عرض مشاركة واحدة
  #38  
قديم 16 رجب 1434هـ/25-05-2013م, 11:30 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

نزول قول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468هـ): (قوله تعالى: {وَاِتَّبَعوا ما تَتلو الشَياطينُ عَلى مُلكِ سُلَيمانَ..} الآية.
أخبرنا محمد بن عبد العزيز القنطري قال: أخبرنا أبو الفضل الحدادي قال: أخبرنا أبو يزيد الخالدي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا جرير قال: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن عمران بن الحارث قال: (بينما نحن عند ابن عباس إذ قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق فإذا جرب من أحدهم الصدق كذب معها سبعين كذبة فيشربها قلوب الناس؛ فاطلع على ذلك سليمان فأخذها فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الممنع الذي لا كنز له مثله؟ قالوا: نعم. قال: تحت الكرسي، فأخرجوه فقالوا: هذا سحر فتناسخته الأمم؛ فأنزل الله عذر سليمان{وَاَتَّبَعوا ما تَتلو الشَياطينُ عَلى مُلكِ سُلَيمانَ وَما كَفَرَ سُليمانُ}).
وقال الكلبي: إن الشياطين كتبوا السحر والنارنجيات على لسان آصف: (هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك)، ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات سليمان استخرجوه من تحت مصلاه وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم ففشت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عذر سليمان على لسانه وأظهر براءته مما رمي به فقال: {وَاَتَّبَعوا ما تَتلو الشَياطينُ} الآية.
أخبرنا سعيد بن العباس القرشي كتابة أن: الفضل بن زكرياء حدثهم عن أحمد بن نجدة أخبرنا سعيد بن منصور حدثنا عتاب بن بشير أخبرنا حصيفة قال: كان سليمان إذا نبتت الشجرة قال: لأي داء أنت فتقول: لكذا وكذا فلما نبتت شجرة الخرنوبة قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لمسجدك أخربه قال: تخربينه؟ قالت: نعم. قال: بئس الشجرة أنت فلم يلبث أن توفي فجعل الناس يقولون في مرضاهم: لو كان لنا مثل سليمان فأخذت الشياطين فكتبوا كتابًا فجعلوه في مصلى سليمان وقالوا: نحن ندلكم على ما كان سليمان يداوي به فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر ورقى؛ فأنزل الله تعالى: {وَاَتَّبَعوا ما تَتلو الشَياطينُ عَلى مُلكِ سُلَيمانَ} إلى قوله: {فَلا تَكفُر}.
قال السري: (إن الناس في زمن سليمان كتبوا السحر فاشتغلوا بتعلمه؛ فأخذ سليمان تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه ونهاهم عن ذلك، فلما مات سليمان، وذهب الذين كانوا يعرفون دفنه الكتب تمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفرًا من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدًا قالوا: نعم قال: فاحفروا تحت الكرسي فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود؛ فبرأ الله عز وجل سليمان من ذلك وأنزل هذه الآية) ). [أسباب النزول: 29-31]
قال أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}
- أخرج الواحدي من تفسير إسحاق بن راهويه قال: أنا جرير عن حصين عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس إذ قال: (إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلام حق فإذا جرب من أحدهم الصدق كذب معها سبعين كذبة فيشربها قلوب الناس فاطلع على ذلك سليمان فأخذها يعني الصحف التي نسخوا فيها تلك الأكاذيب وما قبلها من الصدق فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق وقال: ألا أدلكم على كنز سليمان المنيع الذي لا كنز مثله؟ قالوا: بلى، قال: تحت الكرسي فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر فتناسخها الأمم؛ فأنزل الله تعالى عذر سليمان عليه السلام {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان..} الآية).
قال الواحدي: وقال الكلبي: إن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا: (هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك)، ودفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات سليمان استخرجوها من تحت مصلاه وقالوا للناس إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل فقالوا معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان وأما السفلة فقالوا هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة على سليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله عز وجل محمدا فأنزل الله عذر سليمان على لسانه وأظهر براءته مما رمي به فقال {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..} الآية.
- ثم أسند الواحدي من طريق سعيد بن منصور ثنا عتاب بن بشير أنا خصيف قال: كان سليمان إذا نبتت الشجرة قال: لأي داء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فلما نبتت شجرة الخروب قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لمسجدك أخربه. قال: تخربينه؟ قالت: نعم. قال: بئس الشجرة أنت، فلم يلبث أن توفي؛ فجعل الناس يقولون في مرضاهم لو كان مثل سليمان، فأخذت الشياطين فكتبوا كتابا فجعلوه في مصلى سليمان وقالوا: نحن ندلكم على ما كان سليمان يداوي به فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر ورقي فأنزل الله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..} إلى قوله {.. فلا تكفر}.
قال الواحدي: وقال السدي: (إن الناس في زمن سليمان اكتتبوا السحر واشتغلوا بتعلمه فأخذ سليمان تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه ونهاهم عن ذلك، فلما مات سليمان وذهب الذين كانوا يعرفون دفن تلك الكتب تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ أي لا ينفد، قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان كان يضبط الإنس والجن والشياطين والطير بهذا فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب. فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود فبرأ الله سليمان من ذلك وأنزل هذه الآية).
قلت: أثر ابن عباس أخرجه الحاكم في المستدرك من هذا الوجه، وعمران أخرجه له مسلم وباقي رجاله من رجال الصحيح.
وأما أثر الكلبي فأخرج الطبري نحوه عن ابن إسحاق ولفظه قال: "عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان فكتبوا أصناف السحر من كان يحب أن يبلغ كذا فليقل كذا حتى إذا استوعبوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم نقشوه على خاتم سليمان وكتبوا في عنوان الكتاب: (هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم)، ثم دفنوه تحت كرسيه، فاستخرجه بعد ذلك بقايا من بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا فأفشوا السحر وتعلموه وعلموه، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود، فلما ذكر رسول الله سليمان وعده في من عده -يعني من الأنبياء- قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا ! فأنزل الله عز وجل هذه الآية" هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد، وأخرج الطبري من طريق شهر بن حوشب نحوه بطوله فلعل ابن إسحاق أخذه عنه وعن الكلبي.
وحكى الماوردي (إن آصف بن برخيا كاتب سليمان واطأ نفرا من الشياطين على كتاب كتبوه سحرا ودفنوه تحت كرسي سليمان ثم استخرجوه..) فذكر القصة ولم أر في الآثار المسندة أن آصف واطأ الشياطين.
وأما ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (لما جاءهم محمد بالقرآن عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت..) فمراده بـ"كتاب آصف" الكتاب الذي ادعت الشياطين أن آصف هو الذي ألفه، وهذا لا يلزم منه أنهم صدقوا فيما ادعوه على آصف.
ثم إن الثابت في كتابة الشياطين السحر أنه: إنما وقع لهم حين نزع من سليمان ملكه، كذلك أخرجه الطبري من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه في الفريقين واحداً، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء نزع خاتمه...) فذكر القصة بطولها كما سيأتي في سورة ص إلى أن قال: (فعمدت الشياطين في تلك الأيام فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها -يعني بعد موته- فقرأوها على الناس فقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمدا فأنزل الله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..}).
وأخرج ابن أبي حاتم أثر الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس بلفظ: (كان آصف كاتب سليمان يعلم الاسم الأعظم وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا، وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمله فأكفره جهال الناس وسبوه حتى أنزل على محمد {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..}).
وأما أثر خصيف ففيه ضعف مع إعضاله، وأصل قصة سليمان في خطاب الشجرة إذا نبتت وما يتداوى بها منه ثابت في حديث آخر؛ أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (مات سليمان وهو قائم يصلي ولم تعلم الشياطين بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر، وكان إذا نبتت شجرة سألها لأي داء أنت؟ فتخبره، فلما نبتت الخروب سألها: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا المسجد. فقال: إن خراب هذا المسجد لا يكون إلا عند موتي، فاتخذ منها عصا يتوكأ عليها، وقال: اللهم عم عن الجن موتي..) الحديث، وسأذكره بتمامه في سورة سبأ إن شاء الله تعالى.
وأما أثر السدي فأخرجه الطبري مطولا، وفي أوله نظير القصة التي في أثر ابن عباس بأبسط منه وأوضح بيانا، ولفظه من طريق أسباط عن السدي قال: (كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع يستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتبت الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل إن الجن تعلم الغيب؛ فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال سليمان: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين يعرفون أمر سليمان وخلف بعد ذلك خلف تمثل شيطان في صورة إنسان..) فذكره، وفيه: (فأراهم المكان وقام ناحية فقالوا ادن، قال: لا، ولكني هاهنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضطر الإنس والجن والشياطين والطير بهذا السحر ثم طار فذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بني إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد خاصموه بها فذلك حين يقول الله عز وجل {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر..}).
وأخرج الطبري أيضا من طريق الربيع بن أنس قال: (إن اليهود سألوا محمدا زمانا عن أمور التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم؛ فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا...) وإنهم (سألوه عن السحر وخاصموه به؛ فأنزل الله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..} الآية، وذلك أن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك فدفنوه تحت مجلس سليمان وكان سليمان لا يعلم الغيب فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس وقالوا هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه؛ فأخبرهم النبي بهذا الحديث فرجعوا من عنده بخزي وقد أدحض الله حجتهم).
وأخرج الطبري من طريق عمرو بن دينار عن مجاهد في قوله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..} قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مئتين مثلها؛ فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فأخفاه، فلما مات سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس وهو السحر.
- قلت: وجاء في سبب نزول قوله تعالى {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} قول آخر؛ أخرجه الطبري أيضا من طريق عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: (أخذ سليمان من كل دابة عهدا فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خلي عنه فزاد الناس السجع والسحر وقالوا هذا كان يعمل به سليمان؛ فقال الله تعالى {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا..}). وهذا سند صحيح، لكنه في حكم المرسل لأن أبا مجلز تابعي وسط من طبقة محمد بن سيرين.
وجاء فيه أيضا ما أخرجه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال: (كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر ويأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزائنه فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدبت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذين كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا فإنه في بيت خزائنه وتحت كرسيه، فاستشارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به، فقال أهل الحجى: ما كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر؛ فأنزل الله تعالى على نبيه براءة سليمان فقال: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا..} الآية، فأبرأ الله سليمان على لسان نبيه محمد) ). [العجاب في بيان الأسباب: 1/304-314]
قال أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله تعالى {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}
سبب نزولها ما تقدم في قوله {واتبعوا ما تتلو الشياطين..} وما بعده؛ فأخرج الطبري من طريق السدي في هذه الآية قال: (هذا سحر آخر خاصموه به أي خاصموه بما أنزل الله على الملكين لأن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس وعلمت به كان سحرا).
ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: (السحر سحران؛ سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت).
وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: (لم ينزل الله السحر)، ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مثله قال الطبري: فعلى هذا فالمراد بالملكين جبريل وميكائيل، وهاروت وماروت رجلان من أهل بابل، وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير "وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل" و"هاروت وماروت" بدل من الناس، والقراءة المشهورة أن (الملكين) بفتح اللام وبنى الطبري الاختلاف فيها على تفسيرها:
- فمن قرأ بالفتح قال: هما هاروت وماروت أو جبريل وميكال.
- ومن بالكسر قال: هما علمان ملكا بابل أو شيطانان.
ورجح الأول لشهرة القراءة بالفتح ولتعسف التأويل والتركيب ممن قال: جبريل وميكال.
واختلف في الأمر الذي أنزل الملكان بسببه فوردت في ذلك أقوال:
1- إن السحرة كانوا كثروا وفشا منهم عمل السحر حتى ادعوا النبوة فجاء الملكان يعلمان الناس السحر ليتمكنوا من معارضة السحرة.
2 - وقيل كان السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه مباحا فنزلا لذلك فاستعمله بعضهم في التفرقة بين الزوجين وغير ذلك من الباطل.
3 - وقيل إن الجن كانوا يقدرون من السحر على ما لا يقدر عليه البشر فنزلا ليعلما البشر ليحذروا من فعل الجن.
4 - وقيل أنهما نزلا بالوحي على إدريس.
وهذه الأقوال جمعت مما ذكره من ينقل كل ما وجد سواء ثبت عن قائليه أم لا ومنهم من يحذف اسم من نقل ذلك ومن نقل عنه ومهم من يعسر عليه التأويل فيبادر إلى تكذيب المنقول لعدم معرفته بأحوال النقلة حتى أن أبا حيان مع أنه ممن ينتسب إلى الحديث وأهله ويتبسط في توثيق بعض الشيوخ وتجريحهم تبع غيره في إنكار ما ورد من قصة هاروت وماروت والزهرة كما سأذكر لفظه. وقد ورد في ذلك خبر مرفوع رجاله موثقون وله شواهد كثيرة.
قال أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن أبي بكير ثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر إنه سمع نبي الله يقول: ((إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها..} الآية إلى {.. ما لا تعلمون} قالت الملائكة: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، فقال الله تبارك وتعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان، قالوا: ربنا هاروت وماروت، فاهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاآها فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تكلما بهذه الكلمة من الشرك. فقالا: لا والله لا نشرك شيئا أبدا، فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا: لا والله لا نقتله أبدا. فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئا مما أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا)).
قال شيخنا الحافظ أبو الحسن في زوائد المسند: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير موسى بن جبير وهو ثقة.
قلت: السند على شرط الحسن وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه كعادته في تصحيح مثله فأخرجه في النوع الرابع من القسم الثالث عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكير ورجاله رجال الصحيح إلا موسى بن جبير فإنه مدني نزل مصر وروى عنه جماعة ولم أر فيه تجريحا ولا تعديلا إلا ذكر ابن حبان له في الثقات وإخراج حديثه في صحيحه.
وقال ابن حبان بعد تخريجه: الزهرة هذه امرأة كانت في ذلك الزمان، لا أنها الزهرة التي هي في السماء.
قلت: وهذا مما قاله من عنده وقد ورد الخبر، بخلاف ما زعم وصرح فيه بأنها الزهرة الكوكب الذي هو الآن في السماء وإن تلك المرأة مسخت كوكبا؛ فأخرج الطبري من طريق حماد بن زيد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: (سمعت عليا رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء فعلماها فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا). وهذا سند صحيح وحكمه أن يكون مرفوعا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه وما كان علي رضي الله عنه يأخذ عن أهل الكتاب.
وأخرجه عبد بن حميد بسند آخر صحيح إلى علي أتم منه قال: حدثنا يعلى ابن عبيد ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عمير وأخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن أبي خالد به وقال صحيح عن عمير بن سعيد قال: (قال علي أرأيتم هذه الزهرة؟ تسميها العجم أناهيد وكانت امرأة وكان الملكان يهبطان أول النهار يحكمان بين الناس ويصعدان آخر النهار، فأتتهما فأراداها على نفسها كل واحد من غير علم صاحبه ثم اجتمعا فأرادها، فقالت لهما: لا، إلا أن تخبراني بم تهبطان إلى الأرض وبما تصعدان، فقال أحدهما للآخر: علمها، فقال: كيف بنا لشدة عذاب الله، قال: إنا لنرجو سعة رحمة الله فعلماها، فتكلمت به فطارت إلى السماء فمسخها الله فكانت كوكبا).
وقال عبد الرزاق في تفسيره وأخرجه عبد بن حميد عنه قال: أنا ابن التيمي هو معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس قال: (إن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهي هذه الكوكب الحمراء) -يعني الزهرة-، وهذا سند صحيح أخرجه الحاكم من هذا الوجه وأخرجه الطبري من وجه آخر أتم منه وسيأتي ذكره في تفسير حم.
وجاء عن ابن عمر مطولا أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد قال: كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: (انظر طلعت الحمراء لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله، هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: رب كيف تدع عصاة بني آدم وهو يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض فقال إني قد ابتليتهم فلعلي إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال فاختاروا من خياركم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض وأعهد إليكما أن لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تخونا فاهبطا إلى الأرض، وألقى عليهما الشبق وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فأراداها عن نفسها فقالت: إني على دين لا يصلح لأحد أن يأتيني إلا إن كان على مثله فقالا: وما ذلك؟ قالت: المجوسية. قالا: الشرك هذا لا نقربه، فسكتت عنهما ما شاء الله، ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها فقالت: ما شئتما غير أن لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فافتضح فإن أقررتما بديني وشرطتما لي أن تصعداني إلى السماء فعلت، فأقراها وأتياها ثم صعدا بها، فلما انتهيا بها اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب فقالا: لو أتينا فلانا فسألناه أن يطلب لنا التوبة فأتياه فقال: رحمكما الله كيف يطلب أهل الأرض لأهل السماء فقالا: إنا قد ابتلينا. قال: ائتياني يوم الجمعة، فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه فقال: اختاروا قد خيرتما إن أحببتما معاقبة الدنيا وأنتما في الآخرة على حكم الله، وإن أحببتما عذاب الآخرة. فقال أحدهما: الدنيا لم يمض منها إلا قليل. وقال الآخر: ويحك إني قد أطعتك في الأمر فأطعني الآن إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى فقال: أما تخشى أن يعذبنا في الآخرة؟ فقال: لا إني لأرجو إن علم الله إنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا، فاختاروا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليها وسافلها).
وهذه متابعة قوية لرواية موسى بن جبير عن نافع لكنها موقوفة على ابن عمر لم يضفها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاءت من وجه آخر عن ابن عمر عن كعب الأحبار موقوفة عليه، أخرج ابن أبي حاتم أيضا وعبد بن حميد من طريق الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب قال: (ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب فقيل لهم اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما: اهبطا إلى الأرض وإني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكما رسولا، لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر). قال كعب: (فما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استحلا جميع ما حرم عليهما).
قلت: وسند الثوري أقوى من سند زهير إلا أن رواية كعب مختصرة جدا فيحتمل أن يكون ابن عمر استظهر برواية كعب لكونها توافق ما حمله ابن عمر عن النبي.
وقد حكى المنذري عن بعض العلماء أنه رجح الرواية الموقوفة على كعب على الرواية المرفوعة. والذي أقول: لو لم يرد في ذلك غير هاتين الروايتين لسلمت أن رواية سالم أولى من رواية نافع لكن جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عمر ثم من عدة طرق عن الصحابة ومجموع ذلك يقضي بأن للقضية أصلا أصيلا والله أعلم.
وقد جاء عن ابن عباس موقوفا عليه بسند حسن أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: (لما وقع الناس بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء: يا رب هذا العالم الذين إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا في الكفر وقتل النفس وأكل الحرام والزنا والسرقة وغير ذلك وجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم. فقيل لهم: إنهم في غيب، فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين من أفضلكم آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ونهاهما عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها عن نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنما فقالت: هذا أعبده. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فراوداها عن نفسها ففعلت مثل ذلك، فذهبا، ثم أتيا فأراداها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: فاختارا إحدى الخلال الثلاث إما أن تعبدا هذا الصنم وإما أن تقتلا هذه النفس وإما أن تشربا هذه الخمر. فقالا: كل هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما فوقعا المرأة، وخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهم السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا إلى الصعود إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الخطيئة فعجبوا كل العجب، وعرفوا أن من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فقيل لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب بالآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه يذهب وينقطع أما عذاب الآخرة فلا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان).
وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن عباس وسنده صحيح إلى قتادة قال: حدثنا أبو سعيد العدوي في جنازة يونس أبي غلاب عن ابن عباس قال: (إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون أعمال بني آدم...) فذكر نحو القصة، وقال في روايته: (أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما ينبغي لنا..) وقال فيها: (فاهبطا إلى الأرض وأحل لهما ما فيها...)، ولم يذكر: (وذلك في زمان إدريس)، وقال فيها: (فما أشهرا حتى عرض لهما بامرأة قد قسم لها نصف الحسن يقال لها "بيذخت" فلما رأياها كسرا بها...)، وقال فيها: (ودخل عليهما سائل فقتلاه...)، وزاد: (فقالت الملائكة: سبحانك أنت كنت أعلم...)، وقال فيها: (فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهم...)، وقال في آخرها: (فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق النجب وجعلا ببابل).
وله طريق أخرى بسند جيد إلى يزيد الفارسي عن ابن عباس قال: (إن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم...) فذكر نحوه، وفيه: (اختاروا ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض ويحكموا بينهم وجعلت فيهم شهوة الآدميين فاستقال منهم واحد فأقيل وأهبط اثنان فأتتهما امرأة يقال لها مناهيد فهوياها جميعا...) فذكر القصة، وفي آخرها: (وقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما، فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة، وأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما...)، وفي آخره: (فهما مناطان بين السماء والأرض). أخرجه ابن أبي حاتم.
وجاء من وجه آخر مقتصرا على آخر القصة وسنده على شرط الصحيح إن كان التابعي حمله عن ابن عباس؛ قال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله: (إن هاروت وماروت كانا ملكين فأهبطا ليحكما بين الناس وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم فتحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها، ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا).
تنبيه:
طعن في هذه القصة من أصلها بعض أهل العلم ممن تقدم وكثير من المتأخرين وليس العجب من المتكلم والفقيه إنما العجب ممن ينتسب إلى الحديث كيف يطلق على خبر ورد بهذه الأسانيد القوية مع كثرة طرقها أو تباين أسانيدها أنه باطل أو نحو ذلك من العبارة مع دعواهم تقوية أحاديث غريبة أو واردة من أوجه لكنها واهية واحتجاجهم بها والعمل بمقتضاها.
وقد لخص الثعلبي ثم ابن ظفر ثم القرطبي هذه القصة من بعض ما ذكرته ومن رواية الكلبي وغيره من المفسرين، وذكروا في القصة زيادات:
1- منها: إن الذين أنكروا أعمال بني آدم هم الثلاثة الذين اختاروهم.
2- ومنها عن عطاء: "بلغني أن هاروت وماروت قالا: يا ربنا إنك لتعصى في الأرض، فأهبطهما إلى الأرض".
3- ومنها: إن الثالث الذي استقال يسمى عزازيل، وأنه أقام أربعين سنة مطأطئا رأسه استحياء من ربه وأنه عندما ركبت فيه الشهوة أحس بالبلاء فلذلك استقال.
4- ومنها: "لو كنتم مكانهم لعلمتم شرا من أعمالهم".
5- ومنها قول كعب: "ما مر بهما شهر حتى فتنا بالمرأة".
6- ومنها أن: "أحدهما قال للآخر: هل لك أن تقضي على زوجها؟ قال: أما تعلم ما عند الله من العقوبة؟ قال: بلى، ولكن أما تعلم ما عنده من الرحمة لمن تاب،فسألاها نفسها فقالت: لا، إلا أن تقتلاه فأفرغ لكما، فقتلاه وسألاها نفسها فقالت: لا، إلا أن تعبدا معي الصنم، فتقاولا ثم صلبا فتقاولا كالأول).
7- ومنها "فجعل الملائكة يعذرون أهل الأرض".
8- ومنها أنهما لما ندما انطلقا إلى إدريس وقيل إلى سليمان وقيل إلى بعض علماء العصر الذين أنكروا قصة هاروت وماروت.
- وأما من أنكرها فجماعة؛ منهم القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن فقال: "وقد روى المفسرون عن نافع قال: قال لي ابن عمر: (اطلعت الحمراء؟ قلت: نعم. وذكر أنه لعنها فقلت: سبحان الله نجم مسخر مطيع تلعنه! قال: ما قلت إلا ما سمعت من رسول الله أن الملائكة عجبت من معاصي بني آدم في الأرض..)" فذكر القصة ولخص بعض ما ورد في ذلك، ثم قال: "وإنما سقت هذا الخبر لأن العلماء رووه ودونوه فخشينا أن يقع لمن يضل به، وتحقيق القول فيه أنه لم يصح سنده، ولكنه جائز كله في العقل لو صح النقل، ولا يمتنع أن تقع المعصية من الملك، ويوجد منهم خلاف ما كلفوه وتخلق فيهم الشهوات؛ فإنه لا ينكر ذلك إلا جاهل لا يدري الجائز من المستحيل أو من شم ورد الفلاسفة القائلين بأن الملك روحاني بسيط لا تركيب فيه، وشهوة الطعام والشراب والجماع لا تكون إلا في مركب، وهذا تحكم لأنهم أخبروا عن كيفية لم يروها ولا نقلت إليهم ولا دل العقل عليها وجواز تركيب البسيط إنما هو بطريق العادة وأما ما أخبر الله به عنهم أنهم "يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون" فهو خبر صدق وحق، لكنه إخبار عن حالهم إلى آخر كلامه فجوز وقوع ذلك ودفع صحة النقل بوقوعه وهو محجوج بما قدمته."
وقد تلقاه عنه القرطبي المفسر فقال بعد أن أشار إلى القصة باختصار ما نصه: وهذا كله ضعيف وبعيد على ابن عمر، وممن أنكر صحة ذلك أبو محمد ابن عطية في تفسيره، فقال: "روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه..." فذكر القصة ملخصة، ثم قال: "وهذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء فإنه قول تدفعه الأصول في المنقول وأما العقل فلا ينكر ذلك إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح". انتهى.
و منهم أبو محمد بن حزم فقال في كتاب الملل والنحل بعد أن قرر عصمة الأنبياء، واستدل بالآيات الواردة في ذلك، وأطنب في التمسك بظاهرها وعمومها ثم ختم بأن قال: "وهذا يبطل ظن من قال إن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بالزنا وشرب الخمر وقتل النفس.." ثم أخذ يتأول القصة التي في الآية قال: "ولم يقل الله إنهما كفرا ولا عصيا، وإنما جاء ذلك في خرافة موضوعة لا تصح من طريق الإسناد أصلا ولا هي مع ذلك عن رسول الله، بل هي موقوفة على من دونه فسقط التعلق بها.." إلى أن قال: "نسبوا إلى الله ما لم يأت به أثر يشتغل به وإنما هو كذب مفترى إن الله أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت، وإنهما عصيا بشرب الخمر، والحكم بالباطل وقتل النفس المحرمة والزنا وتعليم الزانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة وإنهما عذبا في غار ببابل.." قال: "وأعلى ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد -وهو مجهول- يقال له مرة النخعي، ومرة الحنفي ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة وليست مرفوعة بل وقفها على علي، وكذبة أخرى في أن حد الخمر لم يسنه النبي". انتهى.
وكلامه في هذا الفصل ينبئ عن قصوره في النقل فإن عمير بن سعيد وثقه يحيى بن معين ومحمد بن سعد، وحديثه فيما يتعلق بحد الخمر أخرجه البخاري في صحيحه، ولا نعرف أحدا قدح في سنده قبله ولا جرح عمير بن سعيد ولا قال أنه مجهول.
وقد قال شعبة عن الحكم: "قال عمير بن سعيد وحسبك به"، وذكر البخاري في تاريخه أنه كان بالكوفة لما كان المغيرة بن شعبة أميرها في زمن عمر رضي الله عنه.
و أما قوله "إنه ليس له إلا هذان الأثران" فحصر مردود؛ لأن له رواية عن أبي موسى، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، والحسن بن علي، وغيرهم من الصحابة، وعن علقمة، ومسروق وغيرهما من التابعين، وحدث عنه خلق من التابعين، فسقط كلامه وقد تلقاه منه بالقبول شيخ من شيوخنا أثير الدين أبو حيان وسأذكر كلامه بعد.
وممن صرح بنفي ورود حديث مرفوع في هذه القصة القاضي عياض في الشفاء فقال ما نصه بعد أن حكى الخلاف في عصمة الأنبياء هل هي عامة في الجميع أو في المرسلين فقط وفيمن عداهم خلاف قال: "فما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم قصة هاروت وماروت، وما ذكر فيها أهل الأخبار ونقلة التفسير وما يروى عن علي وابن عباس في خبرهما وابتلائهما فاعلم أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم ولا صحيح عن رسول الله، وليس هو شيئا يؤخذ بقياس والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه وقد أنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف وهذه الأخبار من كذب اليهود وافترائهم".
قلت: وهذا من غريب ما وقع لهذا الإمام المشتهر بالحديث، المعدود في حفاظه، المصنف في شرحه، كيف يجزم بما نفاه من ورود خبر مرفوع في هذه القصة؟! وكيف يجزم بأن الذي ورد من ذلك إنما هو من افتراء اليهود؟! مع أن عليا وابن عباس وابن عمر وغيرهم ثبت عنهم الإنكار على من سأل اليهود عن شيء من الأمور وكثرة الأخبار الواردة في هذه القصة.
وقال أبو حيان في تفسيره الكبير الذي سماه البحر: "وقد ذكر المفسرون في قراءة من قرأ (الملَكين) -بفتح اللام- قصصا تتضمن أن: الملائكة تعجبت من بني آدم..." فذكر قصة ملخصة إلى أن قال: "وكل هذا لا يصح منه شيء، والملائكة معصومون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولا يصح أن رسول الله كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر" انتهى.
وليعتبر الناظر في كلام هؤلاء والعجب ممن ينتمي منهم إلى الحديث ويدعي التقدم في معرفة المنقول ويسمى عند كثير من الناس بالحافظ كيف يقدم على هذا النفي ويجزم به مع وجوده في تصانيف من ذكرنا من الأئمة بالأسانيد القوية والطرق الكثيرة؟! والله المستعان.
وأقول: في طرق هذه القصة القوي والضعيف ولا سبيل إلى رد الجميع فإنه ينادى على من أطلقه بقلة الإطلاع والإقدام على رد ما لا يعلمه، لكن الأولى أن ينظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص فيؤخذ بما اجتمعت عليه ويؤخذ من المختلف ما قوي، ويطرح ما ضعف أو ما اضطرب فإن الاضطراب إذا بعد به الجمع بين المختلف ولم يترجح شيء منه التحقق بالضعيف المردود. والله المستعان). [العجاب في بيان الأسباب: 1/314-343]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911هـ): (قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(ك) أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح، فأنزل الله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الآية). [لباب النقول: 19]



روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس