قولان:
- أحدهما: يوسوس في صدور الناس جِنَّتهم وناسهم، فسمَّى الجنَّ هاهنا ناساً ، كما سمَّاهم رجالاً في قوله تعالى: {يعوذُون برجال من الجن}، وسماهم نفراً بقوله تعالى: {استَمَعَ نفر من الجن} هذا قول الفراء .
وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوساً للجن، كما يوسوس للإنس.
- والثاني: أن الوسواس: الذي يوسوس في صدور الناس ، هو من الجِنَّة ، وهم من الجن .
والمعنى: من شر الوسواس الذي هو من الجن. ثم عطف قوله تعالى: {والناس} على {الوسواس}، والمعنى: من شر الوسواس ، ومن شر الناس ، كأنه أمر أن يستعيذ من الجن والإنس ، هذا قول الزجاج) ا.هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: (ولم يذكر ابن الجوزي إلا قولين، ولم يذكر الثالث وهو الصحيح، وهو أن قوله: {من الجنة والناس} لبيان الوَسواس أي: الذي يوسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس؛ فإن الله تعالى قد أخبر أنه جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، وإيحاؤهم هو وسوستهم، وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترًا عن البصر؛ بل قد يُشاهد، قال تعالى: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} وهذا كلام من يُعرف قائله ليس شيئًا يلقى في القلب لا يدري ممن هو)ا.هـ.
والخلاصة أن الوسواس قد يكون من الجِنَّة، وقد يكون من الناس، ونحن نستعيذ بالله من كل ما يوسوس من الجنة ومن الناس.
ونفس الإنسان توسوس؛ كما في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.
والنفس الإنسانية فيها شرّ وفيها قوّة أمَّارة، وإذا هويت ما حرم الله سوَّلت لصاحبها ارتكاب تعدّي حدود الله وارتكاب محارمه ما حرم الله وزينته له المعصية، فإذا نهى النفس عن الهوى كان موعوداً بالثواب العظيمة، وإذا أطاعها في اتباع الهوى كان متوعداً بالعذاب على ذلك.
كما قال الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}.
قال ابن تيمية: (فالذي يوسوس في صدور الناس: نفوسهم وشياطين الجنّ وشياطين الإنس، و"الوسواس الخناس" يتناول وسوسة الجنة ووسوسة الإنس ، وإلا أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجنّ فقط مع أن وسوسةَ نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن).ا.هـ.

وهذا القول أطال شيخ الإسلام في تقريره في رسالته في تفسير المعوذتين التي كتبها وهو في سجن القلعة في آخر حياته رحمه الله، وقد أحسن في هذا التقرير جداً، وتكلم بما لا تكاد تجده في كتب التفسير.


الساعة الآن 02:19 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة