عرض مشاركة واحدة
  #95  
قديم 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م, 01:05 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

فائدة علم البديع للمفسّر
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة علم البديع للمفسّر
ينبغي أن يكون للمفسّر نصيب وافرٌ من علوم البلاغة، ومنها علم البديع، وهو من العلوم التي لا يحاط بها لتفاضل القرائح والفهوم في إدراك أنواعه وأمثلته، ولذلك لم يزل العلماء يزيد بعضهم على بعض فيها؛ حتى إنّ ابن أبي الإصبع لما بلغ مائة وعشرين نوعاً أمسك الفكر عن التوغّل في أنواع البديع، وزاد عليه صفيّ الدين الحلّي ثلاثين نوعاً.

وقال أبو يعقوب السكاكي بعد أن ذكر تسعة وعشرين نوعاً من البديع: (فلك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت، وتلقب كلا من ذلك بما أحببت)ا.هـ.
ولم يزل أهل البديع يزيد بعضهم على بعض في أنواعه حتى أوصلها ابن معصوم إلى مائتي نوع في بديعيته.
وقد يتواردون على أنواع من البديع
فيختلفون في تسمية بعضها والحقيقة واحدة.
وقد يظهر للناظر الفَطِن من أنواع البديع ما لا يجده في كتب البديع، على أنّي أوصي المفسّر بأن يأخذ من أنواع البديع بما ظهر نفعه وتيسّر فهمه، وأن لا يتوغّل فيه توغّل المتكلّفين.
وليكن غرض المفسّر منه ما يعينه على استخراج الأوجه التفسيرية والمعاني اللطيفة، لأنّ علم البديع إذا أوتي الناظرُ فيه حسنَ ذوق، ولطافة ذهن، وقدرة على الاستخراج والتبيين توصّل به إلى أوجه بديعة في التفسير قد لا يتفطّن لها كثير من الناس، فتفيده في التدبّر واستحضار معاني الآيات ولوازم المعاني.

وسأضرب أمثلة بعون الله تعالى على نوعين من أنواع البديع تبيّن فائدة هذا العلم للمفسّر:
النوع الأول: الاحتباك ، وهو افتعال من الحبك ، وهو شدّة الإحكام في حسن وبهاء، وكلّ ما أُجيد عمله فهو: محبوك، وتقول العرب: فرس محبوكة إذا كانت تامّة الخلق شديدة الأسر، ومنه يقال: لشدّ الإزار وإحكامه: الاحتباك.
والمراد بالاحتباك عند أهل البديع أن يقابَل بين جملتين مقابلة غير متطابقة؛ فيحذف من الجملة الأولى ما يقابل الثانية، ويحذف من الثانية ما يقابل الأولى، فتدلّ بما ذكرت على ما حذفت، ويحتبك اللفظ والمعنى بإيجاز بديع.
ولذلك سمّاه بدر الدين الزركشي(ت:795هـ) "الحذف المقابلي"، وهو من أجود أنواع البديع المعنوي، وله أمثلة كثيرة في القرآن:
منها: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فدلّ على الاحتباكِ في هذهِ الآيةِ المقابلةُ بين جزاء وحال، والمتبادر إلى الذهن أن يُقابَل بين جزاء وجزاء ، وأن يقابل بين حال وحال؛ فالخروج عن المتبادر لا يكون إلا لفائدة بلاغية؛ فكان تقدير الكلام على هذا المعنى: أفمن يأتي خائفاً يوم القيامة ويلقى في النار خير أمّ من يأتي آمناً ويدخل الجنّة.
والناظر في أمثلة الاحتباك التي يذكرها بعض المفسّرين وأهل البديع يتبيّن له إمكان تقسيم الاحتباك إلى درجتين:
- احتباك ثنائي التركيب، ومثاله ما تقدّم.
- واحتباك ثلاثي التركيب، وهو بديع جداً، ومن أمثلته قول الله تعالى في سورة الفاتحة: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
ففي هذه الآية نوع عزيز من أنواع الاحتباك أشار إليه ابن عاشور رحمه الله.
وشَرْحُ كلامه: أنّ التقابلَ في هذه الآية ثلاثي التركيب ففيه:
1. مقابلة بين الإنعام والحرمان.
2. ومقابلة بين الرضا والغضب.
3. ومقابلة بين الهدى والضلال.
وتقدير الكلام بما يتّضح به هذا المعنى: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم} فهديتَهم ورضيت عنهم {غير المغضوب عليهم} الذين حرموا نعمتك وضلّوا، {ولا الضالّين} الذين حرموا نعمتك وغضبت عليهم.
وقد اعتنى بهذا النوع جماعة من العلماء كبدر الدين الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن، وبرهان الدين البقاعي في "نظم الدرر"، وجلال الدين السيوطي في "التحبير" و"الإتقان" و"معترك الأقران"، والألوسي في "روح المعاني"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير"؛ وأفرده البقاعي بمؤلّف سمّاه "الإدراك لفنّ الاحتباك"، وأُفردت فيه رسائل علمية في هذا العصر.

النوع الثاني: حسن التقسيم، ويسميه بعض أهل البديع صحة التقسيم، وهو على نوعين: لفظي ومعنوي وقد يجتمعان.
فالتقسيم اللفظي: تقسيم الكلام إلى جمل يسيرة متسّقة متآلفة.
ومنه قوله تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.
ومن أمثلة هذا النوع في الشعر قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
حَمّالُ ألوِيَةٍ هَبّاطُ أودِيَةٍ .. شَهّادُ أنْدِيَةٍ للجَيشِ جَرّارُ
وهذا البيت فيه مع التقسيم اللفظي بديع لفظي آخر وهو الترصيع.
والتقسيم المعنوي: هو استيفاء أقسام المُقسَّم نصّاً أو تنبيهاً، وهو كثير جداً في القرآن الكريم.
ومن أمثلته قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}
فإنّه استوفى ذكر أقسام أمّة الاستجابة فجعلها على ثلاثة أقسام:
1. المحسنين.
2. والمقتصدين .
3. وظالمي أنفسهم، وهم الذين لديهم أصل الإيمان لكنّهم مقترفون لذنوب لم يتوبوا منها.
ولا تخرج أقسام أتباع الرسل عن هذه الأقسام الثلاثة، ولكلّ قسم حظّه من الاصطفاء بقدر حظّه من الاستجابة.
ومن أمثلته أيضاً: قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
فاستوفت الآية أقسام حالات العبد.
والتقسيم له أصل في النصوص، ومن دلائله حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي؛ فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). رواه مسلم في صحيحه.
فهذا الحديث نصّ على التقسيم، وهو تقسيم معنوي جليل القدر.
قال ابن عاشور: (في هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. وحسن التقسيم من المحسنات البديعية).ا.هـ.
ومما ينبغي أن يُعلم أنّ التقسيم المعنوي منه ظاهر وخفيّ.
- فالتقسيم الظاهر ما تقدّمت أمثلته، وهو ما ذُكرت أقسامه نصّا أو كان التنبيه فيه على ما حذف ظاهراً.
- والتقسيم الخفيّ ما احتيج فيه إلى استنباط واستخراج، وله دلائل تدلّ عليه، وهو باب عظيم من أبواب تدبّر القرآن، وأمثلته في القرآن كثيرة جداً، يتفاضل العلماء في استخراجها، وإدراك موارد التقسيم فيها.
ومن أكثر من رأيت له عناية بهذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فله براعة ظاهرة في استخراج هذا الأنواع، والكشف عن موارد التقسيم وبيانها، إلا أنّ كلامه في بعض المواضع كالتنبيه وفتح الباب للمتأمّل حتى يدرك ما وراء عبارته.
ومن ذلك قوله في رسالة "أمراض القلوب وشفائها": (العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول هو الضلال، وضد الثاني هو الغيّ، والضلال: العمل بغير علم، والغي: اتباع الهوى، قال تعالى: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى} فلا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرشاد إلا بالصبر )ا.هـ.
فهذا الكلام يُستفاد منه التنبّه لما في الآية من تقسيم معنويّ خفيّ، وقد بيّن مورد التقسيم، وهو العلم والعمل، وهذا المورد أصل لكثير من التقسيمات المعنوية في القرآن الكريم.
فقوله تعالى: {ما ضلّ صاحبكم وما غوى} فيه استيفاء الردّ على الإيرادات المحتملة لمنكري خبره صلى الله عليه وسلم عن المعراج.
فقوله: {ما ضلّ} ينفي عنه القول بغير علم.
وقوله: {وما غوى} ينفي عنه إرادة الإخبار بخلاف الحقّ الذي يعلمه.
فإذا كان ما يعلمه حقاً، وأخبر بهذا الحقّ؛ فلا بدّ أن يكون كلامه حقّاً؛ فقامت الحجّة بصدقه؛ لأنّ الحقّ لا يتخلّف عن الخبر إلا بأحد أمرين:
  • أن يكون المُخبر غير عارف بالحقّ، وهذا هو الضلال.
  • أو أن يكون عارفاً به لكن لا يريد الإخبار به، وهذا هو الغيّ.
فاستوفى بهذا التقسيم الحجّة على صدق خبره صلّى الله عليه وسلم.
وزادهم بيانا بذكره بلفظ {صاحبكم} للإشارة إلى أنّكم تعرفون صدقه، وعقله، ورشده، وأنه ليس بالمتّهم عندكم، وقد لبث فيكم عمراً تدعونه الصادق الأمين؛ فهو صاحبكم الذي تعرفونه، وما ضلّ ، وما غوى.
- ونظير هذا قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا}
فجمع الله تعالى في هذه الآية التكفّل بما يحتاجه الداعي إليه، وهما يرجعان إلى أمرين: الهداية والنصر؛ فبالهداية يعرف الحقّ من الباطل، ويسير على الصراط المستقيم، وبالنصر يعان على عدوّه ويتمّ له مقصده، وتحسن عاقبته.
وتقديم الهداية على النصر في هذه الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهداية من ثمرات العلم، والنصر من ثواب العمل.
  • ومن ألطف الأمثلة على التقسيم المعنوي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
  • فجمع الله في هذه الآية أصلي علم السلوك، وهما: البيّنات والهدى، وحاجة الناس إليهما ماسّة، بل هي أشدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأنّه لا نجاة من العذاب ولا طمع في الثواب إلا بهما؛ فمن كتمهما كان أقبح وأضرّ ممن يمنع الطعام والشراب مع تيسّره.
  • وكتمان البينات يكون بإخفاء الحقّ ولبسه بالباطل، وتضليل الناس، وصدّهم عن الحق.
  • وكتمان الهدى يكون بترك العمل بالحقّ.
فلا يعرف الناس حقاً يتبيّنون به الصواب من الخطأ، ولا يرون قدوة يأتسون بها، ويبصرون صلاح حالها؛ فيقع الناس في عمياء بين دعاة فتنة يضلّونهم، أو علماء سوء تدعوهم ألسنتهم إلى الحق، وتدعوهم أفعالهم إلى الباطل.
ولذلك كانت هذه الآية من أشدّ الآيات على العلماء لأنّهم يدركون أنّه لا نجاة لهم إلا بالعلم والعمل؛ فبالعلم الصحيح يتحقّق التبيّن ويُعرف الحقّ من الباطل، وبالعمل بهذا العلم يتحقّق الهدى؛ فإنّ العالم لا يكون مهتدياً حتى يعمل بعلمه.
فرجع مورد التقسيم إلى أصلي العلم والعمل.
والأمثلة على هذا النوع كثيرة جداً، والموفّق اللبيب يستخرج بهذا النوع علماً غزيراً مباركاً، ولو أُفرد فيه مؤلَّف لكان مجلداً كبيراً.
والمقصود في هذا المقام التنبيه إلى فائدة علم البديع للمفسّر، وذكر بعض الأمثلة الموضّحة لفائدته من غير تطويل). [طرق التفسير:263 - 271]


رد مع اقتباس