جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة التفاسير (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=660)
-   -   مسائل كتاب تفسير سورة الفاتحة (http://jamharah.net/showthread.php?t=26471)

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:04 AM

معنى {ربّ العالمين}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى {ربّ العالمين}
وربوبيّة الله تعالى للعالمين ربوبيّة عامّة على ما تقدّم بيانه من معاني الربوبية.

- فهو تعالى {ربّ العالمين} الذي خلق العوالم كلَّها كبيرها وصغيرها على كثرتها وتنوعها وتعاقب أجيالها.
وفي هذه العوالم أممٌ لا يحصيها إلا من خلقها، وفي كل مخلوق من هذه المخلوقات دقائق وعجائب في تفاصيل خلقه تبهر العقول، أنشأها {ربّ العالمين} من العدم على غير مثال سابق؛ فيستدل المتفكّر في شأنها بما تبيَّن له من تلك العجائب على حكمة خالقها جل وعلا وسعة علمه، وعظيم قدرته، فتبارك الله رب العالمين.
- وهو ربُّ العالمين المالك لكلِّ تلك العوالم فلا يخرج شيء منها عن ملكه، وهو الذي يملك بقاءها وفناءها، وحركاتها وسكناتها، فيبقيها متى شاء، ويفنيها إذا شاء، ويعيدها إذا شاء.
- وهو ربّ العالمين الذي دبَّر أمرها، وسيّر نظامها، وقدّر أقدارها، وساق أرزاقها، وأعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.
- وهو ربّ العالمين الذي له الملك المطلق والتصرّف التامّ، فما يقضيه فيها نافذ لا مردّ له، وما يريد به أحدا من خلقه من نفع أو ضرّ فلا حائل بينه وبينه، بل لا تملك جميع المخلوقات لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه جل وعلا.
- وهو ربّ العالمين الذي لا غنى للعالمين عنه، ولا صلاح لشؤونهم إلا به، كلّ نعمة ينعمون بها فإنما هي من فضله وعطائه، وكلّ سلامة من شرّ وضرٍّ فإنما هي بحفظه ورعايته وإذنه، فهم الفقراء إليه فقراً دائماً متّصلاً، وهو الغنّي الحميد.
- وهو ربّ العالمين الذي دلّت ربوبيّته للعالمين على كثير من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فلا يرتاب الموفَّق في بديع خلقه، وعجائب حكمته، وسَعَة مُلْكه، وشدّة قوّته، وتمام غناه، وعظمة مجده، وإحاطته بكل شيء، وقدرته على كلّ شيء، إلى غير ذلك من الصفات التي يدلّ عليها التفكّر في خلق الله تعالى وربوبيّته للعالمين.
- وهو تعالى {ربّ العالمين} المستحقّ لأن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا معه إلهاً آخر، كما أنهم لم يكن لهم ربٌّ سواه، ولهذا قال تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}؛ فاحتجّ على توحيد العبادة باسم الربوبية.
والمقصود أنّ تأمُّلَ معاني الربوبية والتفكر في آثارها في الخلق والأمر يورث اليقين بوجوب التوحيد، وأنَّ العالم لا صلاح له إلا بأن يكون ربه واحدا، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}). [تفسير سورة الفاتحة:159 - 160]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:07 AM

أقوال العلماء في المراد بالعالمين:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أقوال العلماء في المراد بالعالمين:
كان ما تقدّم من التفسير مبناه على اعتماد القول الراجح، إلا أنه ينبغي لطالب علم التفسير أن يكون على معرفة بأقوال العلماء في هذه المسألة، وأن يعرف سبب الاختلاف، ومآخذ الأقوال وحججها وأحكامها.

ومن ذلك أن المفسّرين اختلفوا في المراد بالعالمين في هذه الآية على أقوال كثيرة أشهرها قولان صحيحان:
القول الأول: المراد جميع العالَمين، على ما تقدّم شرحه، وهو قول أبي العالية الرياحي، وقتادة، وتبيع الحميري، وقال به جمهور المفسّرين.
والقول الثاني: المراد بالعالمين في هذه الآية: الإنس والجنّ، وهذا القول مشتهر عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وروي أيضاً عن ابن جريج.
وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من طرق عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عزّ وجلّ: {ربّ العالمين} قال: (ربّ الجنّ والإنس).
وقيس بن الربيع الأسدي مختلف فيه، كان شعبة يُثني عليه، وقال عفّان: ثقة، وليَّنه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك.
وقد كان محمودَ الأمر لكنّه تولّى منصباً فساء حفظه ووقع في حديثه ما يُنكر.
قال محمد بن عبيد: (لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، ولكنه استُعمل، فأقام على رجل الحدّ فمات، فطفى أمره).
والأقرب فيمن كان في مثل حاله أنه لا يقبل تفرّده، لكن هذا القول تعددت رواياته عن أصحاب ابن عباس؛ فروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة بأسانيد لا تخلو من مقال ، لكن تعدد الروايات وتظافرها على هذا القول مع اختلاف مخارجها دليل على أنَّ هذا القول محفوظ عن أصحاب ابن عباس.
وقد استُدلّ له بقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} ، والمراد بهم هنا المكلّفون من الإنس والجن.
وهذا القول صحيح المعنى والدلالة، وبيان ذلك بالجمع بين أمرين:
أحدهما: أن يكون التعريف في (العالمين) للعهد الذهني، وليس للجنس؛ فيكون هذا اللفظ من العامّ الذي أريد به الخصوص.
والآخر: أن يكون لفظ (ربّ) بمعنى (إله) ؛ كما في حديث سؤال العبد في قبره: من ربّك؟ أي: من إلهك الذي تعبده؟
فلفظ (الربّ) من معانيه (الإله المعبود) ، والله تعالى هو (الربّ) وهو (الإله) ، وما عبد من دون الله فليس بإلهٍ على الحقيقة، وليس برب على الحقيقة، وإنما اتُّخِذَ رباً، واتُّخِذَ إلها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
قال عدي بن حاتم: (يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)... الحديث، ففهم عَديٌّ رضي الله عنه من هذا اللفظ معنى العبادة، لأن اتخاذ الشيء رباً معناه عبادته، إذ الربوبية تستلزم العبادة.
وقال شاعر جاهليّ كان يعبد صنماً فرأى ثعلباً يبول على رأس صنمه؛ فقال:
أرَبٌّ يبول الثُّعلبانُ برأسه .. لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالبُ
والثعلبان: ذكر الثعالب.
فتبيَّن أن هذا القول المروي عن ابن عباس وأصحابه صحيح في نفسه، ولعلّ الصارف لهم إلى هذا المعنى اعتبار الخطاب للمكلّفين الذين هم الإنس والجنّ، كما قال تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}؛ فهم أولى من يراد بلفظ العالمين؛ لأنهم المكلفون بالعبادة.
فهذا توجيه هذا القول، لكن القول الأوّل أعمّ منه، وله دلالة صحيحة ظاهرة، وهو قول جمهور المفسّرين.
والاختلاف في بعض أوجه التفسير الصحيحة كالاختلاف في القراءات الصحيحة؛ فيجوز أن يستحضر القارئ أحد المعاني عند قراءته إذا لم يمكن الجمع بينها.
وفي هذه المسألة قول ثالث: وهو أن المراد بالعالمين "أصناف الخلق الرّوحانيّين، وهم الإنس والجن والملائكة، كلّ صنف منهم عالم"، وهذا قول ابن قتيبة الدينوري ونصّ عبارته في كتابه "تفسير غريب القرآن".
وهذا القول نسبه الثعلبي إلى أبي عمرو بن العلاء من غير إسناد، وعلى معنى آخر.
قال الثعلبي: (وقال أبو عمرو بن العلاء: هم الروحانيون، وهو معنى قول ابن عباس: كل ذي روح دبّ على وجه الأرض)ا.هـ.
ولا يصحّ هذا القول عن أبي عمرو بن العلاء، ولا ما ذكره الثعلبي عن ابن عباس.

وابن قتيبة قد اضطرب قوله في هذه المسألة في كتبه، ودعوى تخصيص المراد من غير حُجَّة معتبرة يُستند إليها دعوى باطلة.
وقد ذكر الثعلبي في هذه المسألة أقوالاً أخرى ضعيفة، وتبعه على ذكرها بعض المفسّرين، وقد أعرضت عنها لضعفها.
قال شيخ مشايخنا محمد الأمين الشنقيطي(ت:1393هـ) رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة: (قوله تعالى: {رب العالمين} لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: {قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما}).
وهذا من أحسن ما يُستدلّ به على ترجيح القول الأول). [تفسير سورة الفاتحة:160 - 164]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:10 AM

تفسير قول الله تعالى: {الرحمن الرحيم}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تفسير قول الله تعالى: {الرحمن الرحيم}
تقدّم بيان معنى الاسمين الجليلين، وتضمّنهما صفة الرحمة، وبيان التناسب بين الاسمين، والحكمة من اقترانهما، وبيان أنواع الرحمة). [تفسير سورة الفاتحة:164]


جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:13 AM

الحكمة من تكرار ذكر {الرحمن الرحيم} بعد ذكرهما في البسملة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الحكمة من تكرار ذكر {الرحمن الرحيم} بعد ذكرهما في البسملة:
تكلّم في هذه المسألة بعض المفسّرين، وقد اختلفوا فيها على أقوال:

القول الأول: أنه لا تكرارَ هنا لأن البسملة ليست آية من الفاتحة، وهذا قول ابن جرير.
وهذا القول يعترض عليه من وجهين:
أحدهما: أنّ اختيار المفسّر لأحد المذاهب في العدّ لا يقتضي بطلان المذاهب الأخرى، كما أنّ اختياره لإحدى القراءتين لا يقتضي بطلان الأخرى.
والوجه الآخر: أنَّ المسألة باقية على حالها حتى على اختياره؛ إذ لا إنكار على من قرأ البسملة قبل الفاتحة ولو لم يعدَّها آية من الفاتحة.
والقول الثاني: التكرار لأجل التأكيد، وهذا القول ذكره الرازي في تفسيره، قال: (التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات).
والقول الثالث: التكرار لأجل التنبيه على علّة استحقاق الحمد، وهذا القول ذكره البيضاوي.
وهذان القولان مستندهما الاجتهاد بالنظر في التماس الحكمة من التكرار، ولا أعلم عن السلف قولاً في هذه المسألة، وهذا مشعرٌ بأن المسألة لم تكن مشكلة عند السلف؛ لكن لمَّا أثير السؤال كان لا بدَّ من الجواب عليه.
وهذا النوع من الأسئلة يرتّب الجواب فيه على مراتب:
المرتبة الأولى: النظر في الأقوال المأثورة إن وجدت؛ فإن لم يجد المفسّر قولاً مأثوراً صحيحاً في هذه المسألة انتقل إلى المرتبة الثانية: وهي النظر في سياق الكلام، وهو أصلٌ مهمّ في الجواب عن مثل هذه الأسئلة؛ فإن أعياه ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة: وهي النظر في مقاصد الآيات.
فإن لم يتبيّن له الجواب توقَّف، ووكل الأمر إلى عالمه.
وفي هذه المسألة يكشف السياق عن مقصد تكرار ذكر الاسمين في هذين الموضعين.
فالموضع الأول: البسملة، وغرضها الاستعانة بالله تعالى والتبرّك بذكر اسمه واستصحابه على تلاوة القرآن وتدبّره وتفهّمه والاهتداء به؛ فيكون لذكر هذين الاسمين في هذا الموضع ما لا يخفى من المناسبة، وأن التوفيق لتحقيق هذه المقاصد إنما يكون برحمة الله تعالى، والتعبّد لله تعالى بذكر هذين الاسمين مما يفيض على قلب القارئ من الإيمان والتوكّل ما يعظم به رجاؤه لرحمة ربّه، وإعانته على تحقيق مقاصده من التلاوة.
والموضع الثاني: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم} جاء فيه ذكر هذين الاسمين بعد ذكر حمد الله تعالى وربوبيّته العامّة للعالمين؛ فيكون لذكر الاسمين في هذا الموضع ما يناسب من معاني رحمة الله تعالى وسعتها لجميع العالمين، وأنَّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأنه تعالى عظيم الرحمة كثير الرحمة فيكون ذكر هذين الاسمين من باب الثناء على الله تعالى تقدمة بين يدي مسألته التي سيسألها في هذه السورة.
وإذا ظهر الفرق بين مقصد ذكر هذين الاسمين في البسملة، وبين ذكرهما بعد الحمد ؛ ظهر للمتأمّل معنى جليل من حكمة ترتيب الآيات على هذا الترتيب البديع المحكَم.
وقد أساء من حَمَل على من يعدّ البسملة آية من الفاتحة ؛ بأنه لو كانت الآية من الفاتحة لكان تكرار هذين الاسمين لغوا لا معنى له، وهذه زلَّة لا ينبغي أن تصدر من مؤمن، واختيار المرء قراءة من القراءات أو مذهباً من مذاهب العدّ لا يسوّغ له الطعن في غيره مما صحّ عند أهل ذلك العلم، بل تُعتقد صحّة الجميع، والاختيار فيه سعة ورحمة، ويدخله الاجتهاد). [تفسير سورة الفاتحة:164 - 166]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:21 AM

الباب الثامن:تفسير قول الله تعالى: {مالك يوم الدين}


بيان مقصد الآية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان مقصد الآية
مقصد هذه الآية تمجيد الله تعالى والتفويض إليه؛ كما صحَّ في الحديث القدسي المتقدّم ذكره؛ فقد وردت فيه الروايتان في صحيح مسلم:

فأمَّا تمجيد العبد لربّه بذكر ملكه ليوم الدين فتدلّ عليه لوازم هذا الوصف العظيم ودلائله الباهرة؛ التي تدلّ على عظمة ملكه تعالى، وكثرة جُنده، وكمال قوّته، وقهره لعباده، وقدرته على بعثهم بعد موتهم، وسعة علمه فلا يعزب عنه شيء، وإحاطته بكلّ شيء، وإحصائه أعمال عباده، وسرعة حسابه ومجازاته إياهم، وعدله في جزائه، ورحمته وإحسانه لأوليائه، وعزَّته وشدّة انتقامه من أعدائه، وحكمته الباهرة في موافقة الجزاء للعمل، وقدرته على توفية كلّ عاملٍ جزاءه، إلى غير ذلك من المعاني العظيمة، والصفات الجليلة الباهرة؛ التي هي من أظهر معاني تمجيد الله تعالى.
وأمَّا التفويض إلى الله تعالى فيدّل عليه تلاشي كلّ ملك دون ملك الله تعالى، واضمحلال قدرة كلّ أحد على أن يملك لنفسه أو لأحد غيره شيئاً، فلم يبق إلا التفويض لله تعالى، وهذا المعنى كما دلَّ عليه لازم معنى الآية، ونصّ الحديث القدسي، دلَّ عليه أيضاً قول الله تعالى في سورة الانفطار: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
فيوم الدين هو يوم التفويض التامّ
إلى الله تعالى من الخلق كلّهم برّهم وفاجرهم {وألقوا إلى الله يومئذ السلم}.
والمؤمن إذا تلا هذه الآية معتقداً معانيها عالماً بمقاصدها هداه ذلك إلى تمجيد الله تعالى والتفويض إليه؛ فينفعه هذا التمجيد والتفويض يوم يلقى ربَّه في ذلك اليوم العظيم). [تفسير سورة الفاتحة:167 - 168]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:28 AM

القراءات في الآية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (القراءات في الآية
في هذه الآية قراءتان سبعيتان متواترتان:

الأولى: {مالك يوم الدين} بإثبات الألف بعد الميم، وهي قراءة عاصم والكسائي.
والثانية: [مَلِك يوم الدين] بحذف الألف، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء وحمزة وابن عامر.

بيان معنى القراءتين
أمَّا المَلِك فهو ذو المُلك، وهو كمال التصرّف والتدبير ونفوذ أمره على من تحت ملكه وسلطانه.
وإضافة المَلِك إلى يوم الدين (ملك يوم الدين) تفيد الاختصاص؛ لأنه اليوم الذي لا مَلِكَ فيه إلا الله؛ فكلّ ملوك الدنيا يذهب ملكهم وسلطانهم، ويأتونه كما خلقهم أوَّل مرة مع سائر عباده عراة حفاة غرلاً؛ كما قال الله تعالى: {يوم هم بارزون لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار}.
وأمَّا المالك فهو الذي يملِكُ كلَّ شيء يوم الدين، فيظهر في ذلك اليوم عظمة ما يَـمْلِكه جلَّ وعلا، ويتفرّد بالمِلك التامّ فلا يملِك أحدٌ دونه شيئاً إذ يأتيه الخلق كلّهم فرداً فرداً لا يملكون شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملك بعضهم لبعضٍ شيئاً { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
فالمعنى الأولّ صفة كمال فيه ما يقتضي تمجيد الله تعالى وتعظيمه والتفويض إليه، والمعنى الثاني صفة كمال أيضاً وفيه تمجيد لله تعالى وتعظيم له وتفويض إليه من أوجه أخرى، والجمع بين المعنيين فيه كمال آخر وهو اجتماع المُلك والمِلك في حقّ الله تعالى على أتمّ الوجوه وأحسنها وأكملها؛ فإذا كان من الناس من هو مَلِكٌ لا يملِك، ومنهم من هو مالكٌ لا يملُك، فالله تعالى هو المالك الملِك، ويوم القيامة يضمحلّ كلّ مُلك دون ملكه، ولا يبقى مِلكٌ غير مِلكه). [تفسير سورة الفاتحة:168 - 169]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:30 AM

المراد بيوم الدين
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بيوم الدين
هذه الآية يفسّرها قول الله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.

فالمراد بيوم الدين هنا هو يوم القيامة، من غير خلاف بين المفسّرين، وسمّي يوم الدين لأنه يومٌ يُدان الناس فيه بأعمالهم، أي يجازون ويحاسبون، كما قال الله تعالى: {يومئذ يوفّيهم الله دينهم الحقّ} أي جزاءهم الذي يستحقونه.
وقال تعالى: {وإنَّ الدين لواقع} أي الجزاء كائن لا بدّ منه.
قال قتادة في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} قال: «يوم يدين الله العباد بأعمالهم» رواه عبد الرزاق وابن جرير). [تفسير سورة الفاتحة:169 - 170]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:32 AM

معنى الإضافة في {مالك يوم الدين}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى الإضافة في {مالك يوم الدين}
الإضافة في مالك يوم الدين لها معنيان:

المعنى الأول: إضافة على معنى (في) أي هو المالك في يوم الدين؛ ففي يوم الدين لا يملك أحد دونه شيئاً.
والمعنى الثاني: إضافة على معنى اللام، أي هو المالك ليوم الدين.
قال ابن السراج: (إن معنى مالك يوم الدين: أنه يملك مجيئه ووقوعه). ذكره أبو حيان.
وكلا الإضافتين تقتضيان الحصر، وكلاهما حقّ، والكمال الجمع بينهما). [تفسير سورة الفاتحة:170]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 12:37 AM

الباب التاسع:تفسير قول الله تعالى: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}

مقصد الآية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مقصد الآية
فيما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا قال [أي: العبد]: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال [الله]: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).

فهذه الآية قسمها الله تعالى بينه وبين عبده:
فقسمها الأوَّل: حقّه جلّ وعلا، وهو إفراده بالعبادة.
وقسمها الآخر: سؤال العبد الإعانةَ من الله وحده دون ما سواه.
فمن قام بحقّ الله تعالى في القسم الأول أعطاه الله ما سأله في القسم الآخر.

وقد اشتملت هذه الآية على:
1. التبرؤ من كلّ معبود يُعبد من دون الله تعالى؛ ففيها معنى "لا إله إلا الله".
2. و
التبرؤ من الاستعانة بغيره جلّ وعلا؛ وذلك مستلزم للإيمان بقدرته تعالى على الإعانة؛ ففيها معنى "لا حول ولا قوّة إلا بالله".
فإخلاص العبادة يستلزم الكفر بكلّ ما يُعبد من دون الله تعالى، وأن يكون القلب سليماً لله تعالى ليس فيه تعلّق بغيره.
وإخلاص الاستعانة يستلزم التوكّل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه، ورجاء عونه وتوفيقه.
قال ابن كثير رحمه الله: (الدّين يرجع كلّه إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السّلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} فالأوّل تبرّؤٌ من الشّرك، والثّاني تبرّؤٌ من الحول والقوة، والتفويض إلى اللّه عزّ وجلّ. وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن، كما قال تعالى: {فاعبده وتوكّل عليه وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون} {قل هو الرّحمن آمنّا به وعليه توكّلنا} {ربّ المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتّخذه وكيلا}، وكذلك هذه الآية الكريمة: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين})ا.هـ.
وقال ابن القيّم رحمه الله: (كثيراً ما سمعت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء، {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء)ا.هـ). [تفسير سورة الفاتحة:171 - 172]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 06:10 PM

معنى قوله تعالى: {إياك نعبد}.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى قوله تعالى: {إياك نعبد}.
أي نُخلِص لك العبادة؛ فنطيع أوامرك محبّة وخوفاً ورجاء خاضعين مستكينين لك وحدك لا شريك لك.

والعِبادةُ هي: التَّذلُّلُ والخُضوعُ والانقيادُ مع شدَّةِ المحبَّةِ والتعظيمِ). [تفسير سورة الفاتحة:172]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 06:13 PM

بيان معنى العبادة في اللغة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان معنى العبادة في اللغة

قال ابن جرير رحمه الله: (العبودية عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة (معبَّدًا) ).

قال: (ومن ذلك قول طَرَفَة بن العَبْد:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت ... وَظِيفًا وظيفًـا فـوق مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ
يعني بالموْر: الطريق، وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء، ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد، ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه)ا.هـ.
وقال أبو منصور الأزهري: (ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، ويقال طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مذلَّلا بكثرة الوطء)ا.هـ.
ويشهد لما ذكره أبو منصور ما أنشده الخليل في العين لمن لم يسمّه:
تَعبَّدَني نِمْرُ بن سعدٍ وقد أُرى ... ونمر بن سعدٍ لي مطيع ومُهْطعُ
فهذا تعريف لها باعتبار أصل معناها الملازم لها، واعتبار هذا المعنى مهم). [تفسير سورة الفاتحة:173]


جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 06:16 PM

بيان معنى العبادة شرعاً
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان معنى العبادة شرعاً

والعبادة في الشرع لها تعريفات متعددة ذكرها أهل العلم، وقد سلكوا مسالك في تعريفها، ومن أحسنها تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (العبودية)؛ إذ قال رحمه الله تعالى: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)ا.هـ.

قوله: (من الأعمال والأقوال) هذا قيد يخرج الأشخاص والأمكنة والأزمنة التي يحبها الله فلا توصف بأنها عبادة، لأن العبادة تتعلق بما يُتعبَّد به.
وتعريف شيخ الإسلام للعبادة حسن بديع، وهو وصف جامع مانع للعبادات الشرعية، وأما العبادات الشركية والبدعية فلا يشملها هذا التعريف لأن الله تعالى لا يحبها ولا يرضاها ولا يقبلها، وإن كانت داخلةً في اسم العبادة لغة؛ لأن كلَّ ما يُتقرَّب به إلى المعبود فهو عبادة؛ كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ ؛ فسمَّى ما يفعلونه عبادة، وقال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) رواه مسلم.
فالعبادات الشركية والبدعية وإن كان يشملها اسم العبادة لغة وحقيقة من جهة كونها صادرة عن تذلل وخضوع للمعبود، لكنها عبادات باطلة عند الله؛ فمن عبد اللهَ عبادةً غير خالصة له فهي مردودة عليه، وكذلك من عبد الله بعبادة لم يأذن الله بها فهي مردودة عليه.
فتعريف شيخ الإسلام للعبادة تعريف بالحدّ الرسميّ لغرض بيان ما يشمله اسم العبادة الشرعية، وتعريف ابن جرير وأبي منصور للعبادة تعريف بالحد الحقيقي لغرض بيان ماهية العبادة وحقيقتها؛ فهي لا تكون إلا بتذلل وخضوع.

ويصحب هذه الذلة في العبادات الشرعية التي أمر الله بها ثلاثة أمور: المحبة، والانقياد، والتعظيم.
والعبادةُ تكونُ بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ، وقد أمَرَ اللهُ تعالى بإخلاصِ العبادةِ له وَحْدَه لا شَريكَ له؛ قال اللهُ تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)﴾
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾.
وقال تعالى:
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) ). [تفسير سورة الفاتحة:173 - 175]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 06:19 PM

فوائد تقديم المفعول {إيَّاك}.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فوائد تقديم المفعول {إيَّاك}.

تقديم المفعول {إيَّاك} على الفعل {نعبد} فيه ثلاث فوائد جليلة:

إحداها: إفادة الحصر؛ وهوَ إثباتُ الحكمِ للمذكورِ ونفيهُ عما عداهُ؛
فأفادت معنى: «نعبدكَ، ولا نعبدُ غَيركَ»، ومعنى: «لا نعبد إلا إيَّاك» مع اختصار اللفظ وعذوبته والإشعار بمعنى التقرب؛ لأن الجملة المثبتة أبلغ في إفادة معنى التقرب من الجملة المنفية.
ومما يوضّح هذا المعنى قول الله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين . بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون}
{بل إياه تدعون} ظاهر في أنّ هذا التركيب يفيد الحصر، أي: تدعونه وحده ولا تدعون غيره مما كنتم تشركون بهم.
والثانية: تقديم ذكر المعبود جلَّ جلاله.
والثالثة: إفادة الحرص على التقرّب؛ فهو أبلغ من (لا نعبد إلا إياك).
وكنت قد لخّصت هذه الأوجه من كلام المفسّرين في كتب التفسير ثمّ وجدتُ ابن القيّم قد أحسن جمعها والبيان عنها في كتابه "مدارج السالكين" فقال: (وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين، ففيه: أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم، وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص، المسمى بالحصر، فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها، واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما، وسيبويه نص على الاهتمام، ولم ينف غيره)ا.هـ). [تفسير سورة الفاتحة:175 - 176]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 06:24 PM

معنى قوله تعالى: {إياك نستعين}.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى قوله تعالى: {إياك نستعين}.

أي نستعينك وحدك لا شريك لك على إخلاص العبادة لك؛ فإنا لا نقدر على ذلك إلا بأن تعيننا عليه، ونستعينك وحدَك على جميع أمورنا؛ فإنّك إن لم تعنّا لم نقدر على جلبِ النفعِ لأنفسنا ولا دفع الضرّ عنها). [تفسير سورة الفاتحة:176]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:22 PM

فائدة حذف متعلَّق الاستعانة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة حذف متعلَّق الاستعانة
المراد بمتعلَّق الاستعانة ما يُستعان الله تعالى عليه، فههنا استعانة ومستعان به ومستعان عليه؛ فالاستعانة فعل العبد، والمستعان به هو الله، والمستعان عليه لم يُذكر في هذه الآية ولذلك تكلم العلماء في بيان متعلَّق الاستعانة هنا، وحاصل ما قالوه يرجع إلى معنيين:

أحدهما: نستعينك على عبادتك؛ لتقدّم ذكرها.
والمعنى الآخر: نستعينك على قضاء حوائجنا، وجميع شؤوننا؛ فلا غنى لنا عن عونك وإمدادك.
والصواب الجمع بين المعنيين؛ إذ كلاهما حقّ، فالأوَّل طلب الإعانة على أداء حقّ الخالق جلّ وعلا، والآخر طلب الإعانة على ما يحتاجه المخلوق.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يفيد الجمع بين المعنيين؛ فقال في قوله تعالى: ({وإيّاك نستعين} على طاعتك وعلى أمورنا كلّها). أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وحذف متعلّق الاستعانة هنا يفيد عمومَ ما يُستعان بالله عليه؛ ليشملَ كلَّ ما يحتاج العبد فيه إلى عون ربّه لجلب نفع أو دفع ضرّ في دينه ودنياه أو دوام نعمة قائمة، أو دوام حفظ من شرّ، فكلّ ذلك مما لا يناله العبد إلا بعون ربّه جلّ وعلا). [تفسير سورة الفاتحة:176 - 177]


جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:24 PM

بيان معنى الاستعانة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان معنى الاستعانة
الاستعانة هي طلب العون؛ والاعتماد على المستعان به في جلب المنافع ودفع المضارّ.

والاستعانة أوسع معاني الطلب، وإذا أطلقت دلَّت على معنى الاستعاذة والاستغاثة؛ لأنَّ حقيقة الاستعاذة: طلب الإعانة على دفع مكروه، وحقيقة: الاستغاثة: طلب الإعانة على تفريج كربة.
فالاستعانة بمعناها العام تشمل الدعاء والتوكل والاستعاذة والاستغاثة والاستهداء والاستنصار والاستكفاء وغيرها؛ لأن كل ما يقوم به العبد من قول أو عمل يرجو به تحصيلَ منفعة أو دفع مفسدة فهو استعانة.
وحاجة العبد إلى الاستعانة بالله تعالى لا تعدلها حاجة، بل هو مفتقر إليه في جميع حالاته؛ فهو محتاج في كل أحواله إلى الهداية والإعانة عليها، ومحتاج إلى تثبيت قلبه على الحق، ومغفرة ذنبه وستر عيبه وحفظه من الشرور والآفات وقيام مصالحه.
والعبدُ حارثٌ همَّامٌ يجد في قلبه كلَّ وقت مطلوباً من المطلوبات يحتاج إلى الإعانة على تحقيقه، والله تعالى هو المستعان الذي بيده تحقيق النفع ودفع الضر، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو سبحانه.
فلا يحصل لعبدٍ من عباد الله نفعٌ في أمر من أمور دينه ودنياه إلا بالله جل وعلا، فهو المستعان وحده على كل ذلك.
وكل سبب من الأسباب التي يبذلها العبد لتحقيق النفع أو دفع الضر لا يستقل بالمطلوب، فلا يوجد سبب مستقل بالمطلوب، بل لا بد أن يكون معه سبب مساعد ولا بد معه أيضاً من انتفاء المانع، ولا يكون كلُّ ذلك إلا بإذن الله جل وعلا.
فمن أبصر هذا حقيقةً أسلمَ قلبَه لله جل وعلا، وعَلِمَ أنه لا يكون إلا ما يشاء الله، وأن ما يطلبه من خير الدنيا والآخرة لا يناله إلا بإذن الله وهدايته ومشيئته، وأن لنيل ذلك أسباباً هدى الله إليها وبيَّنها.
ومن كان على يقين بهذه الحقيقة قامَت في قلبه أنواعٌ من العبودية لله جل وعلا من المحبة والرجاء والخوف والرغب والرهب والتوكل وإسلام القلب له جل وعلا والثقة به وإحسان الظن به.
ويجعل الله في قلب المؤمن بسبب هذه العبادات العظيمة من السكينة والطمأنينة والبصيرة ما تطيب به حياته وتندفع به عنه شرور كثيرة وآفات مستطيرة). [تفسير سورة الفاتحة:177 - 178]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:27 PM

تحقيق الاستعانة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تحقيق الاستعانة يكون بأمرين:
- أحدهما: التجاء القلب إلى الله تعالى بصدق طلب العون منه، وتفويض الأمر إليه، والإيمان بأن النفع والضر بيده جل وعلا، لا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء.
- والآخر: اتّباع هدى الله تعالى ببذل الأسباب التي أرشد إليها وبينها، فيبذل في كل مطلوب ما أذن الله تعالى به من الأسباب.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذين الأمرين بقوله: (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)). رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(احرص على ما ينفعك) في أمور دينك ودنياك.
(واستعن بالله) أي: اطلب عونه لتحقيق ما ينفعك.
(ولا تعجز) لأنَّ العجز هو: ترك بذل السبب مع إمكانه.
فتبيَّن بذلك أنَّ من يترك بذل السبب الممكن غير محقّقٍ للاستعانة.
ومن حقّق الاستعانة أعانه الله، والله لا يخلف وعده). [تفسير سورة الفاتحة:179]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:30 PM

أقسام الاستعانة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أقسام الاستعانة
الاستعانة على قسمين:

القسم الأول: استعانة العبادة، وهي الاستعانة التي يصاحبها معانٍ تعبدية تقوم في قلب المستعين من المحبة والخوف والرجاء والرغب والرهب فهذه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، ومن صرفها لغيره فهو مشرك كافر، وهي الاستعانة التي أوجب الله تعالى إخلاصها له جلَّ وعلا، كما قال الله تعالى فيما علّمه عباده المؤمنين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر، فيستعان بالله جل وعلا وحده، ولا يستعان بغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (( وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
والاستعانة ملازمة للعبادة فكل عابد مستعين؛ فإنه لم يعبد إلهه إلا ليستعين به على تحقيق النفع ودفع الضر.
القسم الثاني: استعانة التسبب، وهو بذل السبب رجاء نفعه في تحصيل المطلوب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فهذه الاستعانة ليست بعبادة لخلوّها من المعاني التعبّدية، وهي كما يستعين الكاتب بالقلم على الكتابة؛ وكما يستعين على معرفة الحق بسؤال أهل العلم.
استعانة التسبب حكمها بحسب حكم السبب وحكم الغرض فإذا كان الغرض مشروعاً والسبب مشروعاً كانت الاستعانة مشروعة، وإذا كان الغرض محرماً أو كان السبب محرماً لم تجز تلك الاستعانة، فإن تعلق القلب بالسبب كان ذلك شركاً أصغر من شرك الأسباب.
إذا تبيَّن ذلك فاعلم أنَّ قول الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لمّا أعطاه عطيَّة: (استعن بها على دنياك ودينك) رواه ابن خزيمة.
وحديث قابوس بن المخارق عن أبيه، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، الرجل يأتيني يريد مالي، قال: «ذكّره بالله».
قال: فإن لم يذكر الله؟
قال: «استعن بمن حولك من المسلمين»
قال: فإن لم يكن حولي أحد؟
قال: «فاستعن عليه بالسلطان».
قال: فإن نأى عني السلطان؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك» رواه ابن أبي شيبة والنسائي.
فهذه النصوص وما في معناها المراد بالاستعانة فيها استعانة التسبّب، وأمَّا استعانة العبادة فلا يجوز أن تصرف لغير الله تعالى). [تفسير سورة الفاتحة:180 - 181]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:33 PM

أقسام الناس في العبادة والاستعانة.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أقسام الناس في العبادة والاستعانة.
الناس في العبادة والاستعانة على أقسام:

- فأفضلهم الذين أخلصوا العبادة والاستعانة لله تعالى؛ فكانوا من أهل {إياك نعبد وإياك نستعين}، وهم على درجات لا يحصيهم إلا من خلقهم؛ لأن المسلمين يتفاضلون في إخلاص العبادة وفي الاستعانة تفاضلاَ كبيراً؛ ومن أحسن في هذين العملين فهو سابق بالخيرات بإذن ربه.
- وقد يقع لدى بعض المسلمين تفريط وتقصير في إخلاص العبادة والاستعانة؛ فيحصل لهم بسبب ذلك آفات وعقوبات.
فالتقصير في إخلاص العبادة تحصل بسببه آفات عظيمة تحبط العمل أو تنقص ثوابه كالرياء والتسميع وابتغاء الدنيا بعمل الآخرة، وأخف من هؤلاء من يؤدي هذه العبادات لله لكن لا يؤديها كما يجب؛ فيسيء فيها ويخلّ بواجباتها لضعف إخلاصه وضعف إيمانه.
والتقصير في الاستعانة تحصل بسببه آفات عظيمة من الضعف والعجز والوهن فإن أصابه ما يحِبُّ فقد يحصل منه عجب واغترار بما يملك من الأسباب، وإن أصابه ما يكره فقد يصاب بالجزع وضعف الصبر.
وكلا التفريطين لا يحصل لصاحبهما طمأنينة قلب ولا سكينة نفس ولا تطيب حياته حتى يحقق هذين العملين الجليلين.
وبهذا يعلم المؤمن أنَّ كماله وسعادته ورفعة درجاته بحسب إحسانه في عبادة ربّه واستعانته به.
ولابن القيّم رحمه الله تعالى كلام حسن في "مدارج السالكين" في بيان أقسام الناس في العبادة والاستعانة باعتبار آخر، وفي كلامه طول على حسنه؛ فتركته خشية التطويل، وذكرت هذه المسألة لبيان التفاضل في هذه الأعمال وما ينبني عليه من أحكام، حتى يتبيّن المتأمّل تناسب الأعمال والأحكام، وانقسام الناس فيها إلى أقسام، وفقه هذه المسائل مهمّ جداً، ويفيد طالب العلم في جواب كثير من الأسئلة التي يثيرها السائلون). [تفسير سورة الفاتحة:182 - 183]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:35 PM

أنواع الاستعانة بالله
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع الاستعانة بالله
الاستعانة بالله تعالى على أنواع:

- فأفضلها وأحبها إلى الله تعالى: الاستعانة بالله على طاعة الله، وكلما كان المؤمن أشد حباً لله ورجاء في فضله وخوفاً من سخطه وعقابه كان على هذا الأمر أحرص، وعرف أن حاجته إليه أشد.
والمؤمن مأمور بأن يستعين الله تعالى في جميع شؤونه حتى في شسع نعله فإنه إذا لم ييسره الله لم يتسير، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مختلف في صحته، ومعناه صحيح، وقد أمر الله تعالى بالسؤال من فضله فقال: ﴿واسألوا الله من فضله﴾ وهو يشمل فضله في الدنيا والآخرة.
لكن من الناس من يغلب عليه الاستعانة بالله لتحقيق المطالب الدنيوية حتى تشغله عن المطالب الأخروية؛ فإن تحقق له ما يطلب من أمور الدنيا فرح به وضعفت رغبته في الاستعانة بالله تعالى على طاعة الله، وإن حُرمه ابتلاء واختباراً جزع وسخط؛ فهذا النوع في قلوبهم عبودية للدنيا، وقد تُعجَّل لهم مطالبهم فتنة لهم ثم تكون عاقبتهم سيئة.
وسبب ذلك أنهم شابهوا الكفار فيما ذمهم الله به؛ فقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) ﴾
وهم وإن لم تبلغ بهم إرادتهم للدنيا مبلغاً يرتكبون به ما يخرجهم من دائرة الإسلام من ترك الصلاة أو ارتكاب أي ناقض آخر من نواقض الإسلام إلا أنَّهم لمّا بلغ حبّهم للدنيا ما جعلهم يتركون بعض الواجبات ويرتكبون بعض المحرمات عمداً كان ذلك دليلاً على ضعف إخلاصهم العبادة لله تعالى؛ وكان في قلوبهم عبودية صغرى للدنيا يستحقّون بها من العذاب وضنك المعيشة ما يناسب جرمهم وتفريطهم.
وقد علموا أنَّ أصل بلاء الكفار إيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة كما قال تعالى: ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى﴾
وقال: ﴿وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾
وقال:﴿فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) ﴾
فمن شابههم في بعض أعمالهم التي ذمّهم الله عليها استحقّ من العذاب بقدر مشابهته لهم). [تفسير سورة الفاتحة:183 - 184]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:41 PM

الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين}.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين}.
هذه المسألة من مسائل التفسير البياني، وهي مسألة ظهرت عناية المفسّرين بها واشتهرت، وتعددت أقوالهم فيه وكثرت، وتنوّعت مسالكهم في الجواب عنها، والبيان عن حِكَم هذا التقديم العجيب، في سورة قد أُحكمت غاية الإحكام.

وأشهر الأقوال في هذه المسألة ستة أقوال:
القول الأول: الحكمة مراعاة فواصل الآيات في السورة، وهذا القول ذكره البيضاوي وجهاً وكذلك النسفي وابن عاشور وغيرهم.
والقول الثاني: أنه لا فرق في المعنى بين تقديم العبادة على الاستعانة والعكس ، وهذا القول قاله ابن جرير قال: (لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه . كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: "قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ " ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي"، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله : اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ)ا.هـ.
وهذا القول فيه نظر.
القول الثالث: أن العبادة أعم من الاستعانة ، لأن الاستعانة نوع من أنواع العبادة فقدم الأعم على الأخص، وهذا القول ذكره البغوي في تفسيره.
القول الرابع: أن العبادة هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، وقال به ابن كثير في تفسيره.
قال ابن تيمية: (قال في الفاتحة: {إياك نعبد وإياك نستعين} فقدَّم قوله: {إياك نعبد} لأنه المقصود لنفسه [تعالى] على قوله: {وإياك نستعين} لأنه وسيلة إلى ذلك، والمقاصد مقدمة في القصد والقول على الوسائل).ا.هـ.
وقال ابن كثير رحمه الله: (وإنما قدم: { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم)ا.ه.
القول الخامس: أنه لبيان أن عبادة العبد لربه لا تكون إلا بإعانة الله تعالى وتوفيقه وهذا مما يستوجب الشكر ويذهب العجب فلذلك ناسب أن يتبع قوله: (إياك نعبد) بـ(إياك نستعين) للاعتراف بفضل الله تعالى في توفيقه للعبادة والإعانة عليها، وهذا القول ذكره البيضاوي وجها، وألمح إليه أبو السعود.
القول السادس: قول ابن عاشور إذ قال في التحرير والتنوير: (ووجه تقديم قوله { إياك نعبد } على قوله : { وإياك نستعين } أن العبادة تَقَرُّبٌ للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل . وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان)ا.هـ.
وفي المسألة أقوال أخرى حتى أوصلها الألوسي في روح المعاني إلى أحد عشر وجهاً، وفي بعضها نظر.
وهذه الأقوال كما ترى مبناها على تلمّس الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إيَّاك نستعين} ، وقد تقرر أنَّ الله تعالى حكيم عليم، وأن الله قد أحكم كتابه غاية الإحكام، وأن القرآن قد بلغ الذروة العليا في الفصاحة وحسن البيان، فلذلك قد يجتمع في المسألة الواحدة من المسائل البيانية حِكَمٌ متعدّدة ويتفاوت العلماء في إدراكها وحسن البيان عنها.
والقاعدة في مثل هذه المسائل أن يُقبل ما يحتمله السياق وترتيب الكلام ومقاصد الآيات وغيرها من الدلالات بشرطين:
أحدهما: أن يكون القول في نفسه صحيحاً.
والثاني: أن يكون لنظم الآية دلالة معتبرة عليه.
ومن أمعن النظر في هذه الأمور وكانت له معرفة حسنة بعلم البيان تبيّنت له حكم متعدّدة في غالب الأمر، بل ربّما ظهر له من الدلائل ما غفل عن ذكره كثيرون، كما فعل ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه "مدارج السالكين" في جوابه على هذا السؤال؛ فقد أحسن بيان جملة من الحكم والأسرار البديعة التي لا تكاد تجدها في كتب التفسير بمثل تنبيهه وبيانه، وقد استفاد أصلها من شيخه ابن تيمية لكنَّه بنى على هذا الأصل من التفصيل والتفريع ما أجاد فيه وأفاد.
فقال رحمه الله: (تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خُلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها.
- ولأن {إياك نعبد} متعلق بألوهيته واسمه "الله"، {وإياك نستعين} متعلق بربوبيته واسمه "الرب" فقدم {إياك نعبد} على {إياك نستعين} كما قدم اسم "الله" على "الرب" في أول السورة.
- ولأن {إياك نعبد} قِسْم "الرب"؛ فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و{إياك نستعين} قِسْم العبد؛ فكان من الشطر الذي له، وهو " {اهدنا الصراط المستقيم} " إلى آخر السورة.
- ولأن "العبادة" المطلقة تتضمن "الاستعانة" من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب.
- ولأن "الاستعانة" جزء من "العبادة" من غير عكس.
- ولأن "الاستعانة" طلب منه، و"العبادة" طلب له.
- ولأن "العبادة" لا تكون إلا من مخلص، و"الاستعانة" تكون من مخلص ومن غير مخلص.
- ولأن "العبادة" حقّه الذي أوجبه عليك، و"الاستعانة" طلب العون على "العبادة"، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.
- ولأن "العبادة" شكر نعمته عليك، والله يحب أن يُشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم، والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه.
- ولأن {إياك نعبد} له، و{إياك نستعين} به، وما له مقدم على ما به، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه، وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته: طاعتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين})ا.هـ.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وجهاً حسناً فقال: (وإتيانه بقوله: {وإياك نستعين} بعد قوله: {إياك نعبد} فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله: {فاعبده وتوكل عليه})). [تفسير سورة الفاتحة:185 - 190]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:48 PM

معنى النون في قوله تعالى: {إياك نعبد}.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى النون في قوله تعالى: {إياك نعبد}.
في هذه المسألة أقوال لأهل العلم:

القول الأول: المراد الإخبار عن جنس العباد والمصلّي فرد منهم، ذكره ابن كثير.
والقول الثاني: إن ذلك ألطف في التواضع من (إياك أعبد) لما في الثاني من تعظيمه نفسه.
والقول الثالث: إنّ ذلك أبلغ في التعظيم والتمجيد، وهو قول ابن القيم رحمه الله؛ قال في بدائع الفوائد: (الإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه: نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك؛ فيكون هذا أحسن وأعظم موقعاً عند الملك من أن يقول: أنا عبدك ومملوكك.
ولهذا لو قال: أنا وحدي مملوكك استدعى مقته؛ فإذا قال: أنا وكلّ من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم؛ لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جداً وأنا واحد منهم، وكلنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك، وطلب الهداية منك؛ فقد تضمَّن ذلك من الثناء على الربّ بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد؛ فتأمله
)ا.هـ.
والقول الرابع: الإتيان بضمير الجمع أغيظ للمشركين، وأبلغ في الثناء على الله، وهو قول ابن عاشور إذا قال في تحريره: (وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارَك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عِزة ومَنَعة ، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضاً بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله).
والقول الخامس: النون للتعظيم الذي يُشعِر به شرفُ العبادة، وهذا القول ذكره الرازي في تفسيره، وفيه نظر.
والأقوال الأربعة الأولى حسنة،ويجمعها أنّ الإتيان بضمير الجمع
يتضمن إقرار القارئ بأنه إنما هو عبد من جملة العباد الذين يعبدون الله وحده ويستعينون به ولا يشركون به، ويضاف إليها بيانُ أن الجملة في {إيَّاك نعبد} خبرية، وفي {إيَّاك نستعين} خبرية متضمّنة معنى الطلب.
فالإتيان بضمير الجمع في مقام الإخبار أبلغ في التعظيم والتمجيد، من (إيَّاك أعبد).
والإتيان بضمير الجمع في مقام الطلب أبلغ في التوسّل، فأضاف إلى التوسّل بالتوحيد التوسّل بكرمه تعالى في إعانة إخوانه المؤمنين؛ كأنّ المعنى (أعنّي كما أعنتهم) فهي في معنى (اهدني فيمن هديت)). [تفسير سورة الفاتحة:190 - 192]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:50 PM

فائدة الإتيان بالفعل المضارع في {نعبد} و{نستعين}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة الإتيان بالفعل المضارع في {نعبد} و{نستعين}
الإتيان بالفعل المضارع هنا لإفادة التجدّد والتكرار؛ فالعبادة والاستعانة من الأعمال التي تتجدد وتتكرر). [تفسير سورة الفاتحة:192]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:52 PM

فائدة تحول الكلام من الغيبة إلى الخطاب.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة تحول الكلام من الغيبة إلى الخطاب.
وهذا ما يُسمّى بالالتفات في علم البلاغة، وله فوائد في تنويع الخطاب، والبيان عن التنقّل بين مقامات الكلام، والتنبيه على نوع جديد من الخطاب يستدعي التفكّر في مناسبته، واسترعاء الانتباه لمقصده.

قال ابن كثير رحمه الله: (وتحوّل الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب له مناسبةٌ، لأنّه لمّا أثنى على اللّه فكأنّه اقترب وحضر بين يدي اللّه تعالى؛ فلهذا قال: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} وفي هذا دليلٌ على أنّ أوّل السّورة خبرٌ من اللّه تعالى بالثّناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك)ا.هـ). [تفسير سورة الفاتحة:192]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 08:55 PM

فائدة تكرر {إياك} في الآية مرتين
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة تكرر {إياك} في الآية مرتين
اجتهد العلماء في التماس الحكمة من تكرّر (إيّاك) في الآية مرتين؛ فقال ابن عطية: (وتكررت {إيّاك} بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام)ا.هـ.
قال ابن القيم: (وفي إعادة " إياك " مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلا: إياك أحب، وإياك أخاف، كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره، ما ليس في قولك: إياك أحب وأخاف)ا.هـ.
وقال ابن كثير: (وكرّر للاهتمام والحصر).

وقد تطرّق بعض المفسّرين إلى مسائل في هذه الآية لم أذكرها اختصاراً، وهي على أنواع:
- فمنها مسائل تتعلّق بالقراءات التي لا يختلف بها المعنى، وعامتها قراءات شاذّة؛ فتركت ذكرها وتفصيل كلامهم فيها اختصاراً.
- ومنها مسائل نحوية وإعرابية وعلل صرفية ليس من مقصدي في هذا التفسير التوسّع فيها، وإنما أذكر من المسائل اللغويّة ومسائل القراءات ما له أثر على المعنى، أو كان لذكره فائدة تتصل ببيان بعض المسائل التي نحتاج إلى ذكرها.
- ومنها مسائل استطرادية في العقيدة والفقه والسلوك، وقد اكتفيت بذكر ما أرى لزوم معرفته لفقه معاني الآيات والاهتداء بهداياتها، وما زاد عن ذلك من التفصيل فيبحث في موضعه). [تفسير سورة الفاتحة:192 - 193]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 09:00 PM

الباب العاشر:تفسير قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}

مقصد الآية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مقصد الآية:
هذه الآية دعاء ومسألة لله تعالى، وهي مقصود العبد بعدما تقدّم من الحمد والثناء والتمجيد لله تعالى، والتوسّل إليه بإخلاص العبادة والاستعانة له، وما يتضمّن هذا الإخلاص من البراءة من الشرك وما يقدح في إخلاص العبادة لله تعالى، والبراءة من الحول والقوّة إلا به تعالى.

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى: (فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
وهذا الدعاء الذي اصطفاه الله تعالى لهذه الأمّة ورضيه لها، وفرضه عليها؛ أعظم الدعاء وأنفعه، وأحبّه إلى الله، وقد وعدها الإجابة عليه؛ فمن أحسن الإتيان بما دلَّ عليه أوّل هذه السورة كان أسعد بإعطاء مسألته، وإجابة دعوته في آخرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}؛ فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب)ا.هـ.
وقال أيضا: (والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم؛ فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين)ا.هـ.
وإذا حصلت الهداية حصل ما يترتب عليها من النصر والرزق والتوفيق وأنواع الفضائل والبركات، وما تطلبه النفس من أحوال السعادة، ومن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة). [تفسير سورة الفاتحة:195 - 196]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 09:03 PM

بيان مراتب الهداية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان مراتب الهداية:
الهداية على مرتبتين:

المرتبة الأولى: هداية الدلالة والإرشاد، وهي هداية علمية، ثمرتها: العلم بالحقّ، والبصيرة في الدين.
والمرتبة الثانية: هداية التوفيق والإلهام، وهي هداية عملية، ثمرتها: إرادة الحقّ والعمل به.
ولا تتحقّق الهداية إلا بالجمع بين المعنيين؛ وهو مقتضى الجمع بين العلم والعمل.
ولذلك فإن من لم يعرف الحقّ لا يهتدي إليه، ومن عرفه لكن لم تكن في قلبه إرادة صحيحة له فهو غير مهتدٍ.
ويطلق لفظ "الهدى" وما تصرّف منه في النصوص مراداً به المعنى الأول تارة كما في قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى} وقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}.وقوله: {وأهديك إلى ربّك فتخشى}.
ويأتي تارة مراداً به المعنى الثاني كما في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء} وقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} أي بعملهم الصالح وسيرتهم الحسنة.
ويأتي تارة بما يحتملهما كما في هذا الموضع، وقوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
ويطلق لفظ الهدى على معانٍ أخر كما في قوله تعالى: {الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى} المراد به الإلهام الفطري لكلّ الكائنات بما تقوم به مصالحها، وهذا من دلائل ربوبيّته تعالى). [تفسير سورة الفاتحة:196 - 197]


جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 09:05 PM

درجات المهتدين:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (درجات المهتدين:
والمهتدون على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: الذين تحقق لهم أصل الهداية، وهم الذين هداهم الله لأصل الإسلام اعتقاداً وقولاً وعملاً، فأدّوا ما صحّ به إسلامهم، واجتنبوا نواقض الإسلام، مع اقترافهم لبعض الكبائر وتفريطهم في بعض الواجبات؛ فأصحاب هذه الدرجة مسلمون، لهم نصيب من الهداية بحسب ما معهم من الإيمان علماً وعملاً، لكنَّهم ظالمون لأنفسهم بسبب ما ارتكبوا من المعاصي.
وهؤلاء وإن كانوا موعودين بدخول الجنّة إلا أنّهم مستحقون للعقاب والعذاب الأليم على بعض ما اقترفوا من المحرّمات وما فرّطوا فيه من الواجبات؛ فمنهم من يُعذّب في الدنيا بأنواع من العذاب، ومنهم من يعذّب في قبره، ومنهم من يعذّب في عرصات يوم القيامة، حتى يكون منهم من يعذّب في النار حتى يُطهّر من ذنوبه فلا يدخل الجنّة إلا وهو طيّب قد ذهب عنه خَبَثُه، ويعفو الله عمن يشاء.
والدرجة الثانية: المتقّون، وهم الذين هداهم الله لفعل الواجبات وترك المحرمات؛ فنجوا بذلك من العذاب، وفازوا بكريم الثواب.
والدرجة الثالثة: المحسنون، وهم أكمل الناس هداية، وأحسنهم عملاً، وهم الذين هداهم الله لأن يعبدوه كأنّهم يرونه، فاجتهدوا في إحسان أداء الواجبات، والكفّ عن المحرّمات، وأحسنوا التقرّب إلى الله تعالى بالنوافل حتى أحبّهم.
وأصحاب كلّ درجة يتفاضلون فيها تفاضلاً كبيراً لا يحصيه إلا من خلقهم.
وقد جمع الله هذه الأصناف الثلاثة في قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}.
فالظالمون لأنفسهم من الذين اصطفاهم الله هم أصحاب الكبائر من المسلمين؛ اصطفاهم الله على غيرهم من الكفار والمنافقين، وهم على ظلمهم لأنفسهم موعودون بدخول الجنّة لصحّة إسلامهم لكنّهم على خطر من العقوبة على بعض ذنوبهم.
والمقتصدون هم المتقون.
والسابقون بالخيرات هم المحسنون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنّه وكرمه، وأن يهدينا لما هداهم إليه). [تفسير سورة الفاتحة:197 - 199]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 09:08 PM

معنى {اهدنا}:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى {اهدنا}:
{اهدنا}:
أي أرشدنا ووفقنا لاتّباع هداك؛ فسؤال الهداية هنا يتضمَّن سؤال هداية الدلالة والإرشاد، وسؤال هداية التوفيق والإلهام.

1. فبهداية الدلالة والإرشاد يُبصر المرءُ الحقّ ويتبيّن حقيقته وعلاماته، ويبصر الباطل ويتبيّن حقيقتَه وعلاماته؛ فيميّز الحقَّ من الباطل، والهدى من الضلال، والطيّب من الخبيث، وما يقرّب إلى الله مما يباعد منه.
وهذه الهداية يتفاضل فيها المهتدون تفاضلاً كبيراً:
أ: فمنهم من يزيده الله هدى وبصيرة حتى يكون من الموقنين أولى البصائر والألباب، ويجعل الله له نوراً يمشي به، وفرقانا يفرق له بين الحقّ والباطل؛ كما قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
وهذه البصيرة التي أنزلها الله تعالى في هذه الآية هي من الهداية التي يهدي بها من يشاء من عباده؛ وهي دالة على أن المؤمن كلما كان أقوى إيماناً وأتقى لله تعالى كان نصيبه من هذا الفرقان أعظم، وكلما ضعف إيمانه ونقص تقواه ضعفت بصيرته.
ب: ومنهم من يكون له أصل الهداية التي يميّز بها الكفر من الإسلام، ويعرف بها كثيراً من حدود الله تعالى كفرائض الدين وكبائر الذنوب، لكن يكون في بصيرته ضعفٌ عن معرفة إدراك كثير من شعائر الإسلام، ومقاصد الدين؛ فيكون له نصيب من هذه الهداية بقدر ما معه من الفقه في الدين.
2. وبهداية التوفيق والإلهام يٌوفَّق المرء لاتّباع هدى الله تعالى، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وتصديق خبره، فيحبِّب الله إليه الإيمانَ والعمل الصالحَ ويزيّنه في قلبه، ويعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، فيكون مهتدياً حقاً.
وهذه الهداية هي أصل الفلاح والفوز، وهي لا تتحقق للعبد إلا بتحقّق المرتبة التي قبلها؛ فيكون جامعاً بين العلم النافع والعمل الصالح). [تفسير سورة الفاتحة:199 - 200]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 09:10 PM

مقاصد المهتدين من سؤال الهداية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مقاصد المهتدين من سؤال الهداية:
إذا تبيّن ما تقدّم من معنى سؤال الهداية، ومعرفة مراتبها، ودرجات المهتدين فيها؛ فاعلم أنّ لكل داعٍ بالهداية مقصدٌ من دعائه؛ والله تعالى يعطي كلَّ سائل ما أراده بسؤاله.

فأهل الإحسان مقصدهم جمع مراتب الهداية وبلوغ أعلى درجاتها؛ ويشهدون شدّة حاجتهم إلى أن يُبصرّهم الله بالحقّ في جميع شؤونهم، وأن يجعلهم مريدين لاتّباع هداه، وأن يوفّقهم ويعينهم على ذلك.
ومَن دونهم كلٌّ بحسب مقصده وعزيمته وصدق إرادته، حتى يكون منهم من يذكر الدعاء وهو لا يدري ما يقول.
وقد رُوي من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله لا يستجيب لعبد دَعَاه عن ظهر قلب غافل )).
ورواه ابن المبارك من حديث صفوان بن سليم مرسلاً.
والحديث حسَّنه بعض أهل العلم لتعدد مخارجه، وإن كانت أسانيده لا تخلو من ضعف.
ويشهد له ما في سنن أبي داوود والسنن الكبرى للنسائي من حديث سعيد المقبري، عن عمر بن الحكم، عن عبد الله بن عنمة، أن عمار بن ياسر قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، خمسها ربعها ثلثها نصفها».
ورواه الإمام أحمد من طريق سعيد المقبري عن عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، أن عمارا صلى ركعتين، فقال له عبد الرحمن بن الحارث: يا أبا اليقظان، لا أراك إلا قد خففتهما.
قال: هل نقصت من حدودها شيئا؟
قال: لا، ولكن خففتهما.
قال: إني بادرت بهما السهو، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليصلي، ولعله أن لا يكون له من صلاته إلا عشرها، وتسعها، أو ثمنها، أو سبعها» حتى انتهى إلى آخر العدد.
وقال سفيان الثوري: «يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها» رواه أبو نعيم في الحلية.
وأما ما اشتهر على ألسنة بعض الوعاظ والعلماء من رفع حديث: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها). فلا أصل له بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قريب منه، ولعله مما فُهِم بالمعنى فاشتهر لفظه خطأ.
وقد نسبه ابن تيمية في مواضع من كتبه إلى ابن عباس موقوفاً عليه، ولم أقف على إسناده، ومعناه يدلّ عليه حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، وعمل بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال أبو رجاء العطاردي: قلت للزبير بن العوام رضي الله عنه: ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟
فقال: (نبادر الوسواس). رواه الطحاوي شرح مشكل الآثار، وأبو القاسم البغوي في معجم الصحابة.
وفي رواية عند أبي نعيم في الحلية أنه قال: (ولكنكم أهل العراق يطيل أحدكم الصلاة حتى يغيب في صلاته)). [تفسير سورة الفاتحة:200 - 202]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 09:13 PM

اختلاف أحوال السائلين للهداية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (اختلاف أحوال السائلين للهداية
مما ينبغي التفطّن له ومعرفة أثره العظيم: اختلاف أحوال السائلين عند سؤالهم الهداية، فلا يستوي سؤال أهل الإحسان في دعائهم وسؤال المقصّرين فيه.

وقد دلّت الأدلّة الصحيحة على أنّ الله تعالى ينظر إلى قلوب عباده، وأنّ لما ينبعث منها من أعمال له شأنه واعتباره العظيم عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)}
وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
وقال تعالى: { إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}
وقال تعالى في شأن المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم في صحيحه، وأحمد وابن حبان وغيرهم من طريق جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إذا تبيَّن ذلك؛ فما يقوم بقلب العبد عند الدعاء من شهود الاضطرار إلى هداية الله، والإنابة إليه تعالى وخشيته، وما يصحب ذلك من الخوف والرجاء، والصدق والإخلاص، والتوكّل على الله، وحسن الظنّ به؛ كلّ ذلك من الأعمال القلبية العظيمة التي إذا صاحبت الدعاء كان الداعي أسعد بالإجابة والإثابة.
وقد قال الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
فهاتان الآيتان تدلان دلالة بيّنة على أنَّ من كان هذا حاله في دعائه فهو من أهل الإحسان، وأنَّ رحمة الله قريب منه.
ومن كان في دعائه شيء من التقصير والتفريط والإساءة كان حظّه من دعائه بقدر ما أحسن فيه.
ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن اشتدّ حرصه على رضوان الله تعالى وكرمه وثوابه ودخول جنَّته والفوز بشرف رؤيته تعالى كان خوفه مما يحول بينه وبين ذلك أعظم.
ولذلك فإنَّ أهل الإحسان أشدّ الناس حرصاً على الهداية وبصيرة بعظم الحاجة إليها في جميع شؤونهم لما يبصرونه من كثرة الفتن والابتلاءات، وما يعتبرون به من أنواع العقوبات التي حلّت بالمسيئين؛ فأورثهم هذا الفقه من المعارف الجليلة والبصائر النافعة والأعمال التعبّدية ما طهرت به قلوبهم، وزكت به نفوسهم، وخشعوا به لربّهم جلّ وعلا في صلاتهم؛ فكان من ثوابهم تحقّق فلاحهم كما قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون ...} الآيات). [تفسير سورة الفاتحة:203 - 205]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:02 PM

تلخيص أوجه تفاضل السائلين في سؤال الهداية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تلخيص أوجه تفاضل السائلين في سؤال الهداية:
الذين يسألون الله تعالى الهداية ليسوا سواءً في هذا السؤال العظيم، بل يتفاضلون فيه من وجوه:

أحدها: حضور القلب عند الدعاء؛ فليس دعاء الغافل اللاهي كدعاء المدرك الواعي.
والوجه الثاني: الإحسان في الدعاء؛ فليس من يدعو الله تعالى بتضرّعٍ وتقرّبٍ خوفاً وطمعاً؛ ويشهد اضطراره لإجابة الله دعاءه كمن هو دون ذلك.
فمن كان من أهل الإحسان في الدعاء كان نصيبه من الإجابة أعظم وأكمل، ومن كان دونه كان نصيبه بقدره، وقد جعل الله لكلّ شيء قدراً.
والوجه الثالث: مقاصد الداعي من سؤال الهداية، فإنما الأعمال بالنيات، ولكلّ امرئ ما نوى، والله يعلم قصد كلّ سائل من سؤاله، ولذلك فإنَّ الأكمل للإنسان أن يقصد بسؤاله الهداية التامة التي يبصر بها الحقّ، ويتّبع بها الهدى، وأن يهديه بما هدى به عباده المحسنين). [تفسير سورة الفاتحة:205]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:04 PM

الهداية منّة من الله تعالى:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الهداية منّة من الله تعالى:
الهداية للحقّ منَّةٌ من الله تعالى، لا تكون إلا به، وكلّ الناس ضالّون إلا من هداهم الله، كما في الحديث القدسي الجليل الذي رواه مسلم من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه جلّ وعلا أنه قال: [ يا عبادي كلّكم ضالّ إلا من هديتُه فاستهدوني أهدكم ]

والناس لا يهتدون إلى شيء ينفعهم في دينهم ودنياهم إجمالاً وتفصيلاً إلا بالله تعالى.
وقد جَعَل الله تعالى الهداية للحق علامة بيّنة على استحقاقه للعبادة، وبطلان عبادة ما سواه؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}.
وقال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}
وقال تعالى: {والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل} والضمير {هو} هنا لإفادة الحصر، أي هو وحده الذي يهدي السبيل.
وقال تعالى: { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، كلّها تبيّن أنَّ الله تعالى هو الذي يمنّ بالهداية على من يشاء من عباده، وأنَّ الله يحول بين المرء وقلبه؛ فإن شاء أن يقيم قلبه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه.
ولذلك كان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بتثبيت قلبه؛ كما في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ))
فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟
قال: (( نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)).

وقد روي نحو هذا الحديث عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشهود هذه الحقيقة يدفع عن العبد طغيان الشعور بالاستغناء عن طلب الهداية الذي هو من أعظم أسباب الحرمان). [تفسير سورة الفاتحة:206 - 207]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:07 PM

الحكمة من سؤال المسلم الهداية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الحكمة من سؤال المسلم الهداية:
اشتهر في كتب التفسير وغيرها السؤال عن الحكمة من سؤال المسلم الهداية إلى الصراط المستقيم وقد هداه الله إلى الإسلام، وكذلك الحكمة من تكرار هذا الدعاء في كلِّ ركعة، ولم أقف على ذكر أوّل من أثار هذا السؤال، والذي يظهر أنّ هذه المسألة لم تكن مشكلة عند السلف حتى يُسأل عنها، وإنما نشأ السؤال بعدهم،
وللمفسّرين كلام مشتهر في الجواب على هذا السؤال الكبير، وما تقدّم شرحُه من المسائل كافٍ بإذن الله تعالى في إيضاح الجواب، لكن تلخيص أقوال أهل العلم فيما أجابوا به على هذا السؤال نافع بإذن الله تعالى.
فذهب ابن جرير وأبو إسحاق الزجاج وأبو جعفر النحاس وجماعة من اللغويين إلى أنّ المعنى: ثبّتنا على الهدى.
قال الزجاج: (ومعنى {اهدنا} وهم مهتدون: ثبّتنا على الهدى، كما تقول للرجل القائم: قم لي حتى أعود إليك. تعني: اثبُتْ لي على ما أنت عليه)ا.ه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية أطال بحث هذه المسألة في مواضع من كتبه، وله عناية بالجواب على هذا السؤال لاتّصاله بالردّ على بعض أهل الأهواء الذين أساؤوا فهم هذه المسألة.
ومما قاله في ذلك: (وهذا كما يقول بعضهم في قوله {اهدنا الصراط المستقيم} فيقولون: المؤمن قد هُدي إلى الصراط المستقيم؛ فأي فائدة في طلب الهدى؟
ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك.
- أو يقول بعضهم: أَلْزِم قلوبنا الهدى؛ فحذف الملزوم.
- ويقول بعضهم: زدني هدى.
وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يَطْلُب العبدُ الهداية إليه؛ فإنَّ المراد به العمل بما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور.
والإنسان وإن كان أقرَّ بأن محمداً رسول الله، وأن القرآن حقٌّ على سبيل الإجمال؛ فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفْه، وما عرفه فكثير منه لم يعمله، ولو قدر أنه بلغه كلُّ أمرٍ ونهيٍ في القرآن والسنة؛ فالقرآن والسنة إنما تُذكر فيهما الأمور العامة الكلية لا يمكن غير ذلك، لا يذكر مايخصّ به كل عبد.

ولهذا أُمِرَ الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم، والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله:
- يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلاً.
- ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات.
- ويتناول إلهام العمل بعلمه؛ فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه.
ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية أوَّلَ سورة الفتح {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} وقال في حق موسى وهارون {وآتيناهما الكتاب المستبين . وهديناهما الصراط المستقيم}).ا.هـ.
وله في مواضع أخرى من كتبه كلام حسنٌ في الجواب على هذا السؤال، ولتلميذه ابن القيّم رحمه الله عناية أيضاً بالجواب على هذا السؤال.

وتلخيص الجواب على هذا السؤال: أن دخول المسلم في الإسلام هو أصل الهداية؛ لكنّه يحتاج إلى هدايات كثيرة متنوّعة ومتجددة، وبيان ذلك من وجوه:
1. أن الهداية قائمة على العلم والعمل، وهما يتفاضلان؛ فيحتاج المؤمن إلى البصيرة في الدين، وإلى الإعانة على الطاعة، والعصمة من الضلالة في كلّ أمرٍ من أموره.
2. أنّ الهداية الإجمالية لا تغني عن الهداية التفصيلية.
3. أن القلب يتقلّب، وحاجة المرء إلى سؤال الله تعالى التثبيت والهداية دائمة متجددة.
4. أن الفتن التي تعترض المؤمن في يومه وليلته كثيرة متنوّعة ومن لم يهده الله ضلّ بها، وكم أصابت الإنسان المقصّر من فتنة تضرر بها وبعقوباتها ولو أنَّه أحسن الاستعاذة بالله منها وسؤاله الهداية لَسَلِم من شرّ كثير.
5. أنّ لكل عبد حاجات خاصّة للهداية، بما يناسب حاله، فهو محتاج إلى أن يمدّه الله بتلك الهدايات، وإن لم يهده الله لم يهتد). [تفسير سورة الفاتحة:207 - 210]


جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:09 PM

معنى ضمير الجمع في قوله: {اهدنا}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى ضمير الجمع في قوله: {اهدنا}
لا خلاف في أنّ المنفرد يدعو بهذا الدعاء كما أنزله الله تعالى بصيغة الجمع {اهدنا} ، وأن هذا الدعاء وإن كان من المنفرد فهو دعاء صحيح، قد وعد الله عبده الإجابة عليه، كما في الحديث القدسي المتقدّم ذكره: (فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).

ولمّا أثير السؤال عن الحكمة من الإتيان بضمير الجمع في قوله: {اهدنا} مع أنَّ الداعي قد يكون منفرداً، اختلف العلماء في جوابه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لأنَّ كلَّ عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلاً لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه، وهذا القول حكاه ابن القيّم في بدائع الفوائد عمّن لم يسمّه ثم قال: (عرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية فاستضعفه جداً، وهو كما قال؛ فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه، والقائل إذا قال: "اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني" سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهرِه وباطنِه؛ فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظة)ا.هـ.
فهذا القول ضعيف، وإنما ذكرته ليعلم.
والقول الثاني: ليتضمّن دعاؤه الدعاء لإخوانه المسلمين بالهداية؛ فيكون له أجر بالدعاء لنفسه ولإخوانه، وليحظى بدعوة الملَك له بمثل ما دعا لإخوانه، وهذا القول ذكر معناه ابن كثير في تفسيره.
قال: (ثمّ يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: {اهدنا} لأنّه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة)ا.هـ.
وهذا القول وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه لا يستقلّ بالجواب.
والقول الثالث: الجمعُ هنا نظير الجمع في قوله تعالى: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}، ومطابق لهما، وهذا جواب ابن القيّم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد، وقد أحسن فيه وأجاد.
فقال: (الصواب أن يقال هذا مطابق لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته؛ فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه: نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعاً عند الملك من أن يقول أنا عبدك ومملوكك، ولهذا لو قال: أنا وحدي مملوكك استدعى مقته؛ فإذا قال: أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم؛ لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثيرٌ جداً، وأنا واحدٌ منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم)ا.هـ). [تفسير سورة الفاتحة:210 - 212]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:10 PM

الحكمة من تعدية فعل الهداية بنفسه في هذه الآية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الحكمة من تعدية فعل الهداية بنفسه في هذه الآية
تعدية فعل الهداية في القرآن له أنواع:

- فيأتي معدّى بإلى كما في قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقوله: {وهديناهم إلى صراط مستقيم} وقوله: {واهدنا إلى سواء الصراط}.
- ويأتي معدّى باللام كما في قوله تعالى: {قل الله يهدي للحقّ} وقوله: {وقالوا الحمد الله الذي هدانا لهذا}، وقوله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}
- ويأتي معدّى بنفسه كما في هذه الآية {اهدنا الصراط المستقيم} وقوله: {وهديناهما الصراط المستقيم}.
وقد اختلف العلماء في دلائل هذا التنويع في تعدية الفعل، وهذه المسألة من دقائق مسائل التفسير البياني، وكثير من العلماء يتجوّزون في التعبير عن الجواب؛ لأنَّ غاية المفسّر تقريب المعنى، وهذا يتأدّى بأيّ عبارة مقاربة تحصل بها الإفادة.
والقاعدة في مثل هذه المسائل مراعاة معاني الحروف، وما يحتمله السياقُ من المعاني المضمَّنة بالتعدية، وما يناسب مقاصد الآيات، وهذا يختلف من موضع لآخر.
ففي قوله تعالى: {وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم} تضمّن فعل الهداية معنى الدعوة أي تهديهم وتدعوهم إلى صراط مستقيم؛ ففيه بيان أنّك على الهداية وأنّك مع اهتدائك تدعوهم إلى صراط مستقيم دعوة حقّ أنت مهتدٍ فيها؛ فكان لتعدية فعل الهدى بإلى في هذا الموضع أربع فوائد ظاهرة:
الأولى: الحكم بأنّك على الهدى.
والثانية: الحكم بأنّ دعوتك دعوة هداية.
والثالثة: الإفادة بأنك تدعوهم إلى صراط مستقيم لا إلى غيره.
والرابعة: اختصار اللفظ وحسن سبكه.
وأما في قوله تعالى عن أنبيائه صلى الله عليهم وسلم، { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} فيضمّن الفعل ما يناسب السياق من معنى الإيصال والأخذ بأيديهم إلى ما تقرّ به أعينهم من المراتب العالية في الهداية.
فليس كلّ تعدية بحرف يكون المعنى جامداً عليها؛ إذ لا بدّ من مراعاة السياق.
وأما تعدية فعل الهداية باللام فهو لتحقيق ثمرة الهداية وبيان اختصاصها بالمهتدي، فقوله تعالى عن أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}
فالمشار إليه ما هم فيه من النعيم الذي هو من ثمرات هدايتهم.
وقوله: {قل الله يهدي للحق} أي يهدي من استهداه حتى يكون على الحقّ، ولو قال: يهدي إلى الحق، لكان المعنى محتمل الاختصاص بهداية الدلالة والبيان، لكن المراد هنا تحقيق ثمرة الهداية وأن الله {يهدي للحق} أي يهيّئ لعبده ما يتحقّق به أنّه على الهدى.
وأنت إذا عرض لك عارضٌ ثمَّ اتّبعت هدى الله فحصلت لك الطمأنينة وفرّج الله عنك كربك ووجدت ثمرة اتّباعك للهدى من السكينة والطمأنينة وانشراح الصدر قلتَ: الحمد لله الذي هداني لهذا، أي هيأ لي هذا الذي أنعم به، واختصّني به.
وكذلك قول الله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} أي يتحقّق لمن اتّبع هداه أقوم الأمور في كلّ شيء من شؤونه؛ وهذه الثمرة تتفاضل بتفاضل اتّباع الهدى؛ فمن كان أحسن اتّباعاً لهدى القرآن كان نصيبه من ثمرة الهداية أعظم.
وأمَّا قوله تعالى هنا : {اهدنا الصراط المستقيم} فهو معنى جامع لكل ما تقدّم من البيان والدلالة والإلهام والتوفيق والتهيئة.
قال ابن القيّم رحمه الله: (فالقائل إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو طالبٌ من الله أن يُعرِّفَه إيَّاه ويبّينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه؛ فيجعل في قلبه علمَه وإرادتَه والقدرةَ عليه؛ فجَرَّدَ الفعلَ من الحرف، وأتى به مجرَّدا معدىً بنفسه ليتضمَّن هذه المراتب كلَّها، ولو عُدِّيَ بحرفٍ تعيَّن معناه وتخصَّص بحسب معنى الحرف؛ فتأمَّله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها)ا.هـ). [تفسير سورة الفاتحة:212 - 215]


جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:13 PM

معنى الصراط لغة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى الصراط لغة:
الصراط في لغة العرب:
الطريق الواضح الواسع السهل المستقيم الموصل للمطلوب.

قال ابن جرير: ( أجمعت الحجة من أهل التّأويل جميعًا على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الواضح الّذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب؛ فمن ذلك قول جرير بن عطيّة بن الخطفى: أمير المؤمنين على صراطٍ.......إذا اعوجّ الموارد مستقيم)ا.هـ.
وأصل الصاد في الصراط منقلبة عن السين، وفي قراءة ابن كثير المكّي (السِّراط) بالسين، وفي قراءةٍ لأبي عمرو (الزِّرَاط) بالزّاي الخالصة، ومن القُرّاء من يشمّ الزاي بالصاد.
قال ابن الجزري: (ووجه ذلك أن حروف الصفير يبدل بعضها من بعض).
وكلّها متفقة في المعنى، وإنما اختلف النطق بها لاختلاف لغات العرب، وقد رُسمت في المصحف صاداً على خلاف الأصل لتحتمل هذه الأوجه كلها.
والمقصود أنَّ الأصل هو السين، وقد نَقَل أبو منصور الأزهري عن بعض أهل اللغة أنَّ السِّرَاط إنما سُمّي سِراطاً؛ لأنه يسترط المارّة، أي يسعهم.
ومن أمثال العرب: لا تكن حلواً فتُسترَط أي: تُبتَلع.
وقال ابن القيّم رحمه الله: (الصراط ما جمع خمسة أوصاف: أن يكون طريقاً مستقيماً سهلاً مسلوكاً واسعاً موصلاً إلى المقصود؛ فلا تسمّي العربُ الطريقَ المعوجَّ صراطاً ولا الصعب المُشِقّ ولا المسدودَ غير الموصول).
قال: (وبنوا "الصراط" على زِنَةِ فِعَال لأنَّه مُشْتَمِلٌ على سالكِهِ اشتمالَ الحلقِ على الشيءِ المسرُوط)ا.هـ.
والمقصود أنَّ اختيار لفظ "الصراط" على غيره من الألفاظ كالطريق والسبيل والمنهج وغيرها له حِكَمٌ ودلائل). [تفسير سورة الفاتحة:215 - 216]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:14 PM

المراد بالصراط المستقيم:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بالصراط المستقيم:
لا ريب أنَّ المراد بالصراط المستقيم ما فسّره الله به في الآية التي تليها بقوله: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}

وهو وصف جامع مانع لما يوصل إلى رضوان الله وجنّته، وينجّي من سخط الله وعقوبته.
ولذلك سُمّي صراطاً لوضوحه واستقامته ويسره وسعته، فإنّ الله تعالى قد يسّر الدين ووسّع على عباده فلم يجعل عليهم فيه من حرج، وجعله شريعته سمحة بيّنة مستقيمة لا اعوجاج فيها، ولا تناقض ولا اختلاف؛ فمن أطاع الله ورسوله فقد اتّبع الهدى وسلك الصراط المستقيم؛ فهو صراط يُسار فيه بالإيمان والأعمال الصالحة؛ وكلما عمل العبد حسنة ازداد بها قرباً إلى الله تعالى واستقامة على صراطه.
وهذا الصراط له (سَواءٌ) هو أوسطه وأعدله، قال الله تعالى: {واهدنا إلى سواء الصراط} أي أعدله وأوسطه، وللصراط مراتب يتفاضل فيها السالكون، وله حدود من خرج عنها انحرف عن الصراط المستقيم وسلك سبيلاً من السبل المعوجة عن يمينه أو شماله يضلّ بها عن الصراط المستقيم وتفضي به إلى النار والعياذ بالله.
ومن كان انحرافه بقدْرٍ لا يخرجه عن حدود هذا الصراط، وإنما يصرفه عن مراتبه العليا فهو في المرتبة التي ارتضاها لنفسه في سلوك هذا الصراط.
وبهذا يتبيّن أنَّ السالكين للصراط المستقيم يتفاضلون في سلوكهم تفاضلاً كبيراً من أوجه متعددة؛ فيتفاضلون في مراتب السلوك، وفي الاستباق في هذا السلوك، وفي الاحتراز من العوارض التي تعرض لهم عند سلوكهم.
وعلم السلوك مبناه على فقه هذه المسائل الكبيرة). [تفسير سورة الفاتحة:217 - 218]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:17 PM

تنوّع عبارات السلف في المراد بالصراط المستقيم:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنوّع عبارات السلف في المراد بالصراط المستقيم:
تنوعت عبارات السلف في التعريف بالصراط المستقيم بعبارات لا اختلاف في مدلولها، وإن اختلفت مسالكهم في الدلالة على هذا الصراط، والمحفوظ عن الصحابة والتابعين في هذه المسألة خمسة أقوال:

القول الأول: دين الإسلام، وهو قول جابر بن عبد الله، ورواية الضحاك عن ابن عباس، وهو قول محمّد بن الحنفية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورواية عن أبي العالية الرياحي، وهو قول جمهور المفسّرين.
وهذا القول هو أشهر الأقوال وأصلها، والإسلام إذا أطلق شمل مراتب الدين كلها؛ فكلّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من شريعة الإسلام، وكل عبادة صحيحة يتقرّب بها العبد إلى الله تعالى فهي من اتّباع دين الإسلام، ومن سلوك الصراط المستقيم.
واستدلّ بعض المفسّرين لهذا القول بحديث النوَّاس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم)). رواه أحمد وابن نصر المروزي وابن أبي عاصم والطحاوي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم من طريق معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الأنصاري مرفوعاً، ولهذا الحديث طرق أخرى بألفاظ مقاربة.
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم مختصراً.
والشاهد فيه قوله: (والصراط الإسلام). وهذا اللفظ تفرّد بروايته معاوية بن صالح الليثي.
- وروى الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: « {الصراط المستقيم} هو الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض» رواه الحاكم وصححه
، ورواه ابن جرير في تفسيره من طريق علي والحسن ابنا صالح.
- وقال عاصم الأحول: قال أبو العالية: «تعلَّموا الإسلام؛ فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الصراط شمالا ولا يمينا». رواه عبد الرزاق في مصنّفه وابن نصر المروزي في السنة، وابن وضاح في البدع، والآجرّي في الشريعة.
والقول الثاني: هو كتاب الله تعالى، وهو رواية صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
- روى منصور بن المعتمر عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن هذا الصراط محتضَرٌ تحضره الشياطين يقولون: يا عباد الله هذا الطريق فاعتصموا بحبل الله فإنَّ الصراط المستقيم كتاب الله). رواه الطبراني في الكبير، وابن نصر المروزي في السنة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
واستدلّ بعض المفسّرين لهذا القول بما رواه الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث وصف القرآن المشهور وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم). رواه ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي وغيرهم من طريق أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن عليّ مرفوعا، ورواه الدارمي أيضاً من طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن الحارث به، والحارث هو الأعور الهمداني متروك الحديث، وكان من كبار أصحاب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنَّه تغيّر بعده، وأحدث ما أحدث فترك أهل العلم حديثه، ومنهم من انتقى بعض حديثه مما لا نكارة فيه؛ كهذا الحديث ونحوه.
وهذا القول صحيح في نفسه باعتبار أنَّ من اتّبع القرآن فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم.
والقول الثالث: هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا القول رواية عن ابن مسعود.
روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: «الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان، ولفظه: (الصراط المستقيم تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرفه، والطرف الآخر الجنة).
- وروى ابن وهب في جامعه من طريق أبان بن أبي عياش عن مسلم ابن أبي عمران، عن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أنه أتى ابنَ مسعود عشيةً خميس وهو يذكّر أصحابه، قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن، ما الصراط المستقيم؟
قال: يا ابن أخي، تركَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادٌّ، وعن شماله جوادٌّ، وعلى كلِّ جوادٍّ رجالٌ يدعون كلَّ من مرَّ بهم: هَلُمَّ لك، هَلُمَّ لك، فمن أخذ معهم وردوا به النار، ومن لزم الطريق الأعظم وردوا به الجنة).
وأبان ضعيف الحديث، لكن يشهد له ما قبله.
والقول الرابع: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية عن أبي العالية الرياحي والحسن البصري.
- عن عاصم الأحول، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى {الصراط المستقيم} قال: «هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه» قال: فذكرنا ذلك للحسن فقال: «صدق والله ونصح، والله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما». رواه الحاكم موقوفاً على ابن عباس وصححه، ورواه محمد بن نصر المروزي في السنة مقطوعاً على أبي العالية.
وهذا القول له سبب، وإنما قاله ابن عباس وأبو العالية الرياحي بعد مقتل عثمان وظهور الفرق؛ فأرادا أن يبيّنا للناس أن الصراط المستقيم ما كانت الأمة مجتمعة عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وعهد أبي بكر وعمر ليحذّرا بذلك مما أُحدثَ بعده؛ فإنَّ كلّ تلك الفرق كانت تنتسب إلى الإسلام.
قال عاصم الأحول: قال لنا أبو العالية: (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الصراط يمينا وشمالا، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم والذي كانوا عليه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ويفعلوا الذي فعلوا، فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا بخمس عشرة سنة، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء).
قال: فأخبرت به الحسن فقال: (صدق ونصح).
قال: وحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت لي: بأهلي أنت هل حدثت بهذا محمدا؟ قلت: لا، قالت: فحدّثه إياه) رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة.
ولهذا اشتهر هذا القول عن أبي العالية مع تصريحه بأنّ الصراط المستقيم هو الإسلام.
القول الخامس: هو الحقّ ، وهو قول مجاهد بن جبر رواه ابن أبي حاتم.
وهذا القول حقيقته بيان وصف هذا الصراط المستقيم بأنَّه الحقّ، لأنّ كلَّ ما اتّبع سواه فهو باطل.
فهذه الأقوال الخمسة هي المأثورة عن الصحابة والتابعين في بيان المراد بالصراط المستقيم.
قال ابن كثير: (وكلّ هذه الأقوال صحيحةٌ، وهي متلازمةٌ، فإنّ من اتّبع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، واقتدى باللّذين من بعده أبي بكرٍ وعمر، فقد اتّبع الحقّ، ومن اتّبع الحقّ فقد اتّبع الإسلام، ومن اتّبع الإسلام فقد اتّبع القرآن، وهو كتاب اللّه وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحةٌ يصدّق بعضها بعضًا، وللّه الحمد)ا.هـ.
ومما ينبغي التنبّه له أن بعض هذه الأقوال تجوّز في اختصارها وروايتها بالمعنى بعض المفسّرين؛ حتى زعم بعضهم أن الصراط المستقيم هو حبّ أبي بكر وعمر، وهذا نقل مخلّ، وإن كان حبّ الشيخين من الدين، لكن الأمانة في نقل الأقوال تقتضي الإتيان بنصّها أو التعبير عنها بما لا يخلّ بالمعنى.
ولذلك ينبغي لطالب علم التفسير إذا تجاوز مرحلة المتوسّطين فيه أن لا يكتفي بما يُنقل من أقوال السلف في التفاسير المتأخرّة، بل ينبغي له أن يرجع إلى المصادر الأصلية، فيأخذ عباراتهم بنصّها، ويميّز ما يصحّ مما لا يصحّ؛ فتندفع عنه بذلك إشكالات كثيرة سببها النقل المخلّ، وحذف الأسانيد، والتوسّع في استخراج الروايات). [تفسير سورة الفاتحة:213 - 223]

جمهرة التفاسير 1 صفر 1439هـ/21-10-2017م 11:19 PM

معنى التعريف في الصراط المستقيم:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى التعريف في الصراط المستقيم:
التعريف في الصراط للعهد الذهني الذي يفيد الحصر؛ فهو صراط واحد لا غير.

والتعريف هنا مع إفادته الحصر يفيد معنى التشريف والتفضيل والكمال، وهذا كما تقول للطبيب: أعطني الدواء الناجع؛ فهو أبلغ من قولك: أعطني دواءً ناجعاً.
فالأول يفيد أنك تطلب منه أفضل ما لديه، وهو الدواء الذي يكون أحقّ بالتعريف مما دونه من الأدوية). [تفسير سورة الفاتحة:223 - 224]



الساعة الآن 11:41 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة