عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 12:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {للّذين يؤلون من نسائهم} الآية، قرأ أبي بن كعب وابن عباس «للذين يقسمون»، ويؤلون معناه يحلفون، يقال إلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال فيها أيضا ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها، والتربّص التأنّي والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، يقصد بذلك الأذى عند المشارّة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة أشهر، واختلف من المراد أن يلزمه حكم الإيلاء فقال مالك رحمه الله: «هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم، أن لا يطأها، ضررا منه، أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه»، وقال به عطاء وغيره، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن بن أبي الحسن: «هو الرجل يحلف أن لا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أولم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء».
وقال ابن عباس: «لا إيلاء إلا بغضب»، وقال ابن سيرين: «سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء». وقاله ابن مسعود والثوري ومالك والشافعي وأهل العراق، إلا أن مالكا قال: «ما لم يرد إصلاح ولد».
وقال الشعبي والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن المسيب: كل يمين حلفها الرجل أن لا يطأ امرأته أو أن لا يكلمها أو أن يضارها أو أن يغاضبها فذلك كله إيلاء، وقال ابن المسيب منهم: «إلا أنه إن حلف أن لا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وأقوال من ذكرناه مع سعيد مسجلة محتملة ما قال سعيد ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء»، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير الطبري، وقال ابن عباس أيضا: «لا يسمى موليا إلا الذي يحلف أن لا يطأ أبدا»، حكاه ابن المنذر، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: «لا يكون موليا إلا إن زاد على الأربعة الأشهر»، وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي: «الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا»، وقال قتادة والنخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وابن أبي ليلى: «من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول». قال ابن المنذر: «وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم».
وقوله تعالى:{من نسائهم}: يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن، والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: «أجله أربعة أشهر»، وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران، وقال الحسن: «أجله من حرة أربعة أشهر ومن أمة زوجة شهران»، وقاله النخعي، وقال الشعبي: «الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة»، وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي والنخعي وغيرهم: «المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما»، وقال الزهري وعطاء والثوري: «لا إيلاء إلا بعد الدخول»، قال مالك: «ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن إلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها»، وقال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وابن عمر وابن المسيب ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: «إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف: فإما فاء، وإما طلق، وإلا طلق عليه»، وقال ابن مسعود وابن عباس وعثمان وعلي أيضا وزيد بن ثابت وجابر بن زيد والحسن ومسروق: «بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيت»، واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي، فقال عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وعطاء والنخعي والأوزاعي وغيرهم: «هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها»، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري ومالك: «هي رجعية»، وفاؤ معناه رجعوا، ومنه {حتّى تفيء إلى أمر اللّه} [الحجرات: 9]، والفيء الظل الراجع عشيا، وقال الحسن وإبراهيم: «إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه، لقوله تعالى: {فإن فاؤ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية، وترك وطء الزوجة معصية»، وقال الجمهور: «إذا فاء كفر»، والفيء عند ابن المسيب وابن جبير لا يكون إلا بالجماع، وإن كان مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ ولا عذر له ولا فيء بقول، وقال مالك رحمه الله: «لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتفكير في حال العذر كالغائب والمسجون»، قال ابن القاسم في المدونة: «إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذورا»، واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد من التفكير وإلا فلا فيء، وقال الحسن وعكرمة والنخعي وغيرهم: «الفيء من غير المعذور الجماع ولا بد، ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه»، وقال النخعي أيضا: «يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء». أرأيت إن لم ينتشر للوطء؟
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر»، وقرأ أبي بن كعب «فإن فاؤوا فيهن» وروي عنه «فإن فاؤوا فيها»). [المحرر الوجيز: 1/ 552-555]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وإن عزموا الطّلاق} الآية، قال القائلون إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق: عزيمة الطلاق هي ترك الفيء حتى تنصرم الأشهر، وقال القائلون لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر: العزيمة هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله سميعٌ، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات، وقرأ ابن عباس «وإن عزموا السراح»). [المحرر الوجيز: 1/ 556]

تفسير قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجةٌ واللّه عزيزٌ حكيمٌ (228)}
قرأ جمهور الناس «قروء» على وزن فعول، اللام همزة، وروي عن نافع شد الواو دون همز، وقرأ الحسن «ثلاثة قرو» بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عبادة، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها. بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة، والمطلّقات لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد، وقال قوم: تناولهن العموم ثم نسخن، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض، وهو عرف النساء وعليه معظمهن، فأغنى ذلك عن النص عليه، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها، ومنه قول الراجز:
يا رب ذي ضغن على فارض ....... له قروء كقروء الحائض
أراد وقت غضبه، فالحيض على هذا يسمى قرءا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتركي الصلاة أيام أقرائك»، أي أيام حيضك، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءا، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض، ومنه قول الأعشى:
أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة ....... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ....... بما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي من أطهارهن، وقال قوم: القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم: «المراد الحيض، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة»، «وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل»، هذا قول سعيد بن جبير وغيره، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك: «المراد الاطهار، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر». وقول ابن القاسم ومالك: «إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة». وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره، وقال أشهب: «لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض»، واختلف المتأولون في المراد بقوله: {ما خلق}: فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك: «هو الحيض والحبل جميعا، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع»، وقال قتادة: «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية»، وقال السدي: «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل؟ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله بالصدق في ذلك». وقال إبراهيم النخعي وعكرمة: «المراد ب ما خلق الحيض»، وروي عن عمر وابن عباس: «أن المراد الحبل»، والعموم راجح، وفي قوله تعالى: {ولا يحلّ لهنّ}: ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يكن كتم، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهن» بضم الهاء، وقوله: {إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر} الآية، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق، وهذا كما تقول: إن كنت حرا فانتصر، وأنت تخاطب حرا، وقوله: {وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً}، البعل: الزوج، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس. لكن هو المسموع. وقال قوم: الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة، وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على بعول. وبعول لا شذوذ فيه. وقرأ ابن مسعود «بردتهن» بزيادة تاء، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهن» بضم الهاء، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة، والإشارة ب ذلك هي إلى المدة، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح، فإن قصد أحد بعد هذا إفسادا أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل.
وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي: إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن.
وقوله تعالى: {ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف}، قال ابن عباس: «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة»، وقال الضحاك وابن زيد: «ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه»، والآية تعم جميع حقوق الزوجية، وقوله: {وللرّجال عليهنّ درجةٌ} قال مجاهد وقتادة: «ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه»، وقال زيد بن أسلم وابنه: «ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها»، وقال عامر الشعبي: «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل، وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت»، فقال ابن عباس: «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق»، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، وهذا قول حسن بارع، وقال ابن إسحاق: «الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها»، وقال ابن زيد: «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده»، وقال حميد: «الدرجة اللحية».
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها»، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل، وعزيزٌ لا يعجزه أحد، وحكيمٌ فيما ينفذه من الأحكام والأمور). [المحرر الوجيز: 1/ 556-560]

تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألاّ يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229)}
قال عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم: «نزلت هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية». وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: «المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها وإما أمسكها محسنا عشرتها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والآية تتضمن هذين المعنيين»، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: «أحدهما تركها تتم العدة من الثانية وتكون أملك بنفسها»، وهذا قول السدي والضحاك، «والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك»، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه: أولها أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي قوله: {أو تسريحٌ بإحسانٍ}»، والوجه الثاني أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ «وإن عزموا السراح» [البقرة: 227]، والوجه الثالث أن فعّل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، و «إمساك» مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره فالواجب إمساك، وقوله بإحسانٍ معناه أن لا يظلمها شيئا من حقها ولا يتعدى في قول. وقوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا الآية خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب فلذلك خص بالذكر. وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «يخافا» بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب خاف في التعدي إلى مفعول واحد وهو أن، وقرأ حمزة وحده «يخافا» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية خاف إلى مفعولين، أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر أن بتقدير حرف جر محذوف، فموضع أن: خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي، ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصار الفعل إلى المفعول الثاني، مثل استغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير، وفي مصحف ابن مسعود «إلا أن يخافوا» بالياء وواو الجمع، والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس. وحرم الله- تعالى- على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. قال ابن المنذر: «روينا معنى ذلك عن ابن عباس والشعبي ومجاهد وعطاء والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة وسفيان الثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور»، وقال مالك- رحمه الله- والشعبي وجماعة معهما: «فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ومعنى ذلك أن يكون الزوج لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي»، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: «إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته فهو جائز ماض وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ»، قال ابن المنذر: «وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ، ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه»، وحدود اللّه في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة.
ونازلة حبيبة بنت سهل- وقيل جميلة بنت أبي ابن سلول والأول أصح- مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية منها إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه، وقوله تعالى: {فإن خفتم ألّا يقيما حدود اللّه}«المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه»، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: «إذا قالت له: لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما، حل الخلع»، وقال الشعبي: {ألّا يقيما حدود اللّه}: «معناه أن لا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة»، وقال عطاء بن أبي رباح: «يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبّك ونحو هذا».
وقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه وهي تقدر على المخاصمة، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق، وقال ابن عمر والنخعي وابن عباس ومجاهد وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومالك والشافعي وأبو حنيفة وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب وأبو ثور وغيرهم: «مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه»، وقضى بذلك عمر بن الخطاب، وقال طاوس والزهري وعطاء وعمر بن شعيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وأحمد وإسحاق: «لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها». وبه قال الربيع، وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن «فيما افتدت به منه» بزيادة «منه»، يعني مما آتيتموهن وهو المهر. وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة، وابن المنذر أثبت. وقال ابن المسيب: «لا أرى أن يأخذ منها كل مالها ولكن ليدع لها شيئا». وقال بكر بن عبد الله المزني: «لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا ولا كثيرا» قال: «وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: {وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء: 20].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا ضعيف، لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال».
وقوله تعالى: {تلك حدود اللّه} الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها، ثم توعد- تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ). [المحرر الوجيز: 1/ 560-565]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه وتلك حدود اللّه يبيّنها لقومٍ يعلمون (230) وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو سرّحوهنّ بمعروفٍ ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: هذا ابتداء الطلقة الثالثة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه: «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق»، واحتج من هذه الآية بذكر الله تعالى الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف» عنه وعن عكرمة وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم، وقال مجاهد: «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح، والتسريح هو الطلقة الثالثة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله تعالى: {أو تسريحٌ} يحتمل الوجهين: إما تركها تتم العدة، وإما إرداف الثالثة. ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة. وتنكح في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت سموأل امرأة رفاعة حين تزوجها عبد الرحمن بن الزبير وكان رفاعة قد طلقها ثلاثا، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن، ما معه إلا مثل الهدبة»، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته»، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال: «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة»، وقال بعض الفقهاء: التقاء الختانين يحل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والمعنى واحد»، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح، ويتأول على سعيد- رحمه الله- أن الحديث لم يبلغه، ولما رأى العقد عاملا في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى»، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث. والذي يحل عند مالك- رحمه الله- النكاح الصحيح والوطء المباح، والمحلل إذا وافق المرأة: فلم تنكح زوجا، ولا يحل ذلك، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافا، وقال عثمان بن عفان: «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها».
ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج. وقال الحسن بن أبي الحسن: «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول»، وهذا شاذ، وقال سالم والقاسم: «لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان».
وقوله تعالى: {فإن طلّقها فلا جناح عليهما} الآية، «المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول»، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين، وقال أبو عبيدة: «المعنى أيقنا»، وقوله في ذلك ضعيف، وحدود اللّه الأمور التي أمر أن لا تتعدى، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا لهم، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين. أي نصب للعبرة من قول أو صنعة، وأما إن أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء، وقرأ السبعة «يبينها» بالياء، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها» بالنون). [المحرر الوجيز: 1/ 565-568]


رد مع اقتباس