جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة التفاسير (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=660)
-   -   مسائل كتاب طرق التفسير (http://jamharah.net/showthread.php?t=26476)

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:39 AM

نشأة علم الاشتقاق:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نشأة علم الاشتقاق:
علم الاشتقاق من أخصّ علوم العرب، وألطفها، وإن لم يدوّنوا فيه كتاباً، ولم يجمعوا له أصولاً وأنواعاً على طرائق مصنفي الكتب ممّن أتى بعدهم؛ إذ كانت العرب أمّة أميّة لا تكتب.

وقد روي من من أخبارهم وأشعارهم ما يدلّ دلالة بيّنة على عنايتهم بالاشتقاق، والتفنن في تصريف الكلام وردّ بعضه إلى بعض، وإدراك مآخذ التسميات ومقاصدها، يعينهم على ذلك ما عُرفوا به من حسن البيان، وجودة القريحة، ولطافة الذهن.
ومن ذلك قول دريد بن الصمّة القشيري بعد أن ظفر بفزارة وهم قبيلة من غطفان، وقتل منهم من قتل ثأراً بمقتل أخيه عبد الله وجماعة من فرسان بني قشير:
قتلتُ بعبد الله خير لِدَاتِه ... ذؤابَ بنَ أسماءَ بنِ زيدِ بنِ قارِبِ
فلليوم سُمّيتم فزارة فاصبروا ... لِوَقْع القَنا تَنزُونَ نَزْو الجنادب

أي في مثل هذا اليوم يظهر معنى اسمكم "فزارة"، يشير إلى أنّ اسم فزارة مشتقّ من الفَزْر، وهو القطع والشقّ والتصدّع.
يقال: تفزّر الثوب، وتفزّر الحائط إذا تشقّق، وفزرتُ الجلَّة إذا فتّتّها.
يريد دريد: إنّا فزرناكم بسيوفنا ورماحنا حتى مزّقناكم كلّ ممزّق.
وفي صحيح مسلم من حديث سماك بن حرب عن مصعب بن سعد في خبر نزول تحريم الخمر أنّ رجلاً شرب ثم أخذ لحي بعير
فضرب به أنف سعد ففَزَره، وكان أنف سعد مفزورا، أي مشقوقاً.
قال ابن فارس في معجم المقاييس: ("فزر" الفاء والزاء والراء أُصيل يدلّ على انفراج وانصداع، من ذلك الطريق الفازر: وهو المنفرج الواسع، والفزر: القطيع من الغنم، يقال فزرت الشيء: صدعته، والأفزر: الذي يتطامن ظهره، والقياس واحد، كأنه ينفرق لحمتا ظهره. والله أعلم)ا.هـ.
ونقل أبو منصور الأزهري عن شمر بن حمدويه أنه قال: (كنت بالبادية فرأيت قباباً مضروبة فقلت لأعرابي: لمن هذه القباب؟ فقال: لبني فزارة فَزَر الله ظهورهم؛ فقلت: ما تعني به؟ فقال: كسر الله)ا.هـ.
وبيت دريد بن الصمّة فيه تلطّف في صرف المعنى إلى اشتقاق غير مراد، وهو ما يسمّى في علم البلاغة "حسن التعليل"، وإلا فإنّ فزارة اسم رجل وهو فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وإليه ينتسب بنو فزارة ، وهم من أكثر قبائل غطفان عدداً.
ولم يكن الرجل ليسمّى ولده بما أراده دريدُ بن الصمّة، وإنما سمّي بذلك على معنى اسم الفاعل "فازر" كما سُمّى "فَضَالَة" بمعنى "المُفْضِل"، و"سلامة" بمعنى "السالم"؛ فصرف دريد اسم "فزارة" إلى معنى اسم المفعول "مفزور" إذ كانت الصيغة محتملة.
ومن شأن العرب في الهجاء أو المدح صرف اللفظ إلى معنى غير مراد من الاشتقاق أو إلى اشتقاق بعيد غير مراد تشنيعاً أو مبالغة في المدح.
ومن دلائل إدراك عامّة العرب اشتقاق الأسماء ما ذكره أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين عن يونس بن حبيب الضبّيّ أنه قال: (سُئل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فمرَّ أعرابيٌّ مُحْرِم، فأراد السائلُ سؤال الأعرابي، فقال له أبو عمرو: دَعْنِي، فأنا ألطف بسؤاله وأعرف؛ فسأله؛ فقال الأعرابي: اشتقاق الاسم من فعل المسمّى؛ فلم يعرف من حضر ما أراد الأعرابي، فسألوا أبا عمرو عن ذلك، فقال: ذهب إلى الخُيلاء التي في الخيل والعُجْب؛ ألا تراها تمشي العِرَضْنة خُيلاءً وتكبُّرًا!)ا.هـ.
وشواهد معرفة العرب لاشتقاق الكلام بعضه من بعض كثيرة، وفيما ذكر من التمثيل كفاية). [طرق التفسير:223 - 225]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:42 AM

عناية أصحاب المعاجم اللغوية بالاشتقاق
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عناية أصحاب المعاجم اللغوية بالاشتقاق
ظهرت العناية بالكتابة في الاشتقاق مبكّراً؛ فنبّه الخليل بن أحمد في معجمه إلى كثير من مسائل الاشتقاق، وتضمّن كتاب سيبويه مسائل كثيرة في الاشتقاق، ثم تتابع أصحاب المعاجم اللغوية على العناية بالاشتقاق، وكان من أكثرهم عناية به:

1. أبو بكر ابن دريد(ت:321هـ) في معجمه "جمهرة اللغة".
2. وأبو منصور الأزهري(ت:370هـ) في معجمه "تهذيب اللغة" ، وهو من أجلّ المعاجم اللغوية وأصحّها.
3. وابن فارس الرازي(ت:395هـ) في معجمه القيّم المسمى "مقاييس اللغة"، وقد بناه على إرجاع الكلمات التي يفسّرها إلى أصول جامعة تشترك في معنى كليّ يجتهد في استخراجه.
4. وابن سيده الأندسي(ت:458هـ) في كتابيه "المحكَم" و"المخصَّص" ، وقد عني فيهما بالاشتقاق عناية ظاهرة.
5. وابن منظور الأفريقي(ت:711هـ) وهو من ذريّة رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، في معجمه المشهور "لسان العرب"
6. والمرتضى الزبيدي(ت:1205هـ) في كتابه الحافل "تاج العروس".
وفي هذه المعاجم اللغوية من العناية بالاشتقاق في تفسير معاني الكلمات ما هو ظاهر بيّن في كثير من المسائل.
ولبعض العلماء الذين ليست لهم معاجم لغوية عناية بالاشتقاق في بعض كتبهم، ومنهم: أبو علي الفارسي، وأبو الفتح ابن جني، وابن تيمية، وابن القيم). [طرق التفسير:225 - 226]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:45 AM

المؤلفات المفردة في علم الاشتقاق
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المؤلفات المفردة في علم الاشتقاق
وقد أفرد التأليف في الاشتقاق جماعة من علماء اللغة:

منهم: المفضل الضبي وقطرب والأخفش الأوسط، والأصمعي، وأبو نصر الباهلي، وابن قطن المهري، وابن قتيبة، وابن طيفور، والمبرّد، والمفضّل بن سلمة الضبي، وأبو إسحاق الزجاج، وابن السرّاج، وابن دريد، وابن درستويه، وأبو جعفر النحاس، وابن خالويه، وأبو الحسن الرمّاني، وأبو القاسم الزجاجي، وأبو عبيد البكري، وحجة الأفاضل الخوارزمي، وأسامة بن منقذ، وغيرهم.
وهؤلاء أكثر كتبهم مفقودة، وقد طبع منها:
1: كتاب اشتقاق الأسماء للأصمعي.
2: وكتاب الاشتقاق لابن دريد.
3: وكتاب "المعاني والاشتقاق" لأسامة بن منقذ.
وكثرة التأليف المفرد في الاشتقاق من دلائل عناية العلماء به.

وفي القرون المتأخرة كتب في الاشتقاق جماعة من العلماء منهم:
- أبو إسحاق الشاطبي(ت:790هـ) وهو صاحب الموافقات، وله كتاب "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق"

- ولعبد الرحيم المقدسي نزيل القسطنطينية(ت:1104هـ) كتاب بعنوان"خلاصة الاشتقاق"
- ولابن الجوهري(ت:1215هـ) كتاب بعنوان"إتحاق الرفاق ببيان أقسام الاشتقاق"
وكتبهم مفقودة.

ثم كتب في الاشتقاق بعدهم جماعة من أهل العلم، وكتبهم مطبوعة متداولة، ومنها:
1: نزهة الأحداق في علم الاشتقاق، للقاضي محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ).
2: العلم الخفاق من علم الاشتقاق، صديق حسن خان القنوجي(ت:1307هـ).
3: الاشتقاق والتعريب، عبد القادر المغربي(ت:1375هـ).
4: بلغة المشتاق إلى علم الاشتقاق، محمد ياسين بن عيسى الفاداني(ت:1410هـ) وهو كتاب تعليمي مرتب على الأسئلة والأجوبة في علم الاشتقاق.
5: وكتاب الاشتقاق، للأستاذ عبد الله أمين.
6: وكتاب "علم الاشتقاق نظرياً وتطبيقياً" للأستاذ محمد حسن حسن جبل.
وفي هذا العصر ظهرت بوادر التأليف المفرد في اشتقاق المفردات القرآنية؛ فكتب الأستاذ الجليل محمد حسن حسن جبل (ت:1436هـ) كتابه الكبير "المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم" وقد بنى كتابه هذا على فكرتَي "المعنى المحوري" و"الفصل المعجمي"، وقد شرح المراد بهما في مقدّمة كتابه هذا). [طرق التفسير:226 - 228]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:54 AM

فائدة علم الاشتقاق للمفسّر:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة علم الاشتقاق للمفسّر:
الاشتقاق مما تدرك به معاني الألفاظ، ويعرف به أصلها وأوجه تصريفها، وقد استعمله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، ومن بعدهم من مفسّري السلف وأئمة الدين.

- قال مجاهد بن جبر: (كان ابن عباس لا يدري ما {فاطر السموات} حتى جاءه أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: يا أبا عباس بئري أنا فطرتها، فقال: خذها يا مجاهد {فاطر السموات}). رواه الدولابي في الكنى واللفظ له، ورواه ابن جرير والبيهقي.
- وقال إبراهيم النخعي في قوله تعالى: {اتخذوا هذا القرآن مهجورا} قال: (يعني قالوا فيه غير الحق ألا ترى أن المريض إذا تكلم بغير عَقْلٍ قيل: إنه لَيَهْجُر). رواه ابن إسحاق الهمذاني وابن أبي حاتم، وروى ابن جرير نحوه.
وهذا أحد الأقوال في تفسير هذه الآية، ذهب فيه إبراهيم النخعي إلى أنّ الكفار اتّخذوا هذا القرآن غرضاً لأقوالهم السيئة؛ فقالوا: هو سحر، وقالوا: إفك مفترى، وقالوا: أساطير الأولين، إلى غير ذلك.
وهذا القول مبني على اشتقاق المهجور من هُجْر القول، وهو هذيانه وسيّئه.
قال الشماخ:
كما جَدةِ الأَعْراقِ قال ابنُ ضَرَّةٍ ... عليها كلاماً جارَ فيهِ وأَهْجَرا
وقد رُوي عن مجاهد نحو هذا القول، وفي هذه الآية أقوال أخرى، والمراد هنا التنبيه على أنّ استعمال الاشتقاق في التفسير واستخراج المعاني من أنواع التفسير اللغوي الذي عني به السلف وعلماء اللغة). [طرق التفسير:228 - 229]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:58 AM

أنواع مسائل الاشتقاق في التفسير:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع مسائل الاشتقاق في التفسير
ومسائل الاشتقاق التي يذكرها المفسّرون في تفاسيرهم على نوعين:

النوع الأول: ما لا أثر له على المعنى، وهذا يكون في كثير من الألفاظ التي تنوسي اشتقاقها وصارت أشبه بالأعلام المرتجلة؛
ومن أمثلة هذا النوع: الخلاف في اشتقاق لفظ "المدينة"
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} هي جمع مدينة وفيها قولان:
أحدهما: أنها فَعيلة واشتقاقها من مدن وعلى هذا فتهمز لأنها فعائل كعقائل وظرائف وبابه.
الثاني: أنها مَفْعِلة واشتقاقها من "دان يدين" وأصلها مديونة مفعولة من "دَانَ" أي مملوكة مذللة لملكها منقادة له وفعل بها ما فعل بمبيوع حتى صار مبيعا..) إلى آخر ما ذكر رحمه الله.
والقول الأول أظهر؛ لأن الأفصح في الجمع على القول الثاني أن يقال: "مَداين" لا "مدائن"، والهمز خطّأه بعضهم، والصواب أنّه قد سمع نظيره كما في "معيشة" و"معائش" وقد قرئ بها في قوله تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش}، وسيبويه يخرّج المسموع من ذلك مما يخالف القياس على التوهّم، كما قال في "مصيبة" و"مصائب" توهّموها "فعيلة" كما في "صحيفة" و"صحائف".
قال سيبويه: ( فأما قولهم مصائب فإنه غلطٌ منهم، وذلك أنهم توهموا أن مصيبة فعيلةٌ وإنما هي مفعلةٌ)ا.هـ.
وسواء أكان اشتقاق لفظ "المدينة" من "مدن" بالمكان أي: أقام، أو من "دان" فإنّ لفظ "المدينة" صار اسم جنس للبلد المأهول بالبناء والساكنين، وُتنوسي أصل الاشتقاق، ولذلك قال أبو منصور الأزهري: ("مدن" فعلٌ مُمَات).
وهذا النوع إنما يبحثه اللغويون، ويقلّ بحثه عند المفسّرين.
والنوع الآخر: ما له أثر على المعنى، ويفيد في بيان معنى اللفظ، وترجيح بعض الأقوال على بعض؛ أو الجمع بينها؛ فهذا مما ينبغي للمفسّر أن يعتني به ويضبط مسائله.
- فمن أمثلة فوائده في البيان ما نقله ابن الجوزي عن ابن الأنباري في تفسير قول الله تعالى: ({ واهجرني ملياً } قال: (واشتقاق {نملي لهم} من الملوة، وهي المدة من الزمان ، يقال: مَلوة من الدهر، ومِلوة، ومُلوة، ومَلاوة، ومِلاوة، ومُلاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: البس جديداً وتملّ حبيباً ، أي : لتطل أيامك معه، قال متمم بن نويرة:
بودِّيَ لو أني تملَّيت عُمرَه ... بماليَ من مالٍ طريفٍ وتالد)ا.هـ). [طرق التفسير:229 - 231]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 11:02 AM

مثال على فائدة علم الاشتقاق في الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ومن أمثلة فوائده في الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين:
ما وقع من اختلاف المفسرين في معنى "المسحَّرين" في قول الله تعالى: {قالوا إنما أنت من المسحّرين}

فإنّهم اختلفوا فيه على أقوال كثيرة:
القول الأول: من المخلوقين، رواه ابن جرير والخطيب البغدادي كلاهما من طريق موسى بن عمير القرشي عن أبي صالح عن ابن عباس، وموسى بن عمير متروك الحديث.
وقال بهذا القول: الخليل بن أحمد، وجماعة من أهل اللغة.
القول الثاني: المسحورين، وهو قول مجاهد رواه عنه ابن جرير.
القول الثالث: الساحرين، وهو قول قتادة رواه عنه عبد الرزاق وابن أبي حاتم.
والقول الرابع: من المخدوعين، وهو رواية عن مجاهد أخرجها ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" من طريق الكلبي عن أبي صالح وعبد الوهاب عن مجاهد.
والقول الخامس: المسحَّر المجوَّف، وهو قول الفراء.
والقول السادس: المسحَّر الذي ليس له شَيء ولا مُلك، وهو تفسير الكلبي فيما ذكره يحيى بن سلام.
والقول السابع: المسحَّرون المرزوقون الذين لا بدّ لهم من الغذاء، ذكره ابن دريد في الجمهرة، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة نحوه.
قال أبو عبيدة: (كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحّر).
والقول الثامن: من المعلَّلين بالطعام والشراب، وهو قول ابن قتيبة.
والقول التاسع: ممن له سَحْر أي: رئة، والمقصد إنما أنت بشر مثلنا، وهذا قول الزجاج.
وقد حكى الماوردي أقوالاً أخرى لا أعلم لها أصلاً.


وهذه الأقوال المذكورة ترجع إلى معنيين في الاشتقاق:

المعنى الأول: أن يكون لفظ "المسحّرين" مشتقّا من السِّحْر، بكسر السين.
والمعنى الثاني: أن يكون مشتقّا من "السَّحْر" بفتح السين، لكن اختلف فيه على قولين:
القول الأول: أنّ المراد السَّحْر الذي بمعنى التغذية، وهو قول الخليل بن أحمد.
والقول الثاني: أن المراد السَّحْر الذي هو الرئة، وهو قول الفراء وأبي عبيدة والزجاج.
والذي يظهر لي أنّ هذين المعنيين يرجعان إلى اشتقاق واحد وهو الصَّرف، وأنّ المسحَّر هو المصروف عن شأنه وما ينفعه.
ومنه قوله تعالى: {فأنّى تُسحرون} أي "تُصرفون" في قول جمهور المفسّرين.
قال لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسَحَّر
عبيد لِحَيَّيْ حميرٍ إن تملَّكوا ... وتظلمنا عُمَّالُ كسرى وقيصرِ
نحلُّ بلاداً كلّها حُلَّ قبلَنا ... ونرجو الفلاحَ بعد عادٍ وحِمْيَرِ

يقول نحن أمّة ضعيفة مستضعفة كالعصافير في ضعفها واشتغالها بطلب المأكل والمشرب حتى استذلّتنا الأمم الأخرى كملوك حِمير من الجنوب، والمناذرة الذي هم وكلاء كسرى على من يليهم من العرب من جهة المشرق، والغساسنة الذين هم وكلاء قيصر على من يليهم من العرب من جهة الشمال.
يقول: فلم نهتدِ لما ننجو به من هذا الذلّ، ولم نفق من سكرتنا بطلب المأكل والمشرب، وغفلنا عن مصيرنا وقد علمنا هلاك الأمم قبلنا؛ فكأنّنا مسحَّرون أي: مصروفون عن شأننا وسبيل عزّتنا، مقيمون على ضعفنا واشتغالنا بما نُلهى به مما لا ينفع.
وهذا من شعر لبيد في الجاهلية.
وقال لبيد أيضاً:
وإنا قد يُرى ما نحن فيه ... ونُسحر بالشراب وبالطعام
كما سُحرت به إرم وعاد ... فأضحوا مثل أحلام النيام
وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
أرانا موضِعين لأمرِ غيبٍ ... وَنُسْحَرُ بالطعامِ وَبالشرابِ
عَصــــــــــــافيرٌ وَذُبَّانٌ وَدُودٌ ... وأجْرأُ مِنْ مُجَلِّحَةِ الذِّئـــــــــابِ
يقول: نحن في ضعفنا وقعودنا عن طلب العزّة كالمخلوقات الضعيفة من العصافير والذبّان والدود، وفي الشرّ والمآثم وقطيعة الأرحام أجرأ من الذئاب الضارية.
والمقصود من هذه الشواهد أنّ "المسحَّر" هو المصروف عن شأنه وما ينفعه، المشتغل بما يُلهى به عما يراد له.
والتعبير بالتسحير فيه معنى زائد عن مجرّد الصرف؛ فهو صرف مصحوب بأمرين:
1. غفلة عما أمامه من كيد يراد له أو عاقبة لم يستعدّ لها.

2. واشتغال بما لا ينفع، وهذا المشتغَلُ به قد يُذكر وقد يُحذف احتقاراً له أو لعدم فائدة ذكره.

ومن هذا الاشتقاق سمّي السِّحْر سحراً؛ لأنّ المسحور مصروف عما ينفعه ويصلح شأنه مشتغل بما لا ينفعه.
قال أبو منصور الأزهري: ( والسحر سمي سحرا: لأنه صرف الشيء عن جهته، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه)ا.هـ.
وتقرير معنى الآية على هذا - والله تعالى أعلم - أنّهم أرادوا بقولهم: "إنما أنت من المسحَّرين" أي من المصروفين عن شأنهم وما ينفعهم، المتعلّلين بما زُيّن لهم مما التهوا به وشغلهم.
وفيه تكذيب بالرسالة، واتهام رسولهم بأنّ ما يدعوا إليه إنما هو لهوٌ تعلّل به فخُدع به وصرفه عما يرونه من صلاح الشأن الذي يزعمون أنهم يبصرون فيه سبيل الرشاد، وأنّ رسولهم مُسحَّرٌ عنه، ولتأكيد هذا المعنى قالوا: {ما أنت إلا بشر مثلنا} وفي الموضع الآخر: {وما أنت إلا بشر مثلنا}.
وبذلك يظهر أن لفظ "المسحَّرين" ينتظم أكثر الأقوال المذكورة في تفسيره؛ فكلٌّ قد عبّر ببعض المعنى ، وبعض تلك الأقوال لها علل يحسن التنبيه عليها.
1. فأما القول بأنّ "المسحّرين" هم المخلوقون؛ فنسبته إلى ابن عباس لا تصحّ من جهة الإسناد، وهو قول صحيح من جهة المعنى؛ لكنّه تفسير باللازم.
2. وأما القول بأنّ المسحّرين هم المسحورون الذي سُحروا مرّة بعد مرّة، فهو قول له وجهه في اللغة، من جهة أنّ مُفعَّلا يأتي لتأكيد معنى المفعولية في "مفعول" ، كما في "مغلوب" و"مُغلَّب" ؛ فالمغلوب يقع على من غُلب مرة واحدة، والمُغلَّب الذي يُغلب مراراً؛ فلا يكاد يُغالب إلا غُلب.
قال عمرو بن كلثوم:
فإنْ نَغلب فغلابون قدما وإنْ نُغلب فغير مُغَلَّبينا
ولذلك قال بعض أهل اللغة في تقريب هذا القول: المُسَحَّر المسحور مرّة بعد مرّة.
وهذا القول رواه ابن جرير من طرق عن مجاهد.
3. وأما القول بأنّ "المسحَّرين" هم الساحرون، فرواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم.
وقد روى هذا القول ابن جرير في تفسيره من هذا الطريق لكن قال: (من المسحورين) وقرنه بقول مجاهد، ولعلّ الصواب من جهة الرواية ما في تفسير عبد الرزاق.


ولهذا القول تخريجان لغويان مقبولان:
أحدهما:
أنّ المُسحَّر هو الذي عُلّم السِّحْرَ حتى صار ساحراً؛ فهو وإن كان اسم مفعول إلا أنّه يؤول إلى معنى اسم الفاعل كما في "مُسلَّم" و"سالم" و"مخلَّد" و"خالد"، و"ومغلَّب" و"غالب".

والآخر: أن يكون المسحَّر بمعنى المتَّهم بالسحر؛ كالمكذَّب المتَّهم بالكذب، و"المبخَّل" الموصوف بالبخل.
4. وأما تفسير "المسحّرين" بالمخدوعين، فلا يصحّ عن مجاهد من حيث الإسناد، لكنّه تفسير صحيح قائم على المعنى المتقدّم تقريره بشواهده.
5. وأما تفسير الفراء للمسَحَّر بالمجوَّف؛ فهذا مأخوذ من لازم التعليل بالطعام والشراب، والشارب والطاعم له جوف؛ لكن لا يقصر المعنى عليه.
6. وأما تفسير المسحَّر بالذي ليس له شَيء ولا مُلك، فهو تفسير صحيح باعتبار اللازم على المعنى المتقدم ذكره.
7. وأما تفسير المسحَّر بالمرزوق الذين لا بدّ له من الغذاء، فهو تفسير ببعض المعنى على ما تقدّم ذكره.
8. وأما تفسير المسحَّر بالمعلل بالطعام والشراب؛ فهو مأخوذ من الشواهد الشعرية عن لبيد وامرئ القيس لكن قصر المعنى عليه لا يصح، لأنّ هذا الوصف له مقصد.
9. وأما تفسير الزجاج للمسحَّر بالذي له سَحر وهو الرئة فهو تفسير أراد به التنبيه على اشتقاق اللفظ، وهو أحد الأقوال في الاشتقاق كما تقدّم، والأظهر خلافه
وقد ردّ ابن القيّم هذا القول في بدائع الفوائد فأحسن). [طرق التفسير:231 - 237]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:37 PM

أنواع الاشتقاق:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع الاشتقاق:
النوع الأول: الاشتقاق الصغير، وهو النوع المعروف عند العلماء المتقدّمين، وهو ما تقدّم ذكره؛ كاشتقاق "المسحَّر" من السَّحر" واشتقاق "مرداس" من الردس، وهكذا، ويلحظ فيها الاتفاق في ترتيب حروف الأصل مع اختلاف الصيغتين، وهذا النوع يسميه بعضهم "الاشتقاق الأصغر".
والنوع الثاني: الاشتقاق الكبير، وهو أن يكون بين الجذرين تناسب في المعنى مع اختلاف ترتيب الحروف، كما في "فسر" و"سفر"، و"فقر" و"قفر"
وهذا النوع سماه ابن جني وبعض أهل العلم "الاشتقاق الأكبر"، واستقرّت تسميته فيما بعد بالكبير.
وسمّاه شيخ الإسلام ابن تيمية "الاشتقاق الأوسط" وعرَّفه بقوله: (وهو: اتفاق اللفظين في الحروف لا في ترتيبها).
قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: (وأمَّا الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثية، فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنًى واحدًا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُدَّ بلطف الصنعة والتأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد)ا.هـ.
وهذا النوع فيه لطائف، لكن ادّعاء اطراده في جميع تقليبات الجذر متعذّر أو متعسّر، ويدخله التكلف، ومن أوّل من عرفت عنه العناية بهذا النوع أبو الفتح ابن جنّي (ت:392هـ).
- فالألفاظ التي تعود إلى جذر ثلاثي ينتج عنها ستّة جذور بناء على تقليب ترتيب الحروف كما في: " ق ول", "ق ل و ", " وق ل " , "ول ق " , " ل ق و ", "ل وق ".
- والألفاظ التي تعود إلى جذر رباعي يمكن تقليبها إلى أربعة وعشرين جذراً.
- والخماسية إلى مائة وعشرين جذراً، ويتعذّر الإحاطة بها، وقد يكون كثير منها غير مستعمل.
والمقصود أنّ الاشتقاق الكبير قائم على النظر في استعمالات تقليبات الجذر ثم محاولة استخراج معنى كليّ يجمعها، كما قال ابن جني: ( إن معنى " ق ول " أين وجدت وكيف وقعت، من تقدّم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه إنما هو للخفّة والحركة).
ثم شرع في شرح استعمالات كل جذر وشواهده ومحاولة إيجاد المناسبة بينه وبين المعنى الكلي الذي استخرجه.
وهذه الطريقة إذا أخذت بهذا التفصيل تعسّرت ودخلها التكلّف، ولا تتعلّق بها حاجة للمفسّر، وإن اقتصر فيها على ما يظهر فيه التناسب كان ذلك حسناً، وقد استعمله بعض المفسّرين استئناساً لا اعتماداً.
قال ابن القيم: (التفسير أصله: الظهور والبيان، ويقابله في الاشتقاق الأكبر: الإسفار ومنه أسفر الفجر إذا أضاء ووضح ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت وظهوره ومنه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه).
وقال شيخنا ابن عثيمين: (و{الفقراء} جمع فقير؛ و «الفقير» هو المعدم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من «الفقر» الموافق لـ«القفر» في الاشتقاق الأكبر - الذي يتماثل فيه الحروف دون الترتيب؛ و«القفر» الأرض الخالية، كما قال الشاعر:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر وليس قربَ قبرِ حرب قبر وفـ «الفقير» معناه الخالي ذات اليد)ا.هـ.
ومنه التناسب بين: الحَبْرِ والبَحْر، والرَّهَب والهَرَب، الصِّدْق والقَصْد، وغيرها.
والنوع الثالث: الاشتقاق الأكبر، ويسميه بعضهم الكُبار" وهو اتفاق الجذور في ترتيب أكثر الحروف واختلافها في حرف منها.
- وقد يكون الاختلاف في الحرف الأخير نحو: نفذ، ونفث، ونفر، ونفح، ونفخ، ونفج، ونفش، ونفل، وكلها تدلّ على مطلق خروج وانبعاث.
ونحو: هتن، وهتل، وهطل، وهي تدل على نزول شيء.
ومنه يعرف التناسب بين العَمَى والعَمَه وبابها.
- وقد يكون الاختلاف في الحرف الأول، نحو: همز، ولمز، وغمز، وجمز، ورمز، وكلها تدلّ حركة وخفة.
ومنه التناسب بين الهمزة واللمزة وبابها.

- وقد يكون الاختلاف في الحرف الأوسط: نحو: نعق، ونغق، ونهق، ويجمعها أنها تدلّ على تصويت.
ومنه التناسب بين: ينهون وينأون وبابها.
ويقال في هذا النوع ما قيل في الذي قبله من تعسّر القول باطّراده، وقد حاول ذلك بعض أهل اللغة فوقعوا في تكلّف كثير.
- ومن هذا النوع ما يدخله اختلاف اللغات فيحكى في المفردة لغتان عن العرب في نطقها مع اتحاد المعنى كما اختلفوا: في الصاعقة والصاقعة، وجذب وجبذ، ومشوذ ومشمذ وهي العمامة.
- ومنه ما يُختلف في كونه من اختلاف اللغات؛ كما اختلفوا في "مَدَحَ" و"مَدَهَ"
قال رؤبة بن العجاج: لله درَ الغانيات المدَّهِ ... سبَّحن واسترجعن من تألّهي
فذهب المبرد إلى أن المَدْهَ بمعنى المَدْحِ، وأنه لغة لبني سعد بن زيد مناة ولخم ومن قاربها.
وفرّق بينهما الخليل بن أحمد فقال: (المَدْهُ يضارعُ المَدْحَ، إلاّ أنّ المَدْهَ في نعت الجمال والهيئة، والمدح في كل شيء).
والنوع الرابع: الاشتقاق الكُبّار ، وهو اشتقاق لفظة من لفظتين أو أكثر اختصاراً، وهو ما يعرف بالنحت، كاشتقاق البسملة من قول "بسم الله" ، والحوقلة من "لا حول ولا قوة إلا بالله".
والخلاصة أنّ علم الاشتقاق من العلوم المهمة للمفسّر، وأنّ التمكن منه يفتح للمفسّر أبواباً من استخراج المعاني، والتخريج اللغوي لأقوال المفسرين، والجمع والترجيح، والنقد والإعلال). [طرق التفسير:237 - 241]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:41 PM

النوع التاسع: البديع
قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
(النوع التاسع: البديع

المراد بالبديع
علم البديع من علوم العربية التي عني بها جماعة من المفسّرين واللغويين ، وهو علم لطيف يعرّف صاحبه بمحاسن الألفاظ ولطائف المعاني، وحسن دلالة تلك الألفاظ على المعاني، ويكشف للمفسّر عن معانٍ بديعة لطيفة قد لا يتفطّن لها كثير من الناس، وهو من العلوم التي يستعان بها على استخراج الأوجه التفسيرية؛ لكثرة أدواته العلمية وتنوّعها.

وكلام العلماء في البديع يقع على معنيين:
المعنى الأول: التعبير المبتكر الذي لم يُسبق إليه المتكلّم، أو الذي تقدّم فيه المتكلم على من سبقه؛ ففاقهم حسناً وسبكاً، ببراعته في انتزاع المعنى وعبارته عنه عبارة حسنة تقع موقعها في نفوس السامعين.

وقد عقد ابن عاشور فصلاً في مقدّمة تفسيره في "مبتكرات القرآن" نبه فيه على أصولها وبعض أنواعها.
والمعنى الثاني: ما يسمّيه المتأخرون من علماء البلاغة "المحسنات المعنوية واللفظية"، وفيهما أنواع كثيرة لا تحصر). [طرق التفسير:242]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:46 PM

بديع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بديع القرآن:
كلام العلماء في بديع القرآن له أصول وأمثلة مأثورة عن أصحاب القرون الأولى، لكن لم ينشأ التأليف المفرد في بديع القرآن إلا في القرون المتأخرة.

وأمّا أصل العناية به فكان قديماً من وقت تنزّل الوحي وحلاوة ألفاظ القرآن وبديع دلالتها على المعاني تأخذ بالألباب، وتبهر الفصحاء، ولها سلطان عجيب على من له ذوق في البيان وحظّ من الفصاحة والمعرفة بلسان العرب.
- وقد قال فيه عتبة بن ربيعة: (إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة). وقد فسّرت الطلاوة بالحسن والبهجة والوضاءة.
- وذكر جماعة من العلماء أنّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: {فلمّا استيأسوا منه خلصوا نجيّا} فأقسم أنّه لا يقوله بشر.
قال أبو هلال العسكري: ( وقوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} تحيّر فى فصاحته جميع البلغاء، ولا يجوز أن يوجد مثله فى كلام البشر).
- وقد ذكر الماوردي وجماعة من المفسّرين عن الأصمعي أنه قال لأعرابية: ما أفصحك! ، فقالت: (أتعدّ فصاحة بعد قول الله عز وجل: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} فجمع في آية واحدة: أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين)ا.هـ.
ولم أجد هذا الخبر فيما طبع من كتب الأصمعي، وهي عبارة صحيحة في نفسها، وهذه الآية يعدّها أهل البديع من بديع الإيجاز.
قال ابن أبي الإصبع عن بديع الإيجاز في كتابه "تحبير التحرير" : (إذا وصلت في هذا الباب إلى قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} فإنه سبحانه أتى في هذه الآية الكريمة بأمرين، ونهيين، وخبرين متضمنين بشارتين، في أسهل نظم، وأحسن لفظ، وأوجز عبارة، ولم يخرج الكلام عن الحقيقة في شيء من ذلك)ا.هـ.
- ومن بديع الإيجاز أيضاً قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وقد ذكر ابن أبي الإصبع سبعة أنواع من البديع في هذه الجملة، وكانت العرب في الجاهلية تتمثّل في تحسين القَصاص بقولهم: "القتل أنفى للقتل" ورُوي أنّ هذه العبارة مترجمة عن مقولة لأردشير ملك الفرس.
قال ابن معصوم: (وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} .. معناه كثير ولفظه يسير، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَل قُتِل كان ذلك داعيا قويا له إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص، كثير من قتل الناس بعضهم لبعض؛ فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وقد فُضّلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: "القتل أنفى للقتل" بعشرين وجها أو أكثر)ا.هـ.
والكلام في أنواع بديع القرآن يطول جداً). [طرق التفسير:243 - 244]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:48 PM

عناية المفسّرين ببديع القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عناية المفسّرين ببديع القرآن
لجماعة من المفسّرين عناية بذكر بعض الأمثلة على بديع القرآن في مقدّمات تفاسيرهم، وفي بعض الآيات التي يشتهر خبر بديعها، ولبعض مَن كتب في إعجاز القرآن ومتشابهه وبلاغته عناية بذكر أمثلة من بديع القرآن، كما في إعجاز القرآن للخطابي والرمّاني، والإيجاز والإعجاز لأبي منصور الثعالبي، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وغيرها.

وأوّل من علمتُه عُني بتتبّع أنواع البديع في القرآن ابنُ أبي الإصبع المصري(ت:654هـ)، وألّف في ذلك كتابه المعروف "بديع القرآن"، وهو كتاب اختصّ به ما في القرآن من أمثلة البديع التي وقف عليها أو استخرجها، وجعله تتمّة لكتابه "تحرير التحبير"، وأمضى في إعداد كتابه هذا سنوات طويلة من عمره حتى ذكر أنه جعله وظيفة عمره في شبابه ومشيبه، يقرأ ما ألّف في البديع وينقل وينقد، ويباحث العلماء في مسائله، ويحاور الأذكياء والأدباء، ويسأل كلّ من عرف عنايته بتدبّر القرآن، حتى اجتمع له في سنوات عمره من المعرفة بأنواع البديع ما لخّصه وشرحه في كتابه المذكور.
ثمّ ذكر بدر الدين الزركشي (ت:795هـ) في البرهان، وجلال الدين السيوطي(ت:911هـ) في الإتقان أمثلة كثيرة لبديع القرآن.
ولم يزل المصنّفون يزيد بعضهم على بعض في أنواع البديع، حتى أفردت في بعض الأنواع مؤلفات مختصة بها تشرح معناها، وتجمع أمثلتها، وتبيّن أصولها وفصولها). [طرق التفسير:245]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:52 PM

نشأة علم البديع
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نشأة علم البديع
كانت أكثر عناية علماء اللغة المتقدمين بالبديع المعنوي؛ فيستملحون ما يؤثر عن العرب من بدائع العبارات التي تجمع لطافة المعنى وحسن اللفظ، ويشتدّ إعجابهم بما يفيد على وجازة لفظه وحلاوته على اللسان معنى يطول شرحه وتقصّيه؛ فكانوا يستعذبون مثل قول طرفة بن العبد:

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن ... مُظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
فشبَّه المرأة بغزال لعوب قد استغنى عن لبن أمّه؛ فهو ينفض ورق الأراك برَوقيه من الأمن والشبع، وجمع في الشطر الثاني في أربع مفردات وَصْف عِقْدين لبستهما تلك المرأة متظاهرين أي أحدهما فوق الآخر، الأول من لؤلؤ والآخر من زبرجد، والسِّمطُ هو الخيط الذي نُظمت فيه الجواهر.
فكان قوله: "مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد" حسناً بديعاً لاختصاره ووفائه ببيان المعنى بما يغنيه عن طول الشرح، ويجنّبه إملال السامع.
ومثله قول امرئ القيس في وصف العُقاب:
كأنَّ قلوبَ الطير رطْباً ويابساً ... لدى وكرها العُنَّاب والحشف البالي
فشبّه في بيت واحد شيئين بشيئين مختلفين على نسق بديع موجز؛ فشبّه قلوب الطير الرطبة الملقاة لدى وكر العُقاب بالعُنَّاب، وشبَّه القلوب التي أيبسها تصرّم الأيام بالحَشف البالي، وهو التمر اليابس المتشقق.
وقد عدّ المبرّدُ هذا البيتَ أحسن ما جاء من التشبيه في الشعر بإجماع الرواة.
وقد حاول جماعة من الشعراء أن يأتوا بمثله فتعسّر عليهم، حتى نُقل عن بشار بن برد أنه لم يزل يحاول أن يأتي بمثله إلى أن قال في قصيدته المشهورة:
كأنَّ مثارَ النَّقع فوقَ رُؤوسنا ... وَأَسيافنا لَيلٌ تهاوى كَواكِبهُ
فشبَّه شيئين بشيئين في بيت واحد، وأحسن في هذا البيت.
وقريب من هذا النوع قول لبيد بن ربيعة العامري:
وجلا السيول عن الطلول كأنّها ... زُبُرٌ تجدُّ متونها أقلامها
فشبَّه تجلية السيول لمعالم الأطلال من بعدما درست من السوافي والرياح بالكتُب التي تجدد الأقلامُ ما في متونها من الكتابة التي انمحى بعضها.
ولم يزل الشعراء والبلغاء يتنافسون في الإتيان بأنواع من البديع لتكون أقرب لبلوغ المأرب، وأعذب في السمع، وأسير في الناس.
فإذا ما أصاب الشاعر منهم معنى لم يسبق إليه سابق، وكساه لفظاً حسنا يروق السامع، عدّ ذلك مفخرة له ومأثرة.
ومن ذلك ما استحسنه رواة الشعر من قول نُصيب بن رباح في مدح الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبّروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودَّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ
قال المبرّد: (وهذا في باب المدح حسن ومتجاوزٌ ومبتدَع لم يُسبق إليه).
وربما استعذبوا بيتاً من الشعر فلهجوا به زمناً حتى يسمعوا في بابه أحسن منه معنى أو أعذب لفظاً، ومن ذلك قول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخاً لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذب
فلم يزل هذا البيتُ يُتمثّل به حتى قال بشار بن برد بائيته المشهورة وفيها:
إذا كنتَ في كلّ الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فكان هذا البيت أعذب وأجود، فسار في الناس وتمثّلوا به، وبعده قوله:
فعش واحداً أو صل أخاك فإنّه ... مقارف ذنب تارة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
وقد قال قبله الحارث بن ضابئ البرجمي:
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب
و لستَ بمستبقٍ صديقاً ولا أخاً ... إذا لم تعدَّ الشيء وهو يَريب
لكنّه لم يشتهر كشهرة بيت النابغة ولا بيت بشار بن برد.
ومن بديع التصوير في المدح قول زهير بن أبي سلمى في مدح حصن بن حذيفة الفزاري:
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
فقال الحطيئة في المدح:
كَسوبٌ ومتلاف متى ما سألتَه ... تهلَّل واهتزّ اهتزاز المهنَّدِ
ثم جاء أبو تمام فتمّم هذا المعنى وأوغل فيه إلى مدى بعيد بديع فقال في مدح المعتصم:
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق اللهَ سائله
وفي باب آخر من المدح قال الحطيئة فأحسن:
هم القوم الذين إذا ألمَّت ... من الأيام مُظلمة أضاؤوا
فكان هذا البيت بديعا لما فيه من حسن التشبيه وجودة المقابلة.
ومن البدائع في الوصف قول قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب
وقول عديّ بن الرقاع العاملي:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وقد أشاد العلماء بتشبيهه هذا.
ومن البدائع في الحكمة قول عوف بن الأحوص:
وإني لتراك الضغينة قد أرى ... ثراها من المولى فلا أستثيرها
مخافة أن تجني عليّ وإنما ... يهيج كبيرات الأمور صغيرها
ولأجل وجازة ألفاظ الأبيات البديعة، وعذوبتها على اللسان، وحسن دلالتها على المعنى المراد تمثّل بها الناس، وسارت فيهم مسير الأمثال.
وكان البديع في أشعار الشعراء المتقدّمين مطبوعاً غير متكلَّف؛ فربما سُمعت القصيدة الطويلة فيستعذب منها البيت والبيتان، ثم لما كان في القرن الثاني والثالث وما بعدهما أولع الشعراء بالبديع؛ وتكلّفوه حتى كثر في أشعارهم واستسمج بعضَه جماعةٌ من النقّاد لما فيه من التكلّف والتعقيد، وأشادوا ببعضه.
وكان من هؤلاء الشعراء: بشار بن برد مولى بني عُقيل (ت:167هـ)، وأبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي (ت:198هـ)، ومسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني (ت:208هـ) ، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي(ت:231هـ) وإسحاق بن إبراهيم الموصلي (ت:235هـ)، وإبراهيم بن العباس الصولي(ت:243هـ)، ومروان ابن أبي حفصة مولى بني أمية (ت:282هـ)، وأبو الحسن عليّ بن العباس المعروف بابن الرومي(ت:283هـ)، وأبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي المعروف بالبحتري (ت:283هـ) وأضرابهم من الشعراء المولدين.
فكان لهؤلاء من العناية بالبديع والتفنن فيه ما أذاع أشعارهم وأشاعها؛ وبرعوا في الوقوف على المعاني الدقيقة والتعبير عنها بالألفاظ الأنيقة؛ وكشفوا بتفننهم وتنافسهم وجودة قرائحهم عن كثير من أنواع البديع وأدواته وأساليبه.
وكان بعضُهم ربما سُبق إلى معنى لطيف فنسج على منواله وزاده تحبيراً، ولذلك أمثلة كثيرة:
منها: قول إبراهيم الصولي في وصف اجتماع القرب والبعد على حالتين مختلفتين:
دَنَت بأناس عن تَنَاءٍ ديارُهم ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها
وإنّ مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
فقال ابن الرومي في رثاء أحد أبنائه:
طواه الرَّدَى عنّي فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بُعْدِ
والمقصود من ذكر هذه الأمثلة تقريب تصوّر المراد بالبديع ، وأسباب عناية الشعراء به؛ وكثير من الناس يستغنون بالأمثلة عن كثير من الشرح والتوضيح.
ثمّ شاع في القرن الخامس وما بعده تكلّف البديع وإنهاك الخطاب بكثرته حتى صار اللفظ قائداً للمعنى مستجلباً له، وعاد الكلام أشبه بالألغاز، وأبعد عن صنعة البيان.
وقد عاب علماءُ البلاغة تكلّف البديع، وحذروا منه، وأبانوا عن إضراره ببيان المعنى، وانحرافه بحال الخطاب عن المقصد الأسمى وهو البيان والتفهيم.
قال عبد القاهر الجرجاني (ت:471هـ) : (قد تجد في كلام المتأخرين الآنَ كلاماً حَمَل صاحبَه فرطُ شَغَفِه بأمورٍ ترجع إلى ما له اسمٌ في البديع إلى أن ينسى أنَّه يتكلّم ليُفهِم، ويقول ليُبين، ويُخيَّل إليه أنه إذا جَمَعَ بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عَنَاهُ في عمياء، وأنْ يُوقع السامعَ من طَلَبه في خَبْطِ عَشْوَاءِ، وربَّمَا طَمَسَ بكثرة ما يتكلَّفه على المعنى وأفسده)ا.هـ). [طرق التفسير:246 - 251]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:55 PM

التأليف في البديع:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (التأليف في البديع:
للعلماء أربع طرق في تصنيف بدائع الشعراء والبلغاء:

الطريقة الأولى: تصنيفها على أسماء الشعراء والبلغاء وطبقاتهم، وما ينتقى من أشعارهم وأخبارهم، وفيها كتبٌ لم يكن الغرض من تأليفها النصّ على ما يسمّى بالبديع، لكنها من مظانّ الوقوف على بدائع الشعراء، منها: "فحولة الشعراء" للأصمعي، و"طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة، و"معجم الأدباء" لياقوت الحموي.
ويلحق بهذه الطريقة المنتخبات من الأشعار كـ"المفضليات" للمفضل الضبيّ، و"الأصمعيات" للأصمعي، و"جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي، و"المرقّصات والمطربات" لأبي الحسن المغربي، وغيرها.
هذه الكُتب ينتقى فيها أجود أشعار الشعراء وأشهرها.
والطريقة الثانية: تصنيفها على المعاني وأغراض الشعر:
- فأمّا الأغراض الكبار كالحماسة، والرثاء، والمدح، والهجاء، والوصف، والنسيب؛ فالكتب المصنفة فيها كثيرة، ومن أمثلها: حماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، وحماسة الخالديَّين وهما سعيد ومحمد ابنا هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع الهجري وكتابهما مطبوع، وحماسة الزوزني(ت:431هـ)، وحماسة ابن الشجري(ت:542هـ)، والحماسة البصرية لأبي الحسن البصري(ت:659هـ)، وغيرها.
- وأما المعاني فمن أجود ما ألّف فيها كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة، و"عيون الأخبار" له، و"ديوان المعاني" لأبي هلال العسكري.
وكثير من كتب الأمالي ومجالس الأدباء يُعنى فيها بحشد ما يُستحسن من بدائع الأشعار.
والطريقة الثالثة: تصنيفها على أساليب البديع وأدواته اللفظية والمعنوية، وهي طريقة ابتكرها الخليفة العباسي عبد الله بن المعتزّ (ت:296هـ) في أواخر القرن الثالث الهجري، وكان شاعراً أديباً ناقداً حسن المعرفة بالشعر ومعانيه، فألّف كتابه الذي سمّاه "البديع" ثم تتابع التأليفُ على هذه الطريقة حتى كثرت المؤلفات في البديع وتنوّعت.
وقد ذكر في كتابه هذا سبقه إلى التأليف فيه فقال: (وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين)ا.ه.
والطريقة الرابعة: نظم أمثلة البديع في قصائد عرفت فيما بعد بالبديعيات، وهي طريقة ابتدأها يحيى بن عبد المعطي الزواوي (ت:628هـ) المعروف بابن معطي، وهو صاحب أوّل ألفية في النحو، ثمّ نظم على منواله علي بن عثمان الإربلّي(670هـ) فزاد في أنواع البديع، ثمّ ابتكر صفيّ الدين الحلّي(ت:750هـ) بديعية عارض بها بردة البوصيري (ت:696هـ) وضمّنها أنواعاً كثيرة من البديع، ثمّ كثرت البديعيات بعده). [طرق التفسير:252 - 253]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 12:58 PM

المؤلفات المفردة في البديع:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المؤلفات المفردة في البديع:
المؤلّفات المفردة في البديع كثيرة، ومن أشهرها:

1. البديع، لعبد الله بن المعتزّ بن المتوكّل بن المعتصم بالله العباسي (ت:296هـ)، وقد جعل كتابه على قسمين:
- قسم اشتمل على خمسة أبواب من البديع وهي: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، وردّ العجز على الصدر، وما سمّاه بالمذهب الكلامي تبعاً للجاحظ.
- وقسم سمّاه المحسّنات وذكر من أنواعها: الالتفات والاعتراض، وحسن الابتداء وهو ما يسمّيه المتأخرون براعة الاستهلال، وحسن الخروج من معنى إلى معنى وهو ما يسمّيه المتأخرون حسن التخلّص، وتأكيد المدح بما يشبه الذمّ، وحسن التضمين، والتعريض والكناية، والإفراط في الصفة، وحسن التشبيه، وإعنات الشاعر نفسه وهو ما سمّي فيما بعد بلزوم ما لا يلزم.
وهذه الأنواع منها يتعلّق بالمعاني، ومنها ما يتعلّق بالألفاظ، وقد ذكر لعدد من تلك الأنواع أمثلة من القرآن والحديث وأقوال الصحابة والبلغاء.
وما ذكره في كتابه من الأنواع شامل لفروع علم البلاغة غير مختصة بما اصطلح عليه عند المتأخّرين بالبديع.
2. نقد الشعر، لأبي الفرج قدامة بن جعفر البغدادي (ت:337هـ) وقيل (ت:328هـ)، وكان فيلسوفاً نصرانياً فأسلم على يد المكتفي بالله، وبرع في الأدب ونقد الشعر، وتقدّم في علم المنطق، وقد أدرك ابنَ قتيبة وأبا سعيد السكري والمبرّد وثعلب وطبقتهم، وعمل كاتباً في دواوين الخلافة بدار السلام مدّة طويلة من عمره، وكانت للخلفاء العباسيين عناية ظاهرة بالأدب والشعر، وله كتب كثيرة من أشهرها: "نقد الشعر"، و"جواهر الألفاظ" ، و"الخراج وصناعة الكتابة" وهي مطبوعة، وله كتب أخرى غير مطبوعة - فيما أعلم - منها: "صناعة الجدل" ، و"زهر الربيع" و"نزهة القلوب" و"السياسة" و"الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام".
وقد ذكر قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر" أنواعاً من البديع لم يذكرها ابن المعتزّ، ومما زاده: الترصيع، والتتميم، والتكافؤ، وصحة التقسيم، وصحة المقابلة، وغيرها.
وكثير من هذه التسميات جارية مجرى الاصطلاح الذي قد لا يتبيّن معناه إلا بالوقوف على شرحه ومثاله.
3. "حلية المحاضرة"، لأبي علي محمد بن الحسن الحاتمي (ت:388هـ)، وهو كتاب بديع في بابه، يدلّ على عنايته ببديع الشعر وكثرة اشتغاله به، وقد ذكر في كتابه هذا من أنواع البديع ما لم يذكره ابن المعتزّ ولا قدامة بن جعفر، وكان مما زاده: الترديد، والتسهيم، والتتبيع، والتبليغ، والاستطراد، والحشو البديع، وغيرها.
4. "كتاب الصناعتين"، لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري (ت: بعد 395هـ)، وأراد بالصناعتين صناعة الكتابة وصناعة الشعر، واشتمل كتابه على عشرة أبواب في علم البلاغة، وأفرد منها باباً في البديع ذكر منه خمسة وثلاثين نوعاً.
وأبو هلال العسكري معتزليّ متفنّن في العلوم إلا أنّ العناية بالشعر غلبت عليه.
5. "العمدة في محاسن الشعر وآدابه"، لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت: 463 هـ) وقد ذكر في كتابه هذا أنواعاً كثيرة من البديع.
6. "البديع في نقد الشعر"، للأمير أبي المظفّر أسامة بن مرشد ابن منقذ الشيزري(ت:584هـ) ، وكان شاعراً أديباً حسن الذوق والمعرفة بالشعر، ذكر عن نفسه أنه يحفظ عشرين ألف بيت من الشعر الجاهلي، وكان من أمراء الحرب في زمانه قاد الحملات ضدّ الصليبيين، وقاتل قتال الأبطال، وله أخبار مأثورة، ووقائع مذكورة، وأشعار مستحسنة، واختيارات مستعذبة، وكتب كثيرة من أشهرها: "المنازل والديار"، و"لباب الآداب"، و"العصا"، و"البديع في نقد الشعر"، وهي كتب مطبوعة، وله غيرها مما لم يطبع.
وقد ذكر في كتابه هذا من أنواع البديع ما لم يُذكر في الكتب قبله، وكان حسن الانتقاء للأمثلة والشواهد، بصيراً بلطائف المعاني ومآخذ الشعراء وعلل الاختيار، على أنّ ابن أبي الإصبع المصري قد انتقده انتقاداً شديداً.
7. "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، لأبي الفتح نصر الله بن محمد ابن الأثير الجزري الموصلي(ت: 637هـ)، وكان وزيراً كاتباً، وله كتب أخرى في الترسّل والكتابة ونقد الشعر، وقد اشتهر كتابه "المثل السائر" شهرة كبيرة، وذكر فيه أنواعاً كثيرة من البديع.
8. "تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن"، لأبي محمد عبد العظيم بن عبد الواحد ابن أبي الإصبع المصري(ت:654هـ)، وكتابه هذا من أجلّ كتب البديع وأجمعها، وقد قال في مقدّمته: (ولقد وقفت من هذا العلم على أربعين كتاباً منها ما هو منفرد به، وما هذا العلم أو بعضه داخل في بعضه)ا.هـ.
وقد عني بهذا العلم عناية بالغة حتى جعله وظيفة عمره، وذكر في مقدّمة كتابه أنه جمع فيه ستين نوعاً من أنواع البديع أضافها إلى الثلاثين المتحصّلة من جمع ابن المعتزّ وقدامة بن جعفر؛ فصار مجموع أنواع البديع في كتابه هذا تسعين نوعاً، شرحها ومثّل لها، وحرّر كتابه وحبّره؛ فكان من أجمع كتب البديع وأنفعها، غير أنّ ما ذكره من أنواع البديع منه ما هو معدود من علم البيان، ومنه ما هو معدود من علم المعاني، ولم يشتهر فصل "علم البديع" عنهما إلا بعده بزمن؛ إذ قصره المتأخرون على المحسّنات المعنوية واللفظية.
ثمّ إنّ ابن أبي الإصبع لم يزل مشتغلاً بالبديع مدة طويلة من عمره في شبيبته ومشيبه، وذكر أنه ذاكر به عقلاء العلماء، وأذكياء الفضلاء، ونبلاء البلغاء، وكلّ من له عناية بتدبّر القرآن.
وذكر في مقدّمة كتابه "بديع القرآن" أنه تحصّل له مما جمع ممن تقدّمه خمسة وستون نوعاً، واستنبط هو واحداً وثلاثين نوعاً؛ فبلغ المجموع مائة وستة وعشرين نوعاً من أنواع البديع، ثمّ أفرد ما يختص بالقرآن منها فكان مائة نوع وثمانية أنواع.
قال: (فاستنبطت واحداً وثلاثين باباً لم أُسبق في غلبة ظنّي إلى شيء منها، إلا أن يوجد في زوايا الكتب شيء من ذلك لم أقف عليه؛ فأكون أنا ومن سبقني متواردين عليه، وما إخال ذلك إن شاء الله تعالى)ا.ه.
قال صفيّ الدين الحلّي: (سُلّم له منها عشرون، وباقيها مسبوق إليه أو متداخل عليه، وكتابه المسمّى "التحرير" أصحّ كتاب أُلّف في هذا العلم لأنّه لم يتّكل على النقل دون النقد)ا.هـ.
وتعداد الأنواع التي ذكرها يطول، وكثير منه يحتاج إلى شرح وتمثيل.
ولابن أبي الإصبع عناية ظاهرة بالبديع ولطائف معاني القرآن، وله كتاب لم يطبع فيما أعلم سمّاه "الخواطر السوانح في كشف أسرار الفواتح" أي فواتح القرآن، وقد لخّصه السيوطي في "الإتقان" وفي "معترك الأقران في إعجاز القرآن".
وله أبيات حسنة في وصف بديع القرآن من قصيدة له في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله:
وآيته العظمى بلاغة ما به .. أتى من كتابٍ فضله ليس يُجحد
تفرّد في عصر البيان بيانه .. بأسلوبه إذ نظمه متفرّد
وفي نظمه بعد الغرابة معجز .. محاسنه لم تنحصر فتُحدّد
هدى الناسَ منه للبديع بديعُه .. فصاغوا حُليّ القول منه وقلّدوا
بمعنى يزين المرءُ منه كلامه .. فيحلو بأسماع الورى حين يُورَدُ
ويُضحي لما يأتي به أيّ رونق .. يُعظّمه المصغي له ويُمجّد
وجاء سَليماً نظمُه من معايب .. بلا سقطة فيه لمن يتفقّدُ
9. الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، للمؤيد باللَّه يحيى بن حمزة العلويّ (ت: 745هـ)، وقد ضمّنه أنواعاً كثيرة من البديع.
10. "زهر الربيع في شواهد البديع"، لمحمد بن قرقماس بن عبد الله الناصري(ت:882هـ)، وهو كتاب لطيف ذكر فيه ثلاثة وأربعين باباً من أبواب البديع، ومثّل لها بأمثلة من نظمه.
11. القول البديع في علم البديع، لزين الدين مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (ت:1033هـ) من فقهاء الحنابلة المعروفين، وله كتاب "دليل الطالب" تخرّج به جماعة من الفقهاء.
فهذه أشهر الكتب في البديع، وأكثرها في بديع الشعر، ومنهم من يمثّل لبعض الأوجه من الآيات والأحاديث وأقوال الفصحاء.
ولبعض مَن كتب في علوم البلاغة عناية بذكر أنواع البديع على تفاوت بينهم في ذلك، فذكر بعضَ أنواعه عبد القاهر الجرجاني(ت:471هـ) في كتابه أسرار البلاغة من غير أن يميّزه بقسم.
ثم أتى بعده أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي(ت:626هـ) وهو تلميذ الحاتمي صاحب "حلية المحاضرة" ، فألّف كتابه "مفتاح العلوم"، وحصر فيه البلاغة في علمي المعاني والبيان إلا أنّه ألحق بهما محلقاً في الفصاحة والمحسنات المعنوية واللفظية؛ وذكر منها تسعة وعشرين نوعاً استمدها من كتاب "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز" للفخر الرازي؛ فكان هذا الفصل ممهّداً لتقسيم علوم البلاغة إلى ثلاثة أقسام: المعاني والبيان والبديع.
ثمّ أتى بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الله ابن مالك الطَّائي الأندلسي (ت: 686هـ) ، المعروف بابن الناظم، وهو ابن صاحب الألفية المشهورة في النحو؛ فألّف كتابه "المصباح في المعاني والبيان والبديع"، فكان أوّلَ من عُرف أنّه صرّح بجعل علم البديع قسيماً لعلمي المعاني والبيان، ثم اشتهر هذا التقسيم في كتب البلاغة). [طرق التفسير:254 - 259]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:01 PM

البديعيات
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (البديعيات
البديعيات جمع بديعية، وهي القصيدة المرصّعة بأنواع البديع.

وكان الشعراء المحدثون في القرن الثاني والثالث والرابع على تنافسهم في البديع وأنواعه لم يُعرف عنهم أنهم تصدّوا لنظم أنواع البديع بأمثلتها في قصائد مقصدها التعريف بأنواع البديع، وإنما كان الذي فشا فيهم الإكثار من البديع في تحلية قصائدهم التي لها مقاصد أخرى، حتى أتى يحيى بن عبد المعطي الزواوي (ت:628هـ) فنظم أنواع البديع وشواهده في منظومة سمّاها "البديع في علم البديع" قال في مطلعها:
يقول ابن معطٍ قلت لا متعاطياً .. مقالة من يرجو الرضا والتعاطيا
أتيت بأبيات البديع شواهداً .. أضمّ إليها في نظيمي الأساميا
- ثمّ نظم أمين الدين علي بن عثمان السليماني الإربلّي(670هـ) قصيدة من ستة وثلاثين بيتا ضمّنها أنواعاً من البديع، قال في مطلعها:
بعضَ هذا الدّلال والإدلال ... حالي الهجر والتّجنّب حالي
حرت إذ حزت رَبع قلبي وإذْ لا ... لي صبر أكثرت من إذلالي
- ثمّ ابتكر صفيّ الدين عبد العزيز بن سرايا الطائي الحلّي(ت:750هـ) بديعية في المديح النبوي عارض بها بردة البوصيري (ت:696هـ) سمّاها "الكافية البديعية في علوم البلاغة ومحاسن البديع" ، وهي مائة وخمسة وأربعون بيتاً تشتمل على مائة وواحد وخمسين نوعاً من أنواع البديع، ومطلعها:
إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم .. واقرا السلام على عُرْب بذي سلم
وشَرَحَ بديعيته هذه في كتاب طبعه مجمع اللغة العربية بدمشق.
وهي قصيدة فيها فوائد بديعية إلا أنه شانها بالغلو في المدح فلذلك ينبغي أن يحذر مما فيها من مجاوزة الحدّ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وبديعية الحلّي شاعت وذاعت في عصره وبعد عصره وعارضها جماعات من الشعراء حتى جاوزوا المائة، ومنهم من زاد عليه في أنواع البديع.
ومن أشهر ما عورضت به بديعية الحلّي:
1. بديعية ابن جابر، وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي، وتعرف أيضاً ببديعية الأعمى ، لأنه كان كفيف البصر، وقد سمّاها "الحلة السيرا في مدح خير الورى"، وهي معدودة من أجود البديعيات نظماً حتى فضّلها بعضهم على بديعية الحلّي، ومما قال فيها:
عُج بي عَلَيهِم فَعُجبي مِن جَفاءِ فَتىً ** جازَ الدِّيارَ وَلَم يُلمِم بِرَبعِهِمِ
دَع عَنكَ سَلمى وَسَل ما بِالعَقيق جَرى ** وَأُمَّ سَلعاً وَسَل عَن أَهلِهِ القُدُمِ
وكان له صديق كالأخ أو هو أقرب من حسن ملازمته له في أسفاره ورحلاته، وقيامه بشؤونه، ومؤانسته له، اسمه أحمد بن يوسف الرعيني الأندلسي(ت779هـ)، فاصطحبا في رحلاتهما من الأندلس إلى الشام مروراً بمصر يسمعان القراءات والحديث ويدرسان النحو وعلوم العربية، حتى عُرفا بالأعمى والبصير، وكان ابن يوسف أديباً ناقداً ، فشرح بديعية صديقه في كتاب حافل سمّاه "طراز الحلة وشفاء الغلة"، وهو مطبوع
ولم يتفرَّقا حتى تزوّج ابنُ جابر بعد استقراره في حلب، فغادرها ابن يوسف ومات قبله بسنة.
2. بديعية عز الدين علي بن الحسين الموصلي (ت:789هـ) ، وسمّاها: "التوصل بالبديع إلى التوسل بالشفيع"، والتزم فيها أن يودع كل بيت اسم النوع البديعي الذي فيه، بالتورية أو الاستخدام أو التنبيه، لكنّه أنهك بهذا الالتزام قصيدته وأذهب رونقها، ومطلعها:
براعة تستهل الدمع في العلم … عبارة عن نداء المفرد العلم
3. بديعية شهاب الدين أحمد العطار (ت: 794هـ) ، سمّاها، "الفتح الإلّي في مطارحة الحلّي".
4. بديعيَّة عيسى بن حجاج بن عيسى بن شداد السعدي (ت:807هـ) ، وهي رائية، شرحها مجد الدين إسماعيل الحنفي شيخ الحافظ السخاوي.
5. بديعيات زين الدين شعبان بن محمد بن داوود الآثاري الموصلي (ت:828هـ)، وهي ثلاث بديعيات: كبرى ووسطى وصغرى.
6. بديعية أبي بكر علي بن حجة الحموي (ت: 837هـ) ، و"سماها "تقديم أبي بكر" ، وشرحها شرحاً حافلاً في كتاب سمّاه "خزانة الأدب وغاية الأرب"، وهو مطبوع.
7. بديعية جلال الدين السيوطي (ت:911هـ) ، وقد سماها "نظم البديع في مدح خير شفيع"
8. بديعية عائشة بنت يوسف الباعونية (ت: 923هـ) ، وقد شرحت بديعيتها في كتاب سمّته "الفتح المبين في مدح الأمين".
9. بديعية الحميدي، وهو عبد الرحمن بن أحمد بن علي الحميدي (ت:1005هـ ) ، وسماها: "فتح البديع بشرح تمليح البديع بمدح الشفيع"
10.بديعية ابن معصوم، وهو علي بن أحمد بن محمد ابن معصوم الهندي (ت:1119هـ)، وقد اشتملت على مائتي نوع من البديع، وله شرح حافل عليها سماه "أنوار الربيع في أنواع البديع"، وهو مطبوع.
فهذه عشر بديعيات، وأكثرها لها شروح مطبوعة، وأقرب فوائدها التعريف بأنواع البديع بالشرح والتمثيل، وأما نظم عامة تلك البديعيات فهو منتقد عند أهل البلاغة من جهة ضعف صنعة الشعر فيها وكثرة إنهاك الأبيات بتكلّف البديع، وكون الألفاظ قائدة للمعاني على عكس غاية البيان، وقد يُنتخب من بعض تلك البديعيات أبيات حسنة قليلة في جنب كثير لا يستساغ، مع ما في بعضها من الغلوّ في المدح إلى درجة وصف النبي صلى الله عليه وسلم ببعض خصائص الربوبية، وسؤاله الحاجات، وهذا من الشرك الأكبر والعياذ بالله). [طرق التفسير:260 - 263]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:05 PM

فائدة علم البديع للمفسّر
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة علم البديع للمفسّر
ينبغي أن يكون للمفسّر نصيب وافرٌ من علوم البلاغة، ومنها علم البديع، وهو من العلوم التي لا يحاط بها لتفاضل القرائح والفهوم في إدراك أنواعه وأمثلته، ولذلك لم يزل العلماء يزيد بعضهم على بعض فيها؛ حتى إنّ ابن أبي الإصبع لما بلغ مائة وعشرين نوعاً أمسك الفكر عن التوغّل في أنواع البديع، وزاد عليه صفيّ الدين الحلّي ثلاثين نوعاً.

وقال أبو يعقوب السكاكي بعد أن ذكر تسعة وعشرين نوعاً من البديع: (فلك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت، وتلقب كلا من ذلك بما أحببت)ا.هـ.
ولم يزل أهل البديع يزيد بعضهم على بعض في أنواعه حتى أوصلها ابن معصوم إلى مائتي نوع في بديعيته.
وقد يتواردون على أنواع من البديع
فيختلفون في تسمية بعضها والحقيقة واحدة.
وقد يظهر للناظر الفَطِن من أنواع البديع ما لا يجده في كتب البديع، على أنّي أوصي المفسّر بأن يأخذ من أنواع البديع بما ظهر نفعه وتيسّر فهمه، وأن لا يتوغّل فيه توغّل المتكلّفين.
وليكن غرض المفسّر منه ما يعينه على استخراج الأوجه التفسيرية والمعاني اللطيفة، لأنّ علم البديع إذا أوتي الناظرُ فيه حسنَ ذوق، ولطافة ذهن، وقدرة على الاستخراج والتبيين توصّل به إلى أوجه بديعة في التفسير قد لا يتفطّن لها كثير من الناس، فتفيده في التدبّر واستحضار معاني الآيات ولوازم المعاني.

وسأضرب أمثلة بعون الله تعالى على نوعين من أنواع البديع تبيّن فائدة هذا العلم للمفسّر:
النوع الأول: الاحتباك ، وهو افتعال من الحبك ، وهو شدّة الإحكام في حسن وبهاء، وكلّ ما أُجيد عمله فهو: محبوك، وتقول العرب: فرس محبوكة إذا كانت تامّة الخلق شديدة الأسر، ومنه يقال: لشدّ الإزار وإحكامه: الاحتباك.
والمراد بالاحتباك عند أهل البديع أن يقابَل بين جملتين مقابلة غير متطابقة؛ فيحذف من الجملة الأولى ما يقابل الثانية، ويحذف من الثانية ما يقابل الأولى، فتدلّ بما ذكرت على ما حذفت، ويحتبك اللفظ والمعنى بإيجاز بديع.
ولذلك سمّاه بدر الدين الزركشي(ت:795هـ) "الحذف المقابلي"، وهو من أجود أنواع البديع المعنوي، وله أمثلة كثيرة في القرآن:
منها: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فدلّ على الاحتباكِ في هذهِ الآيةِ المقابلةُ بين جزاء وحال، والمتبادر إلى الذهن أن يُقابَل بين جزاء وجزاء ، وأن يقابل بين حال وحال؛ فالخروج عن المتبادر لا يكون إلا لفائدة بلاغية؛ فكان تقدير الكلام على هذا المعنى: أفمن يأتي خائفاً يوم القيامة ويلقى في النار خير أمّ من يأتي آمناً ويدخل الجنّة.
والناظر في أمثلة الاحتباك التي يذكرها بعض المفسّرين وأهل البديع يتبيّن له إمكان تقسيم الاحتباك إلى درجتين:
- احتباك ثنائي التركيب، ومثاله ما تقدّم.
- واحتباك ثلاثي التركيب، وهو بديع جداً، ومن أمثلته قول الله تعالى في سورة الفاتحة: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
ففي هذه الآية نوع عزيز من أنواع الاحتباك أشار إليه ابن عاشور رحمه الله.
وشَرْحُ كلامه: أنّ التقابلَ في هذه الآية ثلاثي التركيب ففيه:
1. مقابلة بين الإنعام والحرمان.
2. ومقابلة بين الرضا والغضب.
3. ومقابلة بين الهدى والضلال.
وتقدير الكلام بما يتّضح به هذا المعنى: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم} فهديتَهم ورضيت عنهم {غير المغضوب عليهم} الذين حرموا نعمتك وضلّوا، {ولا الضالّين} الذين حرموا نعمتك وغضبت عليهم.
وقد اعتنى بهذا النوع جماعة من العلماء كبدر الدين الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن، وبرهان الدين البقاعي في "نظم الدرر"، وجلال الدين السيوطي في "التحبير" و"الإتقان" و"معترك الأقران"، والألوسي في "روح المعاني"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير"؛ وأفرده البقاعي بمؤلّف سمّاه "الإدراك لفنّ الاحتباك"، وأُفردت فيه رسائل علمية في هذا العصر.
النوع الثاني: حسن التقسيم، ويسميه بعض أهل البديع صحة التقسيم، وهو على نوعين: لفظي ومعنوي وقد يجتمعان.
فالتقسيم اللفظي: تقسيم الكلام إلى جمل يسيرة متسّقة متآلفة.
ومنه قوله تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.
ومن أمثلة هذا النوع في الشعر قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
حَمّالُ ألوِيَةٍ هَبّاطُ أودِيَةٍ .. شَهّادُ أنْدِيَةٍ للجَيشِ جَرّارُ
وهذا البيت فيه مع التقسيم اللفظي بديع لفظي آخر وهو الترصيع.
والتقسيم المعنوي: هو استيفاء أقسام المُقسَّم نصّاً أو تنبيهاً، وهو كثير جداً في القرآن الكريم.
ومن أمثلته قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}
فإنّه استوفى ذكر أقسام أمّة الاستجابة فجعلها على ثلاثة أقسام:
1. المحسنين.
2. والمقتصدين .
3. وظالمي أنفسهم، وهم الذين لديهم أصل الإيمان لكنّهم مقترفون لذنوب لم يتوبوا منها.
ولا تخرج أقسام أتباع الرسل عن هذه الأقسام الثلاثة، ولكلّ قسم حظّه من الاصطفاء بقدر حظّه من الاستجابة.
ومن أمثلته أيضاً: قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
فاستوفت الآية أقسام حالات العبد.
والتقسيم له أصل في النصوص، ومن دلائله حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي؛ فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). رواه مسلم في صحيحه.
فهذا الحديث نصّ على التقسيم، وهو تقسيم معنوي جليل القدر.
قال ابن عاشور: (في هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. وحسن التقسيم من المحسنات البديعية).ا.هـ.
ومما ينبغي أن يُعلم أنّ التقسيم المعنوي منه ظاهر وخفيّ.
- فالتقسيم الظاهر ما تقدّمت أمثلته، وهو ما ذُكرت أقسامه نصّا أو كان التنبيه فيه على ما حذف ظاهراً.
- والتقسيم الخفيّ ما احتيج فيه إلى استنباط واستخراج، وله دلائل تدلّ عليه، وهو باب عظيم من أبواب تدبّر القرآن، وأمثلته في القرآن كثيرة جداً، يتفاضل العلماء في استخراجها، وإدراك موارد التقسيم فيها.
ومن أكثر من رأيت له عناية بهذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فله براعة ظاهرة في استخراج هذا الأنواع، والكشف عن موارد التقسيم وبيانها، إلا أنّ كلامه في بعض المواضع كالتنبيه وفتح الباب للمتأمّل حتى يدرك ما وراء عبارته.
ومن ذلك قوله في رسالة "أمراض القلوب وشفائها": (العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول هو الضلال، وضد الثاني هو الغيّ، والضلال: العمل بغير علم، والغي: اتباع الهوى، قال تعالى: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى} فلا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرشاد إلا بالصبر )ا.هـ.
فهذا الكلام يُستفاد منه التنبّه لما في الآية من تقسيم معنويّ خفيّ، وقد بيّن مورد التقسيم، وهو العلم والعمل، وهذا المورد أصل لكثير من التقسيمات المعنوية في القرآن الكريم.
فقوله تعالى: {ما ضلّ صاحبكم وما غوى} فيه استيفاء الردّ على الإيرادات المحتملة لمنكري خبره صلى الله عليه وسلم عن المعراج.
فقوله: {ما ضلّ} ينفي عنه القول بغير علم.
وقوله: {وما غوى} ينفي عنه إرادة الإخبار بخلاف الحقّ الذي يعلمه.
فإذا كان ما يعلمه حقاً، وأخبر بهذا الحقّ؛ فلا بدّ أن يكون كلامه حقّاً؛ فقامت الحجّة بصدقه؛ لأنّ الحقّ لا يتخلّف عن الخبر إلا بأحد أمرين:
  • أن يكون المُخبر غير عارف بالحقّ، وهذا هو الضلال.
  • أو أن يكون عارفاً به لكن لا يريد الإخبار به، وهذا هو الغيّ.
فاستوفى بهذا التقسيم الحجّة على صدق خبره صلّى الله عليه وسلم.
وزادهم بيانا بذكره بلفظ {صاحبكم} للإشارة إلى أنّكم تعرفون صدقه، وعقله، ورشده، وأنه ليس بالمتّهم عندكم، وقد لبث فيكم عمراً تدعونه الصادق الأمين؛ فهو صاحبكم الذي تعرفونه، وما ضلّ ، وما غوى.
- ونظير هذا قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا}
فجمع الله تعالى في هذه الآية التكفّل بما يحتاجه الداعي إليه، وهما يرجعان إلى أمرين: الهداية والنصر؛ فبالهداية يعرف الحقّ من الباطل، ويسير على الصراط المستقيم، وبالنصر يعان على عدوّه ويتمّ له مقصده، وتحسن عاقبته.
وتقديم الهداية على النصر في هذه الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهداية من ثمرات العلم، والنصر من ثواب العمل.
  • ومن ألطف الأمثلة على التقسيم المعنوي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
  • فجمع الله في هذه الآية أصلي علم السلوك، وهما: البيّنات والهدى، وحاجة الناس إليهما ماسّة، بل هي أشدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأنّه لا نجاة من العذاب ولا طمع في الثواب إلا بهما؛ فمن كتمهما كان أقبح وأضرّ ممن يمنع الطعام والشراب مع تيسّره.
  • وكتمان البينات يكون بإخفاء الحقّ ولبسه بالباطل، وتضليل الناس، وصدّهم عن الحق.
  • وكتمان الهدى يكون بترك العمل بالحقّ.
فلا يعرف الناس حقاً يتبيّنون به الصواب من الخطأ، ولا يرون قدوة يأتسون بها، ويبصرون صلاح حالها؛ فيقع الناس في عمياء بين دعاة فتنة يضلّونهم، أو علماء سوء تدعوهم ألسنتهم إلى الحق، وتدعوهم أفعالهم إلى الباطل.
ولذلك كانت هذه الآية من أشدّ الآيات على العلماء لأنّهم يدركون أنّه لا نجاة لهم إلا بالعلم والعمل؛ فبالعلم الصحيح يتحقّق التبيّن ويُعرف الحقّ من الباطل، وبالعمل بهذا العلم يتحقّق الهدى؛ فإنّ العالم لا يكون مهتدياً حتى يعمل بعلمه.
فرجع مورد التقسيم إلى أصلي العلم والعمل.
والأمثلة على هذا النوع كثيرة جداً، والموفّق اللبيب يستخرج بهذا النوع علماً غزيراً مباركاً، ولو أُفرد فيه مؤلَّف لكان مجلداً كبيراً.
والمقصود في هذا المقام التنبيه إلى فائدة علم البديع للمفسّر، وذكر بعض الأمثلة الموضّحة لفائدته من غير تطويل). [طرق التفسير:263 - 271]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:33 PM

النوع العاشر: تناسب الألفاظ والمعاني.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع العاشر: تناسب الألفاظ والمعاني.
تناسب الألفاظ والمعاني في القرآن الكريم علم لغوي لطيف المأخذ، عزيز المنال، يلتئم من معرفة صفات الحروف، ودرجاتها، وتناسب ترتيبها، ومراتب الحركات، مع العلم بالاشتقاق، والتصريف، والأشباه والنظائر والفروق اللغوية، وقد اعتنى به جماعة من المفسّرين لفائدته في إحسان تبليغ معاني القرآن، وتقريب دلائل ألفاظه، وهو معين على إدراك التناسب بين بعض الأقوال الصحيحة، والترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني).
وهذا العلم من العلوم التي لم ينضج التأليف فيها بعد، ولم تزل معالمه بحاجة إلى تشييد وتجديد، وكثير من أبوابه ومسائله بحاجة إلى تأصيل وتفصيل.
ومما يذكره العلماء في مسائل هذا العلم ما هو ظاهر يدركه من له فقه في العربية، وذوق في حسن بيانها، ومنه ما يحتاج في معرفته إلى تفكّر ونظر دقيق في الألفاظ وتركيبها ونظائرها وصفات حروفها وتناسب حركاتها). [طرق التفسير:272]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:36 PM

نشأة علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نشأة علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
لهذا العلم أصول مأثورة عن بعض علماء اللغة المتقدمين كالخليل بن أحمد وسيبويه ومن في طبقتهما.
ثم ابن قتيبة وأبي العباس المبرّد وثعلب ومن في طبقتهم.
ثمّ أبي القاسم الزجاجي وأبي سعيد السيرافي وأبي منصور الأزهري وأبي علي الفارسي ومن في طبقتهم.
لكن كلام هؤلاء الأعلام في هذا العلم إنما هو إشارات متفرقّة لا تبلغ أن يستفاد من مجموعها مادّة كتاب، حتّى أتى أبو الفتح ابن جنّي(ت:392هـ) فحاول كشف مكنونات هذا العلم والتنقيب عن أصوله، وإبراز معالمه؛ فكتب في "الخصائص" باباً سماه "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، وقال فيه: (هذا غَورٌ من العربية لا يُنتَصف منه، ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه، وإن كان غُفْلًا مسهوًّا عنه) إلى آخر ما قال في هذا الباب.
وقال في بيان بعض أنواع مسائله: (من ذلك قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزّهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء؛ فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزِّ؛ لأنَّك قد تهزّ ما لا بالَ له كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك.
ومنه "العَسْف" و"الأسَف"، والعين أخت الهمزة، كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من "التردد" بالعسف؛ فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين)ا.هـ.
ثم قال في آخر هذا الباب: (وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة, وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه, بل مَنْ إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبًا, وعزَّ فيهم مذهبًا)ا.هـ.
ثمّ أتبع هذا الباب باباً طويلاً سمّاه : (إمساسَ الألفاظ أشباه المعاني) وهو من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
وكان في عصره أحمد بن فارس الرازي(ت:395هـ) صاحب "معجم المقاييس" و"مجمل اللغة" و"الصاحبي في فقه اللغة" وغيرها، وله في هذا العلم كلام حسن متفرّق في كتبه.
ثمّ أتى شيخ الإسلام ابن تيمية(ت:728هـ) فتكلم في أمثلة لهذا العلم بكلام بديع في عدد من كتبه، واستعمله في الترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية، والتنبيه على علل بعضها.
وقد ذكر تلميذه النجيب ابن القيّم (ت:751هـ) أنّه سأله عن هذا العلم، فشرح له فيه فصلاً عظيم النفع، وقد وقع هذا الشرح من تلميذه موقعاً حسناً؛ فأخذه وحبّره، وزاد في أمثلته، وفرّع عليه، حتى فتح له في هذا العلم أبواب لطيفة بديعة، وتمنّى أنْ يؤلّف فيه كتاباً مستقلاً، وذكر فيه كلاماً مطوّلاً في كتابه "جلاء الأفهام" ثم قال: (وهذا أكثر من أن يحاط به، وإن مدَّ الله في العمر وضعت فيه كتاباً مستقلاً إن شاء الله تعالى، ومثل هذه المعاني تستدعي لطافة ذهن ورقة طبع، ولا تتأتَّى مع غلظ القلوب، والرضا بأوائل مسائل النحو والتصريف، دون تأمّلها وتدبّرها والنظر إلى حكمة الواضع، ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدقّ على أكثر العقول، وهذا باب ينبّه الفاضل على ما وراءَه {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}).ا.هـ
وكان الذي جرّه إلى هذا الاستطراد شرح معنى الميم في "اللهمّ" فذكرَ الأقوال فيها وبيّن مآخذها وعللها ثمّ قال: (وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في زُرْقُم لشديد الزرقة، وابنم في الابن، وهذا القول صحيح ولكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظَ معنى صحيحاً لا بد من بيانه، وهو أنَّ الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أساطين العربية وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في الخصائص، وذكره عن سيبويه، واستدلَّ عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى، ثم قال: "ولقد كنت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه" فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جني؛ فقال: "وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك".
ثم ذكر لي فصلاً عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط:
  • فيقولون: "عزَّ يَعَزُّ" بفتح العَين إذا صلب، وأرض عزاز: صلبة.
  • ويقولون: "عَزَّ يَعِزُّ بكسرها، إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب؛ فقد يكون الشيء صلباً ولا يمتنع على كاسره.
  • ثم يقولون: عزَّه يَعُزُّه إذا غَلَبَه، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام: {وعزني في الخطاب}.
والغلبة أقوى من الامتناع؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعاً في نفسه، متحصناً من عدوّه، ولا يَغْلِب غيرَه؛ فالغالب أقوى من الممتنع؛ فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع؛ فأعطوه أضعف الحركات، والممتنع المتوسط بين المرتبتين؛ فأعطوه حركة الوسط). إلى آخر ما قال، وهو فصل طويل.
وهذا نوع من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
وقال ابن القيّم أيضاً: (الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هي أرواحها، يتفرَّس الفطنُ فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسّه كما يتعرّف الصادقُ الفراسةَ صفاتِ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته، وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه: "قال ابن جني: مكثت برهة إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه ثم أكشفه؛ فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه.
فقال لي رحمه الله: وهذا كثيرا ما يقع لي".
وتأمَّل حرف "لا" كيف تجدها لاماً بعدها ألِفٌ يمتدّ بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس؛ فآذَنَ امتدادُ لفظها بامتداد معناها ولن بعكس ذلك؛ فتأمَّله فإنه معنى بديع.
وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} بحرف "لا" في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل؛ فصار من صيغ العموم؛ فانسحب على جميع الأزمنة وهو قوله عز وجل: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم: تمنوا الموت فلا يتمنونه أبدا.
وحرف الشرط دلَّ على هذا المعنى، وحرف "لا" في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها.
وقال في سورة البقرة: {ولن يتمنوه} فقصر من سعة النفي وقرَّب لأن قبله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} لأنَّ "إن كان" هنا ليست من صيغ العموم؛ لأن كان ليست بدالة على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث؛ فكأنه يقولُ عزَّ وجلَّ إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة وثبتت لكم في علم الله فتمنوا الموت الآن ثم قال في الجواب: {ولن يتمنوه} فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعا)ا.هـ). [طرق التفسير:273 - 277]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:41 PM

ائتلاف الألفاظ والمعاني عند أهل البديع
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ائتلاف الألفاظ والمعاني عند أهل البديع
مما ينبغي التنبّه له أنّ أهل البديع لهم عناية بما يقارب هذا العلم في اسمه ويخالفه في بحث مسائله؛ ففي عدد من كتب البديع باب في "ائتلاف اللفظ والمعنى"، وأوّل من ذكر هذا الباب قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر" وجعل له أنواعاً، ثمّ تبعه جماعة من أهل البديع، فزادوا عليه فيها، وضمّ بعضهم إلى أنواعه أنواعاً أخرى، ومنهم من يسمّيها "التهذيب والتأديب"

وكلّ تلك المباحث غير داخلة فيما نحن بصدده من ذكر مناسبة الألفاظ في صفات حروفها وترتيبها وحركاتها وطريقة نطقها للمعاني الدالة عليها وإن لم تكن في جمل مفيدة.
وسألخّص ما ذكره أهل البديع في باب "ائتلاف اللفظ والمعنى" حتى يحصل تصوّر ما يريده أهل البديع، ويُعرف اختلافُه عن موضوع علم التناسب بين الألفاظ والمعاني.
فما ذكره أهل البديع في "ائتلاف اللفظ والمعنى" راجع إلى الموازنة بين الألفاظ والمعاني من جهة مقدار الدلالة فيهما، ولذلك يقسّمونها إلى إيجاز ومساواة وإطناب، ويتفرّع على هذه الدرجات أنواع أخرى: كالإشارة والإرداف والمقابلة وغيرها.
أ. فأمّا الإشارة، فهي أن تدلّ بألفاظ قليلة على معنى كثير لا تقتضيه دلالة الألفاظ بوضعها، ولكن بتنبيهها وإشارتها.
ومثاله قوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} فأشارت هذه الألفاظ اليسيرة إلى معانٍ كثيرة، ودلّت على حجج بليغة في الردّ على النصارى الذين غلوا في عيسى وأمّه وادّعوا فيهما الألوهية:
- منها: احتياجهما إلى الطعام كسائر البشر، والمحتاج لا يصلح أن يكون إلهاً.
- ومنها أن لهما مالآكل الطعام من الجوف والقنوات التي يتصرف فيها الطعام داخل الجسم، وأنّ الذي قَدّر لهما تصريف الطعام في أجسادهما إنما هو الله، وأنّ الذي لا يستطيع أن يدبّر تصريف الطعام الذي يأكله في جسده كيف يستطيع تدبير شؤون الخلق؟!!
- ومنها أنّ آكل الطعام عرضة للجوع والأمراض، وقد قيل: فإنّ الداء أكثر ما تراه .. يكون من الطعام أو الشراب
- ومنها: أن آكل الطعام محتاج إلى إخراج فضلاته، والإله الحقّ إنما هو القدوس السلام المتنزّه عما لا يليق بجلاله وعظمته.
فانظر كيف دلّت هذه الإشارة الوجيزة على معانٍ كثيرة وحجج بليغة.
ومثال هذا النوع في الشعر:
قول حجل بن نضلة: جاء شقيقٌ عارضاً رمحه .. إن بني عمّك فيهم رماح
فقوله: (عارضاً رمحه) وقوله: (فيهم رماح) فيهما إشارة إلى ما ورائهما من المعاني التي ترك الشاعرُ ذِكْرَها، واكتفى بالتنبيه عليها.
ب: وأمّا المساواة؛ فقد عرّفها أبو هلال العسكري بأن تكون المعاني بقدر الألفاظ، والألفاظ بقدر المعاني، لا يزيد بعضها على بعض، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب، ومثّل له بقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.
ومثّل له قدامة بن جعفر بقول امرئ القيس:
فإن تكتمُوا الداءَ لا نخفهِ ... وإن تبعَثُوا الحربَ لا نقعدِ
وإن تقتلونَا نقتّلكمُ ... وإن تقصدُوا لدمٍ نقصدِ
ج: وأمّا الإرداف، فهو أن تدلّ على معنى بلفظ غير مباشر الدلالة عليه يكون كالمرادف للعبارة الأصلية، وقد مثّل له قدامة بن جعفر بقول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل .. أبوها وإما عبد شمس وهاشم
فعبّر عن طول عنقها بلفظ مرادف، وهو بُعْد مهوى القرط.
د. وأمّا المقابلة فهي أن تُوائم بين لفظين لمناسبة معنوية على جهة المقابلة، ومثاله: قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار} فقابل الركون بالمسّ؛ وبينهما مناسبة معنوية من جهة أنّ الراكن إلى شيء أوّل ما يتحقق به ركونه إليه هو مماسّته له، وكان السامع يتوقّع الإخبار عمّا يحصل بهذا الركون؛ فناسب أنّ يكون جزاء الراكنِ أن تمسّه النار لا أن يمسّ هو ما يطمئنّ إليه، وفي الآية مقابلة أخرى بديعة وهي مقابلة الفعل بالفعل جزاء وفاقاً؛ فلما ابتدأوا الركون بكونهم الفاعلين في {تركنوا}، كان من جزائهم أن تبدأهم النار بالمسّ، ولذلك قال {فتمسّكم النار} ولم يقل [فتمسّوا النار].
ولأهل البديع في هذا الباب تفصيل طويل، ومما ذكروه في هذا الباب ما هو حَسَنٌ ظاهر الحسن، ومنه ما فيه نظر.
والمقصود التنبيه على الفرق بين ما أراده أهل البديع ببحثهم "ائتلاف اللفظ والمعنى" وبين علم تناسب الألفاظ والمعاني.
وإن كان بعضهم قد يُدخل فيه ما يَدخُل في هذا العلم كقول ابن أبي الإصبع المصري: (
ومن ائتلاف اللفظ مع المعنى أن يكون اللفظ جزلاً إذا كان المعنى فخماً، ورقيقاً إذا كان المعنى رشيقاً، وغريباً إذا كان المعنى غريباً بحتاً)). [طرق التفسير:277 - 280]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:43 PM

أنواع مسائل التناسب بين الألفاظ والمعاني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع مسائل التناسب بين الألفاظ والمعاني
النظر في أقوال العلماء في مسائل تناسب الألفاظ والمعاني يدلّ على أنّها على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: تناسب صفات الحروف وترتيبها للمعنى المدلول عليه باللفظ، حتى كأنّها تحكي المعنى بجَرْسها وطريقة نطقها.
والنوع الثاني: تناسب الحركات ومراتبها، ودلالتها على الفروق المتناسبة بين دلائل الألفاظ على المعاني.
والنوع الثالث: مناسبة أحرف الزيادة في الجملة لمعنى الكلام.
وهذه الأنواع متآلفة غير متزايلة، فقد تجتمع كلها في جملة واحدة، وإنما الغرض من التقسيم بيان طرق العلماء في الحديث عن كلّ نوع منها.
وقد يظهر للناظر في مجموع كلامهم من التأصيل والزيادة ما يظهر.
ولا أدّعي أنّ هذه الأنواع حاصرة لأنواع التناسب، لكنّها بحسب ما وقفت عليه، وقد يقع للمستزيد أنواع أخرى بحسب نظره وتأمّله.
وسأمثّل لكلّ نوع بما يبيّنه إن شاء الله تعالى). [طرق التفسير:281]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:45 PM

النوع الأول: تناسب صفات الحروف وترتيبها.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الأول: تناسب صفات الحروف وترتيبها.
وهذا النوع هو أخصّ أنواع التناسب وأنفعها، وله أمثلة ظاهرة الدلالة على المراد، وقد قيل: (الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار).
ولبعض العلماء عناية بهذا النوع، ومن أمثلة ما ذُكِرَ فيه:
- ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى "الصمد": (إذا قيل: الصمد بمعنى المصمت وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار؛ فهو صحيح فإن الدال أخت التاء؛ فإن الصمت السكوت وهو إمساك. وإطباق للفم عن الكلام. قال أبو عبيد: المصمت الذي لا جوف له وقد أصمته أنا وباب مصمت قد أبهم إغلاقه. والمصمت من الخيل البهيم أي لا يخالط لونه لون آخر ومنه قول ابن عباس: إنما حرم من الحرير المصمت فالمصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر، وليست الدال منقلبة عن التاء، بل الدال أقوى، والمصمد أكمل في معناه من المصمت، وكلما قوي الحرف كان معناه أقوى؛ فإن لغة العرب في غاية الإحكام والتناسب ولهذا كان الصمت إمساك عن الكلام مع إمكانه والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لكنه قد يصمت بخلاف الصمد فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه كالصمد، والسيد، والصَّمْد من الأرض، وصماد القارورة ونحو ذلك؛ فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من ألفاظ "الصمد" فإن فيه الصاد والميم والدال، وكل من هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف، والمعاني المدلول عليها بمثل هذه الحروف أكمل)ا.هـ.

- وقال ابن القيّم رحمه الله: (انظر إلى تسميتهم الغليظ الجافي بالعتل والجعظري والجواظ كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني)ا.هـ.


- وقال أيضاً: (تأمل قولهم: "حجر" و"هواء" كيف وضعوا للمعنى الثقيلِ الشديدِ هذه الحروفَ الشديدةَ، ووضعوا للمعنى الخفيفِ هذه الحروفَ الهوائيةَ التي هي من أخف الحروف)ا.هـ.

- وقريب من ذلك ما قيل في لفظ "يصطرخون" في قول الله تعالى: {وهم يصطرخون فيها} وأنّ صفات هذه الحروف وترتيبها مشعر بمعناها، حتى لو قُدّر وجود مَن تطرق سمعَه هذه اللفظة لأوّل مرّة، وذُكرت له في موضعها، لهداه جرْسُها وتناسب حروفها إلى معرفة معناها، وأنّ أهل النار تتعالى أصواتهم فيها صراخاً وتألّماً واضطراباً وطلباً للنجدة، ودلَّ ضمير "هم" على التمكن والاختصاص، والفعل المضارع على التجدد؛ فصوّرت هذه الآية معنى بليغاً واختصرت شرحاً كثيراً للحال المخزية والمؤلمة للكفار في النار.


- وكذلك "يصَّعَّد" في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كأنّها تحكي حال الصعود وضيق النَفَس به، وما يعالجه الصاعدُ من الكرب والضيق). [طرق التفسير:281 - 283]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:47 PM

النوع الثاني: تناسب الحركات ومراتبها
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الثاني: تناسب الحركات ومراتبها
تقدّم ذكر ما نقله ابن القيّم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في دلالات مراتب الحركات في "عزّ يعزّ".

ونَظَرُ العارف اللبيب في دلائل الحركات وترتيبها في اللفظة يهديه إلى تصوّر معناها في الذهن.
قال ابن القيم رحمه الله: (تأمّل قولهم: "دار دَوَرَانا" و"فارت القِدْرُ فَوَرَانا" و"غَلَتْ غَلَيَانا" كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى؛ فطابق اللفظ المعنى)ا.هـ.
وقال أيضاً: (وانظر إلى تسميتهم الطويل بالعَشَنَّق، وتأمَّل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل، وتسميتهم القصير بالبُحْتُر، وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطَّويل وهو العَشَنَّق، وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البُحْتُر؛ كيف يقتضي اللفظ الأول انفتاح الفم وانفراج آلات النطق وامتدادها، وعدم ركوب بعضها بعضا، وفي اسم البُحْتُر الأمر بالضد.
وتأمَّل قولهم: "طَال الشيءُ فهو طويل"، و"كَبُرَ فهو كَبير"؛ فإن زاد طوله قالوا: طُوالا وكُبارا؛ فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا وأطول من الياء في المعنى الأطول؛ فإن زاد كِبَر الشيء وثَقُلَ مَوقِعُه من النفوس ثقَّلوا اسمه فقالوا "كُبَّارا" بتشديد الباء.
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه واستعصى على الضبط)ا.هـ). [طرق التفسير:283 - 284]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:49 PM

النوع الثالث: مناسبة أحرف الزيادة في الجملة لمعنى الكلام
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الثالث: مناسبة أحرف الزيادة في الجملة لمعنى الكلام
ومن أحسن من وجدته تكلّم في هذا النوع مصطفى صادق الرافعي (ت:1356هـ) في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، وذكر له أمثلة حسنة، منها قوله: (الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفًا: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} فإن النحاة يقولون إن "ما" في الآية الأولى و"أن" في الثانية، زائدتان، أي: في الإعراب؛ فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته.

- فإن المراد بالآية الأولى: تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفًا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها "وهو لفظ رحمة" مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.
- والمراد بالثانية: تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام, وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة؛ وهي "أن" في قوله: "أن جاء".
وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره ... فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب)ا.هـ). [طرق التفسير:284 - 285]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:51 PM

صعوبات علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (صعوبات علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
الباحث في هذا العلم تعترضه صعوبات كثيرة من أبرزها:
  • قلة مراجع هذا العلم، وندرة أمثلته المشروحة، ولذلك يحتاج الباحث فيه إلى قريحة ونباهة تعينه على استخراج الأمثلة وشرحها وحسن البيان عنها.
  • القول باطّراد ما ذكر من قواعد التناسب في جميع ألفاظ العربية، وهي قضيّة كبيرة ما تزال محلّ نظر واجتهاد، وعندي أنّها نظير القول باطّراد معاني الاشتقاق، والسبيل إلى حلّ هذه المعضلة لا يتمّ إلا بأمرين:
أحدهما: الكشف عن قواعد مطّردة تتبيّن بها أصول التناسب وتطبيقاته، ولو على وجه العموم.
والآخر: الكشف عن علل عدم الاطّراد؛ فإنّ لكثير من القواعد شواذّ وموانع من استغراقها لما يندرج تحتها.
ومما بُذل من الجهود المشكورة في هذا العلم في هذا العصر كتاب "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، للدكتور عبد الكريم محمد حسن جبل، وهو مطبوع في جزأين، وقد حاول فيه إجراء دراسة تحليلية استقرائية للجذور الثلاثية، إلا أنّ القيود التي وضعها على مجال البحث جعلته ينحى منحى الانتقاء لا القيام بحقيقة الاستقراء، وعذره أنّ الاستقراء التامّ يُحتاج فيه إلى عمل مؤسسي يقوم عليه جماعة من الباحثين المتأهلين.
ودراسته جديرة بالنظر، يمكن الاستفادة منها، والبناء عليها للوصول إلى تحقيق المراد من حسن التأصيل لهذا العلم). [طرق التفسير:286]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:55 PM

فائدة معرفة تناسب الألفاظ والمعاني للمفسّر
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة معرفة تناسب الألفاظ والمعاني للمفسّر
ينبغي أن يكون المفسّر على قدر من المعرفة بتناسب الألفاظ والمعاني، ولو أنّ يتأمّل الأمثلة التي ذكرها العلماء، ويُعمِل الذهن في نظائرها؛ فإنّه يستفيد بذلك من حسن البيان عن معاني القرآن، والتأثير على قلوب المتلقّين، ما لا يدركه بالعلوم الأخرى.

ومن الأمثلة التي يتّضح بها المراد - إن شاء الله تعالى - تفسيرُ "ضيزى" في قول الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}
فتأمَّلْ حروفَ "ضيزى" في هذا الموضع تجد هذا اللفظ منادياً على معناه من الغرابة، والتشنيع، والجور، والنقصان، والاعوجاج.
ذلك أنّ الضَّيز في اللغة يفسّر بالجور وبالنقص وبالاعوجاج، وهذه الأوصاف القبيحة قد جمعتها هذه القسمة الجائرة الناقصة المعوجّة.
وأقوال السلف في تفسيرها قد انتظمت معانيها في اللغة:
1. فقال مجاهد: عوجاء، وقال به من أصحاب المعاجم اللغوية: ابن دريد وابن فارس في معجم المقاييس وابن سيده.
2. وقال قتادة: جائرة، وقال به من أهل اللغة: أبو زيد الأنصاري، والجوهري، وابن فارس في مجمل اللغة، وأبو بشر البندنيجي في كتابه "التفقيه في اللغة"، وأنشد شاهداً له قول الشاعر:
فبات يضوز التمرَ والتمر معجب .. بِوَرْدٍ كَلَوْنِ الأُرجوان سبائبه
3. وقال سفيان الثوري: منقوصة، يقال: ضزته حقَّه أضيزه، وضأزتُه أضأزه إذا نقصته، وقال به من أهل اللغة: الخليل بن أحمد، وأنشد ابن الأنباري شاهداً عليه قول الشاعر:
إن تنأ عنا ننتقصك وإن تؤب ... فحظك مضؤوزٌ وأنفُك راغمُ
وهذه المعاني كلّها صحيحة في اللغة.
وفي ضيزى لغات منها: "ضِئزى" بالهمز وهي قراءة ابن كثير، وضَيزى وفيها قراءة نسبت إلى أبيّ بن كعب، وضَأزى، وضُؤزى.
وقد أفاد تركيب حروف هذه اللفظة، وغرابة استعمالها معنى الغرابة والتشنيع، وتقبيح هذه القسمة، وحكاية حقيقتها.
وأفاد بناؤها الصرفي على مثال "فُعلى" الدلالةَ على بلوغ منتهى الغاية في الضيز، وهذا فيه تبكيت وتشنيع على المشركين إذْ بلغت قسمتهم ما لا أضأز منه؛ فهي قسمة ضيزى.
ولو أدرت الألفاظ العربية لفظةً لفظةً لم تجد لفظاً أنسب من هذا اللفظ في هذا الموضع، مع موافقتها لفواصل الآي.
قال مصطفى صادق الرافعي(ت:1356هـ): (وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة "ضيزى" من قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه؛ ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات؛ فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.
والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسيا، وفي تآلف أصواتها معنى مثله في النفس؛ وقد نبهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب)ا.هـ.
وقال عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني(ت: 1425هـ ) في كتابه "البلاغة العربية": (ونلاحظ أنّ اختيار كلمة "ضِيزَى" في هذا الموضع دون الكلمات التي تُؤدّي معناها له نُكْتَتَان: معنوية، ولفظيّة.
- أما المعنويّة فهي الإِشعار بقباحة التعامل مع الرّبّ الخالق بقسمة جائرة، يختار المشركون فيها لأنفسهم الذكور ويختارون فيها لربّهم الإِناث، عن طريق استخدام لفظ يدلُّ بحروفه على قباحة مُسَمَّاه.
- وأمّا اللفظية فهي مراعاة رؤوس الآي، في الآيات قبلها، وفي الآيات بَعْدَها)ا.هـ).
[طرق التفسير:287 - 289]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:57 PM

خاتمة الحديث عن أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (خاتمة الحديث عن أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
الناظر في الأنواع العشرة المتقدّم ذكرها يتبيّن له ما بذله علماء هذه الأمّة من جهد كبير في العناية بالقرآن العظيم على مرّ القرون، فأقاموا سنن البحث العلمي ودراسة المعاني والألفاظ، وهذه السنن ينبغي أن تكون دائمة متنامية في الأمة، وأن تتجدد بتجدد وسائل المعرفة وإمكانات البحث العلمي.
وكثير من الأعمال المبذولة في كلّ علم قد يجد المتأخر فيها مجالاً رحباً لعمل يقوم به يفيد في تقريبها وتيسيرها للمتعلّمين، ويعين على تحقيق كثير من مسائلها.
وما مضى من الشرح والبيان لتلك الأنواع إنما هو على سبيل التلخيص والإيجاز، وإنما ذكرت في كلّ نوع أمثلة يسيرة؛ لتقريب تصوّر تلك العلوم، وبيان طرق بحث مسائلها، وفائدتها للمفسّر.
وهذه الأنواع منها ما هو داخل في صميم التفسير اللغوي، ومنها ما هو من أنواع عناية علماء اللغة بألفاظ القرآن الكريم، وله صلة بالتفسير اللغوي من أوجه متعددة.
وليس بعد فتح الباب وتمهيد الطريق إلا السير فيه بجدّ، والأخذ من تلك العلوم بحظوظ وافرة؛ فإنّ المفسّر كلما ازداد نصيبه من العلوم اللغوية وحسنت معرفته ببحث مسائلها ازداد تحقيقه لمسائل التفسير، وحَسُنَت معرفته بطرق التمييز بين الأقوال الصحيحة والخاطئة، وعرف كيف يخرّج أقوال السلف في التفسير على أصول لغوية صحيحة، وكيف يستخرج المعاني الدقيقة والأوجه التفسيرية اللطيفة، وتوسّعت معرفته بطرق الإبانة عنها.
وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد، والقبول والرشاد). [طرق التفسير:290 - 291]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:02 PM

الباب التاسع:طرق التفسير اللغوي

طرق التفسير اللغوي
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (طرق التفسير اللغوي
للعلماء طريقان في التفسير اللغوي:

الطريق الأول: طريق النقل عن العرب أو عن علماء اللغة المتقدّمين؛ فيذكرون القول عنهم في المسألة اللغوية، ومنهم من لا يجتهد في تفسير القرآن، وإنما يكتفي بذكر ما يعرفه عن العرب في تلك المسألة.
وقد اشتهر عن جماعة من علماء اللغة المتقدّمين أنهم يتهيّبون تفسير القرآن مع سعة علمهم بلسان العرب، وكثرة ما حفظوه من أخبارهم وأشعارهم، ومعرفتهم بأوجه الإعراب والاشتقاق؛ فكانوا إذا سئلوا عن شيء من التفسير أو شرح الحديث ذكروا ما يعرفون من كلام العرب، وتوقّفوا عن التفسير ما لم يكن ظاهراً لهم بيّنا؛ كما يُذكر ذلك عن يونس بن حبيب الضبّي، والأصمعي وغيرهما.
قال أبو منصور الأزهري (370هـ) : (قال محمد بن سلام: سألت يونس عن هذه الآية [يريد {لأحتنكنّ ذريّته}] فقال: يقال: كان في الأرض كلأ فاحتنكه الجراد، أي: أتى عليه.
ويقول أحدهم: لم أجد لجاماً فاحتنكتُ دابّتي، أي: ألقيت في حِنْكِها حَبْلاً وقُدْتها به).
فذكر المعنيين عن العرب، وتورع عن تفسير الآية بأي منهما.

وهذه الآية قد اختلف فيها العلماء على القولين المذكورين:

أ: فمن العلماء من اختار المعنى الأول؛ كما فعل الخليل بن أحمد، والبخاري، وابن فارس، وابن سيده، وهو رواية عن مجاهد؛ قال: (لأحتوينهم).
قال البخاري: ( {لأَحْتَنِكَنَّ} لأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ، يُقَالُ: احْتَنَكَ فُلاَنٌ مَا عِنْدَ فُلاَنٍ مِنْ عِلْمٍ اسْتَقْصَاهُ).
ب: ومنهم من اختار المعنى الثاني كما فعل ابن عطية، وابن عاشور، والشنقيطي، وهو الرواية الأخرى عن مجاهد، قال: (شبْه الزّناق)، والزناق هو ما تُحتنك به الدابّة فتُزنَق به.
قال محمد الأمين الشنقيطي (ت:1393هـ) : (الذي يظهر لي في معنى الآية - أن المراد بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أي: لأقودنهم إلى ما أشاء، من قول العرب : احتنكتُ الفرَسَ: إذا جعلت الرسن في حنكه لتقوده حيث شئت)ا.هـ..
ج: ومنهم من حكى القولين ولم يرجّح كما فعل يونس بن حبيب، وابن السكّيت، وابن قتيبة، والراغب الأصفهاني، والبغوي، وابن الجوزي، وأبو حيان، وغيرهم.
د: ومنهم من اختار الجمع بين المعنيين، وذهب إلى صحّة حمل معنى الآية عليهما، كما ذهب إلى ذلك أبو عبيدة والأخفش وابن جرير والواحدي.
هـ: ومن العلماء من فسّر الآية بلازم معناها؛ كما فعل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبو الليث السمرقندي، وابن كثير.
قال عبد الرحمن بن زيد: في قوله {لأحتنكنّ ذرّيّته إلاّ قليلاً} قال: لأضلّنّهم). رواه ابن وهب وابن جرير.
وقال أبو الليث السمرقندي: ({لأحتنكنّ ذريّته}: أي: لأستزلنَّ ذريّته).
وهذا بيان للازم المعنى، وليس تفسيراً للفظ.
وروي عن ابن عبّاس أنه قال في تفسير {لأحتنكنّ} يقول: لأستولينّ. رواه ابن جرير بإسناد منقطع، وهو منسبك مع المعنيين؛ لأنّ الاستيلاء فيه معنى الاحتواء والاستحواذ، وفيه معنى التمكّن والتملّك؛ فهو تفسير ينتظم المعنيين، ولم يزد الفراء عليه.
والمقصود أنّ يونس بن حبيب لمّا سُئل عن معنى الآية ذكر ما يعرفه من معاني الاحتناك في لغة العرب، وتهيّب القول في التفسير، وقد نُقل هذا المنهج عن غيره.
قال نصر بن علي الجهضمي: (كان الأصمعي يتقي أن يفسّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتقي أن يفسّر القرآن).
والمقصود أنّ من طرق التفسير اللغوي نقل كلام العرب في معاني المفردات والأساليب الوارد نظيرها في القرآن، وما يتّصل ببيان المعنى القرآني من كلام العرب.
وللعلماء طرق ومناهج في نقل كلام العرب، وتمييز مراتب الرواة عن العرب، وأحكام المرويات اللغوية وعللها، وفي كلّ ذلك كلام كثير يُبحث في مظانّه.

والطريق الثاني: الاجتهاد
وكان من علماء اللغة من يجتهد في فقه كلام العرب وأساليب تخاطبهم، فيجمع ويوازن، ويقيس ويستنتج، ويستخرج العلل، ويستنبط المعاني وأحكام الكلام، ويحفظ الشواهد وينقدها، ويقرر الحجج اللغوية ويرتّبها، ويُباحث العلماء ويناظرهم؛ حتى يقع له علم كثير بالقياس يضيفه إلى ما ثبت لديه بالسماع.
واجتهاد العلماء في التفسير اللغوي فرع عن اجتهادهم في فقه كلام العرب وتفسير ما يروى من خطبهم وأشعارهم وأمثالهم.
ومما يجتهدون فيه ما يقع الاتفاق عليه، وهو كثير في مسائل التفسير اللغوي، ومنه ما يختلفون فيه؛ فما أجمعوا عليه فهو حجّة لغوية مقبولة، وما اختلفوا فيه فينظر في نوع خلافهم ويُرجّح بين أقوالهم إذا لم يمكن الجمع بينها، غير أنّه ينبغي التنبّه إلى أمرين:
أحدهما: أنه ليس كلّ ما تحتمله اللفظة من المعاني يقبل في التفسير؛ فالمعاني اللغوية وإن ثبتت بطريق صحيح من نقل ثابت أو قياس صحيح فلا تقتضي أن تفسر الآية بها؛ ذلك أن التفسير بالاحتمال اللغوي لمعنى اللفظة إذا عارض ما هو أولى منه فإنه يُرَدّ، وردّ بعض الاحتمالات اللغوية يرجع غالباً إلى ثلاثة أسباب:
1. أن يقوم دليل من القرآن أو السنة أو الإجماع على تخصيص أحد الاحتمالات اللغوية في تفسير الآية؛ فحينئذ لا يجوز تفسير الآية بغيره من الاحتمالات وإن كانت صحيحة الإطلاق من جهة اللغة.
2. أن يعارض الاحتمال اللغوي دليلاً صحيحاً من كتاب أو سنّة أو إجماع.
3. أن لا يلتئم الاحتمال اللغوي لمعنى اللفظة عند إفرادها مع السياق ولا مناسبة الآية ولا مقصدها.

والأمر الآخر: أن التفسير اللغوي منه ما هو محلّ إجماع، ومنه ما هو محلّ خلاف واجتهاد، وقد يقع الخطأ والاختلاف في التفسير اللغوي كما هو واقع في غيره من العلوم، لكن لا يُمكن أن يقع تعارض بين قول مجمع عليه عند أهل اللغة وبين قول متفق عليه عند السلف). [طرق التفسير:293 - 297]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:05 PM

موارد الاجتهاد في التفسير اللغوي
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (موارد الاجتهاد في التفسير اللغوي
اجتهاد العلماء في التفسير اللغوي له موارد ومداخل منها:
1: الاجتهاد في ثبوت السماع عن العرب من عدمه، وذلك أن لإثبات السماع طرق ومراتب منها ما هو محلّ اتّفاق، ومنها ما اختُلف فيه، وللنقل علل وآفات يقع الاجتهاد في اكتشافها وقبولها وردّها، وينبني على هذا الاجتهاد ما ينبني من الأحكام اللغوية المترتبة على الاجتهاد في ثبوت السماع.
2: الاجتهاد في صحة القياس اللغوي.
3: الاجتهاد في توجيه القراءات، وهو من الموارد التي كثر اجتهاد المجتهدين اللغويين فيها.
4: الاجتهاد في إعراب القرآن، واجتهادهم فيه كثير معروف، وأثره على المعنى وترتّبه عليه ظاهر بيّن.
5: الاجتهاد في تلمّس العلل البيانية، وهو أمر يختلف فيه اجتهاد المجتهدين، ويتفاوتون في مراتبه تفاوتا كبيراً.
6: الاجتهاد في تصريف بعض المفردات القرآنية، وقد تقدّم ذكر بعض الأمثلة على ذلك.
7: الاجتهاد في بيان اشتقاق بعض المفردات القرآنية.
8: الاجتهاد في اكتشاف الأنواع البديعية والبيان عنها.
9: الاجتهاد في البيان عن تناسب الألفاظ والمعاني القرآنية.
10: الاجتهاد في التخريج اللغوي لأقوال المفسّرين.
وهذه الموارد تبيّن سعة مجال الاجتهاد اللغوي في التفسير). [طرق التفسير:297 - 298]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:08 PM

الانحراف في التفسير اللغوي
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الانحراف في التفسير اللغوي
مما ينبغي أن يحذره طالب العلم ويحترز منه الانحراف في التفسير اللغوي، وهذا الانحراف له أسبابه ومظاهره وآثاره.

- فأمّا أسبابه فأعظمها الإعراض عن النصوص المحكمة وإجماع السلف، واتّباع المتشابه لهوى في النفس، وزيغ في القلب؛ كما قال الله تعالى: {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}.
وكثيراً ما يستند أصحاب الأهواء في تسويغ بِدَعِهم وتزيينها، والتشكيك في بعض مسائل الاعتقاد الصحيح إلى مُستند لغويّ يتوهّمونه حُجّة لهم، وليس لهم على باطلهم حجة صحيحة، لأنّه لا يُمكن أن يقع تعارض بين ما وقع الإجماع عليه من صحيح الاعتقاد وبين الأدلة اللغوية الصحيحة.
ومتى أُقيم التعارض بينهما علمنا خطأ مَن ادّعى التعارض أو وهمه أو كذبه؛ فإذا فتَّش الأمرَ عالم خبير عرف علّة خطئهم وبيّنه، ولذلك أمثلة كثيرة.
وبعض أصحاب البدع من المفسّرين قد يكون ماهراً في دسّ البدعة في تفسيره، والتمحّل لإثبات معتقداته الباطلة وترويجها بأدنى مسوّغ لغوي، وقد تروج بعض أقوالهم على بعض أهل السنة لغفلتهم عن مقصدهم، وانسياقهم وراء الخدع البيانية التي يُظهرها أصحاب تلك الأقوال.
وكم من قول باطل راج بسبب إلباسه لباس التعبير عن بيان القرآن ولطائف بلاغته، لما تقرّر في نفوس المسلمين من التسليم ببلاغة القرآن وتعظيم بيانه، وضعف أداتهم اللغوية عن اكتشاف علل تلك الأقوال الباطلة.
- وأمّا مظاهر الانحراف فمن أبينها:
1. مقابلة نصوص الاعتقاد بالتشكيك في دلالتها، وإقامة الاحتمالات اللغوية الباردة لتشتيت النظر فيها.
2. والتمحّل لنصرة أقوال أهل الأهواء بأدنى الحجج اللغوية وأوهاها.
3. وإقامة دعاوى التعارض بين النصوص ليبتغي بالجمع بينها مسلكاً لترويج بدعته.
4. وضعف العناية بالسنّة، وازدراء أهل الحديث، ورميهم بسوء الفهم، وضعف الحجة؛ وقد عُلم أنّ أهل الحديث هم حملة لواء السنة؛ فلا يقع الطعن على عامّتهم إلا ممن غاظه ما قاموا بحمله.
5. ودعوى التجديد القائم على نبذ أقوال السلف.
- وللانحراف في التفسير اللغوي آثار خطيرة على متعاطيه ومتلقّيه، فمن اتّبع غير سبيل المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان ؛ فهو في ضلال مبين، وقد ورد في وعيده ما هو معلوم في نصوص الكتاب والسنّة.
ومن صدّقهم بباطلهم، واتّبعهم عليه؛ فهو متّبع لأئمة ضلالة؛ والمرء مع من اتّبع، غير أنّه ينبغي أن يُعلم أنّ البدع على درجات، ولها أحكام؛ فمستقلّ ومستكثر.

والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين). [طرق التفسير:298 - 300]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:18 PM

الباب العاشر:الاجتهاد في التفسير

الاجتهاد في التفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الاجتهاد في التفسير
من طرق التفسير التي يحتاج إليها المفسّر الاجتهاد في التفسير؛ وهو من الطرق المشروعة المعتبرة إذا قام به من هو أهل لذلك، ولم يتعدّ حدود الله تعالى في اجتهاده.
ويُرجى للمجتهد المتّقي التوفيق للصواب؛ ومضاعفة الثواب؛ فيثاب على اجتهاده، ويثاب على إصابته؛ وإن أخطأ من غير تعدٍّ ولا تفريط رُجيت له المغفرة والإثابة على اجتهاده لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » متّفق عليه من حديث بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر؛ وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن دَرْكَ الصواب في جميع أعيان الأحكام؛ إمَّا متعذر أو متعسّر، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه عام الخندق: « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » فأدركتهم صلاة العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم: لم يُرِدْ منَّا هذا؛ فصَلَّوا في الطريق؛ فلم يعب واحدةً من الطائفتين)ا.هـ.
ومن حكمة الله تعالى أن فَسَح للاجتهاد مجالاً رحباً يحمل المجتهد على التفكّر والتدبّر، وإمعان النظر، لفهم المعنى، وإدراك المقصد، واستنباط الحكم.
وجعل له حدوداً من تعدّاها كان خاطئاً آثماً، ومن لم يتعدّ حدود الله من أهل الاجتهاد ولم يوفّق للإصابة كان مخطئاً معذوراً، ومن أصاب منهم كان موفّقاً مأجوراً.
والاجتهاد في التفسير مجال رحب للإبانة عن معاني القرآن، وذلك من دلائل بَرَكَةِ معاني القُرآن وكثرتها واتّساعها، فلا يحيط بها عِلْمُ عالم من البشر، بل ربما قرأ الآيةَ الواحدةَ جماعةٌ من العلماءِ الأذكياءِ فظهر لكل واحد منهم من المعاني ودلائلها ما خفي على غيره.
ومن دلائل ذلك كثرة المصنفات في التفسير والرسائل المفردة في بعض الآيات والمسائل، واستدراك العلماء بعضهم على بعض؛ حتى غدا التفاوتُ في معرفة معاني القرآن وسبل الاهتداء إليها تفاوتاً كبيراً بيّناً.
قال أبو جحيفة السَّوائيّ رضي الله عنه: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟
قال: «لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة»، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر». رواه البخاري.
والفهم في القرآن من ثمرات الاجتهاد في تدبّر آياته والتفكّر في معانيه، والتبصّر بدلائله، واستعمال أدوات الاجتهاد الصحيحة للوصول إلى المعاني واستخراجها بأنواع من الدلالات المعتبرة لدى أهل العلم). [طرق التفسير:301 - 302]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:21 PM

الاجتهاد سُنّة لمن تأهّل له
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الاجتهاد سُنّة لمن تأهّل له
و
الاجتهاد في التفسير وفي غيره من مسائل الدين في موارده الصحيحة وبمراعاة حدوده وآدابه سنّة متّبعة؛ فقد
اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، وهو إمام المجتهدين صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيانه، واجتهد من بعده خلفاؤه الراشدون المهديّون الذين أمرنا باتّباع سنّتهم، وجرى عليها عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فكانوا أئمة للمجتهدين، إذ رفعوا منار الاجتهاد، وبيّنوا حدوده وآدابه، ومداخله وموارده، وما يسوغ الاجتهاد فيه وما لا يسوغ.
والحاجة إلى الاجتهاد في التفسير قائمة في كلّ عصر من العصور، وأسئلة السائلين عن مسائل التفسير كثيرة متجددة، ونوازل مسائل التفسير في كلّ عصر تتطلّب من العلماء الاجتهاد في شأنها، وتبصير الناس بما يلزمهم من اتّباع الهدى في تلك النوازل.
وقد ورد في شأن الاجتهاد في مسائل الدين جملة من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدلّ دلالة بيّنة على ترتيب طرق التفسير، وبيان مرتبة دلالة الاجتهاد من الدلائل المتحصّلة بتلك الطرق، ومن تلك الآثار:
1. ما رواه أبو الضحى عن مسروق، قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمرَ"؛ فانتهره عمر رضي الله عنه، وقال: (لا، بل اكتب: " هذا ما رأى عمر؛ فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر). رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار والبيهقي في الكبرى.
2. وقال إدريس الأودي: أخرج إلينا سعيد بن أبي بردة كتابا فقال: هذا كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه؛ فذكر الحديث، وقال فيه: (الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنة؛ فتعرَّف الأمثالَ والأشباهَ، ثم قِسِ الأمور عند ذلك، واعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها فيما ترى). رواه البيهقي بهذا اللفظ، وكتاب عمر لأبي موسى مشهور روي من طرق متعددة.
3. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً إلى شريح القاضي فكان فيه: (إذا جاءكم أمر في كتاب الله عز وجل فاقض به؛ ولا يلفتنَّك عنه الرجال؛ فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك؛ فاختر أي الأمرين شئت: إن شئتَ أن تجتهد برأيك ثم تَقَدَّم فتَقَدَّم، وإن شئتَ أنْ تأخَّرَ فتأخَّرْ، ولا أرى التأخّر إلا خيرا لك). رواه ابن أبي شيبة والدارمي والبيهقي من طريق أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه؛ فذكره، وهذا إسناد صحيح.
4. وروى شعبة عن قتادة، عن أبي العالية، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (القضاة ثلاثة: فاثنان في النار، وواحد في الجنة؛ فأما اللذان في النار: فرجل جار عن الحق متعمدا، ورجل اجتهد رأيه فأخطأ، وأما الذي في الجنة؛ فرجل اجتهد رأيه في الحق فأصاب).
قال قتادة: فقلت لأبي العالية: ما بال هذا الذي اجتهد رأيه في الحق فأخطأ؟
قال: (لو شاء لم يجلس يقضي، وهو لا يحسن يقضي). رواه البيهقي، وقال: (تفسير أبي العالية على من لم يحسن يقضي دليلٌ على أنَّ الخبر ورد فيمن اجتهد رأيه، وهو من غير أهل الاجتهاد؛ فإن كان من أهل الاجتهاد فأخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد رُفع عنه خطؤه - إن شاء الله - بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما).
5. وقال عبد الله بن مسعود: (أيها الناس! قد أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك؛ فإن الله عز وجل قد بلَّغنا ما ترون؛ فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم؛ فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل؛ فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله عز وجل؛ فليقض فيه بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليقض بما قضى به الصالحون؛ فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله، ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقض به الصالحون؛ فليجتهد رأيه، ولا يقولن أحدكم: إني أخاف وإني أرى؛ فإنَّ الحلال بيّن، والحرامَ بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهة؛ فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك). رواه البيهقي.
6. وقال عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به.
- وإذا لم يكن في كتاب الله وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به.
- وإن لم يكن في كتاب الله، ولم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال به.
- وإلا اجتهد رأيه). رواه البيهقي وابن عبد البر من طرق عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله به.
7. وروى الشعبي، عن مسروق أنه قال: سألت أبيَّ بن كعب عن شيء فقال: «أكان هذا؟» قلت: لا، قال: «فأجمَّنا حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا رأينا» رواه ابن بطّة في الإبانة، وابن عبد البر في جامع بين العلم وفضله.
8. وقال إسماعيل بن أبى خالد: سمعت عامراً الشعبيّ يقول: استفتى رجل أبيَّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر ما تقول في كذا وكذا؟
قال : «يا بني أكان الذي سألتني عنه؟».
قال : لا.
قال: «أما لا فأجّلني حتى يكون؛ فنعالج أنفسنا حتى نخبرك». رواه الدارمي.
9. وقال الزهري: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول: إذا سُئِلَ عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدّث فيه بالذي يَعْلم والذي يَرى، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون). رواه الدارمي.
10. وقال الشعبي: سُئِلَ عمار بن ياسر عن مسألة؟
فقال: هل كان هذا بعد؟
قالوا: لا
قال: (دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشَّمْناها لكم). رواه الدارمي.
وفي هذه الآثار ونحوها ما يدلّ دلالة بيّنة على أن الاجتهاد سنّة متّبعة بشروطه وآدابه). [طرق التفسير:303 - 307]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:29 PM

مراتب دلالات طرق التفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مراتب دلالات طرق التفسير
والاجتهاد في التفسير ليس طريقاً مستقلا منفصلا عن سائر طرق التفسير؛ بل هو تابع لها ومترتّب عليها.

ولذلك ينبغي أن يُعلم أن طرق التفسير راجعة إلى أصول ومراتب ينبني بعضها على بعض.
فالأصل الأول: ما تحصل به الدلالة النصية من الكتاب والسنة على معاني الآيات؛ فدلالة النصّ الصحيح الصريح هي أصل الدلالات، والحاكمة عليها، والمبيّنة لحدودها.
وكل مسألة حَظِي المفسّر فيها بدلالة نصية صريحة لم يحتج معها إلى اجتهاد؛ إذ لا اجتهاد في موضع النص، بل كل اجتهاد خالف النصّ فهو مردود.
والأصل الثاني: دلالة الإجماع وهي من الدلائل المستفادة من التفسير بأقوال الصحابة والتابعين؛ فإذا أجمعوا على تفسير آية فإجماعهم حجّة لا تحلّ مخالفته.
وهذا الأصل ينبني على ما قبله؛ إذ لا يُمكن أن يقع الإجماع على مخالفة دليل صحيح غير منسوخ من الكتاب والسنة.
والأصل الثالث: دلالة الأثر، والمقصود بها ما تحصّل للمفسّر من أقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآية مما لم يتحقق فيه الإجماع؛ فهذه الدلالة أقل مرتبة من سابقتيها، وهي مترتّبة عليهما؛ إذ كل قول خالف الأصل الأول أو الثاني فهو مردود.
غير أنّ مخالفة الصحابي إذا صحّ الإسناد إليه ولم يتبيّن لقوله علة يُعرف بها أنه أخطأ في ذلك القول أو أنه اعتمد على نصّ منسوخ ولم يقع إنكار من علماء الصحابة لقوله فإن تلك المخالفة ترفع دعوى الإجماع؛ فتكون المسألة مسألة خلاف وليست مسألة إجماع.
وأما مخالفة أحد التابعين لقول وقع الاتّفاق عليه فلا ترفع الإجماع على الصحيح بشرط أن لا يُتابَع على قوله؛ فإذا تابعه بعض العلماء على قوله كانت المسألة مسألة خلاف، وإما إذا هُجر قوله ولم يُتابعه عليه أحد لم تكن مخالفته قادحة في انعقاد الإجماع؛ لأن هجران العلماء لقوله دليل على إجماعهم على خطئه.

ومسائل الخلاف التي لا يمكن الجمع بين الأقوال فيها وإنما يُصار فيها إلى الترجيح على نوعين:
النوع الأول:
مسائل الخلاف القوي.

والنوع الثاني: مسائل الخلاف الضعيف.

فأمّا مسائل الخلاف القويّ فهي المسائل التي يكون لأصحاب كلّ قول أدلّة لها حظّ كبير من النظر، ويكثر الاختلاف بين العلماء في الترجيح بينها.
وأما مسائل الخلاف الضعيف؛ فهي المسائل التي يكون القول المرجوح فيها بيّن الضعف، وإن قال به بعض العلماء لأسباب اقتضت منهم ذلك؛ كأن يعتقدوا صحة دليل ضعيف الإسناد، أو له علّة قادحة لم يتبيّنوها، أو كان قولهم مستنداً على نصّ منسوخ لم يبلغهم العلم بنسخه، إلى غير ذلك من الأسباب التي يتبيّن بها ضعف القول، وعامّة مسائل الخلاف الضعيف يكون قول الجمهور فيها هو الصواب، والقائلون بالقول الضعيف قلة.
والمقصود أن مسائل الخلاف الضعيف يستدلّ للقول الراجح فيها بدلالة الأثر؛ إذ أصحابه أوفر حظّا بهذه الدلالة من مخالفيهم.
وهذه الدلالة تنبني على ما قبلها؛ فلا تصحّ دلالة الأثر على ما يخالف النصّ أو الإجماع.
وكلّ من استدلّ بقول مأثور على ما يخالف النصّ أو الإجماع فاستدلاله باطل.

والأصل الرابع: دلالة اللغة، وذلك بتفسير الآية بما يحتمله السياق من المعاني اللغوية، وهذه الدلالة مترتّبة على ما قبلها؛ فيُشترط لقبولها أن لا تخالف النص ولا الإجماع ولا أقوال السلف.
وكل تفسير اعتمد فيه صاحبه على احتمالٍ لغويٍّ خالف فيه نصّا أو إجماعاً أو أقوال السلف في الآية فهو تفسير مردود.

والأصل الخامس: دلالة الاجتهاد، وهي دلالة مترتّبة على ما سبق من الأصول، لا يجوز أن تخرج عنها، فكلّ تفسير اعتمد فيه صاحبه على اجتهاد خالف فيه نصّاً أو إجماعاً أو أقوال السلف أو الدلالة اللغوية الصحيحة فهو تفسير مردود.
وبهذا يُعلم أن التفسير بالاجتهاد له حدود تضبطه، وهذه الحدود مبيَّنة بدلائل محكمة لا يُخالفها إلا متعدّ أو مفرّط.
ومن تلك الحدود: تحريم القول على الله تعالى بغير علم، ووجوب اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريم معصيته، ووجوب اتّباع سبيل المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان، وتحريم مخالفة سبيلهم، وأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين لنعقل معانيه، ونتفكّر في آياته.
وهذه الجُمل العظيمة وما في حكمها دلائلها محكمة بيّنة في النصوص، ولا خلاف فيها، ومن تأمّلها حقّ التأمّل وجدها قد بيّنت حدود اجتهاد المجتهدين في التفسير وفي غيره من أمور الدين). [طرق التفسير:308 - 310]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:33 PM

موارد الاجتهاد في التفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (موارد الاجتهاد في التفسير
والاجتهاد في التفسير مع ما تقدّم من التنبيه على حدوده ومرتبته له مجال رحب فسيح؛ وهو داخل في جميع طرق التفسير غير مزايل لها، وفي كلّ طريق موارد للاجتهاد.


فأمّا طريق تفسير القرآن بالقرآن
1. فأمّا طريق تفسير القرآن بالقرآن؛
فمنه ما تكون دلالته نصيّة ظاهرة، لا يُحتاج معها إلى اجتهاد، ومنه مسائل كثيرة هي محلّ اجتهاد ونظر كما تقدّم بيانه.
ويدخل الاجتهاد في عامّة أنواع تفسير القرآن بالقرآن، وأصل ذلك أن يستخرج المجتهد دلالةً من آية لتفسير آية أخرى أو لبيان معنى يتّصل بها يعين على معرفة تفسيرها أو ترجيح قول على قول من الأقوال المأثورة في تفسيرها.

ولهذا الاجتهاد موارد ومداخل منها:
أ: الاجتهاد في ثبوت أسانيد بعض القراءات التي يستفاد منها في التفسير وإن لم يكن يُقرأ بها.
ب: والاجتهاد في تفسير لفظة بلفظة أخرى كما تقدّم من تفسير السجّيل بالطين.
ج: والاجتهاد في بيان الإجمال وتقييد المطلق وتخصيص العام باستخراج ما يدلّ على ذلك من آيات أخرى، ولذلك أمثلة كثيرة تقدّم ذكر بعضها.
د: والاجتهاد في الجمع بين آيتين لاستخراج حكم شرعي؛ كما فعل عليّ وابن عباس في مسألة أقلّ مدّة الحمل.
هـ: والاجتهاد في تفصيل أمر مذكور في آية بذكر ما يتعلّق به من آية أخرى ليُستعان به على بيان بعض أوجه التفسير أو الترجيح بين الأقوال المأثورة في تفسيرها.
و: والاجتهاد في الاستدلال لبعض الأقوال التفسيرية بما يقوّيها بدلالة من آية أخرى:
ومن أمثلة ذلك: قول ابن كثير: (وقوله: {والقلم} الظّاهر أنّه جنس القلم الّذي يُكتَب به كقوله: {اقرأ وربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم} فهو قسمٌ منه تعالى، وتنبيهٌ لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة الّتي بها تنال العلوم)ا.هـ.
فهذا استدلال من ابن كثير لتقوية قول من فسّر القلم في هذه الآية بأنّه جنس الأقلام، في مقابل من فسّر القلم هنا بالقلم الذي كتب به في اللوح المحفوظ.
ز: والاجتهاد في إعلال بعض الأقوال التفسيرية المحكيّة في آية بما يبيّن ضعفها من الدلالات المستخرجة من آيات أخرى، وهو باب واسع يحتاج فيه المجتهد إلى حسن الاستحضار وقوّة الاستنباط.
ومن أمثلة ذلك قول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (قاتل الله أقواماً يزعمون أنَّ إبليس كَانَ مِنْ ملائكة الله، والله تَعَالَى يَقُولُ: { كَانَ مِنَ الجِنّ} ). رواه ابن أبي حاتم.

2.وأما تفسير القرآن بالسنّة
. وأما تفسير القرآن بالسنّة
فمن موارد الاجتهاد فيه:
أ: الاجتهاد في ثبوت التفسير النبوي إسناداً ومتناً؛ بالتحقق من صحّة الإسناد، وسلامة المتن من العلّة القادحة.
ب: والاجتهاد في استخراج دلالة صحيحة بين آية وحديث نبويّ يفسّر تلك الآية أو يبيّن بعض معناها، أو يعين على معرفة تفسيرها.
ج: والاجتهاد في معرفة أسباب النزول وأحواله.
د: والاجتهاد في الاستدلال لبعض الأقوال المأثورة بما صحّ من الأحاديث.
هـ: والاجتهاد في إعلال بعض الأقوال التفسيرية بما صحّ من الأحاديث النبوية؛ فإنّ من المفسّرين من يجتهد في تفسير آية فيخرج بقول يعارض حديثاً صحيحاً وهو لا يعلم به أو عزب عنه عند اجتهاده؛ فيتعقّبه من يبيّن ذلك.
ومن أمثلة ذلك قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قول الله تعالى: {يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم}: (وقول من قال: إن المراد بإمامهم كمحمد بن كعب «أمهاتهم» أي يقال: "يا فلان ابن فلانة" قول باطل بلا شك، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعا: «يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان»)..
وهذا القول ذكره الثعلبي والبغوي عن محمد بن كعب القرظي من غير إسناد، ولا يصحّ عنه.
وإعلال بعض الأقوال التفسيرية بما صحّ من الأحاديث النبوية باب واسع يحتاج فيه المجتهد إلى سعة الاطّلاع وحسن الاستحضار، وقوّة انتزاع الحجج من الأحاديث، وهذه أمور يتفاضل العلماء فيها تفاضلاً كبيراً، وتتفاوت مراتبهم في الاجتهاد فيها.
ومن أعظم أبواب النفع في هذا الاجتهاد الذبّ عن سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجّج والبراهين على إبطال التفاسير البدعية التي شاعت وراجت، وفُتن بها من فُتن، واغترّ بها من اغتر.

3.وأما تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
وأما تفسير القرآن بأقوال الصحابة فيدخله اجتهاد المفسّر من أبواب:
أ: منها الاجتهاد في معرفة أقوال الصحابة في التفسير وهو باب واسع؛ فالتفاسير المسندة لم تحط بأقوال الصحابة في التفسير؛ فيحتاج إلى النظر في دواوين السنة والأجزاء الحديثية ومحاولة استخراج ما روي عن الصحابة في التفسير، وهذا أمر يتفاوت فيه المجتهدون تفاوتاً كبيراً.
ب: ومنها الاجتهاد في التحقق من ثبوت صحة الأسانيد المروية إلى الصحابة.
ج: ومنها الاجتهاد في فهم أقوال الصحابة، ومعرفة مآخذها، وتخريجها على أصول التفسير، وهذا باب واسع عظيم النفع للمفسّر.
د: الاجتهاد في التمييز بين ما يُحمل على الرفع من أقوال الصحابة وما لا يُحمل على الرفع مما أخذه بعض الصحابة عمّن قرأ كتب أهل الكتاب.
هـ: الاجتهاد في تحرير أقوال الصحابة في نزول الآيات وتمييز ما يحمل على بيان سبب النزول مما يُحمل على التفسير.
و: الاجتهاد في معرفة علل الأقوال الضعيفة المنسوبة إلى بعض الصحابة نصّاً أو استخراجاً.
ز: الاجتهاد في الجمع والترجيح بين أقوال الصحابة.

4.وأما تفسير القرآن بأقوال التابعين
. وأما تفسير القرآن بأقوال التابعين
؛ فيدخله الاجتهاد من أكثر الأوجه المتقدّمة في تفسير القرآن بأقوال الصحابة إلا أنّ أقوال الصحابة التي تُحمل على الرفع يُحمل نظيرها في أقوال التابعين على الإرسال.
ويضاف إليها الاجتهاد في تمييز أحوال التابعين في العدالة والضبط، وتعرّف مراتبهم ودرجاتهم ليستفاد بهذا الاجتهاد في الترجيح بين أقوالهم عند التعارض.
ومن أبواب الاجتهاد في تفسير الصحابة والتابعين الاجتهاد في تقرير مسائل الإجماع، وتصنيف مسائل الخلاف، والتمييز بين الخلاف المعتبر وغير المعتبر، وخلاف التنوّع وخلاف التضاد، والتعرّف على الأقوال وأنواعها، وجوامعها وفوارقها ومآخذها وعللها، وللاجتهاد في هذه الأبواب مجال فسيح واسع لا يحيط به علم المجتهد الفرد.

5. وأما تفسير القرآن بلغة العرب
. وأما تفسير القرآن بلغة العرب؛
فقد مضى الحديث عن موارد الاجتهاد فيه، وأهمّها الاجتهاد في ثبوت ما يعرف بالنقل عن العرب، وتمييز صحيح الشواهد من منحولها، ومقبولها من مردودها، والاجتهاد في اكتشاف ما اعترى بعضها من اللحن والتغيير والتصحيف، وضبط الألفاظ العربية رواية ودراية، والتمييز بين لغات العرب، وتعرّف أوجه الاختلاف والتوافق بينها، ومعرفة الإعراب، وتلمّس العلل البيانية، وتوجيه القراءات، ومعرفة الاشتقاق والتصريف، والاجتهاد في تعيين معاني الحروف والمفردات والأساليب القرآنية إلى غير ذلك من الأبواب الواسعة للاجتهاد اللغوي في تفسير القرآن.

ومن موارد الاجتهاد في التفسير اللغوي أيضاً:
- الاجتهاد في الاستدلال لصحّة بعض الأقوال التفسيرية وإعلال بعضها.

- والاجتهاد في الجمع بين بعض الأقوال المأثورة بجامع لغوي يُعبّر عنه المجتهد عبارة حسنة تدلّ على مآخذ الأقوال المندرجة تحت تلك العبارة.
- والاجتهاد في معرفة التخريج اللغوي لأقوال المفسّرين، وهو باب واسع للاجتهاد، وله أمثلة كثيرة نافعة.
ومن أمثلته:
أ: اختلاف المفسّرين في معاني التعريف "بأل" في بعض الألفاظ القرآنية يما
يخرّج على
أحد معنيين: التعريف للجنس، أو التعريف للعهد.
ومن ذلك اختلاف المفسّرين في معاني الفلق، والوسواس، والقلم، والطور، والفجر، ونظائرها؛ على أقوال يمكن تخريجها على أصلين لغويين:
الأصل الأول: أن المراد بالتعريف في هذه الألفاظ الجنس، أي جنس الفلق؛ فيدخل في ذلك جميع ما يُفلق من الأمور الحسية والمعنوية، وجنس "الوسواس"، أي كل ما يوسوس؛ فيدخل في ذلك وسوسة الشيطان، ووسوسة النفس، وجنس الأقلام، وهكذا.
والأصل الثاني: أن المراد بها العهد الذهني.
والذين سلكوا هذا المسلك ذهبت كل طائفة منهم إلى ما تراه أولى بالعهد الذهني، ففسّر جماعة من المفسّرين الفلق بأنه فلق الصباح، وفسّر جماعة الوسواس بالشيطان الرجيم، وفسّر جماعة القلمَ بالقلم الذي كُتب به في اللوح المحفوظ، وفسّر جماعة الطور بالجبل الذي نادى الله فيه موسى.
وما قيل في معنى التعريف يقال نظيره في معاني الحروف والمفردات والأساليب.
والمقصود من كلّ ما تقدّم بيان سعة مجال الاجتهاد في التفسير، إلا أنّ له حدوداً تضبطه، وله شروط في كلّ نوع من أنواعه؛ فلا يجتهد في تفسير القرآن بالسنة من لا يميّز الصحيح من الضعيف، ولا يعرف أصول شرح الأحاديث، ولا يجتهد في التفسير اللغوي من لا يُحسن أدوات الاجتهاد فيه، وهكذا في كلّ نوع.
وهذا يدلّك على أنّ من تكلّم في التفسير عن غير تأهّل ولا معرفة بموارد الاجتهاد، وما يسوغ الاجتهاد فيه، وما لا يسوغ، ولا يعرف مواضع الإجماع والخلاف في الأبواب التي يحتاج فيها إلى الاجتهاد فإن كلامه في هذا الاجتهاد كلام عن غير تأهّل يفضي به إلى القول في القرآن بغير علم). [طرق التفسير:310 - 317]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:53 PM

شروط الاجتهاد المعتبر في التفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شروط الاجتهاد المعتبر في التفسير
ولذلك يُشترط للمفسّر المجتهد ثلاثة شروط:

الشرط الأول: التأهّل في العلوم التي يُحتاج إليها في الباب الذي يجتهد فيه، وهذا الاجتهاد يتجزّأ؛ إذ لكلّ باب ما يتطلّبه.
والشرط الثاني: أن يعرف موارد الاجتهاد، وما يسوغ أن يجتهد فيه مما لا يسوغ.
والشرط الثالث: أن لا يخرج باجتهاد يخالف أصلاً من الأصول التي تُبنى عليها دلالة الاجتهاد؛ فلا يخالف باجتهاده نصّا ولا إجماعاً، ولا قول السلف، ولا دلالة اللغة.
وكلّ اجتهاد خالف واحداً من هذه الأصول فهو اجتهاد مردود.
والقول الذي يخرج به صاحب الاجتهاد المعتبر في التفسير قول له حظّ من النظر، وهذا هو معنى الاعتبار.
ثم قد يكون هذا القول قولاً راجحاً يقيم له المجتهد أدلّة أو قرائن صحيحة ترجّحه، وقد يكون مرجوحاً عند مجتهدين آخرين بحسب ما يؤدّيهم إليه اجتهادُهم). [طرق التفسير:317]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:55 PM

الاجتهاد غير المعتبر في التفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الاجتهاد غير المعتبر في التفسير
والاجتهاد غير المعتبر في التفسير؛ هو الذي لا يُعتدّ به في الموازنة بين الأقوال التفسيرية، ولا يحكى إلا على سبيل التنبيه أو التعجب). [طرق التفسير:318]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 02:57 PM

أنواع التفسير بالرأي
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع التفسير بالرأي
اشتهر التعبير عن هذا الطريق عند جماعة من أهل التفسير باسم التفسير بالرأي، وقسّموه إلى قسمين:
القسم الأول: التفسير بالرأي المحمود، ويعنون به الاجتهاد المشروع المعتبر، على ما تقدّم وصفه.
والقسم الثاني: التفسير بالرأي المذموم ويعنون به تفاسير أهل البدع الذين يفسّرون القرآن بآرائهم المجرّدة، وبما يوافق أهواءهم ومذاهبهم.
وهذا التقسيم وإن بدا واضحاً من جهة التنظير المجرّد إلا أنَّ تنزيلَه على أحوال المفسّرين من أهل العلم يثير إشكالات لا بدّ من تبيينها، ومن ذلك:
1. أن المشتهر عند جماعة من السلف التحذير من التفسير بالرأي، ولا يعنون بذلك الاجتهاد في موارد الاجتهاد في التفسير على ما سبق شرحه؛ إذ كان كثير منهم أهل اجتهاد في التفسير مع تحذيرهم من التفسير بالرأي.
وإنما كانوا يعنون به القول في القرآن بالرأي المجرّد، والإعراض عن آثار من سلف، فإنّ من كان مقصّراً في تحصيل أقوال من مضى من الصحابة والتابعين في التفسير، واعتمد على رأيه ونظره مع ضعف أهليّته في الحديث وعلوم اللغة أوقعَه نظرُه ورأيه في أخطاء، إذ كان مثله كمثل السائر بغير نور ولا عدّة، ولا سيّما إذا صاحب ذلك الاجتهاد في غير موارد الاجتهاد، وإرادة الانتصار لمذهب أو رأي.
2. أن أهل الرأي المعروفين من أهل العراق أتباع حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وغيرهم كان لهم اجتهاد في التفسير فمنه ما أحسنوا فيه وأصابوا، ومنه ما أخطأوا فيه وردّ عليهم من السلف من بيّن خطأهم مما يُعدّ من التفسير بالرأي المذموم كإنكارهم عليهم بدعة الإرجاء وما تأوّلوه من النصوص فيها، وأقوالهم فيما خالفوا فيه الأحاديث الصحيحة التي لم يكن لهم من العناية بجمعها ودراستها ما لأهل الحديث المعروفين به.
وهؤلاء الفقهاء من أهل الرأي كانوا معروفين بالعلم والالتزام بالسنة ولهم نصيب من العلم بالحديث والتفقّه فيه إلا أن منهم من وقع في أخطاء في جُمل من الاعتقاد، ومنهم من رجع عنها، ومنهم من امتحن فيها، ووقوعهم في تلك الأخطاء لم يخرجهم من دائرة السنة، ولا دائرة السلف؛ إذ كانوا في عامّة أمورهم من أهل السنة.
فاجتهادهم في التفسير في غير الأبواب التي أخطأوا فيها يقع منه صواب كثير جارٍ على أصول الاجتهاد المعروفة عند السلف، وإن أُخذ على بعضهم ضعف الآلة في الحديث وعلومه وإكثار الاعتماد على النظر والقياس والتعليل.
ومن كان ضعيف المعرفة بالحديث كثير الاعتماد على النظر لم يُستغرب وقوعه في أخطاء يؤدّيه إليها نظره وقياسه، ولذلك أمثلة كثيرة.
والمقصود أن تصنيف هؤلاء من أهل الرأي المذموم لا يصحّ؛ لأنهم جماعة من الأئمة المعروفين بالعلم والفقه في الدين.
ولا يصحّ إطلاق القول في تصنيفهم بأنّهم من أهل الرأي المحمود لما في ذلك من تزكية آرائهم التي أخطأوا فيها، وأنكرها عليهم السلف الصالح.
ولا يصحّ القول بتميّزهم عن السلف في التفسير بالرأي لاشتراكهم في كثير من موارد الاجتهاد، وتناولهم المسائل التي تناولها بقيّة الأئمة واتّفاقهم في كثير من المسائل، وما اختلفوا فيه كان له أسباب كثيرة لا تُقصر على اعتمادهم على النظر والقياس.
ولأجل هذا الالتباس عدلت عن الاعتماد على اسم الرأي في تسمية هذا الطريق من طرق التفسير إلى اختيار اسم الاجتهاد لأنه الأقرب إلى استعمال السلف، وما أصاب فيه من يُسمّون أهل الرأي المحمود فهو داخل في الاجتهاد المعتبر المشروع، وما أنكره عليهم السلف فلا يعدّ من الاجتهاد المعتبر.
والمراد بالاجتهاد اجتهاد الرأي، كما روي ذلك عن جماعة من الصحابة إلا أن لفظ الاجتهاد مع بيان موارده يدلّ على أن اعتماد صاحبه ليس على مجرّد نظره ورأيه، وإنما هو اجتهاد منضبط بحدود وآداب، وله موارد ودلالات). [طرق التفسير:318 - 320]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 03:05 PM

الباب الحادي عشر:التحذير من القول في القرآن بغير علم

خطر القول في القرآن بغير علم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (خطر القول في القرآن بغير علم
يجب على المسلمين عامة وعلى طلاب علم التفسير خاصّة أن يحذروا أشدّ الحذر من القول في القرآن بغير علم، فإنّ المتكلم في معاني القرآن إنما يتكلم في بيان مراد الله تعالى بكلامه؛ فإن تكلّم في التفسير بما لا علم له به؛ فقد كذب على الله، وقال عليه ما لا يعلم، وقفا ما ليس له به علم؛ وهذه ذنوب عظيمة، وآثام كبيرة يجرّها على نفسه، ويضلّ بها الناس عن هدى الله؛ فيحمل من أوزار الذين يضلّهم بغير علم إلى وزره، وقد اشتدّ الوعيد على من فعل ذلك في نصوص الكتاب والسنّة:
  • فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
  • فقرن القول عليه بغير علم بالشرك والبغي والفواحش.
  • وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) }
واللام في {ليضل} فُسّرت بالتعليل وبالعاقبة، فالمتكلّم في التفسير بغير علم واقع في المحذور حقيقة أو حكماً؛ لأن ما يقوله من القول الباطل على الله يصدّ عن مراد الله ويضلّ الناس عن الهدى، وهو بهذا العمل القبيح ظالم لهم وظالم لنفسه، وهو أشدّ ظلماً وأشنع جرماً ممن يضلّ الأعمى عن الطريق؛ لإنّ إضلال الأعمى عن الطريق إنما قصاراه أن يهلك به الأعمى في الدنيا أو تصيبه آفة في جسده وأمّا الذي يضلّ بسبب القائل في كتاب الله ودينه بغير علم فمصيبته في دينه، وهي أعظم المصائب؛ لأنها قد تدخله النار أو تكون سبباً في عذاب أليم يصيبه في الدنيا أو باباً لشرّ أعظم وفتنة أشدّ؛ وكم من مفتون بفهم خاطئ ارتكب بسبب فهمه جريمة وهو يظنّ أنه يتقرّب بها إلى الله.
  • وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}.
  • وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}.
  • وقال تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}
  • وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}). [طرق التفسير:321 - 322]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 03:08 PM

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من القول في القرآن بغير علم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من القول في القرآن بغير علم
والمتكلمون في القرآن بغير علم لا بدّ أن يقع في كلامهم اختلاف وتناقض بسبب مجانبتهم للحق قولاً وعملاً، والأهواء تولع بأصحابها وتحملهم على المراء والخصام، والتفرّق والاختلاف، وسلوك سبل الهلاك، وقد اشتدّ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من كلّ ذلك، ونهى عنه أشدّ النهي، وكان يرى عليه الغضب إذا رأى شيئاً من الاختلاف في القرآن، والقول فيه بغير علم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أحاديث عدة.

1. فقال أبو عمران الجوني: كتب إليَّ عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: هَجَّرْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، قال: فسمع أصواتَ رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ في وجهه الغضب، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي في السنن الكبرى، وغيرهم.
- وفي رواية في مسند الإمام أحمد أيضاً من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟! وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟!
فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: ((بهذا أُمرتم - أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء انظروا الذي أُمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا)).
- وفي رواية في فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام من طريقين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداة، فتنحَّى ناس من أصحابه في بعض حُجَر أزواجه يقرأون القرآن؛ فتنازعوا في شيء منه، وأنا منتبذ عنهم؛ فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضباً؛ فقال: « إن القرآن يصدّق بعضه بعضا؛ فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه»
قال عبد الله بن عمرو: (فما اغتبطت نفسي بشيء اغتباطي بانتباذي عنهم إذ لم تصبني عُتبى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
2. وقال محمد بن بشر: حدثنا حجاج بن دينار الواسطي، عن أبي غالب البصري، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن؛ فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب على وجهه الخلّ، ثم قال صلى الله عليه وسلم:(( لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؛ فإنَّه ما ضلَّ قوم قطّ [بعد هدى كانوا عليه] إلا أوتوا الجدل))، ثم تلا: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}. رواه ابن جرير في تفسيره بهذا السياق، وقد رواه ابن ماجة من هذا الطريق مقتصراً على المرفوع وما بين المعكوفين منه، ورواه كذلك الإمام أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان كلهم من طرق عن حجاج بن دينار به من غير ذكر سبب الحديث.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه: حَزَوَّر)ا.هـ.
ورواه ابن جرير أيضاً والآجري في الشريعة من طريقين عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة قال: بينما نحن نتذاكر عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ينزع هذا بآية وهذا بآية؛ فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنما صُبَّ على وجهه الخل، فقال: «يا هؤلاء، لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه لم تضل أمة إلا أوتوا الجدل»
والقاسم بن عبد الرحمن الشامي يُضعَّف في الحديث.
3. وقال بسر بن سعيد مولى ابن الحضرمي: حدثني أبو جهيم الأنصاري رضي الله عنه أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((القرآن يقرأ على سبعة أحرف؛ فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر)). رواه أحمد وأبو عبيد في فضائل القرآن والطحاوي في شرح مشكل الآثار والبغوي في شرح السنة وغيرهم.
وقد روي في التحذير من المراء في القرآن أحاديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
4. وقال عبد الله بن أبي مليكة: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم.
ورواه ابن ماجه من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا عائشة! إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فَهُم الذين عناهم الله؛ فاحذروهم ».
قال الترمذي: (وقد سمع [ابن أبي مليكة] من عائشة أيضاً).
5. وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصِم ». رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم). [طرق التفسير:322 - 326]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 03:10 PM

تنبيه:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:
وقد اشتهر في هذا الباب حديثان فيهما مقال من جهة الإسناد، ومن أهل العلم من حسّنهما واحتجّ بهما:

أحدهما:حديث عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من قال في القرآن بغير علمٍ فليتبوّأ مقعده من النّار» رواه أحمد والترمذي والنسائي في السنن الكبرى وابن جرير وغيرهم، ومداره على عبد الأعلى الثعلبي، وهو غير متّهم بالكذب، لكنّه مُضَعَّف عند أهل الحديث، ضعَّفه عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي.
قال أبو زرعة: ( ربما رفع الحديث وربما وقفه)، وقال النسائي: (ليس بالقوي، ويكتب حديثه).
وهذا الحديث لا يُعرف إلا من طريقه، وقد اختلفت ألفاظه، ولعله حدث به مراراً.
وهذا الحديث صححه الترمذي، واحتجّ به إسحاق بن راهوية، وجماعة من أهل العلم.
ورواه ابن أبي شيبة من طريق وكيع عن عبد الأعلى موقوفاً على ابن عباس.
ورواه أبو يعلى من طريق أبي عوانة، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار، ومن قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ».
وقد صححه ابن حجر في المطالب العالية، وعلته باقية، وهي تفرّد عبد الأعلى الثعلبي به.
والآخر: حديث يعقوب بن إسحاق الحضرمي المقرئ قال: حدثنا سهيل بن مهران أخي حَزْم القطعي، حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ». رواه الترمذي والنسائي في الكبرى والبيهقي في شعب الإيمان.
وهذا الحديث مداره على سهيل بن مهران، وقد قال فيه يحيى بن معين: صالح، وقال البخاري: (لا يتابع في حديثه، يتكلمون فيه) وقال أبو حاتم الرازي: (ليس بالقوي، يكتب حديثه).
وقد تكلّم جماعة من أهل العلم في معنى هذا الحديث بما يتّبيّن به أنّ المراد ذمّ القول بالرأي المجرّد من غير دليل ولا وجه في الاستدلال يصحّ الاجتهاد فيه.
- فقال أبو عيسى الترمذي: (رُوي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن؛ فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم أو من قِبَل أنفسهم، وقد رُوي عنهم ما يدلّ على ما قلنا، أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم)ا.هـ.
- وقال البيهقي في شعب الإيمان: (إنما أراد - و الله أعلم - الرأي الذي يغلب على القلب من غير دليل قام عليه؛ فمثل هذا الرأي لا يجوز الحكم به في النوازل؛ فكذلك لا يجوز تفسير القرآن به، وأما الرأي الذي يسنده برهان؛ فالحكم به في النوازل جائز وكذلك تفسير القرآن به جائز)ا.ه.
- وقال ابن الأنباري: (حمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معني به الهوى، من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمة السلف؛ فأصاب فقد أخطأ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه). ذكره الخطيب البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقه".
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن قال في القرآن برأيه؛ فقد تكلَّف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به؛ فلو أنَّه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر؛ لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ والله أعلم).ا.هـ.
- وقال ابن القيّم: (الرأي نوعان:
أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه، بل هو خرص وتخمين...
والثاني: رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه، فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه)ا.هـ مختصراً). [طرق التفسير:326 - 329]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 03:14 PM

تحذير الصحابة رضي الله عنهم من القول في القرآن بغير علم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تحذير الصحابة رضي الله عنهم من القول في القرآن بغير علم
وقد عقلَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الوصايا النبوية الجليلة؛ فكانوا أشدّ الناس تعظيماً لكلام الله جلّ وعلا؛ وأحسنهم اتّباعاً لهداه، وأشدّهم حذراً من المراء في القرآن، والقول فيه بغير علم، وأبعدهم عن الاعتماد في فهمه وتفسيره على الرأي المجرّد والهوى، وأبصرهم بعاقبة المخالفين للهدي النبوي في هذا الأمر العظيم، وأعظمهم نصحاً للأمة في التحذير مما حُذّروا منه، وقد روي عنهم من الآثار في هذا الباب ما يدلّ دلالة بيّنة على ذلك، ومن تلك الآثار:

1. ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم من طرق متعددة يشدّ بعضها بعضاً أنّه سُئل عن آية من كتاب الله عز وجل فقال: « أيَّة أرض تقلني، أو أيَّة سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟! ». رواه سعيد بن منصور في سننه من طريق ابن أبي مليكة عن أبي بكر، وهو وإن لم يلقه إلا أنّ هذه المقولة قد رويت عن أبي بكر من طرق أخرى:
- فقال الشعبي: كان أبو بكرٍ يقول: «أي سماءٍ تظلني، وأي أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم » رواه ابن أبي شيبة.
- وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: قال أبو بكر الصديق: « أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت على الله ما لا أعلم » رواه مالك في الموطأ.
- ورواه أيضا ابن جرير الطبري من طريق إبراهيم النخعي عن أبي معمر الأزدي - وهو تابعي ثقة - عن أبي بكر.
فهذا الأثر رواه جماعة من ثقات التابعين عن أبي بكر رضي الله عنه.
2. وقال الزهري: حدثني أنس بن مالك، قال: قرأ عمر بن الخطاب: {فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا} فقال: كل هذا قد علمنا به فما الأب؟ ثم قال: هذا لعمر الله التكلف، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه). رواه الطبراني في مسند الشاميين بهذا اللفظ، وأصله في صحيح البخاري.
3. وقال العوام بن حوشب: حدثنا إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التميمي قال: خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس فقال: «كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؛ وقبلتها واحدة؟»
فقال ابن عباس: «يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا».
قال: فزبره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال فعرفه، فأرسل إليه، فقال: «أعد علي ما قلت»
فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، ورجاله ثقات إلا أنّه أعلّ بالانقطاع بين إبراهيم وعمر، ولعلّه سمعه من ابن عباس.
وقد روى عبد الرزاق في مصنفه نحو هذا الخبر من طريق علي بن بَذِيمة الجزري، عن يزيد بن الأصم العامري، عن ابن عباس، قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا، فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة!
قال: فزبرني عمر ثم قال: «مه»
قال: فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة، فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه.
قال: فرجعت إلى منزلي، فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، وما هو إلا الذي تقبَّلني به عمر!
قال: فبينا أنا على ذلك أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين.
قال: خرجت فإذا هو قائم ينتظرني.
قال: فأخذ بيدي ثم خلا بي، فقال: «ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا؟»
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت، فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت.
قال: «لتحدّثني بالذي كرهت مما قال الرجل»
فقلت: يا أمير المؤمنين متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا، ومتى ما يحيفوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا.
فقال عمر: «لله أبوك، لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها»
وقد علّقه الإمام أحمد في رسالته إلى المتوكّل.
وهذا الخبر رجاله ثقات، وإسناده متّصل، ويزيد بن الأصمّ هو ابن خالة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
4. وروى مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القرآن كلام الله؛ فمن قال فليعلم ما يقول؛ فإنما يقول على الله عزَّ وجلَّ). رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفي رواية أخرجها في كتاب الأسماء والصفات له: «إن القرآن كلام الله تعالى؛ فمن كذب على القرآن فإنما يكذب على الله عز وجل ».
5. وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن زبيد اليامي قال: قال عبد الله بن مسعود: « إن للقرآن منارا كمنار الطريق؛ فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما شُبّه عليكم فكلوه إلى عالمه » رواه أبو عبيد والمستغفري في فضائل القرآن.
6. وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن معاذ بن جبل أنه قال: (إن للقرآن منارا كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسّكوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه). رواه وكيع في الزهد، وأبو داوود في الزهد، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
7. وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر الأحمسي، قال: قال حذيفة: « إن أقرأ الناس المنافق الذي لا يدع واوا ، ولا ألفاً، يلفت كما تلفت البقر ألسنتها، لا يجاوز ترقوته » رواه ابن شيبة في مصنفه، والفريابي في "صفة النفاق"، ولفظه: « إن من أقرأ الناس المنافق الذي لا يترك واوا ولا ألفا يلفته كما تلفت البقرةُ الخلا بلسانها ».
8. وقال يعقوب بن إبراهيم: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها). رواه ابن جرير.
9. وقال ابن جريج: أخبرنا عبد الله ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على عبد الله بن عباس ؛ فقال له ابن فيروز: يا ابن عباس ، قول الله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة} الآية.
فقال ابن عباس: من أنت؟
قال: أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان.
فقال ابن عباس: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}.
فقال له ابن فيروز: أسألك يا ابن عباس.
فقال ابن عباس: «أياماً سماها الله تعالى لا أدري ما هي، أكره أن أقول فيها ما لا أعلم»
قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلتُ على سعيد بن المسيب فسُئل عنها فلم يدر ما يقول فيها.
قال: فقلت له: ألا أخبرك ما حضرتُ من ابن عباس؟ فأخبرته؛ فقال ابن المسيب للسائل: (هذا ابن عباس قد اتَّقى أن يقول فيها وهو أعلم مني). رواه عبد الرزاق في تفسيره، ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة بلفظ مقارب.
10. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: « لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن أبي شيبة في مصنفه من طريقين عنه). [طرق التفسير:329 - 334]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 03:17 PM

تحرّج السلف رضي الله عنهم من القول في القرآن بغير علم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تحرّج السلف رضي الله عنهم من القول في القرآن بغير علم
وقد سلك سلفنا الصالح سبيل الصحابة رضي الله عنهم في الحذر من القول في القرآن بغير علم، وعقلوا عنهم ما وصَّوهم، فظهر ذلك في سمتهم وأقوالهم ووصاياهم:

1. قال هشيم بن بشير: حدثنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق، قال: ( اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله) رواه أبو عبيد.
2. وروى الأعمش عن أبي وائل أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن، قال: (قد أصاب الله ما أراد). رواه ابن أبي شيبة.
3. قال أبو خلف مروان بن خاقان الأصفر: كنت عند سعيد بن جبير جالساً فسأله رجل عن آية من كتاب الله؛ فقال سعيد: (الله أعلم).
فقال الرجل: قل فيها أصلحك الله برأيك!
فقال: أقول في كتاب الله برأيي!! فردد مرتين أو ثلاثا ولم يجبه بشيء. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
4. وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع). رواه ابن جرير.
5. وقال عبد الله بن أبي السفر: قال الشعبي: (والله ما من آية إلا قد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله). رواه ابن جرير.
6. وقال بيان بن بشر الأحمسي، عن عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: « من كذب على القرآن فقد كذب على الله » رواه أبو نعيم في الحلية.
7. وروى مالك بن مغول عن ابن حصين ، عن الشعبي أنه قال: « القرآن لا أفسّره؛ فإن الكاذب فيه لا ينتهي كذبه عن الله تعالى » رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
8. وقال إبراهيم النخعي: « كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" والبيهقي في شعب الإيمان بمعناه.
9. وقال الحسن البصري: «من فسّر آيةً من القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ محي نور تلك الآية من قلبه» رواه ابن بطة العكبري.
10. وقال حماد بن زيد: حدثنا عبيد الله بن عمر العُمَري قال: (لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليغلّظون القول في التفسير منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع). رواه الإمام أحمد في العلل، وابن جرير في تفسيره.
11. وروى ابن عون، عن عبد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه مسلم قال: (إذا حدثت عن الله حديثا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده). رواه أبو عبيد.
12. وقال يحيى بن سليمان بن فضلة: سمعت مالك بن أنس يقول : (لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر إلا جعلته نكالا) رواه البيهقي في شعب الإيمان). [طرق التفسير:334 - 336]



الساعة الآن 12:53 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة