الموضوع: مِن
عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 27 ذو الحجة 1438هـ/18-09-2017م, 05:12 PM
جمهرة علوم اللغة جمهرة علوم اللغة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 2,897
افتراضي


شرح علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ)


الباب الثاني: في الحروف الثنائية
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الباب الثاني: في الحروف الثنائية وهي التي كل واحدٍ منها على حرفين من حروف الهجاء بالوضع، واعلم أن جماعة لم تتعرض لها وهم أكثر النحاة ومنها طائفة لم يتعرضوا لها عند عدهم الحروف ونبهوا عليها في أماكن أخرى، ونحن نأتي إن شاء الله تعالى على عدّ جميعها ونذكر في كل واحد منها ما يليق ذكره بهذا التعليق، ونستمد من الله سبحانه حسن التوفيق، فنقول: إن جملة الحروف الثنائية التي اسقصينا حصرها ثلاثون حرفًا منها ما لم تجر عادتهم بذكره بين الحروف وهي ستة: "النون" الشديدة للتأكيد، و"الألف" و"النون" في نحو: يفعلان الزيدان، وتفعلان المرأتان، و"الواو" و"النون" في: يفعلون الزيدون إذا أسندت إلى الظاهر المرتفع بعدهما بالفاعلية على لغة أكلوني البراغيث، أي: قول من يجعل هذه العلامة للدلالة على نوعية الفاعل "كتاء" التأنيث الدالة على تأنيثه، ولفظة "نا"، و"كم"، و"ها"، الملحقة "بأيا" ضمير النصب المنفصل على رأي سيبويه في جعل المردفات حروفًا دالة على التفريع فإذا طرحنا هذه الستة بقي جميع الحروف المتداولة بين النحاة أربعة وعشرون حرفًا، وهي على حالتين كما قدمناه، فإنها إمَّا أن تكون حروفًا محضة، أي: تقع في جملة مواقعها وقاطبة استعمالاتها إلا حروفًا، وإمَّا أن تكون مشتركة بين الاسمية والحرفية، ولا يجوز أن يشارك الحرف الثنائي شيئَا من الأفعال لما تقدم من أنه لم يوضع فعل على أقل من ثلاثة أحرف أصول، فلذلك وضعنا هذا الباب أيضًا على نوعين: ملازم لمحض الحرفية، وغير ملازم، والله الموفق). [جواهر الأدب: 85]

النوع الأول: الحروف المحضة التي لا تشارك شيئًا من القسمين الآخرين

قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (النوع الأول: الحروف المحضة التي لا تشارك شيئًا من القسمين الآخرين وهي ثمانية عشر حرفًا، وذكرها على مقتضى الترتيب الطبيعي والاصطلاحي هو هكذا "آ" "أو" "أم" و"إن" و"أن" و"أو" و"أي" و"إي" و"بل" و"في" و"كي" و"لا" و"لم" و"لن" و"لو" و"من" و"هل" و"وا" و"ما" ونحن نذكر كل واحدٍ من هذه الحرف في فصل مفرد على هذا الترتيب المذكور ونذكر في كل فصل منها ما نرى ذكره لائقًا بذلك الموضع مستمدين من الله سبحانه ولطفه حسن التوفيق ومتوكلين على كرمه في إصابة الحق بالتحقيق إن شاء الله تعالى). [جواهر الأدب: 85 - 86]

الفصل الخامس عشر: حرف "من"
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الفصل الخامس عشر: من النوع الأول وهو نوع الحروف الثنائية المحضة.
حرف "من": ولا تقع إلا حرفًا، و"ميمه" مكسورة، ويجوز ضمها في القسم خاصة، وقيل: المضمومة هي المختصرة من كلمة أيمن المقسم بها، وضعف بأنه لو كان منه لما عده من جملة الحرف كما لم يعدوا "أيم" حرفًا، وقيل: لو كان منه لوجب إعرابه لكونه اسمًا، وأجيب بأنه تضمن معنى حرف القسم فبنى، أو لأنه لما صار على حفين أشبه الحرف الثنائي فبني، وفيه نظر؛ لأنه بالحذف شابه لا بالوضع "كما" و"من"، فيكون كاب ويد وذلك لا يقتضي البناء.
وقال الفراء: أصلها "منا" "بالألف" فحذفت تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ويعزيه إلى أستاذه الكسائي، ورد بأن الأصالة تحتاج إلى دليل، وهذه "من" المضمومة إذا استعملت في القسم اختصت بالرب مضافًا أو مفردًا وشذ دخولها على اسم الله تعالى، فتقول: "من" الرب، و"من" ربي، وشذ قولك: "من" الله، فهي بعكس "التاء" القسمية لاختصاصها باسم الله تعالى، وشذ دخولها على الرب في نحو: ترب الكعبة، إلا أن "التاء" تدخل على غير الرب ايضًا شذوذًا، كقولهم: تالرحمن، وتحياتك بخلاف "من"، واعلم أن بعضهم قد عد "من" من الحروف المشتركة بين الكلمات الثلاث، فجعلها اسمًا بعضًا من أحرف أيمن وفعلًا أمرًا من "مان" يمين، أي: كذب، وقد بينا في صدر الباب الأول أن الاشتراك إنما يعتد به إذا كان بالوضع أما الحاصل بالاتفاق بحذف أو غيره، فإنه لا يكون معتبرًا لعروض المشاركة حينئذٍ، وقد نبهنا عليه مرارًا، واعلم أن "من" هذه من حروف الجر، وإنما عملت وكان عملها جرًا لما بيناه في فصل "الباء"، وليعلم أنها قد وردت لعدة معان، وذكر القدماء أن معانيها ثلاثة ابتداء الغاية والتبيين والتبعيض، وجاءت مزيدة في غيرهن.
قال المبرد: والأصل في الثلاثة الابتدائية والبواقي مفرعة عليها، ويمكن ردها إليها.
وقال بعضهم: إن الأصل التبعيض وآخران الأصل التبيين، وأما المتأخرون فقد ذكروا لها مواضع متعددة أكثر من ذلك، والأولى أن نذكرها مفصلة لتكمل الفائدة وينضبط عددها غير المزيد في أحد عشر موردًا.
الأول: وهو أشهر معانيها ابتداء غاية فعل الفاعل في المكان بإجماع النحاة سواء قصد معه الانتهاء كقوله تعالى: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} أولًا نحو: أخذته "من" الصندوق، واختلفوا في انها هل تقع الغاية في الزمان، فأجازه الكوفيون وذكروا لها شواهد منها، قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخل على فاطمة رضي الله عنها فقدمت له طعامًا فأكل منه وقال: «هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام»، وقول الشاعر:
أقوين من حجج ومن دهر.
وقول الآخر:
تخيرن من أزمان يوم حليمة ...... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
وتأوله البصريون وكثر مجيئه كذلك فلا حاجة إلى التأويل المخالف للأصل.
وأما قولهم: رأيت الهلال "من" خلل السحاب.
فقيل: إن "من" هنا لابتداء الغاية في المكان من المفعول، فعلى هذا "من" قد تكون لابتداء الغاية عن الفاعل وحده، وعن المفعول وحده، وعنهما معًا، وعند سيبويه أنها هنا لانتهاء الغاية، وكذلك في قولهم: شممت المسك "من" داري "من" الطريق، وقيل: "من" الأولى في موضع حال "من" الفاعل، والثانية في موضع الحال "من" الحال.
وقال والدي في رسالته للاستعاذة: ولو جعلناها في هذا المثال بمعنى عن لكان أولى.
وعندي: أن الأولى لابتداء غاية فعل الفاعل والثانية لانتهاء غاية فعل المفعول، وقد تدخل "من" ما يناسب المكان والزمان، كقولك: قرأت "من" أول البقرة إلى آخر الأعراف، وأعطيت "من" درهم إلى دينار.
الثاني: مجيئها للتبعيض، وهي التي يصح تقدير بعض مكانها، كقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، فإنه يصح: خذ بعض أموالهم، وقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قرأ عبد الله: (حتى تنفقوا بعض ما تحبون) وذلك على وجه التفسير ل أنها قراءة، ولولا هذا البيان دالًا لجاز اعتقاد أنها لبيان الجنس هنا.
وقال المبرد وجماعة: هي هنا لابتداء الغاية.
وقال عبد القاهر: لا تنفك المبعضة عن معنى الابتداء.
الثالث: الجنسية، وهي التي يقصد بها بيان أن ما قبلها هو ما بعدها، ويقال: هي التي يحسن تقديرها بالذي هو، كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} فإنه يحسن أن يقال: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، ومنه قوله تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهب}، وكذا قوله تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار}، وقد قيل: التبعيض معتبر في المبعضة والجنسية، فإن كان ما قبلها بعضًا مما بعدها لفظًا أو معنى كالمأخوذ، والدراهم في قولك: أخذت "من" الدراهم، فهي المبعضة، وإن كان ما بعدها بعضًا مما قبلها كالرجس والأوثان فهي الجنسية، وقد قيل: إنها في مواضعها الثلاث لا تخلو من معنى التبيين والتمييز.
الرابع: القسيمة، وهي الجاعلة ما بعدها مقسمًا به، وجوزوا ضم "ميمها" فيه خاصة ليعلم منها قصد القسم، وقد مر ما فيها من الخلاف، وبيان ما هو الشاذ من استعمالها وما هو القياس.
الخامس: السببية، ويقولون فيها: المعللة، وهي التي يحسن مكانها لفظة سبب، كقوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت}، ومنه قول عائشة رضي الله عنها لشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: «ومعتصم بالحي من خشية الوادي».
فمعنى "من" في هذه الأمثلة كلها السببية.
السادس: البدلية، وهي التي يحسن أن يقام مقامها لفظ عوض، كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي عوضها، وقوله تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة}، وقول الشاعر:
جابرة لم تأكل المرققا ..... ولم تذق من البقول الفستقا
وقول الآخر: أخذوا المخاض "من" الفصيل غلبة.
أي: عوضه.
السابع: الفصيلة، وهي التي تدخل على ثاني المتقابلين لتفضله عن الأول، كقوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح}، وكقوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب}.
الثامن: الاستغراقية، وهي الداخلة على نكرة منفية يمكن أن يكون النفي فيها لواحد "من" ذلك الجنس، ويمكن أن يكون مستغرقًا لجميع أفراده، فإذا دخلت "من" عليها صارت نصًا في الاستغراق للجميع، فلذلك سميت بها، كقولك: ما جاءني رجل، فإنه يجوز أن تقول: بل رجلان، وثلاثة، فإذا قلت: "من" رجل امتنع الإضراب، وبعض النحاة يجعلها من قسم الزائدة وهو سهو، أما لو قلت: ما جاءني "من" أحدٍ فإن "من" هنا زائدة بالإجماع لما في أحد "من" العموم المفقود في رجل.
التاسع: هو أن تفيد التجريد بمعنى أنها تدخل على اسم تثبت له صفة مدح أو ذم مع إفادة الحصر فيها، وتجريد الموصوف عن غيرها مبالغة، نحو: رأيت "من" زيد أسدًا و"من" بكر بحرًا مريدًا إثبات الشجاعة والكرم التجريد مما عداهما، ونحو: رأيت "من" عمر ومسيلمة، و"من" خالد أشعبًا قاصدًا وصف عمرو بالكذب وخالد بالطمع لا غير بمعنى أن الموصوف منطبع على هذه الصفة فقط لا يتصور منه غيرها.
العاشر: النائبة عن بعض حروف الجر المؤدية معناه، والذي تنوب عنه "من" الحروف خمسة أحرف.
أحدها: "عن"، فإن "من" تنوب عنها في تأدية معنى المجاوزة نحو: انفصلت "من" زيد، ونهيت "من" شتم بكر، ومثل في الرسالة ببعدت "منه" وأنفقت "منه"، ولم يتبين لي فيهما معنى المجاوزة.
وثانيها: "على"، إذا أدت معنى الاستعلاء، كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا}.
وثالثها: "إلى"، تنوب "من" عنها مؤدية معنى الانتهاء نحو: قربت "من" زيد.
ورابعها: "الباء"، إن أفادت "من" معنى الاستعانة، كقوله تعالى: {ينظرون من طرف خفي}، أي: بطرف، قال صاحب التسهيل: ولو قيل: إنها هنا لابتداء الغاية لكان مقبولًا، ولكنه رواه الأخفش عن يونس، فكان قولًا.
وخامسها: "في"، حيث أفادت "من" ما تفيده "من" الظرفية، كقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}، وجعل الكوفيون {من} هنا لابتداء غاية الزمان، كما في: {من أول يوم}، وأنكره الرضي، قال: وأنا لا أدري في الآيتين معنى الابتداء؛ إذ المقصود "من" معنى الابتداء في "من" أن يكون الفعل المتعدي "بمن" الابتدائية شيئًا ممتدًا كالسير والمشي، ويكون المجرور "بمن" الشيء الذي "منه" ابتداء ذلك الفعل أو يكون الفعل المعدى بها أصلًا للشيء المبتدء منه نحو: تبرأت "من" فلان إلى فلان، وكذا: خرجت "من" الدار، إذا انفصلت "منها"، ولو بأقل "من" خطوة، وليس التأسيسن والنداء حدين ممتدين ولا أصلين للمعنى المبتدء منه، بل هما حدان واقعان فيما بعد، وهذا معنى في "فمن" في الآيتين بمعنى "في"، و"من" في الظروف كثيرًا ما يقع بمعنى "في" نحو: جئت "من" قبل زيد و"من" بعده، {ومن بيننا وبينك حجاب}، وكنت "من" قدامك، هذا نصه.
الحادي عشر: من مواقع "من"، أماكن الزيادة، ويجب أن يعلم أنه متى أفاد دخولها الكلمة شيئًا فإنها لا تدعى زائدة كالتي يمكن كونها استغراقية، فإنا أخرجناها من المزيدات، وقد أنكر الأخفش على "من" عدها في قولهم: ما جاءني "من" رجل "من" الزوائد، وقال: إنها حيث أفادت استغراق النفي لجميع الأفراد، ووجد هذا المعنى عند وجودها كانت مفيدة معنى مستجدًا، فلا تسمى زائدة، ونحن أثبتناها فيما أفاد معنى "من" المعاني المستفادة بها، فلا نقول للكلمة زائدة إلا حيث لم تؤثر لا لفظًا ولا معنى.
قلت: ولا يخفى صحة وبطلان ذلك على "من" له أدنى فطانة، ولقد كنت قبل حاكمًا بأنها في هذا، ونحوه غير زائدة، فلما طالعته ووجدته موافقًا شكرت يد الإصابة، وليعلم أن الكوفيين جوزوا زيادة "من" في الإيجاب، وتابعهم الأخفش، واحتجوا بوجوده منها قوله تعالى في آية: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا}، وفي آية أخرى: {ليغفر لكم من ذنوبكم}؛ إذ يلزم منها كونها في الثانية زائدة، وإلا لتناقض حكم الآيتين، فإن الأولى تدل على غفران جميع الذنوب بشهادة التأكيد بقوله: {جميعًا}، وتصدير الجملة الاسمية "بأن"، وذلك يوجب كونها في الثانية مزيدة، وإلا تعين كونها تبعيضه، فيلزم التناقص، وقوله تعالى: {وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}، فإنه يجب أن تكون فيها مزيدة؛ لأن التثبيت إنما يحصل إذا كان القصص شاملًا بذكر أخبار جميع الرسل، فكأنه قال: نقص عليك أنباء الرسل لتثبيت فؤادك، فتكون زائدة، وقوله عليه السلام: «إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» فإنها هنا زائدة لعدم تأثيرها؛ إذ المراد: أشد الناس عذابًا، ومنها ما صح من قول العرب: قد كان "من" مطر، إذ المراد به: قد كان مطر، فهذه الأدلة مرخصة لزيادة "من" في الإيجاب، وهو المطلوب، وأما سيبويه ومن تابعه فإنهم يشترطون لجواز زيادة "من" كون الكلام غير موجب، والمراد منه أن يكون نفيًا بجميع أداته أو نهيًا أو استفهامًا بهل، وحدها دون غيرها من أدوات الاستفهام، ويجيبون عن أدلة الكوفيين.
أما عن الأول فبمنع التناقض بين الآيتين، وإنما يلزم أن لو اتحد المحكوم عليه وهو غير متحد؛ لأن المحكوم له بغفران بعض الذنوب قوم نوح عليه السلام؛ لأنها وردت في قصته، والمحكوم له بغفران جميع الذنوب هم هذه الأمة المحمدية رزقنا الله وإياهم ذلك بمحمد وآله وصحبه، ولا بعد أن يخصهم الله سبحانه بغفران جميع الذنوب إمَّا ابتداءً أو بشفاعته صلى الله عليه وسلم، ولو سلم أن الغفران يكون بالنسبة إلى أمة واحدة لا يلزم عليه التناقض أيضًا لجواز أن يكون غفران الجميع لبعض الأمة، وغفران البعض لبعضها الآخر، أو يغفر كل الذنوب التي "من" حقوق الله، وبعضها لمن عليه شيء "من" حقوق البشر؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة، وحقوق العباد على المضايقة.
وأما عن الثاني فبأن يقال: لا نسلم أن التثبيت يستلزم ذكر أخبار جميع الرسل، بل يكفي فيه ذكر بعضها؛ لأن الله تعالى لم يذر قصص جميعهم؛ بدليل قوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك}، فيكون معنى الآية: وكلًا نقص عليك بعض أنباء الرسل، فلا تكون زائدة، ويكون المعنى مطابقًا للآية، ولا يلزم تنافي المدلولين.
وأما عن الثالث فبأن رفع المصورين ونصبها لا دلالة فيه على الزيادة وعدمها، فإن حروف الجر تعمل عملها زائدة، ألا ترى كيف يقال: ما جاءني "من" أحد، فيجر أحد "بمن" الزائدة كما تجر البصرة بغير الزائدة في قولك: خرجت "من" البصرة، وإنما يوجه الحديث بنه قد حذف منه ضمير الشأن شذوذًا، تقديره: انه "من" أشد الناس عذابًا، وقد جاء مثله كثيرًا.
وأما الرابع: فبمنع أن اسم كان التامة هو "من" مطر، وإنما اسمها محذوف، و"من" ومجرورها صفة له تقديره: قد كان شيء "من" مطر وسهل، حذف اسم كان، كونه في الأصل مبتدأ، وحذفه شائع كثيرًا، وأن المحذوف فاعل كان تقديره: قد كان كائن "من" مطر، وجاز حذفه لتقدم كان الدالة عليه، فتكون "من" فيه لبيان الجنس لا زائدة، ومثل قد كان "من" مطر في كلامهم، قد كان "من" حديث فخذ عني إيرادًا وجوابًا وتقديرًا، ويجوز أيضًا أن يقع جوابًا لسؤال سائل سأل: هل كان "من" مطر؟ فقال: قد كان "من" مطرٍ، لجواب الاستفهام ليتطابقا، فيكون الكلام غير موجب، وحينئذٍ لا مانع من الزيادة.
وزعم صاحب التسهيل أن {من} في قوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} زائدة، والأكثرون على أنها لابتداء الغاية، كما في قولك: جئت "من" قبل زيد، ونحوه، وقد مر وبعضهم على أنها بمعنى "في"، كما زعموا، والوجه عندي الأول؛ لأن المعنى عليه، ثم إن الجماعة الذين جوزوا زيادتها في الواجب أكثرهم اشترط في مجرورها أن يكون نكرة، وبعضهم عمم، فجوز الدخول على المعارف أيضًا.
وأما سيبويه فلا يجوز زيادتها إلا في غير الموجب، وقيل: قال سيبويه: إن الحرف وضع للاختصار عن ذكر الفعل، فيجب أن لا يحكم بزيادته إلا في موضع يطلب فيه التأكيد، وذلك لا يصح إلا في غير الواجب؛ بدليل امتناع مات "من" رجل، وقد مر أن المراد من غير الواجب النفي والنهي والاستفهام "بهل" وحدها، وإن النفي يكون مع جميع أدواته، وهي "لم"، و"لا"، و"لن"، و"ما"، و"لا"، و"إن"، وكذلك قلنا: إذا كانت بمعنى "ما"، و"ليس"، وقد اشترطوا في المنفي بأحد هذه الأدوات تنكير مجرور "من" نحو: "ما" جاءني "من" أحد، فتدخل في كلها على فاعل أفعالها المنفية، وعلى المنفي من اسم "كان"، وعلى الأول من مفعولي "ظن"، وعلى الأول والثاني من مفاعيل أعملت، وعلى مفعولي: أعطيت، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله، وتزاد في المبتدأ النكرة، وصح كونها نكرة بتخصيصها حينئذٍ بالنفي والاستفهام، كقوله تعالى: {وما من إله إلا الله}.
وقولك: "هل" فيها "من" أحد؟ وقوله تعالى: {ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذير}، ونحو: {هل يراكم من أحدٍ} لزيادتها في الفاعل، وما رأيت "من" بشر، وهل رأيت "من" إنسان في المفعول، وعليه القياس، وأما في النهي فلا تزاد إلا في الفاعل والمفعول نحو: لا يقم "من" أحدٍ، ولا تضرب "من" أحدٍ، وكذلك فيما لم يسم فاعله نحو: لا يضرب "من" أحدٍ.
خاتمة: تشتمل على مسائل:
الأولى: إنما بنيت لكونها حرفًا لا سيما وقد وضعت على حرفين وعلى السكون لكونه الأصل، فإذا لاقاها ساكن كسرت جريًا على التقاء الساكنين نحو: أخذت "من" ابنك، وعجبت "من" استعطافك إلا مع "أل"، فإنها تفتح طلبًا للخفة لكثرة الاستعمال نحو: أتيت "من" الشام، وإنما أطرد كسر "نون" "عن" مع "أل" وإن وجدت كسرة الاستعمال التي هي مطية التخفيف لوجود الخفة فيها بفتح "العين"، بخلاف "من"، فإن "ميمها" لما كانت مكسورة اقتضى القياس فتح "النون" فيما كثر استعماله، وقد حذفت مع "أل" شذوذًا نحو: أنا ملقوم، أي: "من" القوم، ولم يشذ حذف "الياء" من "في" معها نحو: "في" القوم، لكونه حرف "على"، وإنما عملت لاختصاصها وعدم تنزلها كالجزء من مجرورها، وعملت الجر دون غيره لما مر في فصل "الباء" وغيره.
الثانية: قد كثر دخول "من" خاصة على كثير من الحروف الجارة لكونها أصل حروف الجر، ونقل عن الفراء أنه يجوز دخولها على جملتها سوى أربعة أحرف، وهي "من" أيضًا، و"الباء" و"اللام"، و"في"، وقال: إنها إذا دخلت على حرف لا يتغير عن حرفيته، وتابعه في ذلك جماعة من الكوفيين، وأما البصريون فجوزوا دخولها على "عن" و"على"، وقالوا: إذا دخلت على "عن" صارت بمعنى جانب، وعلى "على" كانت بمعنى "فوق" فهما معها اسمان، كما أشير إليه، وأما نحو: بدأت ببسم الله فلصيرورة "الباء" الثانية كالجزء من مدخولها، فكأن الأولى دخلت على ما أوله "باء"، نحو: "من" بكر، واختصت أيضًا بجر الظروف الغير المتصرفة نحو: "عند" ولدي، و"لدن"، و"دون"، و"مع"، وكذلك "قبل" و"بعد"، نحو: "من" "عند" الله، {وعلمناه من لدنا علمًا}، و"من" "دون" الله، وجئت "من" "معه"، أي: "من" "عنده"، و{لله الأمر من قبل ومن بعد}، وكذا بله، نحو: أكرمت زيدًا "من" بله عمرو التميمة، أي: "من" ترك عمرو، و"من" في جميعها لابتداء الغاية في المكان عند الجمهور.
الثالثة: اختلفوا في "من" الواقعة بعد أفعل التفضيل نحو: زيد أفضل "من" عمر، وفقيل: إنها لابتداء الغاية، إمَّا صعودًا نحو: أفضل، فإنه ابتداء في زيادته على المفضل عليه ارتفاعًا، وأما نزولًا نحو: خالد أجهل "من" بكر فإنه ابتداء في التنازل عنه استفالا.
وقال صاحب التسهيل: "من" هنا بمعنى "عن"، أي: مفيدة للمجاوزة؛ لأن المفضل يجاوز المفضل عليه، ويتعداه إمَّا من جهة المدح أو الذم، وقيل: إن سيبويه يقول: إنها لابتداء الغاية هنا، ويقول: لا تخلو "عن" التبعيض، وأنكر المبرد إفادتها التبعيض، وقيل: إنها لابتداء الغاية في التفضيل ولانتهائها أيضًا، أي: ابتدئ التفضيل منها، وانتهى بها.
الرابعة: ورد عن العرب: أما رجل يقول: كذا، وألا رجل يفعل كذا، بجر رجل فيهما، فقيل: الجر "بمن" محذوفة ولا يجوز إظهارها.
وقيل: يجوز الإظهار مع "أما" دون "ألا"، وقد تلحق "من" بما بعدها فتصي مثل "ربما" في إفادة التقليل نحو: "مما" يقال كذا، أي: "ربما" يقال كذا). [جواهر الأدب: 131 - 140]


رد مع اقتباس