عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 06:55 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون (189)}
قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: «سأل الناس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الأهلّة، فنزلت هذه الآية: {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ} يعلمون بها حلّ دينهم، وعدّة نسائهم، ووقت حجّهم».
وقال أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: «بلغنا أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، لم خلقت الأهلّة؟ فأنزل اللّه {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس} يقول: جعلها اللّه مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدّة نسائهم، ومحلّ دينهم».
وكذا روي عن عطاء، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، نحو ذلك.
وقال عبد الرّزّاق، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «جعل اللّه الأهلّة مواقيت للنّاس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإنّ غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يومًا».
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن أبي روّادٍ، به. وقال: كان ثقةً عابدًا مجتهدًا شريف النّسب، فهو صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
وقال محمّد بن جابرٍ، عن قيس بن طلقٍ؛ عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: «جعل اللّه الأهلّة، فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين». وكذا روي من حديث أبي هريرة، ومن كلام عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه .
وقوله: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها} قال البخاريّ: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: «كانوا إذا أحرموا في الجاهليّة أتوا البيت من ظهره، فأنزل اللّه {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها}».
وكذا رواه أبو داود الطّيالسيّ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: «كانت الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخل الرّجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية».
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ: «كانت قريشٌ تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من بابٍ في الإحرام، فبينا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في بستانٍ إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامرٍ الأنصاريّ، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ قطبة ابن عامرٍ رجلٌ تاجرٌ وإنّه خرج معك من الباب. فقال له:«ما حملك على ما صنعت؟» قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت. فقال: «إنّي رجلٌ أحمس». قال له: فإنّ ديني دينك. فأنزل اللّه {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها}. رواه ابن أبي حاتمٍ. ورواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ بنحوه. وكذا روي عن مجاهدٍ، والزّهريّ، وقتادة، وإبراهيم النّخعيّ، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال الحسن البصريّ: «كان أقوامٌ من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدهم سفرًا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثمّ بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوّره من قبل ظهره، فقال اللّه تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى} الآية».
وقال محمّد بن كعبٍ: «كان الرّجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل اللّه هذه الآية».
وقال عطاء بن أبي رباحٍ: «كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويرون أنّ ذلك أدنى إلى البرّ، فقال اللّه تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها}».
وقوله: {واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون} أي: اتّقوا اللّه فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه {لعلّكم تفلحون} غدًا إذا وقفتم بين يديه، فيجزيكم بأعمالكم على التّمام، والكمال). [تفسير ابن كثير: 1/ 521-523]

تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وقاتلوا في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (192) وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين للّه فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظّالمين (193)}
قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم} قال: «هذه أوّل آيةٍ نزلت في القتال بالمدينة، فلمّا نزلت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقاتل من قاتله، ويكفّ عمّن كفّ عنه حتّى نزلت سورة براءةٍ» وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم حتّى قال: «هذه منسوخةٌ بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التّوبة: 5]». وفي هذا نظرٌ؛ لأنّ قوله: {الّذين يقاتلونكم} إنّما هو تهييج وإغراءٌ بالأعداء الّذين همّتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} [التّوبة: 36]؛ ولهذا قال في هذه الآية: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي: لتكن همّتكم منبعثةً على قتالهم، كما أنّ همّتهم منبعثةٌ على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصًا.
وقد حكي عن أبي بكرٍ الصّديق، رضي اللّه عنه، أنّ أوّل آيةٍ نزلت في القتال بعد الهجرة، {أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا} الآية [الحجّ: 39] وهو الأشهر وبه ورد الحديث.
وقوله: {ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين} أي: قاتلوا في سبيل اللّه ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسن البصريّ -من المثلة، والغلول، وقتل النّساء والصّبيان والشّيوخ الّذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرّهبان وأصحاب الصّوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحةٍ، كما قال ذلك ابن عبّاسٍ، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم. ولهذا جاء في صحيح مسلمٍ، عن بريدة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «اغزوا في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصّوامع». رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عبّاسٍ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا بسم اللّه، قاتلوا في سبيل اللّه من كفر باللّه، لا تغدروا ولا تغلّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع». رواه الإمام أحمد.
ولأبي داود، عن أنسٍ مرفوعًا، نحوه. وفي الصّحيحين عن ابن عمر قال: «وجدت امرأةٌ في بعض مغازي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مقتولةً، فأنكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قتل النّساء والصّبيان».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا مصعب بن سلام، حدّثنا الأجلح، عن قيس بن أبي مسلمٍ، عن ربعي ابن حراش، قال: «سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمثالًا واحدًا، وثلاثةً، وخمسةً، وسبعةً، وتسعةً، وأحد عشر، فضرب لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منها مثلًا وترك سائرها، قال: «إنّ قومًا كانوا أهل ضعف ومسكنةٍ، قاتلهم أهل تجبّرٍ وعداءٍ، فأظهر اللّه أهل الضّعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلّطوهم فأسخطوا اللّه عليهم إلى يوم يلقونه».
هذا حديثٌ حسن الإسناد. ومعناه: أنّ هؤلاء الضّعفاء لمّا قدروا على الأقوياء، فاعتدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا اللّه عليهم بسبب هذا الاعتداء. والأحاديث والآثار في هذا كثيرةٌ جدًّا). [تفسير ابن كثير: 1/ 523-524]

تفسير قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ولمّا كان الجهاد فيه إزهاق النّفوس وقتل الرّجال، نبّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون عليه من الكفر باللّه والشّرك به والصّدّ عن سبيله أبلغ وأشدّ وأعظم وأطم من القتل؛ ولهذا قال: {والفتنة أشدّ من القتل} قال أبو مالكٍ: «أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل».
وقال أبو العالية، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضّحّاك، والرّبيع ابن أنسٍ في قوله: {والفتنة أشدّ من القتل} يقول: «الشّرك أشدّ من القتل».
وقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} كما جاء في الصّحيحين: «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، ولم يحلّ لي إلّا ساعةً من نهارٍ، وإنّها ساعتي هذه، حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه. فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا: إنّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم».
يعني بذلك -صلوات اللّه وسلامه عليه -قتاله أهلها يوم فتح مكّة، فإنّه فتحها عنوةً، وقتلت رجالٌ منهم عند الخندمة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق بابه فهو آمنٌ، ومن دخل المسجد فهو آمنٌ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ.
وقد حكى القرطبيّ: «أنّ النّهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخٌ». قال قتادة: «نسخها قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم} [التّوبة: 5]». قال مقاتل بن حيّان: «نسخها قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}». وفي هذا نظرٌ.
وقوله: {حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} يقول تعالى: لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذٍ قتالهم وقتلهم دفعًا للصّيال كما بايع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه يوم الحديبية تحت الشّجرة على القتال، لمّا تألّبت عليه بطون قريشٍ ومن والاهم من أحياء ثقيفٍ والأحابيش عامئذٍ، ثمّ كفّ اللّه القتال بينهم فقال: {وهو الّذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]، وقال: {ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرّةٌ بغير علمٍ ليدخل اللّه في رحمته من يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح: 25]). [تفسير ابن كثير: 1/ 524-525]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فإن انتهوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: فإن تركوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتّوبة، فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم اللّه، فإنّه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه). [تفسير ابن كثير: 1/ 525]

تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ أمر تعالى بقتال الكفّار: {حتّى لا تكون فتنةٌ} أي: شركٌ. قاله ابن عبّاسٍ، وأبو العالية، ومجاهدٌ، والحسن، وقتادة، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان، والسّدي، وزيد بن أسلم.
{ويكون الدّين للّه} أي: يكون دين اللّه هو الظّاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصّحيحين: عن أبي موسى الأشعريّ، قال: «سئل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرّجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياءً، أيّ ذلك في سبيل اللّه؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه». وفي الصّحيحين: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها، وحسابهم على اللّه».
وقوله: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظّالمين} يقول: فإن انتهوا عمّا هم فيه من الشّرك، وقتال المؤمنين، فكفّوا عنهم، فإنّ من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالمٌ، ولا عدوان إلّا على الظّالمين، وهذا معنى قول مجاهدٍ: «لا يقاتل إلّا من قاتل». أو يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد تخلّصوا من الظّلم، وهو الشّرك. فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقوله: {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} [الشّورى: 40]، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النّحل: 126]. ولهذا قال عكرمة وقتادة: «الظّالم: الذي أبى أن يقول: لا إله إلّا اللّه».
وقال البخاريّ: قوله: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين للّه} الآية: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا عبد الوهّاب، حدّثنا عبيد اللّه، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزّبير فقالا: إنّ النّاس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: «يمنعني أنّ اللّه حرّم دم أخي». قالا ألم يقل اللّه: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ}؟ قال: «قاتلنا حتّى لم تكن فتنةٌ وكان الدّين للّه، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنةٌ ويكون الدّين لغير الله». زاد عثمان ابن صالحٍ عن ابن وهبٍ قال: أخبرني فلانٌ وحيوة بن شريحٍ، عن بكر بن عمرٍو المعافريّ أنّ بكير بن عبد اللّه حدّثه، عن نافعٍ: أنّ رجلًا أتى ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرّحمن، ما حملك على أن تحجّ عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل اللّه، وقد علمت ما رغّب اللّه فيه؟ فقال: «يا ابن أخي، بني الإسلام على خمسٍ: الإيمان باللّه ورسوله، والصّلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزّكاة، وحجّ البيت». قال: يا أبا عبد الرّحمن، ألا تسمع ما ذكر اللّه في كتابه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه} [الحجرات: 9]، {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ} قال: «فعلنا على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وكان الإسلام قليلًا وكان الرّجل يفتن في دينه: إمّا قتلوه أو عذّبوه حتّى كثر الإسلام فلم تكن فتنةٌ»، قال: فما قولك في عليٍّ وعثمان؟ قال: «أمّا عثمان فكان اللّه عفا عنه، وأمّا أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه، وأمّا عليٌّ فابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون»). [تفسير ابن كثير: 1/ 525-526]

تفسير قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين (194)}
قال عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، والضّحّاك، والسّدّيّ، ومقسم، والرّبيع بن أنسٍ، وعطاءٍ وغيرهم: «لمّا سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معتمرًا في سنة ستٍّ من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدّخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهرٌ حرامٌ، حتّى قاضاهم على الدّخول من قابلٍ، فدخلها في السّنة الآتية، هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه اللّه منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ}».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن عيسى، حدّثنا ليث بن سعدٍ، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد اللّه، قال: «لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يغزو في الشّهر الحرام إلّا أن يغزى ويغزوا فإذا حضره أقام حتّى ينسلخ».
هذا إسنادٌ صحيحٌ؛ ولهذا لمّا بلغ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -وهو مخيّم بالحديبية -أنّ عثمان قد قتل -وكان قد بعثه في رسالةٍ إلى المشركين -بايع أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائةٍ تحت الشّجرة على قتال المشركين، فلمّا بلغه أنّ عثمان لم يقتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحٍة، فكان ما كان.
وكذلك لمّا فرغ من قتال هوازن يوم حنينٍ وتحصّن فلّهم بالطّائف، عدل إليها، فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمرّ عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصّحيحين عن أنسٍ. فلمّا كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح، ثمّ كرّ راجعًا إلى مكّة واعتمر من الجعرانة، حيث قسّم غنائم حنين. وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمانٍ، صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} أمر بالعدل حتّى في المشركين: كما قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النّحل: 126]. وقال: {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} [الشّورى: 40].
وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ إن قوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} نزلت بمكّة حيث لا شوكة ولا جهاد، ثمّ نسخ بآية الجهاد بالمدينة. وقد ردّ هذا القول ابن جريرٍ، وقال: «بل هذه الآية مدنيّةٌ بعد عمرة القضيّة، وعزا ذلك إلى مجاهدٍ، رحمه اللّه».
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة، كما قال عمرو بن أمّ كلثوم:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ....... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال ابن دريد:

لي استواءٌ إن مواليّ استوا ....... لي التواءٌ إن تعادى التوا

وقال غيره:

ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ ....... ولي فرسٌ للجهل بالجهل مسرج
ومن رام تقويمي فإنّي مقوّمٌ ....... ومن رام تعويجي فإنّي معوّج

وقوله: {واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين} أمرٌ لهم بطاعة اللّه وتقواه، وإخبارٌ بأنّه تعالى مع الّذين اتّقوا بالنّصر والتّأييد في الدّنيا والآخرة).[تفسير ابن كثير: 1/ 526-528]


رد مع اقتباس