عرض مشاركة واحدة
  #27  
قديم 18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:48 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

اختلاف المواقف في مسألة اللفظ:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (اختلاف المواقف في مسألة اللفظ:
مسألة اللفظ من المسائل التي كان لها ذيوع وانتشار كبير في عصر الإمام أحمد وبعده بقرون، وقد اختلفت مواقف الناس اختلافاً كثيراً كلٌّ يفهمها بفهم ويتأوّلها بتأوّل ويبني موقفه على ما فهم وتأوّل:

الموقف الأول: موقف الجهمية المتستّرة باللفظ، وهم الذين يقولون بخلق القرآن، ويتستَّرون باللفظ، وهم نظير الجهمية المتسترة بالوقف.
وهؤلاء فرحوا بهذه المقالة؛ لأنها أخف شناعة عليهم عند العامّة، ولأنّها أقرب إلى قبول الناس لها؛ فإذا قبلوها كانوا أقرب إلى قبول التصريح بخلق القرآن.
وهؤلاء كانوا من أكثر من أشاع مسألة اللفظ؛ وكثرت الروايات عن الإمام أحمد في التحذير من اللفظية وتسميتهم بالجهمية؛ يقصد بهم من يقول بخلق القرآن، ويتستّر باللفظ.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: « كلُّ من يقصد إلى القرآن بلفظ أو غير ذلك يريد به مخلوق؛ فهو جهمي »
وقال أيضاً: سمعت أبي يقول: « من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو كافر ».
وقال أيضاً: سألت أبي فقلت: إنّ قومًا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقةٌ؟
قال: «هم جهميّةٌ، وهم شرٌّ ممّن يقف» .
وقال: " هذا هو قول جهمٍ، وعظّم الأمر عنده في هذا، وقال: قال اللّه عزّ وجلّ: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه}، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتّى أبلّغ كلام ربّي»، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام النّاس» فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو جهميٌّ "

وقال أيضا: قلت لأبي: إنّ الكرابيسيّ يقول: لفظي بالقرآن مخلوقٌ.
فقال: «هذا كلام سوءٍ رديءٌ، وهو كلام الجهميّة، كذب الكرابيسيّ، هتكه اللّه، الخبيث»
وقال: «قد خلف هذا بشرًا المرّيسيّ».
وذكر الخلال عن الإمام أحمد أنه قال: (القرآن حيث تصرف كلام الله، واللفظية جهمية.
قلنا: هل علمتَ أن أحداً من الجهمية كان يقوله؟
قال: بلغني أنّ المريسي كان يقوله).

وروى يعقوب الدورقي(ت:252ه): عن الإمام أحمد أنّه قال: «إنّ اللّفظيّة إنّما يدورون على كلام جهمٍ، يزعمون أنّ جبريل إنّما جاء بشيءٍ مخلوقٍ إلى مخلوقٍ».
وقال أخوه أحمد الدّورقيّ (ت:246هـ): قلت لأحمد بن حنبلٍ: ما تقول في هؤلاء الّذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوقٌ؟
فرأيته استوى، واجتمع، وقال: (هذا شرٌّ من قول الجهميّة، من زعم هذا، فقد زعم أنّ جبريل تكلّم بمخلوقٍ، وجاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمخلوقٍ).

وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي، وأنا أسمع عن اللّفظيّة والواقفة، فقال: من كان منهم يحسن الكلام، فهو جهميٌّ.

وكان الإمام أحمد يحمل اللفظية في أوَّل الأمر على هذا المحمل؛ لأنَّ أهل السنَّة ليسوا بحاجة إلى التلبيس؛ فهم يصرّحون بأنّ القرآن غير مخلوق، وأنَّ أفعال العباد مخلوقة.
وكان شديد الحذر من حيل الجهمية، وما يدخلونه على الناس من الشُّبَه وزخرف القول، وينهى عن الدخول في علم الكلام للرد عليهم، وينهى عن استعمال عباراتهم؛ لأنهم يلبّسون بالألفاظ المجملة.

قال جعفر بن أحمد: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول: «اللّفظيّة والواقفة زنادقةٌ عتقٌ».
وقال عبّاسٌ الدّوريّ: كان أحمد بن حنبلٍ يقول: «الواقفة واللّفظيّة جهميّةٌ»
وروى أبو القاسم اللالكائي عن أبي بكر الأسدي أنه قال: أتى قومٌ أبا مصعبٍ الزّهريّ؛ فقالوا: إنّ قبلنا ببغداد رجلًا يقول: لفظه بالقرآن مخلوقٌ.
فقال: (يا أهل العراق، ما يأتينا منكم هناه، ما ينبغي أن نتلقّى وجوهكم إلّا بالسّيوف، هذا كلامٌ نبطيٌّ خبيثٌ).

وقد كانت فتنة الجهمية باللفظ فتنة عظيمة؛ فلذلك اشتدّ تحذير العلماء من هذه الفتنة، ومما يدلّ على انتشار فتنة الجهمية ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن محمد بن الْحَسَن بن هَارُون الموصلي أنّه قَالَ: سألت أبا عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بنَ مُحَمَّدِ بْنِ حنبل، فقلت: يا أبا عَبْد اللَّهِ أنا رجل من أهل الموصل والغالب عَلَى أهل بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي نطقي بالقرآن مخلوق؟
فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: (إياك إياك وهذا الكرابيسي، لا تكلّمه ولا تكلّم من يكلّمُه) أربع مرات أو خمس مرات.
قُلْتُ: يا أبا عَبْد اللَّهِ، فهذا القول عندك فما تشاغب منه يرجع إِلَى قول جهم؟
قَالَ: (هذا كله من قول جهم).

وكان الكرابيسيّ صاحب كتب كثيرة وله أصحاب وأتباع ؛ فهجره أهل الحديث حتى قلَّ الانتفاع بعلمه واضمحلّ ذكره إلا فيما أثاره من مغالطات، وما ينقل عنه في مسائل معدودة، واختلفوا في سنة وفاته؛ فقيل: سنة 245هـ ، وقيل: 248هـ.
قال الخطيب البغدادي: (وحديث الكرابيسي يعزّ جدا وذلك أن أَحْمَد بن حنبل كَانَ يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، وكان هو أيضا يتكلم فِي أَحْمَد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب).
وقال عنه: (وكان فهما عالما فقيها، وله تصانيف كثيرة فِي الفقه وفي الأصول تدل عَلَى حسن فهمه، وغزارة علمه).

قال الذهبي: (وكان من أوعية العلم، ووضع كتاباً في المدلّسين، يحطّ على جماعةٍ: فيه أنّ ابن الزّبير من الخوارج.
وفيه أحاديث يقوّي به الرّافضة، فأعلم أحمد، فحذّر منه).
وقال ابن عدي: (سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي يقول لهم، يعني التلامذة: اعتبروا بهذين: حسين الكرابيسي، وأبو ثور. فالحسين في علمه وحفظه، وأبو ثور لا يعشّره في علمه، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب اللفظ فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه السنة).
وقال عنه ابن حبّان: (وكان ممن جمع وصنف ممن يحسن الفقه والحديث، ولكن أفسده قلة عقله؛ فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير حتى صار عَلَما يقتدى به، ووضع من شاء مع العلم الكثير حتى صار لا يلتفت إليه).

الموقف الثاني: موقف طائفة ممن خاض في علم الكلام وتأثّر ببعض قول الجهمية وإن كان كلامهم غيرَ جارٍ على أصول الجهمية، وعلى رأس هؤلاء رجل من أهل الشام يقال له: الشرّاك؛ قال: إن القرآن كلام الله؛ فإذا تلفظنا به صار مخلوقاً، وهذا يعود إلى صريح قول الجهمية عند التحقيق.
قال أبو طالبٍ للإمام أحمد: كُتب إليّ من طرسوس أنّ الشّرّاك يزعم أنّ القرآن كلام اللّه، فإذا تلوته فتلاوته مخلوقةٌ.
قال: «قاتله اللّه، هذا كلام جهمٍ بعينه».
قال: قلت: رجلٌ قال في القرآن: كلام اللّه ليس بمخلوقٍ، ولكنّ لفظي هذا به مخلوقٌ؟
قال: «هذا كلام سوءٍ، من قال هذا فقد جاء بالأمر كلّه»
قلت: (الحجّة فيه حديث أبي بكرٍ: لمّا قرأ: {الم غلبت الرّوم} فقالوا: هذا جاء به صاحبك؟ قال: لا، ولكنّه كلام اللّه)؟
قال: «نعم، هذا وغيره، إنّما هو كلام اللّه، إن لم يرجع عن هذا فاجتنبه، ولا تكلّمه، هذا مثل ما قال الشّرّاك» .
قلت: كذا بلغني.
قال: «أخزاه اللّه، تدري من كان خاله؟»
قلت: لا.
قال: «كان خاله عبدَك الصّوفيّ، وكان صاحب كلامٍ ورأي سوءٍ، وكلّ من كان صاحب كلامٍ، فليس ينزع إلى خيرٍ»، واستعظم ذلك واسترجع، وقال: «إلى ما صار أمر النّاس؟».
وهذه الرواية ذكرها ابن بطّة في الإبانة.

و"عَبْدَك" الذي ذكره الإمام أحمد؛ هو أوّل من لقّب بالصوفي في بغداد ، وكان أصله من الكوفة ثم انتقل إلى بغداد، وكان له أبتباع يعظمونه، و"عبدك" لقب له، واسمه عبد الكريم.
وكان صاحب كلام وتصوف، وقد اشتهرت عنه بدع: منها بدعة الملامية، ومنها بدعة التحريم المطلق، كان يزعم أن كل ما في الدنيا حرام، ولا يحلّ منها إلا القوت، وخلط التصوّف بالتشيّع، وتوفي بغداد سنة (210هـ).
ذكر ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد عن إسحاق بن داود أنه قال: أول من سمى ببغداد «صوفيا» عبدك الصوفي.
وقد ذكر بعض مقالاته الشيخ إحسان إلهي ظهير في كتابه عن نشأة التصوف.
والشرّاك ابن اخت عبدك الصوفي كما ذكر الإمام أحمد، وهذا من شواهد سعة معرفة الإمام أحمد رحمه الله بالرجال.
ذكر أبو القاسم اللالكائي عن محمّد بن أسلم الطّوسيّ أنه قال: (إنّ من قال: إنّ القرآن يكون مخلوقًا بالألفاظ، فقد زعم أنّ القرآن مخلوقٌ).

الموقف الثالث: موقف داوود بن عليّ بن خلف الأصبهاني الظاهري (ت:270هـ) رأس أهل الظاهر وإمامهم، وكان رجلاً قد أوتي ذكاءً حادّاً وقوّة بيان وتصرّفاً في الاستدلال، وكان مولعاً بكتب الشافعيّ في أوّل عمره؛ معتنيا بجمع الأقوال ومعرفة الخلاف حتى حصّل علماً كثيراً، ثم ردّ القياس وادّعى الاستغناء عنه بالظاهر، وصنّف كتباً كثيرة.
قال أبو زرعة الرازي: ( لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة، ولكنه تعدَّى).
وهو من أصحاب حسين الكرابيسي، وعنه أخذ مقالته في اللفظ، لكنّه تأوّلها على مذهبه في القرآن؛ فإنّ له قولاً في القرآن لم يسبق إليه: قال: (أما الذي في اللوح المحفوظ: فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس: فمخلوق).
قال الذهبي: (هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله فيما علمت).
واشتهر عنه أنه قال: (القرآن مُحدث) وكلمة الإحداث عند المعتزلة تعني الخلق؛ لأنّ المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن؛ ويقولون بأن كلّ ما كان بعد أن لم يكن فهو مخلوق.ولذلك نفوا صفة الكلام عن الله جل وعلا، وضلوا في ذلك وكذبوا على الله؛ فإنّ الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء ، ويفعل ما يشاء متى يشاء.
وهذه الكلمة "محدث" واردة في القرآن في قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين}
لكنّها ليست على المعنى الذي أراده المعتزلة من أنّه مخلوق، ولكنّ الله يحدث من أمره ما يشاء؛ فيكون حديثا أي جديداً عند إنزاله أو وقوعه.
ولمّا حدثت فتنة اللفظ كان ممن تكلّم بها داوود الظاهري؛ وقال: (لفظي بالقرآن مخلوق).
قال: محمد بن الحسين بن صبيح: سمعت داوود الأصبهاني يقول: القرآن مُحدَث، ولفظي بالقرآن مخلوق). رواه الخلال.
وقال أبو عليٍّ أحمد بن إبراهيم القوهستانيّ(ت:267ه): سمعت إسحاق بن راهويه يقول: إنّ لفلانٍ يعني داود الأصفهانيّ في القرآن قولًا ثالثًا، قولَ سوءٍ؛ فلم يزل يُسأل إسحاق ما هو؟
قال: أظهر اللّفظ، يعني قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ) رواه أبو القاسم اللالكائي.
وقد أنكر عليه إسحاق بن راهويه، وشهد على داوود أنه قال: (القرآن محدث) بعض من حضره، فكتب قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي إلى الإمام أحمد ببغداد
أنّ داوود بن علي قال: (القرآن محدث) فأمر الإمام أحمد بهجره ومجانبته.
قال أبو بكر المروذي: إن داوود خرج إلى خراسان إلى ابن راهويه، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وآخر، شهدا عليه أنه قال: القرآن محدث.
فقال لي أبو عبد الله [أحمد بن حنبل]: مَن داود بن علي لا فرج عنه الله؟
قلت: هذا من غلمان أبي ثور.
قال: جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داوود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدَث.
فهجره الإمام أحمد، وأمر بهجره.
وذكر الخطيب البغدادي عن أبي زرعة الرازي أن داوود بن علي كانت بينه وَبين صالح بْن الإمام أَحْمَد معرفة حسنة، فكلم صالحا أن يتلطف له فِي الاستئذان على أبيه، فأتى صالح أباه، فَقَالَ له: رجل سألني أن يأتيك؟
قَالَ: ما اسمه؟
قَالَ: دَاوُد.
قَالَ: من أين؟
قَالَ: من أَهْل أصبهان.
قَالَ: أي شيء صناعته؟
قَالَ: وَكَانَ صالح يروغ عَنْ تعريفه إياه؛ فما زال أَبُو عَبْد اللَّهِ يفحص عنه حَتَّى فطن له.
فَقَالَ: هذا قد كتب إلي مُحَمَّد بْن يَحْيَى النيسابوري فِي أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني.
قَالَ: يا أبت إنه ينتفي من هذا وَينكره.
فَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَحْمَد: مُحَمَّد بْن يَحْيَى أصدق منه، لا تأذن له فِي المصير إلي).
وقد كان في كتب داوود أحاديث ُكثيرة؛ فهجره أهل الحديث حتى قال الخطيب البغدادي: (وَفي كتبه حَدِيث كثير، إِلا أن الرواية عنه عزيزة جدا).
والمقصود أنّ داوود بن علي الظاهري كان مما تكلّم باللفظ لكنّه تأوّله على مذهبه في القرآن.
فهجره الإمام أحمد، وأمر بهجره.

الموقف الرابع: موقف جمهور أهل الحديث كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبي ثور وجماعة.
فهؤلاء منعوا الكلام في اللفظ مطلقاً لالتباسه؛ وبدّعوا الفريقين: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق.
واشتدّوا على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ خشية التذرّع بهذا التلبيس إلى إرادة القول بخلق القرآن، وقد جرى من المحنة في القول بخلق القرآن ما جرى فكانوا شديدي الحذر من حيل الجهمية وتلبيسهم.
وبيّنوا أنّ أفعال العباد مخلوقة.
قال إسحاق بن حنبلٍ: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو جهميٌّ، ومن زعم أنّ لفظه بالقرآن غير مخلوقٍ، فقد ابتدع، فقد نهى أبو عبد اللّه عن هذا، وغضب منه، وقال: (ما سمعت عالمًا قال هذا! أدركت العلماء مثل: هشيمٍ، وأبي بكر بن عيّاشٍ، وسفيان بن عيينة، فما سمعتهم قالوا هذا).
قال إسحاق: (وأبو عبد اللّه أعلم النّاس بالسّنّة في زمانه، لقد ذبّ عن دين اللّه، وأوذي في اللّه، وصبر على السّرّاء والضّرّاء).
وهذا الكلام نصّ عليه غير واحد من أصحاب الإمام أحمد مثل: يعقوب الدورقي.
وقال أبو إسحاق الهاشميّ: سألت أبا عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ، فقلت: إذا قالوا لنا: القرآن بألفاظنا مخلوقٌ، نقول لهم: ليس هو بمخلوقٍ بألفاظنا أو نسكت؟
فقال: " اسمع ما أقول لك: القرآن في جميع الوجوه ليس بمخلوقٍ ".
ثمّ قال أبو عبد اللّه: «جبريل حين قاله للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان منه مخلوقًا؟ والنّبيّ حين قاله كان منه مخلوقًا؟ هذا من أخبث قولٍ وأشرّه» ثمّ قال أبو عبد اللّه: «بلغني عن جهمٍ أنّه قال بهذا في بدء أمره».
ذكر ذلك ابن بطّة في الإبانة الكبرى.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: (كان أبي رحمه الله يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء أو يقال: مخلوق أو غير مخلوق).

وقال صالح بن الإمام أحمد: تناهى إليَّ أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فأخبرت أبي بذلك.
فقال: من أخبرك؟
فقلت: فلان.
قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء وجاء فُوران.
فقال له أبي: أنا قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق؟!!
وغضب وجعل يرعد؛ فقال له: قرأت عليك {قل هو الله أحد} ؛ فقلت لي: هذا ليس بمخلوق.
قال: فلم حكيت عنّي أنّي قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوقٍ؟!!
وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك، وكتبت به إلى قوم؛ فإن كان في كتابك؛ فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الّذين كتبت إليهم: إنّي لم أقل لك هذا.
فعاد أبو طالب فذكر أنه قد حكَّ ذلك من كتابه، وأنه كتب إلى القوم يخبرهم أنه وهم على أبي عبد الله في الحكاية).
وأبو طالب هو أحمد بن حميد المُشْكانيّ (ت:244هـ) من خاصّة أصحاب الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد يحبّه ويعظّمه، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً فقيراً صبوراً على الفقر، وله مسائل يرويها عن الإمام أحمد.
وفُوران هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن المهاجر (ت:256هـ) كان من أخصّ أصحاب الإمام أحمد وأحبّهم إليه.
وهذه المسألة تعرف بمسألة أبي طالب؛ وقد جرى خلاف بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسبب هذه المسألة.
قال ابن تيمية: (وهذا الذي ذكره أحمد [يريد جوابه لأبي طالب في قوله: هذا كلام الله لما قرأ قل هو الله أحد، وقال له: هذا ليس بمخلوق ] من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود.
وهو كلام الله الذي تكلم به.
لا ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم.
فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة.
وهذا باطل كما أن رأى راء في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق، علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق، فلو قال: هذا الصوت أو صوت فلان صالح أو فاسق فسد المعنى)ا.هـ
وقال ابن تيمية: (ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه بالمرآة حصل مقصوده، وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة، وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير باختلاف الصائتين والقلوب، وإنما أشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود، كما في الاسم والمسمى، فإن القائل إذا قال: جاء زيد وذهب عمرو لم يكن مقصوده الإخبار بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد ولفظ عمرو وإلا كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل هذا)ا.ه.


الموقف الخامس: موقف طائفة من أهل الحديث صرحوا بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وهم يريدون أنّ القرآن غير مخلوق، وأخطؤوا في استعمال هذه العبارة.
وحصل في الأمر التباس عليهم؛ حتى إنّ منهم من نسب ذلك إلى الإمام أحمد كما تقدّم عن أبي طالب وأنّ الإمام أحمد أنكر عليه وتغيّظ عليه وأنّه رجع عن ذلك؛ لكن بقي على ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد، ثم قال بهذا القول بعض أتباعهم.
وممن نُسب إليه التصريح بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق: محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري وقاضي نيسابور في زمانه، وأبو حاتم الرازي، ومحمد بن داوود المصيصي قاضي أهل الثغر وهو شيخ أبي داوود السجستاني صاحب السنن، وابن منده ، وأبو نصر السجزي، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو العلاء الهمذاني.
وقد ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهؤلاء :
1. يقولون إن القرآن غير مخلوق.
2. وإن أفعال العباد مخلوقة.
لكنّهم أخطؤوا في إطلاق القول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق.
وظنوا أنّهم بقولهم: (ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة) يقطعون الطريق على الجهمية الذين يريدون التحيّل باللفظ للقول بخلق القرآن.
قال ابن تيمية: (وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك، فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مراده صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء.
وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه، ففهم ذلك بعض الأئمة، فصار يقول: أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة، رداً لهؤلاء، كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة.
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة، وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه، وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما.
وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث، وهم من أصحاب أحمد بن حنبل، ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ).

اختلاف الأفهام في مسألة اللفظ:
مسألة اللفظ من المسائل الغامضة لتوقفها على مراد القائل، ودخول التأول فيها.
قال ابن تيمية: (الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيه من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت له الألفة، وما كان معروفا حصلت به المعرفة، كما يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: "إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء".
فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء).
وقال ابن تيمية أيضاً: (الذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو.
وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري، وهو مقصود صحيح.
وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول.
فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ، والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر، كان معني كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع، وهذا صحيح.
ومن قال اللفظ هو الملفوظ، والقول هو نفسه المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ، وهذا صحيح.
فمن قال: اللفظ بالقرآن، أو القراءة، أو التلاوة، مخلوقة أو لفظي بالقرآن، أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى.
وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعني صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره)ا.هـ.

الموقف السادس: موقف أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه ومن تأثر بطريقته كأبي بكر بن الطيب الباقلاني، والقاضي أبي يعلى.
وهؤلاء فهموا من مسألة اللفظ معنى آخر ؛ وقالوا إنّ الإمام أحمد إنما كره الكلام في اللفظ؛ لأنّ معنى اللفظ الطرح والرمي، وهذا غير لائق أن يقال في حق القرآن.
قال ابن تيمية: (والمنتصرون للسنة من أهل الكلام والفقه: كالأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم يوافقون أحمد على الإنكار على الطائفتين على من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق وعلى من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولكن يجعلون سبب الكراهة كون القرآن لا يلفظ؛ لأن اللفظ الطرح والرمي. ثم هؤلاء منهم من ينكر تكلم الله بالصوت. ومنهم من يقر بذلك).

الموقف السابع: موقف طوائف زعمت أنّ ألفاظ القراء بالقرآن غير مخلوقة؛ وزعموا أن سماعهم لقراءة القارئ هي سماع مباشر من الله، وأنهم يسمعون كلام الله من الله إذا قرأه القارئ كما سمعه موسى بن عمران.
واختلفوا في تفصيل ذلك على أقوال:
فقال بعضهم: إن صوت الربّ حلّ في العبد.
وقال آخرون: ظهر فيه ولم يحلّ فيه.
وقال آخرون: لا نقول ظهر ولا حلّ.
وقال آخرون: الصوت المسموع قديم غير مخلوق.
وقال آخرون: يسمع منه صوتان مخلوق وغير مخلوق.
وهذه الأقوال حكاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض الطوائف، وحكى أقوالاً أخرى نحوها في البطلان؛ ثم قال: (وهذه الأقوال كلها مبتدعة، لم يقل السلف شيئا منها، وكلها باطلة شرعا وعقلا، ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعت زيدا وقيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي - تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعا منه أو من المبلغ عنه مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سمع منه سمع بصوته، وإذا سمع من غيره سمع من ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم، وقد يقال مع القرينة هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظ [عبري] أو سرياني أو قبطي أو غير ذلك).
وقال أيضا: (فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو مبتدع.
وهؤلاء قد يحتجون بقوله: {حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] ، ويقولون هذا كلام الله غير مخلوق، فهذا غير مخلوق، ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ، وهذا جهل منهم. فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة الرسول المبلغ له، قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا.)
وقال أيضا: (وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله - تعالى - وإن كان مسموعا عن المبلغ عنه، فإن الكلام قد يسمع من المتكلم به، كما سمعه موسى بلا واسطة وهذا سماع مطلق - كما يرى الشيء رؤية مطلقة - وقد يسمعه من المبلغ عنه فيكون قد سمعه سماعا مقيدا - كما يرى الشيء [في] الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة - ولما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله (كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة).
وقال أيضا: (قال أحمد وغيره من السلف: القرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف والأئمة إن أصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة أو قديمة ولا قال أيضا أحد منهم: إن المداد الذي يكتب به القرآن قديم أو غير مخلوق. فمن قال إن شيئا من أصوات العباد أو أفعالهم أو حركاتهم أو مدادهم: قديم أو غير مخلوق فهو مبتدع ضال مخالف لإجماع السلف والأئمة).

وقريب من هؤلاء طائفة زعمت أن كلام الله بعينه في المصحف؛ وقد ردّ عليهم البخاري في كتابه خلق أفعال العباد بقوله: (ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن من ذكر الله في القرآن من الجن والإنس والملائكة والمدائن ومكة والمدينة وغيرهما وإبليس وفرعون وهامان وجنودهما والجنة والنار عاينتهم بأعيانهم في المصحف، لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب!!)

وعلى كلّ فبعض الأقوال اندثرت، وسوء الفهم ليس له حدود، ومقصودنا التنبيه على الأقوال التي اشتهرت وكان لأصحابها أتباع، أو جرت بسببها محن، وأما الأقوال الواهية المندثرة فيصعب حصرها). [الإيمان بالقرآن:112 - 131]


رد مع اقتباس