الموضوع: مسائل في السحر
عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 6 جمادى الأولى 1435هـ/7-03-2014م, 10:53 PM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

الرد على من أنكر حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم

قالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ المَاوَرْدِيُّ (ت: 450هـ): (وأَنْكَرَه آخَرونَ ومَنَعُوا منه في رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وإنْ صَحَّ في غيرِه؛ لِمَا في استمرارِه عليه مِن خَبَلِ العقْلِ، وأنَّ اللَّهَ تعالى قد أَنْكَرَ على مَن قالَ في رسولِه حيثُ يقولُ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً 47)} [الإسراء: 47]). [النكت والعيون: 6/ 376]
قالَ مَحْمُودُ بنُ حَمْزَةَ بنِ نَصْرٍ الكِرْمَانِيُّ (ت: 525هـ): (وفي سِحْرِ النبيِّ عليه السلامُ قَوْلانِ: قالَ بَعْضُهم: سَحَرَه لَبِيدٌ بِمَا سَحَرَه، وتَقدَّمَ ذِكْرُه، وعليه جُمهورُ المُفَسِّرِينَ.
وأَنكَرَ بعضُهم وقالَ: إنَّ اللهَ أَنكَرَ على مَن قالَ هذا في صِفَةِ النبيِّ، حيث قالَ: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 8] ). [غرائب التفسير: 2/1412]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ السُّهَيْلِيُّ (ت: 581هـ): (وَقَدْ طَعَنَتِ المُعْتَزِلَةُ فِي هَذَا الحَدِيثِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ وَقَالُوا: لا يَجُوزُ عَلَى الأنْبِيَاءِ أَنْ يُسْحَرُوا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسْحَرُوا، لَجَازَ أَنْ يُجَنُّوا،وَنُزِعَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المَائِدَةُ 67].
وَالحَدِيثُ ثَابِتٌ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصّحِيحِ، وَلا مَطْعَنَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلا مِنْ جِهَةِ العَقْلِ؛ لأَنَّالعِصْمَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لَهُمْ فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، وَأَمَّا أَبْدَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُبْتَلَوْنَ فِيهَا، وَيُخْلَصُ إلَيْهِمْ بِالجِرَاحَةِ وَالضَّرْبِ وَالسُّمُومِ وَالقَتْلِ، وَالأُخْذَةُ الّتِي أُخِذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الفَنِّ، إنّمَا كَانَتْ فِي بَعْضِ جَوَارِحِهِ دُونَ بَعْضٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المَائِدَةُ 67]فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُحْرَسُ فِي الغَزْوِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَأَمَرَ حُرَّاسَهُ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ، وَقَالَ: ((لا حَاجَةَ لِي بِكُمْ فَقَدْ عَصَمَنِي اللّهُ مِنَ النَّاسِ)). أَوْ كَمَا قَالَ). [الروض الأنف:2/372]
قالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ السُّلَمِيُّ (ت:660 هـ): (وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنْ تأثيرِ السحرِ في الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ جازَ في غيرِهِ؛ لِمَا في استمرارِهِ مِنْ خَبَلِ العقلِ، وَلإِنكارِ اللَّهِ تَعَالَى على مَنْ قَالَ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)} [الإِسراء: 47] ). [تفسير القرآن: 3/511]
قالَ مُحْيِي الدِّين يَحْيَى بنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ (ت:676هـ): (قَالَ الإِمَامُالمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُالمُبْتَدِعَةِ هَذَا الحَدِيثَ([1]) بِسَبَبٍ آخَرَ([2])، فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَيُشَكِّكُ فِيهَا، وَأَنَّ تَجْوِيزَه يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ، هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ هَؤُلاءِ المُبْتَدِعَةُ بَاطِلٌ؛ لأنَّ الدَّلائِلَالقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِدْقِه وَصِحَّتِه وَعِصْمَتِه فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَالمُعْجِزَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلافِهِ بَاطِلٌ.
فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا، وَلا كَانَ مُفَضَّلاً مِنْ أَجْلِهَا، وَهُوَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يُتَخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِه وَلَيْسَ بِوَاطِئٍ، وَقَدْ يَتَخَيَّلُالإِنْسَانُ مِثْلَ هَذَا فِي المَنَامِ، فَلا يَبْعُدُ تَخَيُّلُه فِي اليَقَظَةِ، وَلا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَا فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يَتَخَيَّلُهُ، فَتَكُونُاعْتِقَادَاتُه عَلَى السَّدَادِ. قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتُ هَذَا الحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِه وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِه، لا عَلَى عَقْلِه وَقَلْبِه وَاعْتِقَادِه، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِه فِي الحَدِيثِ: (حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَه وَلا يَأْتِيهِنَّ) وَيُرْوَى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِه وَمُتَقَدِّمِ عَادَتِه القُدْرَةُ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أُخْذَةُ السِّحْرِ فَلَمْ يَأْتِهِنَّ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُعْتَرَى المَسْحُورُ.
وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ ثُمَّ لا يَفْعَلُهُ وَنَحْوِه فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّخَيُّلِ بِالبَصَرِ، لا لِخَلَلٍ تَطَرَّقَ إِلَى العَقْلِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدْخُلُ لَبْسًا عَلَى الرِّسَالَةِ، وَلا طَعْنًا لأهْلِ الضَّلالَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ). [شرح صحيح مسلم: 14/397]
قالَ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الخَازِنُ (ت: 725هـ):( (فَصْلٌ)
وقدْ أنكَرَ بعضُ المُبْتَدِعَةِ حديثَ عَائِشَةَ المُتَّفَقَ عليهِ، وزعَمَ أنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ ويُشَكِّكُ فيها، وأنَّ تَجْوِيزَهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بالشَّرْعِ.
ورُدَّ على هذا المُبْتَدِعِ بأنَّ الذي ادَّعَاهُ باطِلٌ؛ لأنَّ الدلائِلَ القطعِيَّةَ والنقلِيَّةَ قدْ قامَتْ على صِدْقِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وعِصْمَتِهِ فيما يَتَعَلَّقُ بالتبليغِ، والمُعْجِزَةُ شاهدةٌ بذلكَ، وتَجْوِيزُ ما قامَ الدليلُ بخلافِهِ باطِلٌ.
وأمَّا ما يَتَعَلَّقُ ببعضِ أُمُورِ الدُّنْيَا، وهوَ ما يَعْرِضُ للبشرِ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أنْ يُخَيَّلَ إليهِ مِنْ أمُورِ الدُّنيا ما لا حَقِيقَةَ لَهُ.
وقدْ قِيلَ: إنَّهُ كانَ يُخَيَّلُ إليهِ أنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِهِ، وليسَ وَاطِئاً، وهذا مِثْلُ ما يَتَخَيَّلُهُ الإنسانُ في المَنَامِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يَتَخَيَّلَهُ في اليقظةِ، ولا حَقِيقَةَ لَهُ. وقيلَ: إنَّهُ يُخَيَّلُ إليهِ أنَّهُ فَعَلَهُ وما فعَلَهُ، ولكنْ لا يَعْتَقِدُ ما تَخَيَّلَهُ، فتكونُ اعتقاداتُهُ على السَّدَادِ.
قالَ القاضي: وقدْ جاءَتْ بعضُ رواياتِ هذا الحديثِ مُبَيِّنَةً أَنَّ السحرَ إنَّما سُلِّطَ على بَدَنِهِ وظواهرِ جوارحِهِ لا على قلبِهِ وعقلِهِ واعتقادِهِ، وليسَ في ذلكَ ما يُوجِبُ لَبْساً على الرسالةِ، ولا طَعْناً لأهلِ الزَّيْغِ والضلالةِ.
وقولُهُ: ((مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ))؛ أيْ: مسحورٌ. قولُهُ: وَجُفُّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، يُرْوَى بالبَاءِ، ويُرْوَى بالفاءِ، وهوَ وِعَاءُ طَلْعِ النخلِ).[لباب التأويل: 4/500-501]
قالَ نِظَامُ الدِّينِ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ (ت: 728هـ):(طَعَنَتِ المُعْتَزِلَةُ في هذهِ الروايةِ بأنَّها تُوجِبُ تَسَلُّطَ الكفارِ والأشرارِ على الأنبياءِ.
وأيضاً لو صَحَّتْ لصَحَّ قولُهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)}[الإسراء: 47].
والجوابُ: أنَّ التسليطَ الكُلِّيَّ بحيثُ يَمْنَعُه عن تبليغِ الرسالةِ- لا يَجوزُ، ولكنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ بعضَ الإضرارِ في بدنِه لا يَجوزُ، لا سِيَّمَا وقدْ تَدَارَكَهُ تعالى بفضْلِه، وخصوصاً إذا كانَ فيه لُطْفٌ لغيرِه من أُمَّتِه، حتى يَفْعَلُوا في مِثْلِ تلك الواقعةِ كما فَعَلَ.
ولهذا اسْتَدَلَّ أكثرُ العلماءِ على أنَّه يَجوزُ الاستعانةُ بالرُّقَى والعَوْذِ، ويُؤَيِّدُه ما رُوِيَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَاللَّهُ يَشْفِيكَ)).
وعن ابنِ عَبَّاسٍ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ رضِيَ اللَّهُ عنهما بقولِه: ((أُعِيذُكُمَا بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ))، ويقولُ: ((هَكَذَا كَانَ أَبِي إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لابْنَيْهِ؛ إِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ)).
وعنه: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنا مِن الحُمَّى والأوجاعِ كُلِّها: ((بِسْمِ اللَّهِ الكَرِيمِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ، مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ، وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ)).
وعن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا دَخَلَ على مَرِيضٍ قالَ: ((أَذْهِبِ البَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شَافِيَ إِلاَّ أَنْتَ)).
ورُوِيَ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلاً يَقُولُ: ((يَا أَرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ، ومِنْ شَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْكِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَدُبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ أَسَدٍ وَأَسْودٍ، وَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ، وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ البَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ))
وعن عائِشَةَ: كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا اشْتَكَى شَيْئاً مِن جَسَدِه قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] والمُعَوِّذَتَيْنِ في كَفِّه اليُمْنَى، ومَسَحَ بها المكانَ الذي يَشْتَكِي.
ورُوِيَ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ دخَلَ على عُثمانَ بنِ مَظْعُونٍ فعَوَّذَهُ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]، وبهاتَيْنِ السورتَيْنِ، ثم قالَ: ((تَعَوَّذْ بِهِنَّ؛ فَمَا تَعَوَّذْتُ بَخَيْرٍ مِنْهَا)).
وأمَّا قولُ الكُفَّارِ: إنَّه مَسْحورٌ. فإنَّما أَرادوا به الجُنونَ والسِّحْرَ الذي أَثَّرَ في عَقْلِه ودامَ مَعَه؛ فلذلك وَقَعَ الإنكارُ عليهم).[غرائب القرآن: 30/225-226]
قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (وقد اعْتَاصَ على كثيرٍ من أهْلِ الكلامِ وغيرِهم وأَنْكَرُوه أَشَدَّ الإنكارِ، وقَابَلُوه بالتكذيبِ، وصَنَّفَ بعضُهم فيه مُصَنَّفًا مُفْرَدًا حَمَلَ فيه على هِشامٍ، وكان غايةُ ما أَحْسَنَ القولَ فيه أنْ قالَ: غَلِطَ واشْتَبَه عليه الأمْرُ، ولم يكن من هذا شيءٌ. قالَ: لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَجوزُ أنْ يُسْحَرَ، فإنه يكونُ تَصديقًا لقولِ الكُفَّارِ:{إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا (8)}[الفرقان:8].
قالُوا: وهذا كما قالَ فِرعونُ لموسى: {إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)}[الإسراء:101] وقالَ قومُ صالحٍ له: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ (153)}[الشعراء:153] وقالَ قومُ شُعَيْبٍ له: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ (185)} [الشعراء: 185].
قالُوا: فالأنبياءُ لا يَجوزُ عليهم أن يُسْحَروا، فإنَّ ذلك يُنافي حِمايةَ اللهِ لهم وعِصمَتَهم من الشياطينِ.
وهذا الذي قالَه هؤلاءِ مَردودٌ عندَ أهْلِ العلْمِ؛ فإنَّ هِشامًا من أَوْثَقِ الناسِ وأَعْلَمِهم، ولم يَقْدَحْ فيه أَحَدٌ من الأئِمَّةِ بما يُوجِبُ رَدَّ حديثِه، فما للمُتَكَلِّمين وما لهذا الشأنِ؟ وقد رواهُ غيرُ هِشامٍ عن عائشةَ.
وقد اتَّفَقَ أصحابُ الصحيحينِ على تَصحيحِ هذا الحديثِ، ولم يَتَكَلَّمْ فيه أَحَدٌ من أهْلِ الحديثِ بكَلِمَةٍ واحدةٍ، والقِصَّةُ مَشهورةٌ عندَ أهْلِ التفسيرِ والسُّنَنِ والحديثِ والتاريخِ والفُقَهاءِ، وهؤلاءِ أَعْلَمُ بأحوالِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأيَّامِه من المُتَكَلِّمِينَ، قالَ أبو بكرِ بنُ أبي شَيْبَةَ: حدَّثَنا أبو مُعاويةَ، عن الأعمشِ، عن يَزيدَ بنِ حَيَّانَ، عن زيدِ بنِ أَرْقَمَ قالَ: سَحَرَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ من اليهودِ، فاشْتَكَى لذلك أيَّامًا. قالَ: فَأَتَاه جِبريلُ فقالَ: إنَّ رَجُلاً من اليهودِ سَحَرَك، وعَقَدَ لذلك عُقَدًا. فَأَرْسَلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فاسْتَخْرَجَها فجاءَ بها، فَجَعَلَ كُلَّمَا حَلَّ عُقدةً وَجَدَ لذلك خِفَّةً، فقامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنما أُنْشِطَ من عِقَالٍ، فما ذَكَرَ ذلك لليهوديِّ ولا رآهُ في وَجْهِه قطُّ.
وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ وعائشةُ: كان غُلامٌ من اليهودِ يَخْدُمُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدَنَتْ إليه اليهودُ فلم يَزَالُوا حتى أَخَذَ مُشاطَةَ رأسِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعِدَّةَ أسنانٍ من مُشْطِه فأَعطاها اليهودَ، فسَحَرُوه فيها، وتَوَلَّى ذلك لَبيدُ بنُ الأعْصَمِ؛ رجلٌ من اليهودِ، فنَزَلَتْ هاتان السورتانِ فيه.
قالَ البَغَوِيُّ: وقيلَ: كانت مَغْرُوزَةً بالدُّبُرِ، فأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ - هاتين السورتين، وهما إحدى عَشْرَةَ آيةً، سورةُ الفَلَقِ خَمْسُ آياتٍ وسورةُ الناسِ سِتُّ آياتٍ، فكُلَّمَا قرأَ آيةً انْحَلَّتْ عُقدةٌ حتى انْحَلَّتِ العُقَدُ كلُّها، فقامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنما أُنْشِطَ من عِقالٍ. قالَ: ورُوِيَ أنه لَبِثَ فيه سِتَّةَ أشْهُرٍ واشْتَدَّ عليه ثلاثةَ أيَّامٍ، فنَزَلَت المُعَوِّذتانِ.
قالُوا: والسحْرُ الذي أَصابَه كان مَرَضًا من الأمراضِ عَارِضًا شَفاهُ اللهُ منه، ولا نَقْصَ في ذلك ولا عَيْبَ بوجْهٍ ما، فإنَّ المَرَضَ يَجوزُ على الأنبياءِ، وكذلك الإغماءُ، فقد أُغْمِيَ عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَرَضِه، ووَقَعَ حين انْفَكَّتْ قدَمُه وجُحِشَ شِقُّه، وهذا من البلاءِ الذي يَزيدُه اللهُ به رِفعةً في دَرجاتِه ونَيْلِ كَرامتِه، وأَشَدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، فابْتُلُوا من أُمَمِهِمْ بما ابْتُلوا به من القَتْلِ والضرْبِ والشتْمِ والحَبْسِ، فليس ببِدَعٍ أن يُبْتَلَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بَعْضِ أعدائِه بنوعٍ من السِّحْرِ كما ابْتُلِيَ بالذي رَماهُ فشَجَّهُ، وابْتُلِيَ بالذي أَلْقَى على ظَهْرِه السَّلا وهو ساجِدٌ وغيرِ ذلك، فلا نَقْصَ عليهم ولا عَارَ في ذلك، بل هذا من كَمالِهم وعُلُوِّ دَرجاتِهم عندَ اللهِ.
قالُوا: وقد ثَبَتَ في الصحيحِ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ أنَّ جِبريلَ أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فقالَ: ((نَعَمْ)). فقالَ: باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِن كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أو عَينِ حاسِدٍ، اللهُ يَشفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ)) فعَوَّذَه جِبريلُ من شَرِّ كلِّ نفْسٍ وعَينِ حاسدٍ لَمَّا اشْتَكَى، فدَلَّ على أنَّ هذا التَّعَوُّذَ مُزيلٌ لشِكايتِه صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإلا فلا يُعَوِّذُه من شيءٍ وشِكَايَتُه من غيرِه.
قالُوا: وأمَّا الآياتُ التي اسْتَدْلَلْتُم بها لا حُجَّة لكم فيها، أمَّا قولُه تعالى عن الكُفَّارِ أنهم قالُوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا (47)}[الإسراء: 47] وقولُ قومِ صالِحٍ له: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ (153)}[الشعراء: 153] فقيلَ: المُرادُ به مَن له سَحْرٌ، وهي الرِّئَةُ، أي أنه بَشَرٌ مِثلُهم يَأكُلُ ويَشْرَبُ ليس بِمَلَكٍ، ليس المرادُ به السِّحْرَ، وهذا جَوابٌ غيرُ مُرْضٍ، وهو في غايةِ البُعْدِ؛ فإنَّ الكفَّارَ لم يكونوا يُعَبِّرُون عن البَشَرِ بمسحورٍ، ولا يُعْرَفُ هذا في لُغَةٍ من اللغاتِ، وحيث أَرَادُوا هذا المعنى أَتَوْا بصريحِ لفْظِ البَشَرِ فقالُوا: {مَا أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا}[يس:15] {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}[المؤمنون:47]، {بَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً (94)}[الإسراء:94] وأمَّا المَسحورُ فلم يُريدوا به ذا السَّحْرِ، وهي الرِّئَةُ، وأيُّ مُناسَبَةٍ لذِكْرِ الرئةِ في هذا المَوضِعِ؟
ثم كيف يقولُ فِرعونُ لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)}[الإسراء:101]؟!
أَفَتَراه ما عَلِمَ أنَّ له سَحْرًا وأنه بَشَرٌ؟!
ثم كيف يُجيبُه موسى بقولِه: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)}[الإسراء: 102]؟!
ولو أَرادَ بالمسحورِ أنه بَشَرٌ لصَدَّقَه موسى، وقالَ: نَعَمْ أنا بَشَرٌ أَرْسَلَني اللهُ إليك كما قالَت الرُّسُلُ لقومِهم، لَمَّا قالُوا لهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا}[إبراهيم:10] فقالُوا: {إِن نَّحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}[إبراهيم: 11] ولم يُنْكِروا ذلك، فهذا الجوابُ في غايةِ الضَّعْفِ.
وأَجابَتْ طائفةٌ، منهم ابنُ جَريرٍ وغيرُه: بأن المَسحورَ هنا هو مُعَلَّمُ السحْرِ الذي قد عَلَّمَه إيَّاه غيرُه، فالمسحورُ عندَه بمعنى ساحِرٍ أي: عالِمٌ بالسحْرِ، وهذا جَيِّدٌ إن ساعَدَتْ عليه اللغةُ، وهو أنَّ مَن عُلِّمَ السحْرَ يُقالُ له: مَسحورٌ، ولا يَكادُ هذا يُعْرَفُ في الاستعمالِ ولا في اللغةِ، وإنما المَسحورُ مَنْ سَحَرَه غيرُه، كالمَطبوب والمضروبِ والمقتولِ وبابِه، وأمَّا مَن عُلِّمَ السحْرَ فإنه يُقالُ له: ساحرٌ بمعنى أنه عالِمٌ بالسحْرِ، وإن لم يَسْحَرْ غيرَه؛ كما قالَ قومُ فِرعونَ لموسى:{إِنَّ هَذَا لسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)}[الأعراف:109] ففِرعونُ قَذَفَه بكونِه مَسحورًا، وقَوْمُه قَذَفُوه بكونِه ساحرًا.
فالصوابُ هو الجَوابُ الثالثُ، وهو جوابُ صاحبِ الكَشَّافِ وغيرِه: أنَّ المسحورَ على بابِه، وهو مَن سُحِرَ حتى جُنَّ فقالُوا: مَسحورٌ مِثلُ مَجنونٍ؛ زائلِ العَقلِ لا يَعْقِلُ ما يَقولُ، فإنَّ المسحورَ الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فَسَدَ عقْلُه، بحيث لا يَدْرِي ما يقولُ فهو كالمجنونِ؛ ولهذا قالُوا فيه: {مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)}[الدخان:14] فأمَّا مَن أُصيبَ في بَدَنِه بِمَرَضٍ من الأمراضِ يُصابُ به الناسُ، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك من اتِّبَاعِه، وأعداءُ الرُّسُلِ لم يَقْذِفُوهُمْ بأمراضِ الأبدانِ وإنما قَذَفُوهم بما يُحَذِّرُون به سُفَهاءَهم من أَتْبَاعِهم، وهو أنهم قد سُحِرُوا حتى صاروا لا يَعلمون ما يَقولون بِمَنْزِلَةِ المَجانينِ، ولهذا قالَ تعالى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)}[الفرقان:9] مَثَّلُوكَ بالشَّاعِرِ مَرَّةً والساحِرِ أخرى والمجنونِ مَرَّةً والمسحورِ أخرى، فضَلُّوا في جَميعِ ذلك ضَلالَ مَن يَطْلُبُ في تِيهِهِ وتَحَيُّرِه طَرِيقًا يَسْلُكُه فلا يَقْدِرُ عليه، فإنَّ أيَّ طريقٍ أَخَذَها فهي طريقُ ضَلالٍ وحَيْرَةٍ، فهو مُتَحَيِّرٌ في أَمْرِه لا يَهْتَدِي سَبيلاً ولا يَقْدِرُ على سُلوكِها، فهكذا حالُ أعداءِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه حتى ضَرَبُوا له أَمْثَالاً بَرَّأَهُ اللهُ منها، وهو أَبْعَدُ خَلْقِ اللهِ منها، وقد عَلِمَ كلُّ عاقلٍ أنها كَذِبٌ وافتراءٌ وبُهتانٌ.
وأَمَّا قولُكم: إنَّ سِحْرَ الأنبياءِ يُنافِي حِمايةَ اللهِ لهم فإنه – سُبحانَه – كما يَحميهِم ويَصُونُهم ويَحفَظُهم ويَتَوَلاهم، فيَبْتَليهم بما شاءَ من أَذَى الكُفَّارِ لهم ليَسْتَوْجِبوا كَمالَ كَرامتِه، ولِيَتَسَلَّى بهم مَن بعدَهم من أُمَمِهم وخُلفائِهم إذا أُوذُوا من الناسِ، فرَأَوْا ما جَرَى على الرُّسُلِ والأنبياءِ صَبَروا ورَضُوا وتَأَسَّوْا بهم، ولِتَمْتَلِئَ صاعُ الكفَّارِ فيَسْتَوْجبون ما أُعِدَّ لهم من النَّكَالِ العاجِلِ والعُقوبةِ الآجِلَةِ، فيَمْحَقُهم بسببِ بَغْيِهم وعَدَاوَتِهم، فيُعَجِّلُ تَطهيرَ الأرْضِ منهم، فهذا من بعضِ حِكْمَتِه تعالى في ابتلاءِ أنبيائِه ورُسُلِه بإيذاءِ قومِهم، وله الحِكْمَةُ البالغةُ والنعمَةُ السابِغَةُ، لا إلهَ غيرُه ولا ربَّ سواهُ). [بدائع الفوائد: 2/223-226]
قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ البَيْضَاوِيُّ (ت: 691هـ): (وتخصيصُه لِمَا رُوِيَ أنَّ يَهُودِيَّا سَحَر النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى عشْرةَ عُقْدَةً في وَتَرٍ دَسَّهُ في بِئْرٍ, فَمَرِضِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونَزَلَت المُعَوِّذَتَانِ، وأَخْبَرَه جِبريلُ عليه الصلاةُ والسلامُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ، فأرْسَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ تعالى عنه فجاءَ به، فَقَرَأَهُما عليه، فكانَ كُلَّمَا قرأَ آيةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، ووَجَدَ بعضَ الخِفَّةِ، ولا يُوجِبُ ذلك صِدْقَ الكَفَرَةِ في أنه مَسحورٌ؛ لأنهم أَرَادُوا به أنه مَجنونٌ بوَاسِطَةِ السِّحْرِ). [أنوار التنزيل: 2/1180]
قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بنُ عُمَرَ البِقَاعِيُّ (ت: 885هـ): (وَلا يُوجِبُ ذلكَ صِدْقَ الكفرةِ في وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّهُ مَسْحُورٌ، فَإِنَّهُمْ ما أَرَادُوا إِلاَّ الجنونَ أَوْ ما يُشْبِهُهُ مِنْ فَسَادِ العقلِ وَاختلالِهِ وَالمبالغةِ في أنَّ كلَّ ما يَقُولُهُ لا حَقِيقَةَ لهُ كما أَنَّ مَا يَنْشَأُ عَنِ المسحورِ يَكُونُ مُخْتَلِطاً لا تُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ). [نظم الدرر: 8/606]
قالَ أَبو الثَّناءِ مَحْمُودُ بنُ عبدِ اللهِ الآلُوسِيُّ (ت: 1270هـ): (وقالَ الإمامُ المازِرِيُّ: قد أَنْكَرَ ذلك الحديثَ المُبْتَدِعَةُ مِن حيث إنه يَحُطُّ مَنْصِبَ النبوَّةِ ويُشَكِّكُ فيها، وإنَّ تَجْوِيزَه يَمْنَعُ الثقةَ بالشرْعِ، وأُجيبَ بأنَّ الحديثَ صحيحٌ وهو غيرُ مُراغِمٍ للنصِّ، ولا يَلْزَمُ عليه حَطُّ مَنصِبِ النُّبُوَّةِ والتشكيكُ فيها؛ لأنَّ الكُفَّارَ أَرَادُوا بقولِهم: مَسحورٌ أنه مَجنونٌ، وحاشاهُ، ولو سُلِّمَ إرادةُ ظاهِرِه فهو كان قبلَ هذه القِصَّةِ، أو مُرادُهم أنَّ السحرَ أَثَّرَ فيه وأنَّ ما يأتيهِ مِن الوحيِ مِن تَخَيُّلاتِ السحْرِ، وهو كَذِبٌ أَيضًا؛ لأنَّ اللهَ عَصَمَه فيما يَتَعَلَّقُ بالرسالةِ، وأمَّا ما يَتعلَّقُ ببعضِ أمورِ الدنيا التي لم يُبعَثْ عليه الصلاةُ والسلامُ بسَبَبِها وهي مما يَعْرِضُ للبشرِ فغيرُ بعيدٍ أنْ يُخَيَّلَ إليه مِن ذلك ما لا حقيقةَ له، وقد قيلَ: إنه إنما هو كانَ خُيِّلَ أنه وَطِئَ زَوجاتِه وليس بوَاطِئٍ، وقد يَتَخَيَّلُ الإنسانُ مِثلَ هذا في المَنامِ فلا يَبْعُدُ تَخَيُّلُه في اليَقظةِ. وقيلَ: إنه يُخَيَّلُ أنه فَعَلَه وما فَعَلَه، ولكن لا يَعتقدُ صِحَّةَ ما تَخَيَّلَه، فتكونُ اعتقاداتُه عليه الصلاةُ والسلامُ على السدادِ. وقالَ القاضي عِياضٌ: قد جاءتْ رِواياتُ حديثِ عائشةَ مُبَيِّنَةً أنَّ السحرَ إنما تَسَلَّطَ على جَسَدِه الشريفِ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ وظواهِرِ جَوارِحِه، لا على عَقْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ وقَلْبِه واعتقادِه، ويكونُ معنى ما في بعضِ الرواياتِ: حتى يَظُنَّ أنه يأتي أهلَه ولا يأتيهنَّ، وفي بعضٍ: أنه يُخَيَّلُ إليه أنه إلخ، أنه يَظْهَرُ له مِن نَشاطِه ومُتَقَدِّمِ عادتِه القُدرةُ عليهنَّ فإذا دنا منهنَّ أَخَذَتْه أُخذةُ السحْرِ فلم يَأْتِهِنَّ ولم يَتَمَكَّنْ مِن ذلك كما يُعترَى المسحورُ، وكلُّ ما جاءَ في الرواياتِ مِن أنه عليه الصلاةُ والسلامُ يُخَيَّلُ إليه فعْلُ شيءٍ ولم يَفعلْه ونحوِه فمَحمولٌ على التخَيُّلِ بالبصرِ، لا لِخَلَلٍ تَطَرَّقَ إلى العقلِ، وليس في ذلك ما يُدْخِلُ لَبْسًا على الرسالةِ ولا طَعْنًا لأهلِ الضلالةِ. انتهى). [روح المعاني: 29/283]
قالَ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان القِنَّوْجِيُّ (ت: 1307هـ): (قالَ الراغبُ: تَأْثِيرُ السحرِ في النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكنْ مِنْ حيثُ إِنَّهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّمَا كانَ في بَدَنِهِ، حيثُ إِنَّهُ إِنْسَانٌ أَوْ بَشَرٌ كما كانَ يَأْكُلُ وَيَتَغَوَّطُ وَيَغْضَبُ وَيَشْتَهِي وَيَمْرَضُ، فَتَأْثِيرُهُ فيهِ مِنْ حيثُ هوَ بشرٌ لا مِنْ حيثُ هوَ نَبِيٌّ.
وإِنَّمَا يَكُونُ ذلكَ قَادِحاً في النُّبُوَّةِ لَوْ وُجِدَ للسحرِ تَأْثِيرٌ في أمرٍ يَرْجِعُ للنُّبُوَّةِ، كما أَنَّ جُرْحَهُ وَكَسْرَ ثَنِيَّتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَقْدَحْ فيما ضَمِنَ اللَّهُ لهُ مِنْ عصمتِهِ في قولِهِ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المَائِدَةُ 67]. وَكَمَا لا اعْتِدَادَ بِمَا يَقَعُ في الإِسلامِ مِنْ غَلَبَةِ بعضِ المشركينَ على بعضِ النواحي فِيمَا ذُكِرَ مِنَ كَمَالِ الإِسلامِ في قولِهِ تَعَالَى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: 3].
قالَ القاضي: وَلا يُوجِبُ ذلكَ صِدْقَ الكَفَرَةِ في أَنَّهُ مَسْحُورٌ؛ لأنَّهُم أَرَادُوا بهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ بواسطةِ السُّحراءِ.
ومَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ السحرَ حَقٌّ وَلهُ حقيقةٌ، وَيكونُ بالقولِ وَالفعلِ، وَيُؤْلِمُ وَيُمْرِضُ وَيَقْتُلُ وَيُفَرِّقُ بينَ الزوجَيْنِ، وَتَمَامُ الكلامِ على هذا في حاشيةِ سليمان الجَمَل فَارْجِعْ إِليهِ). [فتح البيان: 15/455]
قالَ مُحَمَّد عَبْدُه المِصْرِيُّ (ت: 1323 هـ):(وقد رَوَوْا ههنا أَحادِيثَ في أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، وأَثَّرَ سِحْرُهُ فيه حتى كانَ يُخَيَّلُ له أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وهو لا يَفْعَلُهُ، أو يَأْتِي شَيْئًا وهو لا يَأْتِيهِ، وأنَّ اللهَ أَنْبَأَهُ بذلك، وأُخْرِجَتْ مَوادُّ السِّحْرِ من بِئْرٍ، وعُوفِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِمَّا كانَ نَزَلَ به من ذلكَ، ونَزَلَتْ هذه السُّورَةُ، ولا يَخْفَى أنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ في نَفْسِهِ عليه السَّلامُ حتى يَصِلَ به الأَمْرُ إلى أنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا وهو لا يَفْعَلُهُ، لَيْسَ من قَبِيلِ تَأْثِيرِ الأَمْراضِ في الأَبْدانِ، ولا من قَبِيلِ عُروضِ السَّهْوِ والنِّسْيانِ في بَعْضِ الأُمُورِ العادِيَّةِ، بل هو ماسٌّ بالعَقْلِ آخِذٌ بالرُّوحِ، وهو مِمَّا يُصَدِّقُ قَوْلَ المُشْرِكينَ فيه: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا (47)} [الإسراء: 47] ولَيْسَ المَسْحورُ عندَهم إلا مَن خُولِطَ في عَقْلِهِ، وخُيِّلَ له أنَّ شَيْئًا يَقَعُ وهو لا يَقَعُ، فيُخَيَّلُ إليه أَنَّهُ يُوحَى إليه ولا يُوحَى إليه، وقد قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُقَلِّدِينَ الَّذينَ لا يَعْقِلونَ ما هي النُّبُوَّةُ ولا ما يَجِبُ لها: إِنَّ الخَبَرَ بتَأْثِيرِ السِّحْرِ في النَّفْسِ الشَّرِيفَةِ قد صَحَّ، فيَلْزَمُ الاعْتِقادُ به... (ضبب على هذا الموضع في المطبوع) بصِحَّةِ السِّحْرِ
فانْظُرْ كيف يَنْقَلِبُ الدِّينُ الصَّحِيحُ والحَقُّ الصَّرِيحُ في نَظَرِ المُقَلِّدِ بِدْعَةً، نَعوذُ باللهِ، يَحْتَجُّ بالقُرْآنِ على ثُبُوتِ السِّحْرِ، ويُعْرِضُ عَنِ القُرْآنِ في نَفْيِهِ السِّحْرَ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَدَّهُ مِنِ افْتِراءِ المُشْرِكينِ عليه، ويُئَوِّلُ في هذه ولا يُئَوِّلُ في تلك، معَ أنَّ الَّذي قَصَدَهُ المُشْرِكونَ ظاهِرٌ، لأَنَّهُم كانوا يَقولونَ: إنَّ الشَّيْطانَ يُلابِسُهُ عليه السَّلامُ، ومُلابَسَةُ الشَّيْطانِ تُعْرَفُ بالسِّحْرِ عندَهم وضَرْبٌ من ضُروبِهِ، وهو بعَيْنِهِ أَثَرُ السِّحْرِ الَّذي نُسِبَ إلى لَبِيدٍ، فإِنَّهُ قد خالَطَ عَقْلَهُ وإدْراكَهُ في زَعْمِهم.
والَّذي يَجِبُ اعْتِقادُهُ أنَّ القُرْآنَ مَقْطوعٌ به، وأَنَّهُ كِتابُ اللهِ بالتَّواتُرِ عَنِ المَعْصومِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فهو الَّذي يَجِبُ الاعْتِقادُ بما يُثْبِتُهُ، وعَدَمُ الاعْتِقادِ بما يَنْفِيهِ، وقد جاءَ بنَفْيِ السِّحْرِ عنه عليه السَّلامُ؛ حيثُ نَسَبَ القَوْلَ بإثْباتِ حُصُولِ السِّحْرِ له إلى المُشْرِكينَ أَعْدائِهِ، ووَبَّخَهم على زَعْمِهم هذا، فإذَنْ هو لَيْسَ بمَسْحورٍ قَطْعًا، وأمَّا الحَدِيثُ فعلى فَرْضِ صِحَّتِهِ هو آحادٌ، والآحادُ لا يُؤْخَذُ بها في بابِ العَقَائِدِ، وعِصْمَةُ النَّبِيِّ من تَأْثِيرِ السِّحْرِ في عَقْلِهِ عَقِيدَةٌ مِنَ العَقائِدِ لا يُؤْخَذُ في نَفيِها عنه إلا باليَقِينِ، ولا يَجوزُ أنْ يُؤْخَذَ فيها بالظَّنِّ، والمَظْنُونُ على أنَّ الحَدِيثَ الَّذي يَصِلُ إلينا من طَرِيقِ الآحادِ إِنَّمَا يَحْصُلُ الظَّنُّ عندَ مَن صَحَّ عندَه، أمَّا مَن قامَتْ له الأَدِلَّةُ على أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فلا تَقومُ به عليه حُجَّةٌ، وعلى أيِّ حالٍ فلنا بل علينا أنْ نُفَوِّضَ الأَمْرَ في الحَدِيثِ ولا نُحَكِّمَهُ في عَقِيدَتِنا، ونَأْخُذَ بنَصِّ الكِتابِ، وبدَلِيلِ العَقْلِ، فإِنَّهُ إذا خُولِطَ النَّبِيُّ في عَقْلِهِ كما زَعَمُوا، جازَ عليه أنْ يُظَنَّ أَنَّهُ بَلَّغَ شَيْئًا وهو لم يُبَلِّغْهُ، أو أَنَّ شَيْئًا نَزَلَ عليه وهو لم يَنْزِلْ عليه، والأَمْرُ ظاهِرٌ لا يَحْتاجُ إلى بَيانٍ، ثُمَّ إنَّ نَفْيَ السِّحْرِ عنه لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ السِّحْرِ مُطْلَقًا، فرُبَّما جازَ أنْ يُصِيبَ السِّحْرُ غَيْرَهُ بالجُنونِ نَفْسِهِ، ولكِنْ مِنَ المُحالِ أنْ يُصِيبَهُ؛ لأنَّ اللهَ عَصَمَهُ منه، ما أَضَرَّ المُحِبَّ الجاهِلَ، وما أَشَدَّ خَطَرَهُ على من يَظُنُّ أَنَّهُ يُحِبُّهُ! نَعوذُ باللهِ مِن الخِذْلانِ، على أنَّ نافِيَ السِّحْرِ بالمَرَّةِ لا يَجوزُ أنْ يُعَدَّ مُبْتَدِعًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ ما يَعْتَقِدُ به المُؤْمِنونَ في قَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ...}[البقرة: 285] الآيَةَ، وفي غَيْرِها مِنَ الآياتِ، ووَرَدَتِ الأَوامِرُ بما يَجِبُ على المُسْلِمِ أنْ يُؤْمِنَ به، حتى يَكونَ مُسْلِمًا، ولم يَأْتِ في شَيْءٍ من ذلكَ ذِكْرُ السِّحْرِ على أَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ الإيمانُ بثُبُوتِهِ أو وُقُوعِهِ على الوَجْهِ الَّذي يَعْتَقِدُ به الوَثَنِيُّونَ في كُلِّ مِلَّةٍ، بل الَّذي وَرَدَ في الصَّحِيحِ هو أنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، فقد طُلِبَ منَّا أنْ لا نَنْظُرَ بالمَرَّةِ فيما يُعْرَفُ عندَ النَّاسِ بالسِّحْرِ ويُسَمَّى باسْمِهِ، وجاءَ ذِكْرُ السِّحْرِ في القُرْآنِ في مَواضِعَ مُخْتَلِفَةٍ، ولَيْسَ مِنَ الواجِبِ أنْ نَفْهَمَ منه ما يَفْهَمُ هؤلاءِ العُمْيانُ، فإنَّ السِّحْرَ في اللُّغَةِ مَعْناهُ صَرْفُ الشَّيْءِ عن حَقِيقَتِهِ، قالَ الفَرَّاءُ في قَوْلِهِ تعالى: {فأنَّى تُسْحَرونَ (89)} [المؤمنون: 89] أي: أنَّى تُؤْفَكونَ وتُصْرَفونَ، سِحْرُهُ وإفْكُهُ بمَعْنًى واحِدٍ، وماذا علينا لو فَهِمْنا مِنَ السِّحْرِ الَّذي يُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ تلك الطُّرُقَ الخَبِيثَةَ الدَّقِيقَةَ الَّتي تَصْرِفُ الزَّوْجَ عن زَوْجَتِهِ، والزَّوْجَةَ عَن زَوْجِها، وهل يَبْعُدُ أنْ يَكونَ مِثْلُ هذه الطُّرُقِ مِمَّا يُتَعَلَّمُ وتُطْلَبُ له الأَساتِذَةُ، ونحن نَرَى أنَّ كُتُبًا أُلِّفَتْ ودُروسًا تُلْقَى لتَعْلِيمِ أَسالِيبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّاسِ لمن يُرِيدُ أنْ يَكونَ من عُمَّالِ السِّياسَةِ في بَعْضِ الحُكُوماتِ، وقد يَكونُ ذِكْرُ المَرْءِ وزَوْجِهِ من قَبِيلِ التَّمْثِيلِ وإظْهارِ الأَمْرِ في أقَبْحِ صُورَةٍ، أي: بَلَغَ من أَمْرِ ما يَتَعَلَّمُونَهُ من ضُروبِ الحِيَلِ وطُرُقِ الإفْسادِ أنْ يَتَمَكَّنوا به مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ، وسِياقُ الآيَةِ لا يَأْبَاهُ، وذِكْرُ الشَّياطِينِ لا يَمْنَعُنا من ذلكَ بعدَ أنْ سَمَّى اللهُ خُبَثاءَ الإنْسِ المُنافِقِينَ بالشَّياطِينِ، قالَ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}[البقرة: 14]، وقالَ: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112]، وسِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ كانَ ضَرْبًا مِنَ الحِيلَةِ، ولذلكَ قالَ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وما قالَ: إِنَّها تَسْعَى بسِحْرِهم.
قالَ يُونُسُ: تَقولُ العَرَبُ: ما سَحَرَكَ عن وَجْهِ كذا، أي: ما صَرَفَكَ عنه، ولو كانَ هؤلاءِ يَقْدِرونَ الكِتابَ قَدْرَهُ ويَعْرِفونَ مِنَ اللُّغَةِ ما يَكْفِي لعاقِلٍ أنْ يَتَكَلَّمَ، ما هَذَروا هذا الهَذْرَ، ولا وَصَموا الإسْلامَ بهذه الوَصْمَةِ، وكيف يَصِحُّ أنْ تَكونَ هذه السُّورَةُ نَزَلَتْ في سِحْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ معَ أَنَّها مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ عَطاءٍ والحَسَنِ وجابِرٍ، وفي رِوايَةِ ابْنِ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وما يَزْعُمونَهُ مِنَ السِّحْرِ إِنَّمَا وَقَعَ في المَدِينَةِ، لكِنْ مَن تَعَوَّدَ القَوْلَ بالمُحالِ لا يُمْكِنُ الكَلامُ معَه بحالٍ، نَعوذُ باللهِ مِنَ الخَبالِ). [تفسير جزء عم: 185-187]
- قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسرفَ في ردِّ الأحاديثِ الصحيحةِ، وأساء فهمَها، وأساء القولَ في كلامِ أهلِ العلمِ، وما تقدم من الأحاديثِ والآثارِ وكلامِ أهلِ العلمِ كافٍ في الردِّ عليه، وفي كلامِه مغالطاتٌ يطولُ المقامُ ببحثِها، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ).
قالَ مُحَمَّد جَمَال الدِّينِ القَاسِمِيُّ (ت: 1332هـ):(تنبيهٌ: قالَ الشِّهابُ: نقلَ في (التَّأْوِيلاتِ) عنْ أبي بكرٍ الأصمِّ أنَّهُ قالَ: إنَّ حديثَ سِحْرِهِ صلواتُ اللَّهِ عليهِ المَرْوِيَّ هنا، مَتروكٌ لما يَلْزَمُهُ مِنْ صِدْقِ قولِ الكفَرةِ أنَّهُ مَسحورٌ، وهوَ مخالِفٌ لنَصِّ القرآنِ حيثُ أَكْذَبَهم اللَّهُ فيهِ.
ونَقَلَ الرازيُّ عن القاضي أنَّهُ قالَ: هذهِ الروايَةُ باطلةٌ، وكيفَ يُمْكِنُ القولُ بصِحَّتِها، واللَّهُ تعالى يقولُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المَائِدَةُ 67]، وقالَ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: 69]، ولأنَّ تَجويزَهُ يُفْضِي إلى القَدْحِ في النُّبُوَّةِ، ولأنَّهُ لوْ صَحَّ ذلك لكانَ مِن الواجبِ أنْ يَصِلُوا إلى ضَرَرِ جميعِ الأنبياءِ والصالحينَ، ولَقَدَرُوا على تَحصيلِ المُلْكِ العظيمِ لأنفُسِهم، وكُلُّ ذلكَ باطلٌ، ولكانَ الكُفَّارُ يُعَيِّرُونَهُ بأنَّهُ مَسحورٌ، فَلَوْ وَقَعَتْ هذهِ الواقعةُ لكانَ الكُفَّارُ صادقينَ في تلكَ الدعوةِ، ولَحَصَلَ فيهِ عليهِ السلامُ ذلكَ العَيْبُ، ومعلومٌ أنَّ ذلكَ غيرُ جائزٍ. انْتَهَى.
ولا غَرابةَ في أنْ لا يَقْبَلَ هذا الخبرَ لِمَا بَرْهَنَ عليهِ، وإنْ كانَ مُخَرَّجاً في الصِّحاحِ؛ وذلكَ لأنَّهُ ليسَ كُلُّ مُخَرَّجٍ فيها سالِماً مِن النَّقْدِ، سَنَداً أوْ معنًى، كما يَعرِفُهُ الرَّاسِخُونَ، على أنَّ المُنَاقَشَةَ في خبرِ الآحادِ مَعروفةٌ مِنْ عهْدِ الصحابةِ.
قالَ الإمامُ الغزالِيُّ في (المُسْتَصْفَى): ما مِنْ أَحَدٍ مِن الصحابةِ إلاَّ وقدْ رَدَّ خبرَ الواحدِ كرَدِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ خبرَ أبي سِنَانٍ الأشجعيِّ في قِصَّةِ (بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ) وقدْ ظَهَرَ منهُ أنَّهُ كانَ يَحْلِفُ على الحديثِ، وكَرَدِّ عائشةَ خبرَ ابنِ عمرَ في تَعذيبِ المَيِّتِ ببُكَاءِ أهْلِهِ عليهِ، وظَهَرَ مِنْ عُمَرَ نَهيُهُ لأبي مُوسَى وأبي هُريرةَ عن الحديثِ عن الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وأَمْثَالُ ذلكَ ممَّا ذُكِرَ.
أَوْرَدَ ذلكَ الغزاليُّ في مَباحثِ (خَبَرُ الآحادِ في شُبَهِ المُخَالِفينَ فيهِ)، وذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ في (مَباحثِ الإِجْمَاعِ) إجماعَ الصحابةِ على تَجويزِ الخِلافِ للآحادِ؛ لأَدِلَّةٍ ظاهرةٍ قامَتْ عندَهم.
وقالَ الإمامُ ابنُ تَيْمِيَّةَ في (المُسَوَّدَةِ): الصَّوَابُ أنَّ مَنْ رَدَّ الخبرَ الصحيحَ كما كانتِ الصحابةُ تَرُدُّهُ؛ لاعتقادِ غَلَطِ الناقلِ أوْ كَذِبِهِ، لاعتقادِ الرَّادِّ أنَّ الدَّلِيلَ قدْ دَلَّ على أنَّ الرسولَ لا يقولُ هذا، فإنَّ هذا لا يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ، وإنْ لم يَكُنِ اعتقادُهُ مُطَابِقاً، فقدْ رَدَّ غيرُ واحدٍ مِن الصحابةِ غيرَ واحدٍ مِن الأخبارِ التي هيَ صحيحةٌ عندَ أهلِ الحديثِ، انْتَهَى.
وقالَ العلاَّمَةُ الفَنَارِيُّ في فُصولِ البدائعِ: (ولا يُضَلَّلُ جاحِدُ الآحادِ).
والمسألةُ معروفةٌ في الأُصُولِ، وإنَّما تَوَسَّعْتُ في نُقُولِها؛ لأَنِّي رَأَيْتُ مِنْ مُتَعَصِّبَةِ أهلِ الرأيِ مَنْ أَكْبَرَ رَدَّ خَبَرٍ رَوَاهُ مثلُ البخاريِّ، وضَلَّلَ مُنْكِرَهُ، فعَلِمْتُ أنَّ هذا مِن الجَهْلِ بفَنِّ الأُصُولِ، لا بلْ بِأُصُولِ مَذْهَبِهِ، كما رَأَيْتَ عن الفَنَارِيِّ.
ثمَّ قُلْتُ: العهدُ بأهلِ الرَّأْيِ أنْ لا يُقِيمُوا للبُخَارِيِّ وَزْناً، وقدْ رَدُّوا المِئِينَ مِنْ مَرْوِيَّاتِهِ بالتأويلِ والنسْخِ، فمَتَى صادَقُوهُ حتَّى يُضَلِّلُوا مَنْ رَدَّ خَبَراً فيهِ؟ وقدْ بَرْهَنَ على مُدَّعَاهُ، وقامَ يُدَافِعُ عنْ رسولِ اللَّهِ ومُصْطَفَاهُ.
وبعدُ، فالبحثُ في هذا الحديثِ شَهيرٌ قديماً وحديثاً، وقدْ أَوْسَعَ المَقالَ فيهِ شُرَّاحُ الصحيحِ، وابنُ قُتيبةَ في شَرْحِ تَأْوِيلِ مُختَلِفِ الحديثِ، والرازيُّ. والحقُّ لا يَخْفَى على طالِبِهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ). [محاسن التأويل: 9/ 578]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُصْطَفَى المَرَاغِيُّ (ت: 1371هـ): (قَالَ الأسْتَاذُ الإمَامُ ما خُلاصَتُهُ: قَدْ رَوَوْا هَاهُنَا أحَادِيثَ فِي أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ, وَأَثَّرَ سِحْرُهُ فِيهِ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنه يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَهُوَ لا يَفْعَلُهُ, أو يَأْتِي شَيْئًا وَهُوَ لا يَأْتِيهِ, وأنَّ اللهَ أَنْبَأَهُ بِذَلِكَ, وَأُخْرِجَتْ مَوَادُّ السِّحْرِ مِن بِئْرٍ, وَعُوفِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ مِمَّا كَانَ نَزَلَ بِهِ مِن ذَلِكَ ونَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ.
ولا يَخْفَى أنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَاسٌّ بِالعَقْلِ آخِذٌ بالرُّوحِ, فَهُوَ مِمَّا يُصَدِّقُ قَوْلُ المُشْرِكِينَ فِيهِ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا (47)} [الإسراء: 47].
والذَّيِ يَجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُهُ أنَّ القُرْآنَ المُتَوَاتِرَ جَاء بِنَفْيِ السِّحْرِ عنه عَلَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ, حَيْثُ نَسَبَ القَوْلَ بإثْبَاتِ حُصُولِهِ له إِلَى المُشْرِكِينَ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى ذلك.
والحَدِيثُ -عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ- مِن أحَادِيثِ الآحَادِ الَّتِي لا يُؤْخَذُ بها فِي العَقَائِدِ, وَعِصْمَةُ الأنْبِيَاءِ عَقِيدَةٌ لا يُؤْخَذُ فِيهَا إلا باليَقِينِ, وَنَفْيُ السِّحْرِ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ, لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ السِّحْرِ مُطْلَقًا, فَرُبَّمَا جَازَ أنْ يُصِيبَ السِّحْرُ غَيْرَهُ بِالجُنُونِ, وَلَكِنْ مِنَ المُحَالِ أنْ يُصِيبَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ, لأنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنْه.
إلا أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ وَالحَسَنِ وَجَابِرٍ, وَمَا يَزْعُمُونَهُ مِنَ السِّحْرِ إنما وَقَعَ بِالمَدِينَةِ, فهَذَا مِمَّا يُضَعِّفُ الاحْتِجَاجَ بِالحَدِيثِ, وَيُضَعِّفُ التَّسْلِيمَ بِصِحَّتِهِ.
وَعَلَى الجُمْلَةِ فَعَلَيْنَا أنْ نَأْخُذَ بِنَصِّ الكِتَابِ, وَنُفَوِّضَ الأمْرَ فِي الحَدِيثِ ولا نُحَكِّمَهُ فِي عَقِيدَتِنَا. اهـ). [تفسير المراغي: 30/268]
- قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وهذا تفويضٌ مذمومٌ، وتعامٍ مقيتٌ عن قبولِالخبرِ الصحيحِ، وقد أصاب في قوله بعصمةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم من الجنونِ بسببِ السحرِ أو غيرِه، وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه بينَ أهلِ العلمِ، وليس في تلك الحادثةِ ما يقدَحُ في عصمةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم).

(1) يريد حديث عائشة رضي الله عنها في حادثة سحْرِ النبي صلى الله عليه وسلم.

(2) يريد بغير سبب إنكار السحر أصلاً.


رد مع اقتباس