عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 06:44 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم اللّه من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ (94) يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرمٌ ومن قتله منكم متعمّدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيزٌ ذو انتقامٍ (95)}
قال الوالبيّ، عن ابن عبّاسٍ قوله: {ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد تناله أيديكم ورماحكم} قال: هو الضّعيف من الصّيد وصغيره، يبتلي اللّه به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم. فنهاهم اللّه أن يقربوه.
وقال مجاهدٌ: {تناله أيديكم} يعني: صغار الصّيد وفراخه {ورماحكم} يعني: كباره.
وقال مقاتل بن حيّان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبيّة، فكانت الوحش والطّير والصّيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قطّ فيما خلا فنهاهم اللّه عن قتله وهم محرمون.
{ليعلم اللّه من يخافه بالغيب} يعني: أنّه تعالى يبتليهم بالصّيد يغشاهم في رحالهم، يتمكّنون من أخذه بالأيدي والرّماح سرًّا وجهرًا ليظهر طاعة من يطيع منهم في سرّه وجهره، كما قال تعالى: {إنّ الّذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ} [الملك:12].
وقوله هاهنا: {فمن اعتدى بعد ذلك} قال السّدّيّ وغيره: يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتّقدّم {فله عذابٌ أليمٌ} أي: لمخالفته أمر اللّه وشرعه). [تفسير القرآن العظيم: 3/190]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرمٌ} وهذا تحريمٌ منه تعالى لقتل الصّيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه. وهذا إنّما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولّد منه ومن غيره، فأمّا غير المأكول من حيوانات البرّ، فعند الشّافعيّ يجوز للمحرم قتلها. والجمهور على تحريم قتلها أيضًا، ولا يستثنى من ذلك إلّا ما ثبت في الصّحيحين من طريق الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة أمّ المؤمنين؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الغراب والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور".
وقال مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "خمسٌ من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". أخرجاه.
ورواه أيّوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر، مثله. قال أيّوب، قلت لنافعٍ: فالحيّة؟ قال: الحية لا شك فيها، ولا يختلف في قتلها.
ومن العلماء -كمالكٍ وأحمد-من ألحق بالكلب العقور الذّئب، والسّبع، والنّمر، والفهد؛ لأنّها أشدّ ضررًا منه فاللّه أعلم. وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم: الكلب العقور يشمل هذه السّباع العادية كلّها. واستأنس من قال بهذا بما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا دعا على عتبة بن أبي لهبٍ قال: "اللّهمّ سلّط عليه كلبك بالشّام" فأكله السّبع بالزّرقاء، قالوا: فإن قتل ما عداهنّ فداها كالضّبع والثّعلب وهرّ البرّ ونحو ذلك.
قال مالكٌ: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السّباع العوادي.
وقال الشّافعيّ [رحمه اللّه] يجوز للمحرم قتل كلّ ما لا يؤكل لحمه، ولا فرق بين صغاره وكباره. وجعل العلّة الجامعة كونها لا تؤكل.
وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذّئب؛ لأنّه كلبٌ برّيٌّ، فإن قتل غيرهما فداه، إلّا أن يصول عليه سبعٌ غيرهما فيقتله فلا فداء عليه. وهذا قول الأوزاعيّ، والحسن بن صالح بن حييٍّ.
وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه.
وقال بعض النّاس: المراد بالغراب هاهنا الأبقع وهو الّذي في بطنه وظهره بياضٌ، دون الأدرع وهو الأسود، والأعصم وهو الأبيض؛ لما رواه النّسائيّ عن عمرو بن عليٍّ الفلاس، عن يحيى القطّان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "خمسٌ يقتلهنّ المحرم: الحيّة، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور".
والجمهور على أنّ المراد به أعمّ من ذلك؛ لما ثبت في الصّحيحين من إطلاق لفظه.
وقال مالكٌ، رحمه اللّه: لا يقتل المحرم الغراب إلّا إذا صال عليه وآذاه.
وقال مجاهد بن جبر وطائفةٌ: لا يقتله بل يرميه. ويروى مثله عن عليٍّ.
وقد روى هشيم: حدّثنا يزيد بن أبي زيادٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي نعم، عن أبي سعيدٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ أنّه سئل عمّا يقتل المحرم، فقال: "الحيّة، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسّبع العادي".
رواه أبو داود عن أحمد بن حنبلٍ، والتّرمذيّ عن أحمد بن منيعٍ، كلاهما عن هشيم. وابن ماجه، عن أبي كريم عن محمّد بن فضيلٍ، كلاهما عن يزيد بن أبي زيادٍ، وهو ضعيفٌ، به. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ.
وقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمّدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا ابن عليّة، عن أيّوب قال: نبّئت عن طاوسٍ قال: لا يحكم على من أصاب صيدًا خطأً، إنّما يحكم على من أصابه متعمّدًا.
وهذا مذهبٌ غريبٌ عن طاوسٍ، وهو متمسّكٌ بظاهر الآية.
وقال مجاهد بن جبيرٍ: المراد بالمتعمّد هنا القاصد إلى قتل الصّيد، النّاسي لإحرامه. فأمّا المتعمّد لقتل الصّيد مع ذكره لإحرامه، فذاك أمره أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه.
رواه ابن جريرٍ عنه من طريق ابن أبي نجيح وليث بن أبي سليمٍ وغيرهما، عنه. وهو قولٌ غريبٌ أيضًا. والّذي عليه الجمهور أنّ العامد والنّاسي سواءٌ في وجوب الجزاء عليه. قال الزّهريّ: دلّ الكتاب على العامد، وجرت السّنّة على النّاسي، ومعنى هذا أنّ القرآن دلّ على وجوب الجزاء على المتعمّد وعلى تأثيمه بقوله: {ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه} وجاءت السّنّة من أحكام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دلّ الكتاب عليه في العمد، وأيضًا فإنّ قتل الصّيد إتلافٌ، والإتلاف مضمونٌ في العمد وفي النّسيان، لكنّ المتعمّد مأثومٌ والمخطئ غير ملوم.
وقوله: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} وحكى ابن جريرٍ أنّ ابن مسعودٍ قرأها: "فجزاؤه مثل ما قتل من النّعم".
وفي قوله: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} على كلٍّ من القراءتين دليلٌ لما ذهب إليه مالكٌ، والشّافعيّ، وأحمد، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إذا كان له مثلٌ من الحيوان الإنسيّ، خلافًا لأبي حنيفة، رحمه اللّه، حيث أوجب القيمة سواءٌ كان الصّيد المقتول مثليًّا أو غير مثليٍّ، قال: وهو مخيّرٌ إن شاء تصدّق بثمنه، وإن شاء اشترى به هديًا. والّذي حكم به الصّحابة في المثل أولى بالاتّباع، فإنّهم حكموا في النّعامة ببدنةٍ، وفي بقرة الوحش ببقرةٍ، وفي الغزال بعنزٍ وذكر قضايا الصّحابة وأسانيدها مقرّرٌ في كتاب "الأحكام"، وأمّا إذا لم يكن الصّيد مثليًّا فقد حكم ابن عبّاسٍ فيه بثمنه، يحمل إلى مكّة. رواه البيهقيّ. وقوله: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم} يعني أنّه يحكم بالجزاء في المثل، أو بالقيمة في غير المثل، عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين؟ على قولين:
أحدهما: " لا؛ لأنّه قد يتّهم في حكمه على نفسه، وهذا مذهب مالكٍ.
والثّاني: نعم؛ لعموم الآية. وهو مذهب الشّافعيّ، وأحمد.
واحتجّ الأوّلون بأنّ الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورةٍ واحدةٍ.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدّثنا جعفرٌ -هو ابن برقان-عن ميمون بن مهران؛ أنّ أعرابيًّا أتى أبا بكرٍ قال: قتلت صيدًا وأنا محرمٌ، فما ترى عليّ من الجزاء؟ فقال أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، لأبيّ بن كعبٍ وهو جالسٌ عنده: ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابيّ: أتيتك وأنت خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكرٍ: وما تنكر؟ يقول اللّه تعالى: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم} فشاورت صاحبي حتّى إذا اتّفقنا على أمرٍ أمرناك به.
وهذا إسنادٌ جيّدٌ، لكنّه منقطعٌ بين ميمونٍ وبين الصّدّيق، ومثله يحتمل هاهنا. فبيّن له الصّدّيق الحكم برفقٍ وتؤدة، لمّا رآه أعرابيًّا جاهلًا وإنّما دواء الجهل التّعليم، فأمّا إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم، فقد قال ابن جريرٍ:
حدّثنا هنّاد وأبو هشامٍ الرّفاعيّ قالا حدّثنا وكيع بن الجرّاح، عن المسعوديّ، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن قبيصة بن جابرٍ قال: خرجنا حجّاجًا، فكنّا إذا صلّينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدّث، قال: فبينما نحن ذات غداةٍ إذ سنح لنا ظبيٌ -أو: برح-فرماه رجلٌ كان معنا بحجرٍ فما أخطأ خشّاءه فركب ردعه ميّتًا، قال: فعظّمنا عليه، فلمّا قدمنا مكّة خرجت معه حتّى أتينا عمر رضي اللّه عنه، قال: فقصّ عليه القصّة قال: وإلى جنبه رجلٌ كأنّ وجهه قلب فضّةٍ -يعني عبد الرّحمن بن عوفٍ-فالتفت عمر إلى صاحبه فكلّمه قال: ثمّ أقبل على الرّجل فقال: أعمدًا قتلته أم خطأً؟ قال الرّجل: لقد تعمّدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلّا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاةٍ فاذبحها وتصدّق بلحمها واستبق إهابها. قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيّها الرّجل، عظّم شعائر اللّه، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتّى سأل صاحبه: اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم} قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلّا ومعه الدّرّة. قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدّرّة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفّهت الحكم؟ قال: ثمّ أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحلّ لك اليوم شيئًا يحرم عليك منّي، قال: يا قبيصة بن جابرٍ، إنّي أراك شابّ السّنّ، فسيح الصّدر، بيّن اللّسان، وإنّ الشّابّ يكون فيه تسعة أخلاقٍ حسنةٍ وخلقٌ سيّئٌ، فيفسد الخلق السّيّئ الأخلاق الحسنة، فإيّاك وعثرات الشّباب.
وقد روى هشيم هذه القصّة، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن قبيصة، بنحوه. ورواها أيضًا عن حصين، عن الشّعبيّ، عن قبيصة، بنحوه. وذكرها مرسلة عن عمر: بن بكر بن عبد اللّه المزنيّ، ومحمّد بن سيرين.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّار، حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا شعبة، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، أخبرني أبو جريرٍ البجليّ قال: أصبت ظبيًا وأنا محرمٌ، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرّحمن وسعدًا، فحكما عليّ بتيس أعفر.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيع، حدّثنا ابن عيينة، عن مخارق، عن طارقٍ قال: أوطأ أربد ظبيًا فقتلته وهو محرمٌ فأتى عمر؛ ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جديًا، قد جمع الماء والشّجر. ثمّ قال عمر: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم}
وفي هذا دلالةٌ على جواز كون القاتل أحد الحكمين، كما قاله الشّافعيّ وأحمد، رحمهما اللّه.
واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كلّ ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدلٍ، وإن كان قد حكم من قبله الصّحابة، أو يكتفي بأحكام الصّحابة المتقدّمة؟ على قولين، فقال الشّافعيّ وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصّحابة وجعلاه شرعًا مقرّرًا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصّحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالكٌ وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كلّ فردٍ فردٍ، سواءٌ وجد للصّحابة في مثله حكمٌ أم لا؛ لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم}
وقوله تعالى: {هديًا بالغ الكعبة} أي: واصلًا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم، بأن يذبح هناك، ويفرّق لحمه على مساكين الحرم. وهذا أمرٌ متّفقٌ عليه في هذه الصّورة.
وقوله: {أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} أي: إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصّيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتّخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصّيام، كما هو قول مالكٍ، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمّد بن الحسن، وأحد قولي الشّافعيّ، والمشهور عن أحمد رحمهم اللّه، لظاهر الآية "أو" فإنّها للتّخيير. والقول الآخر: أنّها على التّرتيب.
فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوّم الصّيد المقتول عند مالكٍ، وأبي حنيفة وأصحابه، وحمّادٍ، وإبراهيم. وقال الشّافعيّ: يقوّم مثله من النّعم لو كان موجودًا، ثمّ يشترى به طعامٌ ويتصدّق به، فيصرف لكلّ مسكينٍ مدٌ منه عند الشّافعيّ، ومالكٍ، وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جريرٍ.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كلّ مسكين مدّين، وهو قول مجاهدٍ.
وقال أحمد: مدّ من حنطةٍ، أو مدّان من غيره. فإن لم يجد، أو قلنا بالتّخيير صام عن إطعام كلّ مسكينٍ يومًا.
وقال ابن جريرٍ: وقال آخرون: يصوم مكان كلّ صاعٍ يومًا. كما في جزاء المترفّه بالحلق ونحوه، فإنّ الشّارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقًا بين ستّةٍ، أو يصوم ثلاثة أيّامٍ، والفرق ثلاثة آصعٍ.
واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشّافعيّ: محلّه الحرم، وهو قول عطاءٍ. وقال مالكٌ: يطعم في المكان الّذي أصاب فيه الصّيد، أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.
ذكر أقوال السّلف في هذا المقام:
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن المغيرة، حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النّعم، فإن وجد جزاءه، ذبحه فتصدّق به. وإن لم يجد نظر كم ثمنه، ثمّ قوّم ثمنه طعامًا، فصام مكان كلّ نصف صاعٍ يومًا، قال: {أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} قال: إنّما أريد بالطّعام الصّيام، أنّه إذ وجد الطّعام وجد جزاؤه.
ورواه ابن جريرٍ، من طريق جريرٍ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {هديًا بالغ الكعبة أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} إذا قتل المحرم شيئًا من الصّيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاةٌ تذبح بمكّة. فإن لم يجد فإطعام ستّة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ. فإن قتل إبلا أو نحوه، فعليه بقرةٌ. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد صام عشرين يومًا. وإنّ قتل نعامةً أو حمار وحشٍ أو نحوه، فعليه بدنةٌ من الإبل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا.
رواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ، وزاد: والطّعام مدٌّ مدّ تشبعهم.
وقال جابرٌ الجعفي، عن عامرٍ الشّعبيّ وعطاءٍ ومجاهدٍ: {أو عدل ذلك صيامًا} قالوا: إنّما الطّعام لمن لا يبلغ الهدي. رواه ابن جريرٍ.
وكذا روى ابن جريج عن مجاهدٍ، وأسباطٍ عن السّدّي أنّها على التّرتيب.
وقال عطاءٌ، وعكرمة، ومجاهدٌ -في رواية الضّحّاك-وإبراهيم النّخعي: هي على الخيار. وهو رواية اللّيث، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ. واختار ذلك ابن جريرٍ، رحمه اللّه تعالى.
وقوله: {ليذوق وبال أمره} أي: أوجبنا عليه الكفّارة ليذوق عقوبة فعله الّذي ارتكب فيه المخالفة {عفا اللّه عمّا سلف} أي: في زمان الجاهليّة، لمن أحسن في الإسلام واتّبع شرع اللّه، ولم يرتكب المعصية.
ثمّ قال: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشّرعيّ إليه فينتقم اللّه منه واللّه عزيزٌ ذو انتقامٍ
قال ابن جريج، قلت لعطاءٍ: ما {عفا اللّه عمّا سلف} قال: عمّا كان في الجاهليّة. قال: قلت: وما {ومن عاد فينتقم اللّه منه}؟ قال: ومن عاد في الإسلام، فينتقم اللّه منه، وعليه مع ذلك الكفّارة قال: قلت: فهل في العود حدّ تعلمه؟ قال: لا. قال: قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا هو ذنبٌ أذنبه فيما بينه وبين اللّه، عزّ وجلّ، ولكن يفتدي. رواه ابن جريرٍ.
وقيل معناه: فينتقم اللّه منه بالكفّارة. قاله سعيد بن جبيرٍ، وعطاءٌ.
ثمّ الجمهور من السّلف والخلف، على أنّه متى قتل المحرم الصّيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثّانية وإن تكرّر ما تكرّر، سواءٌ الخطأ في ذلك والعمد.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قال: من قتل شيئًا من الصّيد خطأً، وهو محرمٌ، يحكم عليه فيه كلّما قتله، وإن قتله عمدًا يحكم عليه فيه مرّةً واحدةً، فإن عاد يقال له: ينتقم اللّه منك كما قال اللّه، عزّ وجلّ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ وابن أبي عديٍّ جميعًا، عن هشامٍ -هو ابن حسّانٍ-عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه ثمّ عاد، قال: لا يحكم عليه، ينتقم اللّه منه.
وهكذا قال شريح، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن البصريّ، وإبراهيم النّخعي. رواهنّ ابن جريرٍ، ثمّ اختار القول الأوّل.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا العبّاس بن يزيد العبديّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن زيدٍ أبي المعلّى، عن الحسن البصريّ؛ أنّ رجلًا أصاب صيدًا، فتجوّز عنه، ثمّ عاد فأصاب صيدًا آخر، فنزلت نارٌ من السّماء فأحرقته فهو قوله: {ومن عاد فينتقم اللّه منه}
وقال ابن جريرٍ في قوله: {واللّه عزيزٌ ذو انتقامٍ} يقول عزّ ذكره: واللّه منيعٌ في سلطانه لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممّن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانعٌ؛ لأنّ الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزّة والمنعة.
وقوله: {ذو انتقامٍ} يعني: أنّه ذو معاقبةٍ لمن عصاه على معصيته إياه). [تفسير القرآن العظيم: 3/190-196]

تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا واتّقوا اللّه الّذي إليه تحشرون (96) جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قيامًا للنّاس والشّهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أنّ اللّه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض وأنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (97) اعلموا أنّ اللّه شديد العقاب وأنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (98) ما على الرّسول إلا البلاغ واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون (99)}
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ -في روايةٍ عنه-وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبيرٍ، وغيرهم في قوله: {أحلّ لكم صيد البحر} يعني: ما يصطاد منه طريًّا {وطعامه} ما يتزوّد منه مليحًا يابسًا.
وقال ابن عبّاسٍ في الرّواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حيًّا {وطعامه} ما لفظه ميّتًا.
وهكذا روي عن أبي بكرٍ الصّدّيق وزيد بن ثابتٍ، وعبد اللّه بن عمرٍو، وأبي أيّوب الأنصاريّ، رضي اللّه عنهم. وعكرمة، وأبي سلمة بن عبد الرّحمن، وإبراهيم النخعي، والحسن البصريّ.
قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن أبي بكرٍ الصّدّيق أنّه قال: {وطعامه} كلّ ما فيه. رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن سماك قال: حدّثت عن ابن عبّاسٍ قال: خطب أبو بكرٍ النّاس فقال: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم} وطعامه ما قذف.
قال: وحدّثنا يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن سليمان التّيميّ، عن أبي مجلز، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه} قال {وطعامه} ما قذف.
وقال عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: {وطعامه} ما لفظ من ميتةٍ. ورواه ابن جريرٍ أيضًا.
وقال سعيد بن المسيّب: طعامه ما لفظه حيًّا، أو حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّار، حدّثنا عبد الوهّاب، حدّثنا أيّوب، عن نافعٍ؛ أنّ عبد الرّحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: إنّ البحر قد قذف حيتانًا كثيرًا ميتًا أفنأكله؟ فقال: لا تأكلوه. فلمّا رجع عبد اللّه إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتى هذه الآية {وطعامه متاعًا لكم وللسّيّارة} فقال: اذهب فقل له فليأكله، فإنّه طعامه.
وهكذا اختار ابن جريرٍ أنّ المراد بطعامه ما مات فيه، قال: وقد روي في ذلك خبرٌ، وإنّ بعضهم يرويه موقوفًا.
حدّثنا هنّاد بن السّرّي قال: حدّثنا عبدة بن سليمان، عن محمّد بن عمرٍو، حدّثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم} قال: طعامه ما لفظه ميّتًا".
ثمّ قال: وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة: حدّثنا هنّادٌ، حدّثنا ابن أبي زائدة، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه} قال: طعامه: ما لفظه ميّتًا.
وقوله: {متاعًا لكم وللسّيّارة} أي: منفعةً وقوتًا لكم أيّها المخاطبون {وللسّيّارة} وهو جمع سيّار. قال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر وللسّيّارة: السفر.
وقال غيره: الطّريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، و {طعامه} ما مات فيه أو اصطيد منه وملّح وقدّد زادًا للمسافرين والنّائين عن البحر.
وقد روي نحوه عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، والسّدّي وغيرهم. وقد استدلّ جمهور العلماء على حلّ ميتة البحر بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن أنسٍ، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد اللّه قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعثًا قبل السّاحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح، وهم ثلاثمائةٍ، قال: وأنا فيهم. قال: فخرجنا، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق فني الزّاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كلّه، فكان مزودي تمرٍ، قال: فكان يقوّتنا كلّ يومٍ قليلًا قليلًا حتّى فني، فلم يكن يصيبنا إلّا تمرةً تمرةً. فقلت: وما تغني تمرةٌ؟ فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثمّ انتهينا إلى البحر، فإذا حوتٌ مثل الظّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً. ثمّ أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثمّ أمر براحلةٍ فرحلت، ومرّت تحتهما فلم تصبهما.
وهذا الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين وله طرقٌ عن جابرٍ.
وفي صحيح مسلمٍ من رواية أبي الزّبير، عن جابرٍ: فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضّخم، فأتيناه فإذا بدابّةٍ يقال لها: العنبر قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثمّ قال: لا نحن رسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي سبيل اللّه، وقد اضطررتم فكلوا قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائةٍ حتّى سمنّا. ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدّهن، ونقتطع منه الفدر كالثّور، أو: كقدر الثّور، قال: ولقد أخذ منّا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثمّ رحل أعظم بعيرٍ معنا فمرّ من تحتها، وتزوّدنا من لحمه وشائق. فلمّا قدمنا المدينة أتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزقٌ أخرجه اللّه لكم، هل معكم من لحمه شيءٌ فتطعمونا؟ " قال: فأرسلنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منه فأكله. وفي بعض روايات مسلمٍ: أنّهم كانوا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حين وجدوا هذه السّمكة. فقال بعضهم: هي واقعةٌ أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضيّةٌ واحدةٌ، ولكن كانوا أوّلًا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ بعثهم سريّةً مع أبي عبيدة، فوجدوا هذه في سريّتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم.
وقال مالكٌ، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة -من آل ابن الأزرق: أنّ المغيرة بن أبي بردة-وهو من بني عبد الدّار-أخبره، أنّه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجلٌ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، إنّا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا، أفنتوضّأ بماء البحر؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته".
وقد روى هذا الحديث الإمامان الشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وأهل السّنن الأربعة، وصحّحه البخاريّ، والتّرمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، وغيرهم. وقد روي عن جماعةٍ من الصّحابة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بنحوه.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه، من طرقٍ، عن حمّاد بن سلمة: حدّثنا أبو المهزّم -هو يزيد بن سفيان-سمعت أبا هريرة يقول: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجٍّ -أو عمرةٍ-فاستقبلنا رجل جراد، فجعلنا نضربهنّ بعصيّنا وسياطنا فنقتلهنّ، فأسقط في أيدينا، فقلنا: ما نصنع ونحن محرمون؟ فسألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "لا بأس بصيد البحر"
أبو المهزّم ضعيفٌ، واللّه أعلم.
وقال ابن ماجه: حدّثنا هارون بن عبد اللّه الحمّال، حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا زياد بن عبد اللّه عن علاثة، عن موسى بن محمّد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جابرٍ وأنس بن مالكٍ، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا دعا على الجراد قال: "اللّهمّ أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنّك سميع الدّعاء". فقال خالدٌ: يا رسول اللّه، كيف تدعو على جندٍ من أجناد اللّه بقطع دابره؟ فقال: "إنّ الجراد نثرة الحوت في البحر". قال هاشمٌ: قال زيادٌ: فحدّثني من رأى الحوت ينثره. تفرّد به ابن ماجه.
وقد روى الشّافعيّ، عن سعيدٍ، عن ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم.
وقد احتجّ بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنّه تؤكل دوابّ البحر، ولم يستثن من ذلك شيئًا. وقد تقدّم عن الصّدّيق أنّه قال: {طعامه} كلّ ما فيه.
وقد استثنى بعضهم الضّفادع وأباح ما سواها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنّسائيّ من رواية ابن أبي ذئبٍ، عن سعيد بن خالدٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن عبد الرّحمن بن عثمان التّيميّ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم "نهى عن قتل الضفدع".
وللنّسائيّ عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قتل الضّفدع، وقال: نقيقها تسبيحٌ.
وقال آخرون: يؤكل من صيد البحر السّمك، ولا يؤكل الضّفدع. واختلفوا فيما سواهما، فقيل: يؤكل سائر ذلك، وقيل: لا يؤكل. وقيل: ما أكل شبهه من البرّ أكل مثله في البحر، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلّها وجوهٌ في مذهب الشّافعيّ، رحمه اللّه.
قال أبو حنيفة، رحمه اللّه: لا يؤكل ما مات في البحر، كما لا يؤكل ما مات في البرّ؛ لعموم قوله: {حرّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
وقد ورد حديثٌ بنحو ذلك، فقال ابن مردويه:
حدّثنا عبد الباقي -هو ابن قانعٍ-حدّثنا الحسين بن إسحاق التّستريّ وعبد اللّه بن موسى بن أبي عثمان قالا حدّثنا الحسين بن زيدٍ الطّحّان، حدّثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئبٍ، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما صدتموه وهو حيٌّ فمات فكلوه، وما ألقى البحر ميّتًا طافيًا فلا تأكلوه".
ثمّ رواه من طريق إسماعيل بن أميّة، ويحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزّبير عن جابرٍ به. وهو منكرٌ.
وقد احتجّ الجمهور من أصحاب مالكٍ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، بحديث "العنبر" المتقدّم ذكره، وبحديث: "هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته"، وقد تقدّم أيضًا.
وروى الإمام أبو عبد اللّه الشّافعيّ، عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدّمان فالكبد والطّحال".
ورواه أحمد وابن ماجه، والدّارقطنيّ والبيهقيّ. وله شواهد، وروي موقوفًا، واللّه أعلم.
وقوله: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا} أي: في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد. ففيه دلالةٌ على تحريمٍ ذلك فإذا اصطاد المحرم الصّيد متعمّدًا أثم وغرم، أو مخطئًا غرّم وحرم عليه أكله؛ لأنّه في حقّه كالميتة، وكذا في حقّ غيره من المحرمين والمحلّين عند مالكٍ والشّافعيّ -في أحد قوليه-وبه يقول عطاءٌ، والقاسم، وسالمٌ، وأبو يوسف، ومحمّد بن الحسن، وغيرهم. فإن أكله أو شيئًا منه، فهل يلزمه جزاءٌ؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما: نعم، قال عبد الرّزّاق، عن ابن جريج، عن عطاءٍ، قال: إن ذبحه ثمّ أكله فكفّارتان، وإليه ذهب طائفةٌ.
والثّاني: لا جزاء عليه بأكله. نصّ عليه مالك بن أنسٍ.
قال أبو عمر بن عبد البرّ: وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار، وجمهور العلماء. ثمّ وجّهه أبو عمر بما لو وطئ ثمّ وطئ ثمّ وطئ قبل أن يحدّ، فإنّما عليه حدٌّ واحدٌ.
وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل.
وقال أبو ثورٍ: إذا قتل المحرم الصّيد فعليه جزاؤه، وحلالٌ أكل ذلك الصّيد، إلّا أنّني أكرهه للّذي قتله، للخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "صيد البرّ لكم حلالٌ، ما لم تصيدوه
أو يصد لكم".
وهذا الحديث سيأتي بيانه. وقوله بإباحته للقاتل غريبٌ، وأمّا لغيره ففيه خلافٌ. قد ذكرنا المنع عمّن تقدّم. وقال آخرون. بإباحته لغير القاتل، سواءٌ المحرمون والمحلّون؛ لهذا الحديث. واللّه أعلم.
وأمّا إذا صاد حلال صيدًا فأهداه إلى محرمٍ، فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقًا، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا. حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البرّ، عن عمر بن الخطّاب، وأبي هريرة، والزّبير بن العوّام، وكعب الأحبار، ومجاهدٍ وعطاءٍ -في روايةٍ-وسعيد بن جبيرٍ. قال: وبه قال الكوفيّون.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن بزيع، حدّثنا بشر بن المفضّل، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، أنّ سعيد بن المسيّب حدّثه، عن أبي هريرة؛ أنّه سئل عن لحم صيدٍ صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاهم بأكله. ثمّ لقي عمر بن الخطّاب فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك.
وقال آخرون: لا يجوز أكل الصّيد للمحرم بالكلّيّة، ومنعوا من ذلك مطلقًا؛ لعموم هذه الآية الكريمة.
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن ابن طاوسٍ وعبد الكريم بن أبي أميّة، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّه كره أكل لحم الصّيد للمحرم. وقال: هي مبهمةٌ. يعني قوله: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا}.
قال: وأخبرني معمرٌ، عن الزّهريّ، عن ابن عمر؛ أنّه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصّيد على كل حال.
قال معمرٌ: وأخبرني أيّوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر، مثله.
قال ابن عبد البرّ: وبه قال طاوسٌ، وجابر بن زيدٍ، وإليه ذهب الثوري، وإسحاق بن راهويه -في روايةٍ-وقد روي نحوه عن عليّ بن أبي طالبٍ، رواه ابن جريرٍ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب: أنّ عليًّا كره لحم الصّيد للمحرم على كلّ حالٍ.
وقال مالكٌ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه -في روايةٍ-والجمهور: إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصّيد، لم يجز للمحرم أكله؛ لحديث الصّعب بن جثّامة: أنّه أهدى للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء -أو: بودّان-فردّه عليه، فلمّا رأى ما في وجهه قال: "إنّا لم نردّه عليك إلّا أنّا حرم".
وهذا الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين، وله ألفاظٌ كثيرةٌ قالوا: فوجهه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ظنّ أنّ هذا إنّما صاده من أجله، فردّه لذلك. فأمّا إذا لم يقصده بالاصطياد فإنّه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش، كان حلالًا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقّفوا في أكله. ثمّ سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "هل كان منكم أحدٌ أشار إليها، أو أعان في قتلها؟ " قالوا: لا. قال: "فكلوا". وأكل منها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهذه القصّة ثابتةٌ أيضًا في الصّحيحين بألفاظٍ كثيرةٍ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سعيد بن منصورٍ وقتيبة بن سعيدٍ قالا حدّثنا يعقوب بن عبد الرّحمن، عن عمرو بن أبي عمرٍو، عن المطّلب بن عبد اللّه بن حنطب، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -وقال قتيبة في حديثه: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم-يقول: "صيد البرّ لكم حلالٌ -قال سعيدٌ: وأنتم حرمٌ-ما لم تصيدوه أو يصد لكم".
وكذا رواه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ جميعًا، عن قتيبة. وقال التّرمذيّ: لا نعرف للمطّلب سماعًا من جابرٍ.
ورواه الإمام محمّد بن إدريس الشّافعيّ، من طريق عمرو بن أبي عمرٍو، عن مولاه المطّلب، عن جابرٍ ثمّ قال: وهذا أحسن حديثٍ روي في هذا الباب وأقيس.
وقال مالكٌ، عن عبد اللّه بن أبي بكرٍ، عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفّان بالعرج، وهو محرمٌ في يومٍ صائفٍ، قد غطّى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أولا تأكل أنت؟ فقال: إنّي لست كهيئتكم، إنّما صيد من أجلي). [تفسير القرآن العظيم: 3/196-203]

رد مع اقتباس