عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 09:47 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون (59) الحقّ من ربّك فلا تكن من الممت رين (60) فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين (61) إنّ هذا لهو القصص الحقّ وما من إلهٍ إلا اللّه وإنّ اللّه لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولّوا فإنّ اللّه عليمٌ بالمفسدين (63)}
يقول تعالى: {إنّ مثل عيسى عند اللّه} في قدرة اللّه تعالى حيث خلقه من غير أبٍ {كمثل آدم} فإنّ اللّه تعالى خلقه من غير أبٍ ولا أمٍّ، بل {خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} والّذي خلق آدم قادرٌ على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادّعاء البنوّة في عيسى بكونه مخلوقًا من غير أبٍ، فجواز ذلك في آدم بالطّريق الأولى، ومعلومٌ بالاتّفاق أنّ ذلك باطلٌ، فدعواها في عيسى أشدّ بطلانًا وأظهر فسادًا. ولكنّ الرّبّ، عزّ وجلّ، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خلق آدم لا من ذكرٍ ولا من أنثى؛ وخلق حوّاء من ذكرٍ بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكرٍ كما خلق بقيّة البريّة من ذكرٍ وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {ولنجعله آيةً للنّاس} [مريم: 21].
وقال هاهنا: {الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/49]

تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال هاهنا: {الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين} أي: هذا القول هو الحقّ في عيسى، الّذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال). [تفسير القرآن العظيم: 2/49]

تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى -آمرًا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يباهل من عاند الحقّ في أمر عيسى بعد ظهور البيان: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي: نحضرهم في حال المباهلة {ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} أي: نلتعن {فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} أي: منّا أو منكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أوّل السّورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجّون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوّة والإلهيّة، فأنزل اللّه صدر هذه السّورة ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار وغيره.
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفد نصارى نجران، ستّون راكبًا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول إليهم أمرهم، وهم: العاقب، واسمه عبد المسيح، والسّيّد، وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأويس الحارث وزيدٌ، وقيسٌ، ويزيد، ونبيهٌ، وخويلدٌ، وعمرٌو، وخالد، وعبد الله، ويحنّس.
وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثةٍ منهم، وهم: العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والّذي لا يصدرون إلّا عن رأيه، والسّيّد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان رجلًا من العرب من بني بكر بن وائلٍ، ولكنّه تنصّر، فعظّمته الرّوم وملوكها وشرّفوه، وبنوا له الكنائس وموّلوه وأخدموه، لما يعلمونه من صلابته في دينهم. وقد كان يعرف أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدّمة جيّدًا، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النّصرانيّة لما يرى [من] تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها.
قال ابن إسحاق: وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير، قال: قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعبٍ. قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم. وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّون، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: دعوهم فصلّوا إلى المشرق.
قال: فكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، أو السّيّد الأيهم، وهم من النّصرانيّة على دين الملك، مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو اللّه، ويقولون: هو ولد اللّه، ويقولون: هو ثالث ثلاثةٍ. تعالى اللّه [عن ذلك علوًّا كبيرًا] وكذلك قول النّصرانيّة، فهم يحتجّون في قولهم: "هو اللّه" بأنّه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطّين كهيئة الطّير، ثمّ ينفخ فيه فيكون طيرًا وذلك كلّه بأمر اللّه، وليجعله آيةً للنّاس.
ويحتجّون في قولهم بأنّه ابن اللّه، يقولون: لم يكن له أبٌ يعلم، وقد تكلّم في المهد بشيءٍ لم يصنعه أحدٌ من بني آدم قبله.
ويحتجّون في قولهم بأنّه ثالث ثلاثةٍ، بقول اللّه تعالى: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا؛ فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلّا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت؛ ولكنّه هو وعيسى ومريم وفي كلّ ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
فلمّا كلّمه الحبران قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أسلما" قالا قد أسلمنا. قال: "إنّكما لم تسلما فأسلما" قالا بلى، قد أسلمنا قبلك. قال: "كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للّه ولدًا، وعبادتكما الصّليب وأكلكما الخنزير". قالا فمن أبوه يا محمّد؟ فصمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنهما فلم يجبهما، فأنزل اللّه في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم، صدر سورة آل عمران إلى بضعٍ وثمانين آيةً منها.
ثمّ تكلّم ابن إسحاق على التّفسير إلى أن قال: فلمّا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الخبر من اللّه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثمّ نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثمّ خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ماذا ترى؟ فقال: واللّه يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمّدًا لنبيٌّ مرسلٌ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنّه ما لاعن قومٌ نبيًّا قطّ فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنّه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم [قد] أبيتم إلّا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألّا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلًا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنّكم عندنا رضًا.
قال محمّد بن جعفرٍ: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ائتوني العشيّة أبعث معكم القويّ الأمين"، فكان عمر بن الخطّاب يقول: ما أحببت الإمارة قطّ حبّي إيّاها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظّهر مهجّرا، فلمّا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الظهر سلّم، ثمّ نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتّى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه: "اخرج معهم، فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه". قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة، رضي اللّه عنه.
وقد روى ابن مردويه من طريق محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيدٍ، عن رافع بن خديج: أنّ وفد أهل نجران قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر نحوه، إلّا أنّه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر. وذكر بقيّته بأطول من هذا السّياق، وزياداتٍ أخر.
وقال البخاريّ: حدّثنا عبّاس بن الحسين، حدّثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبًا نجران إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فواللّه إن كان نبيًّا فلاعنّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا إنّا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إلّا أمينًا. فقال: "لأبعثنّ معكم رجلا أمينًا حقّ أمينٍ"، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح" فلمّا قام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "هذا أمين هذه الأمّة".
[و] رواه البخاريّ أيضًا، ومسلمٌ، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه من طرقٍ عن أبي إسحاق السّبيعي، عن صلة، عن حذيفة، بنحوه.
وقد رواه أحمد، والنّسائيّ، وابن ماجه، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن صلة عن ابن مسعودٍ، بنحوه.
وقال البخاريّ: حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن أنسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لكلّ أمّةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن يزيد الرّقّي أبو يزيد، حدّثنا فرات، عن عبد الكريم ابن مالكٍ الجزري" عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال أبو جهلٍ: إن رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي عند الكعبة لآتينّه حتّى أطأ على عنقه. قال: فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النّار، ولو خرج الّذين يباهلون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لرجعوا لا يجدون مالًا ولا أهلًا".
وقد رواه التّرمذيّ، والنّسائيّ، من حديث عبد الرّزّاق، عن معمر، عن عبد الكريم، به. وقال التّرمذيّ: [حديثٌ] حسنٌ صحيحٌ.
وقد روى البيهقيّ في دلائل النّبوّة قصّة وفد نجران مطوّلةً جدًّا، ولنذكره فإنّ فيه فوائد كثيرةً، وفيه غرابةٌ وفيه مناسبةٌ لهذا المقام، قال البيهقيّ:
حدّثنا أبو عبد اللّه الحافظ وأبو سعيدٍ محمّد بن موسى بن الفضل، قالا حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار، حدّثنا يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جدّه قال يونس -وكان نصرانيًّا فأسلم-: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمّدٍ الّنبيّ رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران سلم أنتم، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحربٍ والسّلام".
فلمّا أتى الأسقف الكتاب فقرأه فظع به، وذعره ذعرًا شديدًا، وبعث إلى رجلٍ من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة -وكان من همدان ولم يكن أحدٌ يدعى إذا نزلت معضلة قبله، لا الأيهم ولا السّيد ولا العاقب-فدفع الأسقف كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى شرحبيل، فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم، ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذرّيّة إسماعيل من النّبوّة، فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرّجل، ليس لي في النّبوّة رأيٌ، ولو كان أمرٌ من أمور الدّنيا لأشرت عليك فيه برأيي، وجهدت لك، فقال له الأسقف: تنحّ فاجلس. فتنحّى شرحبيل فجلس ناحيةً، فبعث الأسقف إلى رجلٍ من أهل نجران، يقال له: عبد اللّه بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرّأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الأسقف: فاجلس، فتنحى فجلس ناحيةً. وبعث الأسقف إلى رجلٍ من أهل نجران، يقال له: جبّار بن فيضٍ، من بني الحارث بن كعبٍ، أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرّأي فيه؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد اللّه، فأمره الأسقف فتنحّى فجلس ناحيةً.
فلمّا اجتمع الرّأي منهم على تلك المقالة جميعًا، أمر الأسقف بالنّاقوس فضرب به، ورفعت النّيران والمسوح في الصّوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنّهار، وإذا كان فزعهم ليلًا ضربوا بالنّاقوس، ورفعت النّيران في الصّوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالنّاقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله -وطول الوادي مسيرة يومٍ للرّاكب السّريع، وفيه ثلاثٌ وسبعون قريةً، وعشرون ومائة ألف مقاتلٍ. فقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وسألهم عن الرّأي فيه، فاجتمع رأي أهل الرّأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمدانيّ، وعبد اللّه ابن شرحبيل الأصبحيّ، وجبّار بن فيضٍ الحارثيّ، فيأتونهم بخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فانطلق الوفد حتّى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السّفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرّونها من حبرةٍ، وخواتيم الذّهب، ثمّ انطلقوا حتّى أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسلّموا عليه، فلم يردّ عليهم وتصدّوا لكلامه نهارًا طويلًا فلم يكلّمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب. فانطلقوا يتبعون عثمان ابن عفّان وعبد الرّحمن بن عوفٍ، وكانا معرفة لهم، فوجدوهما في ناسٍ من المهاجرين والأنصار في مجلسٍ، فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرّحمن، إن نبيّكم كتب إلينا بكتابٍ، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا، وتصدّينا لكلامه نهارًا طويلًا فأعيانا أن يكلّمنا، فما الرّأي منكما، أترون أن نرجع؟ فقالا لعليّ بن أبي طالبٍ -وهو في القوم-: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال عليّ لعثمان ولعبد الرّحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم ثمّ يعودا إليه. ففعلوا فسلّموا، فردّ سلامهم، ثمّ قال: "والّذي بعثني بالحقّ لقد أتوني المرّة الأولى، وإنّ إبليس لمعهم" ثمّ ساءلهم وساءلوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا: ما تقول في عيسى، فإنّا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرّنا إن كنت نبيًّا أن نسمع ما تقول فيه ؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتّى أخبركم بما يقول لي ربّي في عيسى". فأصبح الغد وقد أنزل اللّه، عزّ وجلّ، هذه الآية: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم [خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون. الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين. فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على] الكاذبين} فأبوا أن يقرّوا بذلك، فلمّا أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملًا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذٍ عدّة نسوةٍ، فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أنّ الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلّا عن رأيي وإنّي واللّه أرى أمرًا ثقيلًا واللّه لئن كان هذا الرّجل ملكًا مبعوثًا، فكنّا أوّل العرب طعن في عينيه وردّ عليه أمره، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتّى يصيبونا بجائحةٍ، وإنّا لأدنى العرب منهم جوارًا، ولئن كان هذا الرّجل نبيًّا مرسلًا فلاعنّاه لا يبقى على وجه الأرض منّا شعر ولا ظفر إلّا هلك. فقال له صاحباه: يا أبا مريم، فما الرّأي؟ فقال: أرى أن أحكّمه، فإنّي أرى رجلًا لا يحكم شططًا أبدًا. فقالا له: أنت وذاك. قال: فلقي شرحبيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال له: إنّي قد رأيت خيرًا من ملاعنتك. فقال: "وما هو؟ " فقال: حكمك اليوم إلى اللّيل وليلتك إلى الصّباح، فمهما حكّمت فينا فهو جائزٌ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لعلّ وراءك أحدًا يثرب عليك؟ " فقال شرحبيل: سل صاحبيّ. فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يصدر إلّا عن رأي شرحبيل: فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يلاعنهم، حتّى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: "بسم اللّه الرحمن الرّحيم، هذا ما كتب محمّدٌ النّبي رسول الله لنجران -إن كان عليهم حكمه-في كلّ ثمرةٍ وكلّ صفراء وبيضاء وسوداء ورقيقٍ فاضلٍ عليهم، وترك ذلك كلّه لهم، على ألفي حلّةٍ، في كلّ رجبٍ ألف حلّةٍ، وفي كلّ صفرٍ ألف حلّةٍ" وذكر تمام الشّروط وبقيّة السّياق.
والغرض أنّ وفودهم كان في سنة تسعٍ؛ لأنّ الزّهريّ قال: كان أهل نجران أوّل من أدّى الجزية إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وآية الجزية إنّما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر [ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون]} [التّوبة: 29].
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا أحمد بن داود المكي، حدثنا بشر بن مهران، أخبرنا محمّد بن دينارٍ، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ، عن جابرٍ قال: قدم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم العاقب والطّيّب، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخذ بيد عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، ثمّ أرسل إليهما فأبيا أن يجيئا وأقرّا بالخراج، قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "والّذي بعثني بالحقّ لو قالا لا لأمطر عليهم الوادي نارًا" قال جابرٌ: فيهم نزلت {ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} قال جابرٌ: {وأنفسنا وأنفسكم} رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وعليّ بن أبي طالبٍ {وأبناءنا} الحسن والحسين {ونساءنا} فاطمة.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه، عن عليّ بن عيسى، عن أحمد بن محمّد الأزهريّ عن عليّ بن حجر، عن عليّ بن مسهر، عن داود بن أبي هندٍ، به بمعناه. ثمّ قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه.
هكذا قال: وقد رواه أبو داود الطّيالسيّ، عن شعبة، عن المغيرة عن الشّعبيّ مرسلًا وهذا أصحّ وقد روي عن ابن عبّاسٍ والبراء نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 2/49-55]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال اللّه تعالى: {إنّ هذا لهو القصص الحقّ} أي: هذا الّذي قصصناه عليك يا محمّد في شأن عيسى هو الحقّ الّذي لا معدل عنه ولا محيد {وما من إلهٍ إلا اللّه وإنّ اللّه لهو العزيز الحكيم. فإن تولّوا} أي: عن هذا إلى غيره). [تفسير القرآن العظيم: 2/55]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {فإن تولّوا} أي: عن هذا إلى غيره. {فإنّ اللّه عليمٌ بالمفسدين} أي: من عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد واللّه عليمٌ به، وسيجزيه على ذلك شرّ الجزاء، وهو القادر، الّذي لا يفوته شيءٌ [سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/55]

رد مع اقتباس