عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 06:56 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون (151)}
قال داود الأودي، عن الشّعبيّ، عن علقمة، عن ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: من أراد أن يقرأ صحيفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّتي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا} إلى قوله: {لعلّكم تتّقون}
وقال الحاكم في مستدركه: حدّثنا بكر بن محمّدٍ الصّيرفيّ بمروٍ، حدّثنا عبد الصّمد بن الفضل، حدّثنا مالك بن إسماعيل النّهدي، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد اللّه بن خليفة قال: سمعت ابن عبّاسٍ يقول: في الأنعام آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب، ثمّ قرأ: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا}.
ثمّ قال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
قلت: ورواه زهير وقيس بن الرّبيع كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد اللّه بن قيسٍ، عن ابن عبّاسٍ، به. واللّه أعلم.
وروى الحاكم أيضًا في مستدركه من حديث يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصّامت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّكم يبايعني على ثلاثٍ؟ » -ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم} حتّى فرغ من الآيات -فمن وفّى فأجره على اللّه، ومن انتقص منهنّ شيئًا فأدركه اللّه به في الدّنيا كانت عقوبته ومن أخّر إلى الآخرة فأمره إلى اللّه، إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه".
ثمّ قال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه. وإنّما اتّفقا على حديث الزّهريّ، عن أبي إدريس، عن عبادة: "بايعوني على ألّا تشركوا باللّه شيئًا" الحديث. وقد روى سفيان بن حسين كلا الحديثين، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما، واللّه أعلم.
وأمّا تفسيرها فيقول تعالى لنبيّه ورسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {قل يا محمّد} -لهؤلاء المشركين الّذين أشركوا و عبدوا غير اللّه، وحرّموا ما رزقهم اللّه، وقتلوا أولادهم وكلّ ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشّياطين لهم، {قل} لهم {تعالوا} أي: هلمّوا وأقبلوا: {أتل ما حرّم ربّكم عليكم} أي: أقصّ عليكم وأخبركم بما حرّم ربّكم عليكم حقًّا لا تخرّصًا، ولا ظنًّا، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده: {ألا تشركوا به شيئًا} وكأنّ في الكلام محذوفًا دلّ عليه السّياق، وتقديره: وأوصاكم {ألا تشركوا به شيئًا}؛ ولهذا قال في آخر الآية: {ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون} وكما قال الشّاعر:
حجّ وأوصى بسليمى الأعبدا....... أن لا ترى ولا تكلّم أحدا

ولا يزل شرابها مبرّدا.
وتقول العرب: أمرتك ألّا تقوم.
وفي الصّحيحين من حديث أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتاني جبريل فبشّرني أنّه من مات لا يشرك باللّه شيئًا من أمّتك، دخل الجنّة. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر»: وفي بعض الرّوايات أنّ القائل ذلك إنّما هو أبو ذرٍّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنّه، عليه السّلام، قال في الثّالثة: «وإن رغم أنف أبي ذرٍّ» فكان أبو ذرٍّ يقول بعد تمام الحديث: وإن رغم أنف أبي ذرٍّ.
وفي بعض المسانيد والسّنن عن أبي ذرٍّ [رضي اللّه عنه] قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يقول اللّه تعالى: يا ابن آدم، إنّك ما دعوتني ورجوتني فإنّي أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئةً أتيتك بقرابها مغفرةً ما لم تشرك بي شيئًا، وإن أخطأت حتّى تبلغ خطاياك عنان السّماء ثمّ استغفرتني، غفرت لك».
ولهذا شاهدٌ في القرآن، قال اللّه تعالى: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النّساء: 48، 116].
وفي صحيح مسلمٍ عن ابن مسعودٍ: "من مات لا يشرك باللّه شيئًا، دخل الجنّة" والآيات والأحاديث في هذا كثيرةٌ جدًّا.
وروى ابن مردويه من حديث عبادة وأبي الدّرداء: "لا تشركوا باللّه شيئًا، وإن قطّعتم أو صلّبتم أو حرّقتم".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عوف الحمصي، حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا نافع بن يزيد حدّثني سيّار بن عبد الرّحمن، عن يزيد بن قوذر، عن سلمة بن شريح، عن عبادة بن الصّامت قال: أوصانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بسبع خصالٍ: «ألّا تشركوا باللّه شيئًا، وإن حرّقتم وقطّعتم وصلّبتم».
وقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} أي: وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانًا، أي: أن تحسنوا إليهم، كما قال تعالى: {وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء:23].
وقرأ بعضهم: "ووصّى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحسانًا".
واللّه تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبرّ الوالدين، كما قال: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفًا واتّبع سبيل من أناب إليّ ثمّ إليّ مرجعكم فأنبّئكم بما كنتم تعملون} [لقمان:14، 15]. فأمر بالإحسان إليهما، وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللّه وبالوالدين إحسانًا} الآية. [البقرة:83]. والآيات في هذا كثيرةٌ. وفي الصّحيحين عن ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أيّ العمل أحبّ إلى اللّه؟ قال: «الصّلاة على وقتها». قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: «برّ الوالدين». قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: «الجهاد في سبيل اللّه». قال ابن مسعودٍ: حدّثني بهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولو استزدته لزادني.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي الدّرداء، وعن عبادة بن الصّامت، كلٌّ منهما يقول: أوصاني خليلي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدّنيا، فافعل».
ولكن في إسناديهما ضعفٌ، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإيّاهم} لمّا أوصى تعالى ببرّ الآباء والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ} وذلك أنّهم كانوا يقتلون أولادهم كما سوّلت لهم الشّياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربّما قتلوا بعض الذّكور خيفة الافتقار؛ ولهذا جاء في الصّحيحين، من حديث عبد اللّه ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قلت: يا رسول اللّه، أيّ الذّنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك". ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ ولا يزنون [ومن يفعل ذلك يلق أثامًا]} [الفرقان:68].
وقوله: {من إملاقٍ} قال ابن عبّاسٍ، وقتادة، والسّدّي: هو الفقر، أي: ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة "سبحان": {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ} [الإسراء:31]، أي: خشية حصول فقرٍ، في الآجل؛ ولهذا قال هناك: {نحن نرزقهم وإيّاكم} فبدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي: لا تخافوا من فقركم بسببهم، فرزقهم على اللّه. وأمّا في هذه الآية فلمّا كان الفقر حاصلًا قال: {نحن نرزقكم وإيّاهم}؛ لأنّه الأهمّ هاهنا، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} كقوله تعالى: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون} [الأعراف:33]. وقد تقدّم تفسيرها في قوله: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} [الأنعام:12].
وفي الصّحيحين، عن ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن».
وقال عبد الملك بن عمير، عن ورّاد، عن مولاه المغيّرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت مع امرأتي رجلًا لضربته بالسّيف غير مصفح. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "أتعجبون من غيرة سعدٍ! فواللّه لأنا أغير من سعدٍ، واللّه أغير منّي، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن". أخرجاه.
وقال كاملٌ أبو العلاء، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللّه، إنّا. نغار. قال: «واللّه إنّي لأغار، واللّه أغير منّي، ومن غيرته نهى عن الفواحش».
رواه ابن مردويه، ولم يخرّجه أحدٌ من أصحاب الكتب السّتّة، وهو على شرط التّرمذيّ، فقد روي بهذا السّند: "أعمار أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين".
وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ} وهذا ممّا نصّ تبارك وتعالى على النّهي عنه تأكيدًا، وإلّا فهو داخلٌ في النّهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقد جاء في الصّحيحين، عن ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّي رسول اللّه إلّا بإحدى ثلاثٍ: الثّيّب الزّاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
وفي لفظٍ لمسلمٍ والّذي لا إله غيره لا يحلّ دم رجلٍ مسلمٍ = " وذكره، قال الأعمش: فحدّثت به إبراهيم، فحدّثني عن الأسود، عن عائشة [رضي اللّه عنها]، بمثله.
وروى أبو داود، والنّسائيّ، عن عائشة، رضي اللّه عنها؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلّا بإحدى ثلاث خصالٍ: زانٍ محصن يرجم، ورجلٍ قتل رجلا متعمّدا فيقتل، ورجلٍ يخرج من الإسلام حارب اللّه ورسوله، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض». وهذا لفظ النّسائيّ.
وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه، أنّه قال وهو محصورٌ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلّا بإحدى ثلاثٍ: رجلٍ كفر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفسٍ». فواللّه ما زنيت في جاهليّةٍ ولا إسلامٍ، ولا تمنّيت أنّ لي بديني بدلًا منه بعد إذ هداني اللّه، ولا قتلت نفسًا، فبم تقتلونني. رواه الإمام أحمد، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ.
وقد جاء النّهي والزّجر والوعيد في قتل المعاهد -وهو المستأمن من أهل الحرب -كما رواه البخاريّ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، رضي اللّه عنهما، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا».
وعن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من قتل معاهدًا له ذمّة اللّه وذمّة رسوله، فقد أخفر بذمّة اللّه، فلا يرح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا».
رواه ابن ماجه، والتّرمذيّ وقال: حسنٌ صحيحٌ.
وقوله: {ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون} أي: هذا ما وصّاكم به لعلّكم تعقلون عنه أمره ونهيه). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 359-363]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفسًا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد اللّه أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذكّرون (152)}
قال عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا أنزل اللّه: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن} و {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} الآية [النّساء:10]، فانطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشّيء فيحبس له حتى يأكله ويفسد. فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه [عزّ وجلّ]: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة:220]، قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. رواه أبو داود.
وقوله: {حتّى يبلغ أشدّه} قال الشّعبيّ، ومالكٌ، وغير واحدٍ من السّلف: يعني: حتّى يحتلم.
وقال السّدّي: حتّى يبلغ ثلاثين سنةً، وقيل: أربعون سنةً، وقيل: ستّون سنةً. قال: وهذا كلّه بعيدٌ هاهنا، واللّه أعلم.
وقوله: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعّد على تركه في قوله تعالى: {ويلٌ للمطفّفين * الّذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظنّ أولئك أنّهم مبعوثون * ليومٍ عظيمٍ * يوم يقوم النّاس لربّ العالمين} [المطفّفين:1 -6]. وقد أهلك اللّه أمّةً من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى التّرمذيّ، من حديث الحسين بن قيسٍ أبي عليٍّ الرّحبي، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحاب الكيل والميزان: «إنّكم ولّيتم أمرًا هلكت فيه الأمم السّالفة قبلكم». ثمّ قال: لا نعرفه مرفوعًا إلّا من حديث الحسين، وهو ضعيفٌ في الحديث، وقد روي بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبّاسٍ موقوفًا.
قلت: وقد رواه ابن مردويه في تفسيره، من حديث شريك، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّكم معشر الموالي قد بشّركم اللّه بخصلتين بها هلكت القرون المتقدّمة: المكيال والميزان».
وقوله تعالى: {لا نكلّف نفسًا إلا وسعها}، أي: من اجتهد في أداء الحقّ وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقد روى ابن مردويه من حديث بقيّة، عن مبشر بن عبيدٍ، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، عن سعيد بن المسيّب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفسًا إلا وسعها} فقال: «من أوفى على يده في الكيل والميزان، واللّه يعلم صحّة نيّته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ». وذلك تأويل: {وسعها} هذا مرسل غريب.
وقوله: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} كما قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه [ولو على أنفسكم]} [المائدة:8]، وكذا الّتي تشبهها في سورة النّساء [الآية:135]، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، واللّه تعالى يأمر بالعدل لكلّ أحدٍ، في كلّ وقتٍ، وفي كلّ حالٍ.
وقوله: {وبعهد اللّه أوفوا} قال ابن جريرٍ: يقول وبوصيّة اللّه الّتي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم، وتعملوا بكتابه وسنّة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد اللّه.
{ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذكّرون} يقول تعالى: هذا وصّاكم به، وأمركم به، وأكّد عليكم فيه {لعلّكم تذكّرون} أي: تتّعظون وتنتهون عمّا كنتم فيه قبل هذا، وقرأ بعضهم بتشديد "الذّال"، وآخرون بتخفيفها). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 363-365]

تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون (153)}
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله}، وقوله: {أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه} [الشّورى:13]، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر اللّه المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنّه إنّما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين اللّه ونحو هذا. قاله مجاهدٌ، وغير واحدٍ.
وقال الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا الأسود بن عامرٍ: شاذان، حدّثنا أبو بكرٍ -هو ابن عيّاشٍ -عن عاصمٍ -هو ابن أبي النّجود -عن أبي وائلٍ، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه -قال: خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطًّا بيده، ثمّ قال: «هذا سبيل اللّه مستقيمًا». وخطّ على يمينه وشماله، ثمّ قال: «هذه السّبل ليس منها سبيلٌ إلّا عليه شيطانٌ يدعو إليه». ثمّ قرأ: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله}
وكذا رواه الحاكم، عن الأصمّ، عن أحمد بن عبد الجبّار، عن أبي بكر بن عيّاشٍ، به. وقال: صحيح [الإسناد] ولم يخرّجاه.
وهكذا رواه أبو جعفرٍ الرّازيّ، وورقاء وعمرو بن أبي قيسٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ شقيق ابن سلمة، عن ابن مسعودٍ به مرفوعًا نحوه.
وكذا رواه يزيد بن هارون ومسدّد والنّسائيّ، عن يحيى بن حبيب بن عربيٍّ -وابن حبّان، من حديث ابن وهب -أربعتهم عن حمّاد بن زيدٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، عن ابن مسعودٍ، به.
وكذا رواه ابن جريرٍ، عن المثنّى، عن الحمّاني، عن حمّاد بن زيدٍ، به.
ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حربٍ، عن حمّاد بن زيدٍ، به كذلك. وقال: صحيحٌ ولم يخرّجاه.
وقد روى هذا الحديث النّسائيّ والحاكم، من حديث أحمد بن عبد اللّه بن يونس، عن أبي بكر ابن عيّاشٍ، عن عاصمٍ، عن زرٍّ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ. به مرفوعًا.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث يحيى الحمّانيّ، عن أبي بكر بن عيّاشٍ، عن عاصمٍ، عن زرٍّ، به.
فقد صحّحه الحاكم كما رأيت من الطّريقين، ولعلّ هذا الحديث عند عاصم بن أبي النّجود، عن زرٍّ، وعن أبي وائلٍ شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعودٍ، به، واللّه أعلم.
قال الحاكم: وشاهد هذا الحديث حديث الشّعبيّ عن جابرٍ، من وجهٍ غير معتمدٍ.
يشير إلى الحديث الّذي قال الإمام أحمد، وعبد بن حميدٍ جميعًا -واللّفظ لأحمد: حدّثنا عبد الله بن محمد -وهو أبو بكر بن أبي شيبة -أنبأنا أبو خالدٍ الأحمر، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، عن جابرٍ قال: كنّا جلوسًا عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فخطّ خطًّا هكذا أمامه، فقال: «هذا سبيل اللّه». وخطّين عن يمينه، وخطّين عن شماله، وقال: «هذه سبيل الشّيطان». ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط، ثمّ تلا هذه الآية: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون}
ورواه ابن ماجه في كتاب السّنة من سننه، والبزّار عن أبي سعيد بن عبد اللّه بن سعيدٍ، عن أبي خالدٍ الأحمر، به.
قلت: ورواه الحافظ ابن مردويه من طريقين، عن أبي سعيدٍ الكنديّ، حدّثنا أبو خالدٍ، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، عن جابرٍ قال: خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطًّا، وخطّ عن يمينه خطًّا، وخطّ عن يساره خطًّا، ووضع يده على الخطّ الأوسط وتلا هذه الآية: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه}.
ولكنّ العمدة على حديث ابن مسعودٍ، مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثّرًا، وقد روي موقوفًا عليه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمر، عن أبان؛ أنّ رجلًا قال لابن مسعودٍ: ما الصّراط المستقيم؟ قال: تركنا محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم في أدناه، وطرفه في الجنّة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثمّ رجالٌ يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النّار، ومن أخذ على الصّراط انتهى به إلى الجنّة. ثمّ قرأ ابن مسعودٍ: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ... الآية}.
وقال ابن مردويه: حدّثنا أبو عمرٍو، حدّثنا محمّد بن عبد الوهّاب، حدّثنا آدم، حدثنا إسماعيل ابن عيّاش، حدّثنا أبان بن عيّاشٍ، عن مسلم بن أبي عمران، عن عبد اللّه بن عمر: سأل عبد اللّه عن الصّراط المستقيم، فقال [له] ابن مسعودٍ: تركنا محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم في أدناه، وطرفه في الجنّة، وذكر تمام الحديث كما تقدّم، واللّه أعلم.
وقد روي من حديث النّوّاس بن سمعان نحوه، قال الإمام أحمد: حدّثنا الحسن بن سوّار أبو العلاء، حدّثنا ليث -يعني ابن سعدٍ -عن معاوية بن صالحٍ؛ أنّ عبد الرّحمن بن جبير بن نفيرٍ حدّثه، عن أبيه، عن النّوّاس بن سمعان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ضرب اللّه مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعن جنبتي الصّراط سوران فيهما أبوابٌ مفتّحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وعلى باب الصّراط داعٍ يقول: أيّها النّاس، ادخلوا الصّراط المستقيم جميعًا، ولا تتفرّجوا وداعٍ يدعو من جوف الصّراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك. لا تفتحه، فإنّك إن تفتحه تلجه، فالصّراط الإسلام، والسّوران حدود اللّه، والأبواب المفتّحة محارم اللّه، وذلك الدّاعي على رأس الصّراط كتاب اللّه، والدّاعي من فوق الصّراط واعظ اللّه في قلب كلّ مسلمٍ».
ورواه التّرمذيّ والنّسائيّ، عن عليّ بن حجر -زاد النّسائيّ -وعمرو بن عثمان، كلاهما عن بقيّة بن الوليد، عن بحير بن سعدٍ، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفيرٍ، عن النّوّاس بن سمعان، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ.
وقوله: {فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله} إنّما وحّد [سبحانه] سبيله لأنّ الحقّ واحدٌ؛ ولهذا جمع لتفرّقها وتشعّبها، كما قال تعالى: {اللّه وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والّذين كفروا أولياؤهم الطّاغوت يخرجونهم من النّور إلى الظّلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}[البقرة:257].
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنان الواسطيّ، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا سفيان بن حسين، عن الزّهريّ، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن عبادة بن الصّامت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّكم يبايعني على هذه الآيات الثّلاث؟ ». ثمّ تلا: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم} حتّى فرغ من ثلاث الآيات، ثمّ قال: «ومن وفّى بهنّ أجره على اللّه، ومن انتقص منهنّ شيئًا أدركه اللّه في الدّنيا كانت عقوبته، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى اللّه إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه»). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 365-368]


رد مع اقتباس