عرض مشاركة واحدة
  #38  
قديم 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م, 01:09 AM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي


الحكمة من ترتيب هذه الصفات الثلاث بهذا الترتيب

{برب الناس} أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمورهم.
{ملك الناس} المتصرف فيهم بما يشاء، فلا يخرج أحدٌ منهم عن ملكه وتصرفه.
{إله الناس} معبودهم الذي يألهونه ويخضعون له ويتقربون إليه ، فيحبونه غاية المحبة، ويعظمونه غاية التعظيم، ويخضعون له غاية الخضوع، وهو إلههم الذي لا إله لهم سواه.
فهو مُنشؤهم من العدم، ومدبر أمورهم، والمتصرف فيهم، وهو منتهى حاجاتهم وآمالهم.
وهذه الصفات الثلاث قد رتبها الله جل وعلا أحسن الترتيب، والاستعاذة بها تكشف للمؤمن اللبيب؛ أصولاً عظيمة تنتظم كثيراً من المسائل في الخلق والأمر.

وأسأل الله تعالى أن يعين على بيان ذلك بياناً حسناً .
فأقول: تخصيص الاستعاذة بهذه الصفات الجليلة يتضمن الدلالة على أمور عظيمة:

تضمّن هذه الصفات الثلاث للمبدأ والولاية والغاية

الأمر الأول: أنها تضمنت المبدأ والولاية والغاية؛ فالله تعالى هو ربُّ الناس الذي أنشأهم من العدم؛ وأنعم عليهم بالنعم، وهو الملك الذي يتولى أمورهم ويملك نفعهم وضرّهم، وهو المتصرف فيهم لا يعجزه أحد منهم، وهو إلههم الذي يجب أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يتوجهوا إليه بقلوبهم ودعائهم ومحبتهم وخشيتهم ورجائهم.
فهو تعالى: (رب الناس) (ملك الناس) (إله الناس).
فمنه مبدؤنا بخلقه وإنعامه وفضله، وهو الملك المتصرف الذي يملكنا ويدبر أمورنا، وإليه غاية قصدنا ومبتغانا.

بيان كون هذه الصفات الثلاث حجة قاطعة على وجوب التوحيد
الأمر الثاني: أن هذه الصفات الثلاث حُجّة قاطعة على وجوب التوحيد؛ فالله تعالى هو الذي خلق الناس وأنعم عليهم ولم يخلقهم غيره وما بهم من نعمة فمنه جل وعلا، وهو ملك الناس لا يملكهم غيره ولا يملك ضرهم ونفعهم إلا هو جل وعلا، فيجب أن يكون هو إله الناس لا يعبدون غيره.
فالله تعالى ليس له شريك في ربوبيته، وليس له شريك في الملك، فيجب أن لا يكون له شريك في الألوهية.

أصل بلاء الناس إنما هو في الشرك في هذه الأمور الثلاثة (الربوبية والملك والألوهية)

الأمر الثالث: أن أصل بلاء الناس إنما هو في الشرك بالله جل وعلا في هذه الأمور الثلاثة (الربوبية، والملك، والألوهية)، وضعف التعبد لله تعالى بها.
وكل شرك فيها فإنما حصل بوسوسة الشيطان، وهذا هو حظ الشيطان من الناس.
وهذه الأمور الثلاثة يقع فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ويقع فيها الشرك الجلي والشرك الخفي.
فالمشركون بالله الشركَ الأكبر منهم يقع في الشرك في الربوبية بنسبة بعض الخلق أو النعم إلى غير الله جل وعلا، ويقع منهم شرك في الملك باعتقاد النفع والضر والتصرف في غير الله جل وعلا، ويقع منهم الشرك في عبادة الله جل وعلا بدعاء غيره والتقرب إليه بأنواع العبادات.
ومِن عصاة المسلمين من يقع منه الشرك الأصغر في هذه الأمور؛ إما بالغفلة عن نسبة النعم لله عز وجل والغفلة عن شهود إنعامه بها، ونسبة ذلك لأحد من الخلق مع هذه الغفلة،
فيقول: لولا الطبيب الفلاني لهلكت، ومطرنا بنوء كذا وكذا، ونحو ذلك من أنواع الشرك في الربوبية.
وإما بتعظيم بعض الخلق بشهود الظاهر من تصرفه وتسببه في النفع والضر حتى يطيعه في معصية الله جل وعلا إن كان فاجراً أو يغلوَ فيه إن كان صالحاً، وهذا من الشرك في ملك الله جل وعلا.
وإما بتعلق القلب بغير الله جل وعلا فيكون في القلب نوع تأله وتعبّد لغير الله تعالى.
وكل ذلك إنما هو من الشيطان لأن عبادة غير الله عز وجل إنما هي عبادة للشيطان كما قال الله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلا تعقلون}.
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه آزر: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}.
فجعل إبراهيم عليه السلام عبادة أبيه للأصنام التي سماها آلهة عبادة للشيطان.
لأن الشرك في حقيقته عبادة للشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}.
وكل شرك في أي نوع من هذه الأنواع له آثاره السيئة على العبد، من تسلط الشياطين، ومن عقوبات الذنوب والمعاصي.

الأمر الرابع: أن التعبد لله جل وعلا بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث أمر واجب، والتقصير في ذلك ظلم من العبد لنفسه، وهذا الظلم هو منشأ شقاء العبد وضلاله وتسلط الشياطين عليه وإضلالهم له.
وإذا أحسن العبد التعبد لله تعالى بهذه الصفات الثلاث فاز فوزاً عظيماً وسَعِد سعادة عظيمة في الدنيا والآخرة.

بيان وجوب التعبّد لله تعالى بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث، وبيان الآثار الجليلة لهذا التعبّد

- فأما الإيمان بربوبية الله تعالى للناس؛ فيقتضي التصديق بأنه خالقهم ومنشؤهم من العدم، ومصور صورهم ومقدر أرزاقهم وأقدارهم وآجالهم، وهو المنعم عليهم فما من نعمت دقت ولا جلّت إلا والله تعالى هو المنعم به المتفضل بها على عباده من غير استحقاق سابق، فيؤثر هذا في قلب المؤمن الاعتراف بنعم الله جل وعلا وشكرها بالقول والعمل.
- وأما الإيمان بملك الله جل وعلا للناس؛ فيقتضي التصديق الجازم بأن الله تعالى هو الذي يملك الناس كلَّهم، لا يخرج أحد منهم عن ملكه، بل هو مالكهم الذي له جميع معاني الملك، فهو يملك أجسادهم وأرواحهم وجميع أعضائهم ومنافعهم، ويملك تصرفاتها، ويملك تدبيرها والتصرف فيها، فلا تتصرف إلا بإذنه، ولا ينطبق جفن على جفن إلا بإذنه، ولا يتنفّس متنفّس إلا بإذنه، وهو الذي يملك بقاءهم وفناءهم؛ فيبقيهم متى شاء، ويفنيهم إذا شاء، ويعيدهم إذا شاء، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
- ولا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه جل وعلا، فلا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، ولا يجلب النفع إلا الله، ولا يدفع البلاء ولا يرفعه إلا الله تبارك وتعالى.
- وهذا مما يوجب إخلاص العبادة لله وحده، ولذلك أنكر الله تعالى على من يعبد غيره فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}.
- وأما الإيمان بألوهية الله تعالى للناس؛ فتقتضي إخلاص العبادة لله وحده؛ واجتناب جميع ما ينقض الإخلاص أو يضعفه.



مدار الخلق والأمر على هذه الصفات الثلاث
الأمر الخامس: أن الاستعاذة بربوبية الله وملكه وألوهيته تقتضي تعظيمها وأن لها شأناً عظيماً وآثاراً جليلة في الخلق والأمر، فكل ما في الكون مبني على هذه الصفات الثلاث العظيمة.
فكله من خلق الله وإيجاده ، وكل مخلوق يأتي إمداده من الله جل وعلا بما يحتاج إليه وما يقدره له.
وكل مخلوق فهو تحت تصرّف الله وملكه لا يملكه أحد إلا الله جل وعلا.
وكل شيء فهو عابد لله يسبح بحمده {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}.
فهذا في عالم الخلق بدؤه وملكه غايته لله تعالى وحده لا شريك له.
وكذلك عالم الأمر: فالله تعالى هو رب الناس وهو الذي يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يشاء ويحلّ لهم ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء ؛ كل ذلك من آثار ربوبيته لهم.
وهو تعالى ملك الناس: يثيب من يشاء ، ويعاقب من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويقرّب من يشاء، ويبعد من يشاء.
وهو سبحانه الحكم العدل في كل ذلك، فله المثل الأعلى، وله الأسماء الحسنى.

مدار عمل الشيطان على إخلال العبد بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث
الأمر السادس: أن مدار عمل الشيطان على إخلال العباد بهذه الأمور الثلاثة؛ وتأمل ما يقدح في التوحيد تجده راجعاً إلى هذه الأمور الثلاثة؛ فمن الناس من يكون عنده شرك في الربوبية يقل أو يكثر، ومنهم من يشرك في الملك، ومنهم من يشرك في الألوهية، كما سبق بيانه.
فميدان الصراع مع الشيطان هو في هذه الأمور الثلاثة؛ فمن أخلصها لله جل وعلا؛ فقد خلص من شر الشيطان وشركه، وكان من عباد الله المخلصين.

بيان ما تضمّنته هذه السورة من إيجاز بديع لمدار الابتلاء في هذه الحياة الدنيا وسبيل النجاة منه

الأمر السابع: أن هذه السورة تضمنت إيجازاً بديعاً لمدار الابتلاء والامتحان فبين الله للناس فيها أنه ربهم وملكهم وإلههم، وأن عدوهم هو الشيطان الرجيم، وأن سلاحه هو الوسوسة وأنه سعيه إنما هو ليشركوا بالله جل وعلا في ربوبيته وملكه وإلهيته ليكون مصيرهم إلى عذاب الله وسخطه، ولو تأملت المناسبة بين أول المصحف وآخره لوجدته يصدق بعضه بعضا؛ فقد ذكر الله في أول سورة البقرة أصل نشأ جنس الإنسان في الحياة الدنيا لما أهبط الله أبوينا وإبليس إلى الأرض وأخبر أن بعضهم عدو لبعض وضمن لمن اتباع هداه ألا يخاف ولا يحزن.
وذكر في هذه السورة مصداق ذلك ، وميدان وسوسة الشيطان، وسلاحه، وسبيل النجاة من كيده وشره.
وأنه إنما يكون بالاستعاذة بالله جل وعلا بالقلب والقول والعمل، وهذه هي الاستعاذة الصحيحة كما سبق بيانه في أول هذه الدروس.

من حقق الإخلاص في التعبّد لله تعالى بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث كان في عصمة من كيد عدوّه
الأمر الثامن: أن العبد المؤمن حينما ينادي ربه هذا النداء ويستعيذ به فهو لاجئ إلى ربه وملكه وإلهه ليعيذه من شر عدوه، وإذا حقق العبد الإخلاص في هذه الأمور الثلاثة وأحسن التعبد لله تعالى بها فقد أوى إلى معاذ منيع وحصن حصين، وكان في عصمة الله تعالى وضمانه وأمانه.
وإذا وقع منه تفريط في شيء من ذلك وتقصير فليبادر بالتوبة إلى الله تعالى، ويحسن الإنابة إليه ويتبع السيئة الحسنة لتمحوها.

فقوله تعالى: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس}
فيه أن من رضي بالله ربَّا، ورضي به ملكاً، ورضي به إلها، وأحسن التعبد لله تعالى بهذه الصفات الجليلة فقد حُفظ من كيد كل وسواس خناس ، وكان في حفظ الله ورعايته ومعيّته، لا يخاف ولا يحزن، ولا يضلّ ولا يشقى.

فقولك: {قل أعوذ برب الناس} فيه إقرار منك بأن الله تعالى هو ربّ الناس، وهذا الإقرار له ما يتبعه؛ فليس هو إقرار باللسان دون أن يكون لذلك أثر على القلب واللسان والجوارح.
فإذا كنت تؤمن بأن الله تعالى هو ربّ الناس فليظهر أثر هذا الإيمان على عامّ شأنك وخاصّه، وفي حال الشدة والرخاء، وحال العافية والبلاء.
والتقصير في هذا الأمر عند العباد يكون في حالي الرخاء والشدة.
فمنهم من إذا كان في عافية وَدَعَة نسي أن الله تعالى هو ربّ الناس، وهو وإن كان يقر بذلك بلسانه لكنّ قلبه في غفلة عن ذلك، وعملُه عمل الغافل اللاهي عن هذه الحقيقة العظيمة وهي أن الله ربّ الناس، فتراه يعظّم ما حقّره الله، ويستهين بما عظّمه الله، ويقبل على ما أمر الله بالإعراض عنه من اللغو واللهو المحرم، ويعرض عما أمر الله بالإقبال عليه من ذكره وشكره وحسن عبادته، ومن حسن استماع آياته، والتفكر في مخلوقاته.
بل تجد منهم من يحبّ من يبغضهم الله، ويعظّم ما أوتوه من متاع الحياة الدنيا ويتمنّى أن يكون له مثلُ ما أوتوا، كما حكى الله عمّن أعجبته زينة قارون فقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}.
فهذا مثال لطائفتين:
الطائفة الأولى: لم تقم بما تقتضيه ربوبية الله تعالى للناس، فعظّموا شان الحياة الدنيا ومتاعها وزخرفها واغتروا بها وغفلوا عمّا خلقهم له رب الناس.
والطائفة الثانية: هم أهل العلم والإيمان الذين رغبوا فيما رغّب الله فيه من فضله وثوابه، ولم تلتفت قلوبهم لما أوتي أعداء الله من متاع الحياة الدنيا وزينتها.
فكانت عاقبة هذه الطائفة المتقية حسنة، وأما الطائفة الأولى فندمت على مخالفتها وتقصيرها وتفريطها في جنب الله وتمنّيهم ما تمنوا.
قال الله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

وكذلك في حال الشدة ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
- قسم يتضرعون إلى الله ويوحدونه ويمجدونه ويتوبون إليه ويستعيذون به فينجيهم الله ويتوب عليهم.
- وقسم يلجؤون إلى غيره ويستعيذون بغيره فيحق عليهم الغضب.
- وقسم يكون أصل لجوئهم واستعاذتهم بالله، لكن يكون في تلك الاستعاذة من التفريط والتقصير وضعف التوبة ما يجعلهم متذبذبين بين العافية والبلاء، وبين الطمأنينة والشقاء، وهم على درجات في ذلك.

والمقصود أن إيمانك بأن الله تعالى رب الناس هو إقرار يجب أن تكون له آثاره وكلما كان العبد أحسن قياماً بما يقتضيه التعبد لله تعالى بهذا كان نصيبه من السعادة بآثاره أعظم.
وكذلك إيمانك بأن الله تعالى هو ملك الناس، وهو الذي بيده النفع والضر، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والبدء والإعادة، وهو الذي يعلي من يشاء ويخفض من يشاء، ويقبض ما يشاء ويبسط ما يشاء، وهو الذي يملك القلوب ومحبتها وبغضها ، فيحبب من يشاء إلى من يشاء، ويبغّض من يشاء إلى من يشاء، كما قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}.
فمن شهد هذا حقيقة علم أنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وأثمر له ذلك حسن التوكل على الله جلّ وعلا.
ولم يستعجل شيئاً قبل أوانه، ولم يطلب فضل الله بمعصية الله، بل يسير بنور من الله على هدى من الله ويصبر على ما ابتلاه به الله، حتى يفرج الله عنه، لا يتكلّف شيئاً قبل أوانه فيطلبه بمعصية الله، ولا يفرّط ويهمل ويترك ما أمر الله به من بذل الأسباب المشروعة لجلب النفع ودفع الضر.
فإذا فعل العبد ذلك كان مهتدياً بالله متبعاً لرضوان الله في هذا.
وكذلك إيمان العبد بأن الله تعالى هو إله الناس يثمر له اليقين بأنّ كل ما يُدعى من دونه فهو باطل، وكلّ تعلّق بغيره فهو عناء وشقاء، وكل ما يطلبه الناس لجلب النفع أو دفع الضر بغير هدى الله فإنما ذلك عليهم وبال وشقاء.

أسعد الناس: من رضي بالله ربّا ورضي به ملكاً مدبّراً للأمر ورضي به إلها
وأنت إذا تأمّلت ما تقدّم كله تبيّن لك بيانا جلياً أن أسعد الناس هو من رضي بالله ربَّا ورضي به ملكاً ورضي به إلها؛ لأنه يستريح من العناء الكثير والشقاء العظيم الذي وقع فيه من لم يتبع هدى الله في كل ذلك.
- فالذي يتسخط مما ابتلي به لم يرض بالله ربّا.
- والذي يصدّق السحرة والكهنة والجهلة فيما يزعمون من التصرفات ويستعجل دفع البلاء أو جلب النفع بالذهاب إليهم واللجوء إليهم واتباعهم فيما يأمرون مما يسخط الله لم يرض بالله ملكاً.
وإن من أكثر ما يضر بالناس استعجالهم دفعَ البلاء بالطرق المحرَّمة؛ فإنَّ هذا دليل ضعف الصبر وضعف اليقين وعاقبة ذلك عليهم سيئة، وقد جرت سنة الله على أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ولا يمكن أن ينال العبد أمراً يكون خيراً له بمعصية الله.
والعبد إذا ابتلي ببلاء فإن الله تعالى يبيّن له ما يتقي؛ كما قال الله تعالى: {وما كان الله ليضلَّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون}
فإذا اتقى وصبر هُدي إلى ما يسلم به من شر بلائه، وكانت عاقبته حسنة.
وبيان ذلك: أن العبد إذا ابتلي ببلاء فهو إما أن يتبع هدى الله أو يضل عنه؛ والذي لا يتّقي ما بيَّنه الله له وأوجب عليه أن يتقيه؛ متسببٌ على نفسه بالضلال.


- والذي لا يلجأ إلى الله تعالى في السراء والضراء ولا يدعوه ولا يرجوه لم يرض بالله إلها.
وفي الأدب المفرد للبخاري والسنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)). وفي وراية عند الحاكم: ((من لم يدع الله يغضب عليه)).

وتبيَّن بما تقدم مناسبة الاستعاذة بـ(رب الناس) ، (ملك الناس) ، (إله الناس) لحال الاستعاذة من كيد كل وسواس خناس، وسيأتي في الدرس القادم بإذن الله تعالى مزيد بيان لهذا.



رد مع اقتباس