عرض مشاركة واحدة
  #34  
قديم 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م, 01:04 AM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

أصول مهمة في علاج الحسد

وقد عرفنا بما تقدّم معنى الحسد لغة، وتعريف العلماء للحسد، وأنه تمنّي زوال النعمة عن المحسود، وعرفنا أنواع الحسد.
وأما حقيقة الحسد ومصدر انبعاثه، وكيفية خروجه ووصوله إلى المحسود وتأثيره فيه، وما هو مبلغ أثره، وما الذي يصحّ أن يكون من أثره، وما الذي لا يصح.
فهذه المسائل كلها فيها مواضع معلومة لا يُختلف فيها غالباً، وفيه مواضع اختلف فيها أهل العلم.
حتى قال الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان: (وأما حقيقة الحسد فيتعذر تعريفه منطقياً).
وذكر قولَ بعضهم في بيان حقيقته: أنه إشعاع غير مرئي ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود. إلخ ما ذكر رحمه الله.
لكن ينبغي لطالب العلم أن يعرف أصولاً صحيحة في هذا الباب حتى يستقيم له فهم كثير من النصوص والآثار الواردة فيه، ويفهم مسائل الحالات التي تعرض له في الواقع فهماً سليماً مبنيّاً على أصول صحيحة بإذن الله.
ويسلم بذلك من كثيرٍ من الأخطاء الشائعة في هذا الباب.
وما عدا ذلك من الأمور والتفصيلات الدقيقة فلا يضره الجهل بها بإذن الله، وبعضها من علم الغيب الذي لا يدركه الناس.
ونحن إنما علينا اتباع هدى الله جلّ وعلا، وما نحتاج إلى معرفته من ذلك فإن الله تعالى قد تكفل ببيانه، كما قال تعالى: {إن علينا للهدى}.
فإذا اتبعنا هدى الله أنجز الله لنا ما وعدنا به من السلامة من الضلال والشقاء والخوف والحزن، وهدانا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
فلذلك ينبغي أن يكون عملنا هو في طلب هذا الهدى من الله جلّ وعلا، بما فصّله في كتابه ، وبما بينه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هديه أحسن الهدي، وبما أوضحه أهل العلم والإيمان الذين هم ورثة الأنبياء والمؤتمنون على هذا العلم رواية ودراية ورعاية.
وبيان هذه الأصول يستدعي بسطاً وتفصيلاً لا يحتمله هذا المقام، ولعل الله يوفق لحسن بيانه في مقام آخر.

لكن من خلاصة ما ينبغي علمه في هذا الباب هذه الأصول التي أذكرها بإيجاز:
الأصل الأول: أن الحسد عَملٌ قلبيّ، لاتفاق العلماء على أنه تمنّي زوال النعمة عن المحسود، والتمنّي عملٌ قلبي.
وبعضهم ينسبه إلى النفس، فيقول الحسد من عمل النفس.
كما قال الطَّرِمَّاح:
فبيت ابنِ قحطانَ خير البيوتْ ..... على حسد الأنفس الكاشحة
ولا تعارض بين الأمرين لأن القلب لا حياة له إلا بالنفس التي هي الروح.
والقلب الميّت ليس له عمل، وإنما الذي يحسد قلب الحي لا قلب الميّت؛ فانبعاث الحسد هو من قلب الحاسد الحيّ.

الأصل الثاني: أن الحسد فيه شرّ متعدٍ، ولذلك أُمرنا بالاستعاذة من شرّ الحاسد إذا حسد، وهذا الحسد شرّ في نفسه، وقد ينتج عنه شرور متعددة ذات أنواع كثيرة لا يحيط بها إلا الله جلّ وعلا.
وهذا يدفع قول من يُنكر أن الحسد فيه شرّ متعدي.

الأصل الثالث: أن الحسد داء من الأدواء، وآفة من الآفات ، يمكن أن يتعافى منه الحاسد والمحسود إذا اتبعا هدى الله جل وعلا؛ فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله.

الأصل الرابع: أن من يُبتلى بالحسد ، ويؤثر فيه شيئاً من الأذى في جسده أو روحه أو أهله أو ماله ؛ فإن هذا البلاء في حقه دائر بين العقوبة والابتلاء، والعقوبة فيها تكفير للمسلم، فقد يكون حسد غيرَه؛ فسُلِّط عليه من يحسده، وقد يكون آذى أو ظلم فسُلّطت عليه آفات في نفسه وما يحبه؛ ولو تخلّص العبد من تزكيته لنفسه ومبالغته في إحسان الظنّ بها ، وتأمّل كم حَسد من مرة، وكم تسبب في أذية مسلم ونكده، وكم تسبب في صرف نفع عن إخوان له بغياً وعدواناً وحسداً؛ لعلم أنه لو عوقب بكلّ ذلك ، لكان في ذلك هلاكه وشقاؤه.
وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له : حدّثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي صحيفة، فقال: (هذا ما كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم).
فنظرت فيها فإذا فيها : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت). فقال: ((يا أبا بكر! قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً، أو أجره إلى مسلم)). هذا لفظ البخاري في الأدب المفرد، والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي.
صححه الألباني، وفسّر قول الرواي كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمر بالكتابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب كما هو ثابت.
فمما ينبغي أن يحرص عليه المؤمنُ تزكيةَ نفسه وتطهيرَ قلبه من الحسد والغل والحقد، وأن يكفّ أذاه عن المسلمين.
لأنه إن لم يفعل ذلك فلا يأمن أن يُعاقب على أذيته بما لا يحتمله.
وكثرة الاستغفار وتكرار التوبة وفعل الخير من الأسباب التي يدفع الله عز وجلّ بها هذه العقوبات.
فهذا في شأن من يكون هذا البلاء في حقهم عقوبة؛ هو شرّ من جهة، ومن جهة أخرى فتنة وابتلاء لهم لأنهم إذا أنابوا إلى الله وتضرعوا إليه وتابوا توبة صحيحة من الظلم والعدوان رُفعت عنهم العقوبة لزوال موجبها.
ويكون ما أصابهم من ذلك تكفيراً لسيئاتهم.
وأما من استمرأ الحسد والأذى وهو يُعاقَب، فيحسد ويؤذي ويعرض عن ذكر الله واتباع هداه فإنه على خطر أن يُطبع على قلبه فلا يهتدي للتوبة.
لكن ما دام المرء باقيا على الإسلام فإن ما يصيبه من العقوبات في الدنيا على ذنوبه تكفير لسيئاته، وما يعفو الله عنه أكثر، وقد يبقى عليه من العقوبات بعد موته عذاب لا يطيقه في قبره أو يوم القيامة أو في النار والعياذ بالله، حتى لا يدخل الجنة إلا وقد تطهّر قلبه وذهب ما فيه من الحسد والبغضاء للمسلمين.
ومن المؤمنين المتقين من يصيبه شيء من ذلك ابتلاء واختباراً فإن اتبع هدى الله كان ذلك رفعة لدرجاته وإحساناً من الله إليه أن جعل له بذلك سبباً يحلّ عليه رضوانه.
وأصل هذا كله أن يكون العبد راضياً بالله جل وعلا ربّا، وأن يحسن الظن بربه، فيما أصابه من البلاء، وأن يحرص على الصبر والتقوى فيكون بذلك من المحسنين الذين كتب الله لهم العاقبة الحسنة.
قال الله تعالى: {والعاقبة للتقوى} وقال: {فاصبر إن العاقبة للمتقين} ، وقال: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فجعل الإحسان لأهل البلاء هو الصبر والتقوى.

الأصل الخامس: أن الحسد من البلاء ، والعبد لا اختيار له في نوع البلاء الذي يُبتلى به، بل الله تعالى هو الذي يبتلي عباده بما يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء، والعبد لا يستطيع أن يدفع البلاء عن نفسه، ولا يكشف الضر عنها ، إنما مردّ ذلك إلى الله جل وعلا.
قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}.
فمحاولات العبد وتكليفه نفسه رفع البلاء نوع من العناء ومكابدة الشقاء، فإنه لا يرفع البلاء إلا الله، وإنما يُطلب من العبد اتباع هدى الله.
فيرفع الله عنه البلاء متى شاء، وكيف يشاء، لا اختيار للعبد في كل ذلك.
فالعبد بما يبذله من الأسباب إنما يتعرض لنفحات الله، فإن فعل ما يهدي الله إليه من الأسباب النافعة كان موعوداً بأن تكون عاقبته خيراً.
فإذا ابتلي العبد ببلاء فليكن أول ما يفكر فيه هو التعرف على هدى الله في هذا البلاء خاصة، وما الذي يُحبّ الله من عبده أن يفعله؟، فلا تخلو حال من أحوال العبد من هدى لله يحب أن يُتبع.
وهذا الهدى من طلبه بصدق وجده، وله طرق تدل عليه وتبيّنه، أهمها وأولها صدق الإنابة إلى الله تعالى قال الله تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} وقال: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
فمتى أناب العبد إلى الله فهو موعود بالهداية.
وإذا حصل عند العبد يقين أنه على طريق الهدى وكان لديه نور وفرقان يميز به بين ما يجب عليه أن يفعله وما يجب عليه أن يجتنبه اضمحلَّ عنه كثير من كيد الشيطان وتثبيطه وتحزينه وتيئيسه ، وحل محلَّ ذلك السكينة والطمأنينة والرضا بالله بل الفرح بفضله والاستبشار بنعمته وهدايته .
{أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم}
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيما}
قول الله تعالى: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} يدل على أن الرحمة والفضل يحيطان بهم من كل الجوانب حتى كأنهم منغمسون فيها، ومن كان داخلاً في رحمة الله هذا الدخول فلن يستطيع أحد مهما كان أن ينزع عنه رحمة الله وفضله.
وهذا وعد من الله متحقق لا يتخلف.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، من تأملها وعقل معانيها، وفقه هداياتها، أثمر له ذلك من العلم والإيمان وصفاء الحال خيراً عظيماً، ووجد بركات ذلك في شؤونه كلها.
وأحسن من وجدته تكلم في بيان الهدى للأسباب التي يدفع الله بها شر الحاسد : ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه بدائع الفوائد.

الأصل السادس: أن يكون المؤمن على الحال الوسط بين الغلو والتفريط، فمن غلا وهوّل شأن الحسد والعين حتى يغفل قلبه عن التوكل على الله والرضا به والثقة في حفظه ووقايته وإعاذته لمن يستعيذ به ؛ فهذا على غير الهدى الصحيح، بل يُخشى عليه أن يناله شرّ لمخالفته هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وضعف تعلق قلبه بالله جل وعلا ، ورضاه به.
ومَن هوّن من شأن الحسد والعين ، وفرّط في تحصين نفسه بما وصى الله به، وأرشد إليه، لم يأمن أن يصيبه بسبب هذا التفريط ما يصيبه البلاء والشر.
وكلّ من الغالي والمفرّط عاقبتهما سيئة إلا أن يعفو الله عنهما عفواً من عنده؛ فإن المسلم ما دام باقياً على الإسلام فإنه تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء عاقبه.
لكن السعيد الموفّق من يتبع هدى الله تعالى في عافيته وبلائه فهذا إن عوفي وإن ابتلي كانت عاقبته حسنة، لأن له عهداً من الله لا ينقضه، ووعد لا يخلفه.
وبذلك تعلم أن من الناس من يكون مفرّطا في الأذكار وتحصين نفسه، وهو فيما يرى الناس معافى من البلاء.
ومنهم من يكون شديد المحافظة على الأذكار بلسانه، ويصيبه مع ذلك من البلاء ما يصيبه.
فسلامة المحسود لها أسباب كثيرة، وذلك نظير الآفات الكثيرة في الهواء والطعام والشراب والزحام، وهي آفات يسلم منها كثير من الناس، ويصيب بعضهم من ذلك ما يقدّر الله عليهم.
فمن استدلّ بسلامة بعض أصحاب النعم على تفريطهم في الأذكار فهو كمن يستدل بسلامة من يتعرض لتلك الآفات وهو غير متحصن على عدم وجودها.
كلاهما قد يسلم، لكنها سلامة قد تغرّ، ومن يتعرضْ للبلاء ويغشَ مظانه فلا يأمن أن يصيبه منه شيء، فليست سلامته دليلاً على عدم وجود البلاء.
كما أن عدم تحصّنه ليس موجباً لحصول البلاء والآفات.

الأصل السابع: أن الحسد في الأصل من التأثيرات الروحية التي تنطلق من الأرواح فتصيب الأرواح بالأصل وتؤثر في الأجساد تبعاً، ولها تعلّق بالقدر بتقدير البلاء، وهذا له تقرير آخر.
وإنما المقصود هنا أن الحسد إذا إذا أصاب نفساً غير محصنة أثر فيها بإذن الله تعالى.
والنفس كالبدن في بعض الأمور؛ فكما أن في الأجسام ما هو صحيح قويّ لا يتأثر بالآفات اليسيرة، بل ربما لو يصيب بمرض ظاهر بقي في جسده قوة تقاوم وتدفع البلاء بإذن الله حتى يُشفى منه.
ومن الناس من يكون جسمه ضعيف تمرضه أدنى آفة تصيبه، وإذا أصابه مرض يسير أنهكه وربما أقعده طريح الفراش أياماً معدودة، وذلك لضعف مناعة جسمه في مقابل ما أصابه من الداء.
فكذلك أرواح الناس، منها أرواح قويّة وفيها عزيمة على المقاومة فلا تستلم لكثير من الآفات بل تبقى فيها قوة تقاوم البلاء حتى تدفعه بإذن الله أو تخفف أثره.
ومن الناس من يكون في نفسه وهن وَضَعْف فإذا أصابته أدنى آفة تأثر بها وتأذى وتضرر، بل ربما سمع الكلمة تؤذيه فيمرض بسببها.
بل ربما رأى من أحد الناس تصرفاً ففهمه على غير وجهه فتأثر بذلك وتضرر.
فمثل هذا إذا أصابت نفسه آفات من العين والسحر والحسد والوسوسة كان أثرها فيه أسرع وأبلغ إلا أن يحصّن نفسه بالأذكار.
وسبب ذلك وهن نفسه وضعف احتمالها، فإن للروح قوة وطاقة كما للجسد، وفي الروح قوة تدافع البلاء وتمانع الآفات كما في الجسد.

ولعلنا نكتفي ببيان هذه الأصول السبعة في هذا المقام، وعسى الله أن ييسر مقاماً آخر يبسط فيه بيان هذه المسائل بسطاً حسناً لحاجة الناس لبيان الهدى في هذا الباب، وكثرة ما يُلحظ من ازدياد هذه الآفات ومعاناة الناس منها ، وما يحصل من لبس وتخليط في بعض المسائل من بعض من ينتسب للرقية الشرعية فيحدث بكلامه وهناً في النفوس وضعفاً وتهويلاً للشياطين والجنّ وأمر العين والسحر والحسد ، ويعظّم بعض الطرق العلاجية والأسباب المادية حتى تتعلق بها بعض القلوب وتغفل عن الله جل وعلا.

لطائف لغويّة
من اللطائف اللغوية في سورة الفلق: أن هذه الأفعال "غسق" و"نفث" و"حسد" يجوز في عين مضارعها الوجهان الكسر والضم: غَسَقَ يَغْسِقُ وَيَغْسُقُ، وَنَفَثَ يَنْفِثُ وَيَنْفُثُ، وَحَسَدَ يَحْسِدُ وَيَحْسُدُ.



رد مع اقتباس