الموضوع: الغني
عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 27 شعبان 1438هـ/23-05-2017م, 04:29 PM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي


شرح أبي القاسم الزجاجي (ت:337هـ)



قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت: 337هـ): (الغني
الغني في كلام العرب: الذي ليس بمحتاج إلى غيره. وكذلك الله ليس بمحتاج إلى أحد جل وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا كما قال: {إن الله لغني عن العالمين}. وكل الخلق إليه جل اسمه محتاج كما قال: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وهو الغني الحميد}. فالله عز وجل ليس بمحتاج إلى أحد فيما خلق وما يخلق، ودبر ويدبر، ويعطي ويرزق ويقضي ويمضي لا راد لأمره وهو على ما يشاء قدير.
هذا أصل الغني في كلام العرب، وهو أن لا تكون بالإنسان حاجة إلى غيره وإنما سمي ذو اليسار والمال غنيًا لاستغنائه بالمال الذي عنده عن غيره وحاجة الناس إلى ما عنده، وهذا مجاز. وليس في العالم أحد غنيًا في الحقيقة لأن بكل من فيه حاجة إلى غيره كان ذا يسار أو معدمًا كبيرًا كان أو صغيرًا لا بد له من الحاجة إلى غيره في معونة أو تصرف أو غير ذلك من أمور الدنيا التي بعضها منوط ببعض.
وجمع من في العالم محتاج بعضهم إلى بعض إلا القليل ممن صرفوا فكرهم عن أمر الدنيا دفعة وانصرفوا إلى الباري جل اسمه وعلا. إن أولئك لا يكادون يستغنون عما يؤاريهم من الملبس ويكفهم من الحر والبرد ويغذيهم من المطعم والمشرب. فأمر الدنيا كذلكم بعضه مقرون ببعض.
فليس الغني على الحقيقة غير الله، لأنه الغني في الحقيقة عن جميع الأشياء وكلنا إليه مفتقر محتاج.
وقد يقول القائل من الناس أنا غني عن فلان، وفلان موسر مكثر، وهو معدم فقير، وإنما صار غنيًا عنه، لصرفه الطمع عما لديه، فتساويا فيما بعد ذلك، بل لعل ذلك الموسر المكثر، إذا ارتفع طمع الفقير فيما لديه، يحتاج إلى ذلك الفقير في أمر من أمور الدنيا، مما يستعين به فيه، فيكون محتاجًا إليه وهو عنه غني، ولذلك قيل: «الغني غني النفس»، وينشد هذان البيتان ويقال إنهما لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
غني النفس يغني النفس حتى يكفها = وإن أعسرت حتى يضر بها الفقر
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها = بكائنة إلا سيتبعها يسر
ومنه قول الخليل بن أحمد أنشدناه ابن الأنباري عن شيوخه:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة = وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخى بنفسي أني لا أرى أحدًا = يموت هزلاً ولا يبقى على حال
فقد كشف لك عن معنى الغنى، وأوضحه ألا ترى أنه قال: «أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال» فقد عرفك أنه غني وهو غير ذي مال. فليس الغني بالمال فقط وكم من ذي مال مكثر لا يتصرف فيه ولا يستغني به ويتصدى لمعروف من هو دونه في اليسار، ويتضرع إليه فيصير هو الفقير وإن كان ذا مال، والمسؤول غنيًا وإن كان دونه في اليسار.
وأهل اللغة مجمعون على أن الغني من اليسار، وكثرة المال مقصور مكسور الأول، وأن الغناء من الصوت ممدود مكسور الأول، وأن الغناء بمعنى النفع ممدود مفتوح الأول، يقال: «فلان قليل الغناء عنك»، أي قليل النفع. قال الشاعر:
نقل غناء على مالك = إذا الحرب شبت بأجدالها
وربما جاء الغني من الجدة واليسار في الشعر ممدودًا ضرورة، وذلك عند الكوفيين جائز للشاعر استعماله ضرورة أعني مد المقصور، ولا يجيزه البصريون. وأنشد الكوفيون:
سيغنيني الذي أغناك عني = فلا فقر يدوم ولا غناء
فمد الغني كما ترى، وكان الزجاج ينشده «ولا غناء» بفتح أوله ويخرجه إلى معنى النفع، وقال: «النفع غير خارج عن معنى الغنى» وليس هذا بشيء لأن بين الغنى في اليسار والنفع بونًا بعيدًا.
ويجيز البصريون قصر الممدود للشاعر ولا يجيزون له مد المقصور، وفي هذا كلام طويل، وقد أملينا هذه المسألة بحججها وعللها في كتاب «المسائل الصغير» فكرهنا تطويل الكتاب بذكرها.
وضد الغني: الفقير، ويقال فلان غني بين الغنى، وفلان فقير بين الفقر. قالوا اشتقاق الفقير من شيئين: أحدهما من فقرته أي كسرت فقار ظهره فكأنه لما ناله من ضعف الفقر والمسكنة فقير أي مكسور الفقار لا نهوض به.
والآخر أن يكون من فقرت مشفر البعير إذا حزرته بحديدة، ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي لتذله بذلك وتروضه لينقاد، فكأن الفقير لسوء حاله ذليل منقاد.
وللعرب ألفاظًا تستعملها في الغنى والفقر نذكر بعضها في هذا الموضع لأنه يليق بذلك، فمما يقال في الغنى على ما قرأته على أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج. قال: قرأت على أبي محمد بن الطيان المعروف بالقرشي. وقال: قرأت على أبي يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت قال:
تقول العرب للغني: «إنه لمكثر» و«إنه لمثر» و«قد أثرى يثري إثراء» إذا كثر ماله، وثرا بنو فلان بني فلان إذا صاروا أكثر منهم.
ويقال: «إنه لذو ثراء وثروة» يراد أنه لذو عدد وكثرة.
ويقال: «إنه لذو وفر وذو دثر، وقد استوثن من المال واستوثج»، و«إنه لمترب»: له مال مثل التراب كثرة، وإن له لمالا جما أي كثيرًا، و«رجل مال وميل»، كثير المال. و«قد أمر ماله يأمر أمرًا»: إذا كثر، و«قد ضفا ماله يضفوا ضفوًا وضفوًا» كذلك.
ويقال: «أضنى» القوم و«أضنؤوا»: إذا كثرت ماشيتهم، والمشاء والغشاء والوشاء ممدودات -: تناسل المال وكثرته.
ويقال: «إن له مالاً عكمسًا، وعكابسًا، وعكبسًا، وعكامسًا»: أي كثيرًا وهو في الماشية والإبل. وكل كثير متراكب: عكامس. ويقال: «إن له لمالاً ذا مز». والمز: الفضل، ويقال: «إن له لغنمًا علبطة»: أي كثيرة، ولا يقال إلا في الغنم.
ويقال: «رجل حظيظ جديد»: إذا كان ذا حظ من الرزق وذا جد، «ورجل مرعب»: كثير المال، ويقالك «فلان في عيش رخاخ وعفاهم» أي واسع، و«إنه لفي أمة وبلهنية، ورفهنية، ورفاهية»، و«في غضراء من العيش»، و«إنه لذو طثر» يراد بذلك السعة، و«فلان في عيش رقيق الحواشي» أي ناعم.
والحلق، المال الكثير، وكذلك الدبر، و«قد أحرف فلان»: كثر ماله ويقال: «جاء فلان بالطم والرم»: إذا جاء بالكثر، والطم: الرطب، والرم: اليابس. والفنع: كثرة المال، و«وقع فلان في الاهيغين»: أي في الطعام والشراب، و «فلان عريض البطان»: إذا أثرى وكثر ماله، و«رخي اللبب» كذلك يصنع ما شاء، ويقال: «جاء بالضح والريح» في موضع الكثرة أي بما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح. «وفلان مليء زكاة»: أي حاضر النقد.
ويقال «وفي المال يفي وفاء»، و«نمى ينمي نماء»: إذا كثر و«رجل مضر» أي له ضرة من المال أي قطعة يعتمد عليها، والهيء: الطعام، والجيء: الشراب.
ويقال «فاد لفلان مال يفيد فيدًا»: إذا ثبت له مال. والاسم الفائدة، وقالوا: «استفاد فلان مالا استفادة»، وكرهوا أن يقولوا: «أفاد مالا»، وقال بعض العرب: «أفاد مالا»: إذا استفاد مالا.
ويقال: فلان في عيش غرير، وأغرل، وأرغل، وأغضف، وأوطف، وأغلف: إذا كان مخصبًا، وعيش رغد مغد بمعنى، وعام أزب: مخصب، ورجل مضيع: كثير الضيعة، والغيداق: الواسع من كل شيء. ويقال: أرتع القوم: وقعوا في خصب ورعوا.
ومما يقال في الفقر قد ذكرنا معنى الغنى والفقر واشتقاقهما، وأكثر أهل العلم على أن الفقير: الذي له البلغة من العيش، والمسكين: الذي لا شيء له وبالإسناد المتقدم عن ابن السكيت قال: قال يونس بن حبيب: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين، يقال من ذلك على ما ذكره ابن السكيت بالإسناد المتقدم: فلان فقير، مقتر، محوج، مقل، مخل، معوز، مفتاق: ذو فاقة، محتاج: ذو حاجة،
مسكين، معدم، صعلوك، ذو خصاصة، سبروت وقد قيل: سبريت أيضًا كانع، مدقع، قانع وهو الذي يسأل الناس، يقال منه: قنع يقنع قنوعًا إذا سأل، ومن الرضا قنع يقنع قناعة يقال: «نسأل الله القناعة بما رزق، ونعوذ به من القنوع»، وينشد للشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني = مفاقره أعف من القنوع
أي من مسألة الناس. ويقال أيضًا «رجل مملط»، «ومعصب» وهو الذي عصبت السنون ماله وقيل: هو الذي يتعصب بالخرق من سوء الحال والجوع. والمسيف: الذي قد ذهب ماله والسواف: الموت، وقع في المال سواف، وهذا قول الأصمعي، والأول قول أبي عبيدة وإنه لمخفق، وإنه لملفلج، وملفج بفتح الفاء وكسرها قد رويا جميعًا ومفلس، وعائل عال يعيل: إذا افتقر، وعال يعول: إذا جار، وأعال عياله يعيلهم: إذا صانهم ويقال رجل مكد: إذا امتنعت عليه الأشياء، ورجل مبلط: قد لزق من فقره بالبلا وهي الأرض الملساء، ويقال رجل مصرم، مخف، جحد، معر، زمر، كل هذا بمعنى قلة المال.
وفلان ذو خصاصة وهي الفقر والحاجة، والشظف: يبس العيش وشدته، ورجل ترب: إذا لزق بالتراب لفقره، ويقال رجل مرمل، ومنفق، ومقو، إذا ذهب طعامه في سفر أو حضر، ورجل مقفر: إذا بات في القفر فلم يأو إلى منزل، ولم يكن معه زاد، ورجل مكر: إذا ذهب ماله وكذلك إذا ذهب زاده في السفر، ومنفض: إذا ذهب طعامه من اللبن وغيره.
ومن أمثال العرب «النفاض يقطر الجلب»: معناه إذا انفض القوم قطروا إبلهم التي كانوا يضنون بها فجلبوها للبيع. ورجل أرمل محتاج، وقوم أرملة وأراملة وأرامل.
وقال أبو عبيدة: جاء في الحديث «لا يترك في الإسلام مفرج» - بالجيم وهو المغلوب المحتاج أي لا يترك في أخلاق المسلمين حتى يوسع عليه.
والضفف: قلة ذات اليد وكثرة العيال وكذلك الوبد: الضيق وكثرة العيال، «والحور بعد الكور»: القلة بعد الكثرة، قال الأصمعي: مثله: «العنوق بعد النوق»، «والمجرف»: الذي قد ذهب ماله، والمجلف: الذي ذهب أكثر ماله، وهذا باب يكثر جدًا، وفي هذا المقدار منه كفاية في هذا الموضوع، ونعود لتمام القول في معنى الغنى.
ويقال: غنيت عن كذا وكذا غنى، وأنا عنه غان، ومنه قول طرفة:
متى تأتني أصبحك كأسًا روية = وإن كنت عنها غانيًا فاغن وازدد
وغنينا بمكان كذا وكذا أي أقمنا به. والمغني: المنزل، والجمع مغان، قيل سمي بذلك لأنهم غنوا بالمقام به عن سواه.
والغانية من النساء قيل: هي التي غنيت بحسنها عن التحسن، وهو قول الأصمعي، وقيل: هي التي غنيت بزوجها، والجمح الغواني. قال النابغة:
في إثر غانية رمتك بسهمها = فأصاب قلبك غير أن لم تقصد
ويروى «في أثر جارية». وقالوا في قول النابغة:
غنيت بذلك إذ هم لك جيرة = منها بعطف رسالة وتودد
أي عاشت بذلك من قول الله عز وجل: {كأن لم يغنوا فيها} وقوله: بعطف رسالة وتودد منها لي أي غنيت تلك الحال التي وصفها عنها، وغنيت أنا بعطف رسالة منها وتودد، فاضمر لما في سياق الكلام عليه من الدليل.
والغناء من الصوت كما ذكرت لك ممدود. قال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله = إن الغناء لهذا الشعر مضمار). [اشتقاق أسماء الله: 117-125]


رد مع اقتباس