عرض مشاركة واحدة
  #75  
قديم 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م, 10:03 AM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

أمثلة لفائدة علم الصرف للمفسّر:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أمثلة لفائدة علم الصرف للمفسّر:
سأذكر ثلاثة أمثلة لمسائل تظهر فيها فائدة علم الصرف للمفسّر، آمل أن تنبّه اللبيب على ما وراءها، وأن تعينه على تصوّر بحث المسائل الصرفية في التفسير، وأن تعرّفه بأئمة هذا العلم ومصادره، لعلّها تحثّه على العناية بهذا العلم العزيز، وتعرّف السبيل إلى إتقان معرفته.


المثال الأول: معنى {يتساءلون}
اختلف المفسّرون في معنى {يتساءلون} في قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضاً، وهذا قول جمهور المفسرين.
القول الثاني: يتساءلون أي يتحدثون، وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال.
وهذا القول أخذه الرازي ومن تبعه من المفسّرين من قول أبي زكريا الفراء في معاني القرآن إذ قال: (ويقال: عم يتحدث به قريش في القرآن. ثم أجاب، فصارت: {عم يتساءلون}، كأنها [في معنى]: لأي شيء يتساءلون عن القرآن)ا.هـ.
وكلام الفراء ليس فيه نصّ على هذا المعنى، لكن استدلّ له الرازي بقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ}
قال: (فهذا يَدُلُّ على معنى التحَدُّثِ، فيكونُ معنى الكلامِ: عَمَّ يَتحدثونَ)ا.هـ.
وعلى هذا القول يكون التعبير عن التحدّث بالتساؤل في الآية مبناه على أنّ ذلك التحدّث منهم قائم مقام السؤال؛ لأنّ كل متحدّث منهم يتطلّب من سامعه تأييداً لقوله أو مساعدة له على ما يحاول من إيجاد مطعن في القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو تساؤل في حقيقة الأمر، وإن لم يكن في ألفاظهم سؤال صريح.
القول الثالث: أي أن المشركينَ يتساءلونَ الرَّسولَ والمؤمنينَ؛ فيقدّر أصحاب هذا القول للكلام مفعولاً محذوفاً.
وهذا القول ذكره الزمخشري احتمالاً؛ فقال في الكشّاف: (({يَتَسَاءَلُونَ}: يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً‏،‏ أو يَتَسَاءَلُونَ غيرَهم مِن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنينَ، نحوَ‏:‏ يَتَدَاعَوْنَهُم ويَتَرَاءَوْنَهم)ا.هـ.
ثم ذكره جماعة من المفسّرين بعده، منهم: الرازي، والبيضاوي، والنسفي، وابن عادل الحنبلي وغيرهم.
وأتى بعدهم أبو السعود الحنفي فنصرَ هذا القول واحتجّ له بما ملخّصه أنّه كمثل قول القائل: "تراءوا الهلال"، وأنّ المفعول محذوف لظهور العلم به.
قال: (فالمعنى: عنْ أيِّ شيءٍ يَسْأَلُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ والمؤمنينَ؟)ا.هـ.
فهذا القول مبناه على أنّ الفعل "يتساءلون" متعدّ لإفادة تكرر وقوع السؤال منهم، وأنّ المفعول محذوف تقديره: يتساءلون الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

وقواعد التصريف تدلّ على خطأ هذا القول من وجهين:
الوجه الأول:
أنّ "تساءل" على وزن "تفاعَل"، وهذه الصيغة ترد في كلام العرب لمعان إجمالها فيما يلي:

- المعنى الأول: إفادة وقوع الفعل من طرفين على جهة التقابل، ومثاله: تراءى الجمعان، وتقابل الخصمان، وتجادلا، وتناظرا.
- المعنى الثاني: إفادة وقوع الفعل من متعدد في طرف واحد على مفعول واحد، ومثاله: تراءوا الهلالَ.
- المعنى الثالث: إفادة وقوع الفعل من متقابلين على مفعول مشترك، ومثاله: تنازعا الحديث، وتعاطيا الكأس، وتقاسما المال، وهو قريب من المعنى الثاني، وبينهما فرق دقيق.
- المعنى الرابع: إفادة قوة وقوع الفعل من الفاعل، مثاله: تعالى الله، تبارك الله.
- المعنى الخامس: إفادة تكرر وقوع الفعل من فاعل واحد، ومثاله: تمارى، تثاءب.
- المعنى السادس: إفادة تدرج وقوع الفعل، ومثاله: تعافى المريض، وتوافد القوم، وتناسى الأمر.
- المعنى السابع: إظهار خلاف الحقيقة، ومثاله: تمارض، وتماوت، وتغافل، وتغابى، وتعاظم، وتجاهل.
- المعنى الثامن: مُطاوَعَةُ "فاعَلَ" الذي بمعنى "أَفْعَلَ"، ومثاله: ناولته فتناول، وباعدته فتباعد، وضاعفت الحساب فتضاعف.
- المعنى التاسع: "تفاعَل" بمعنى "فَعَل"، ويمثّل له بعض الصرفيين بـ "توانى" بمعنى: ونى، و"تبدّى" بمعنى "بدا"،
ومنه قول قيس بن الخطيم:
ولم أرها إلا ثلاثاً على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
تبدَّت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب

فأوقع "بدا" في تفسير "تبدّى".
وفي هذا المعنى الأخير خلاف، إذ يفهم منه الإقرار بالترادف، وهو قول يأباه جماعة من أهل اللغة، ويذكرون بين ما يُدّعى فيه الترادف فروقاً دقيقة؛ منها ما هو صحيح مُسلَّم، ومنها ما فيه نظر وله احتمال، ومنها ما هو ظاهر التكلّف.
وهذه المعاني مبثوثة في كتب الصرف، وإنما لخّصتها هنا لتقريب تصوّر أصل المسألة، وإلا فإنّ المفسّر العالم بالصرف؛ يُفتَرض أن تكون هذه المعاني حاضرة في ذهنه، ولو على وجه الإجمال والتقريب.
وثمرة هذا المبحث أنّ التساؤل في الآية علمي لا طلبي، ويدلّ على وجود سائل ومسؤول، وإبهام السائل والمسؤول من الطرفين يدلّ على جواز وقوعه من أيّ واحد منهما على الآخر على جهة التقابل؛ فيكون المعنى الأوّل هو المتعيّن حمل الآية عليه.
والوجه الثاني: أنّ "تساءَل" قبول دخول تاء التفاعل عليها "ساءل"، و"ساءَل" فعلٌ متعدٍّ، والفعل المتعدّي قبل دخول تاء التفاعل عليه منه ما يتعدّى إلى مفعولين، ومنه ما يتعدّى إلى مفعول واحد.
1. فإذا دخلت التاء على المتعدّي إلى مفعولين قصرته على مفعول واحد؛ كما تقول: نازعتُ زيداً الحديثَ، فالفعل "نازَع" متعدٍّ إلى مفعولين: زيد والحديث ؛ فإذا أدخلتَ تاء التفاعل عليه قلت: تنازعنا الحديثَ؛ فصار الفعل متعدّياً إلى مفعول واحد.
2. وإذا دخلت التاء على المتعدّي إلى مفعول واحد صار لازماً، كما تقول في "ضارَب زيدٌ عمراً":" تضارب زيدٌ وعمرو"؛ فلما دخلت تاء التفاعل على "ضارب" صيّرته لازماً.
إذا تبيّن ذلك فكلمة "يتساءلون" أصلها ساءل، وهو متعدّ إلى مفعول واحد؛ فيكون لازماً بعد دخول التاء عليه.
فيكون ما ذكره الزمخشريّ احتمالاً في تفسير الآية، ونصره أبو السعود من أنّ المعنى: يتساءلون الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خطأ مخالف لتصاريف كلام العرب.
والمعنى الصحيح: يسأل بعضُهم بعضاً، وهو الذي عليه جمهور المفسّرين.
وهذا بخلاف ساءَل التي فيها معنى الطلب؛ كما يقال: ساءل بنو زيد بني عمروٍ أموالهم، ومنه قوله تعالى: {ولا يسألكم أموالكم}
فإنها عند دخول التاء عليها تقصر على مفعول واحدٍ، فيقال: يتساءلون أموالهم، ويقال في الاستفهام: ماذا يتساءلون؟
ولا يقال -عند إرادة هذا المعنى -:عمّ يتساءلون؟
فلمّا كان الاستفهام بـ"عن" تحققنا أن ساءل هنا علمية لا طلبية). [طرق التفسير:206 - 211]


رد مع اقتباس