عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 12:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري



تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (226) وإن عزموا الطّلاق فإنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (227)}
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرّجل ألّا يجامع زوجته مدّةً، فلا يخلو: إمّا أن يكون أقلّ من أربعة أشهرٍ، أو أكثر منها، فإن كانت أقلّ، فله أن ينتظر انقضاء المدّة ثمّ يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدّة، وهذا كما ثبت في الصّحيحين عن عائشة: أنّ رسول اللّه آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسعٍ وعشرين، وقال: «الشّهر تسعٌ وعشرون» ولهما عن عمر بن الخطّاب نحوه. فأمّا إن زادت المدّة على أربعة أشهرٍ، فللزّوجة مطالبة الزّوج عند انقضاء أربعة أشهرٍ: إمّا أن يفيء -أي: يجامع -وإمّا أنّ يطلّق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلّا يضرّ بها. ولهذا قال تعالى: {للّذين يؤلون} أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه دلالةٌ على أنّ الإيلاء يختصّ بالزّوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. {تربّص أربعة أشهرٍ} أي: ينتظر الزّوج أربعة أشهرٍ من حين الحلف، ثمّ يوقف ويطالب بالفيئة أو الطّلاق. ولهذا قال: {فإن فاءوا} «أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كنايةٌ عن الجماع»، قاله ابن عبّاسٍ، ومسروقٌ والشّعبيّ، وسعيد بن جبيرٍ، وغير واحدٍ، ومنهم ابن جريرٍ رحمه اللّه {فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: لما سلف من التّقصير في حقّهنّ بسبب اليمين.
وقوله: {فإن فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} فيه دلالةٌ لأحد قولي العلماء -وهو القديم عن الشّافعيّ: «أنّ المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنّه لا كفّارة عليه». ويعتضد بما تقدّم في الآية الّتي قبلها، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفّارتها» كما رواه أحمد وأبو داود والّذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشّافعيّ أنّ عليه الكفّارة لعموم وجوب التّكفير على كلّ حالفٍ، كما تقدّم أيضًا في الأحاديث الصّحاح. واللّه أعلم.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم -في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهرٍ -الأثر الّذي رواه الإمام مالك بن أنسٍ، رحمه اللّه، في الموطّأ، عن عمرو بن دينارٍ قال: «خرج عمر بن الخطّاب من اللّيل فسمع امرأةً تقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه ....... وأرّقني ألّا خليل ألاعبه
فواللّه لولا اللّه أنّي أراقبه ....... لحرّك من هذا السّرير جوانبه

فسأل عمر ابنته حفصة، رضي اللّه عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستّة أشهرٍ أو أربعة أشهرٍ. فقال عمر: لا أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك» .
وقال: محمّد بن إسحاق، عن السّائب بن جبيرٍ، مولى ابن عبّاسٍ - وكان قد أدرك أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -قال: «مازلت أسمع حديث عمر أنّه خرج ذات ليلةٍ يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرًا؛ إذ مرّ بامرأةٍ من نساء العرب مغلقةٍ بابها وهي تقول:
تطاول هذا اللّيل وازورّ جانبه ....... وأرّقني ألّا ضجيع ألاعبه
ألاعبه طورًا وطورًا كأنّما ....... بدا قمرًا في ظلمة اللّيل حاجبه
يسرّ به من كان يلهو بقربه ....... لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فواللّه لولا اللّه لا شيء غيره ....... لنقض من هذا السّرير جوانبه
ولكنّني أخشى رقيبًا موكلا ....... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه

ثمّ ذكر بقيّة ذلك كما تقدّم، أو نحوه. وقد روى هذا من طرقٍ، وهو من المشهورات). [تفسير ابن كثير: 1/ 604-605]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإن عزموا الطّلاق} فيه دلالةٌ على أنّه لا يقع الطّلاق بمجرّد مضيّ الأربعة أشهرٍ كقول الجمهور،وذهب آخرون إلى أنّه يقع بمضيّ الأربعة أشهرٍ تطليقةً، وهو مرويٌّ بأسانيد صحيحةٍ عن عمر، وعثمان، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وزيد بن ثابتٍ، وبه يقول ابن سيرين، ومسروقٌ والقاسم، وسالمٌ، والحسن، وأبو سلمة، وقتادة، وشريحٌ القاضي، وقبيصة بن ذؤيبٍ، وعطاءٌ، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وسليمان بن طرخان التّيميّ، وإبراهيم النّخعيّ، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ.
ثمّ قيل: «إنّها تطلّق بمضيّ الأربعة أشهرٍ طلقةً رجعيّةً»؛ قاله سعيد بن المسيّب، وأبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ، ومكحولٌ، وربيعة، والزّهريّ، ومروان بن الحكم. وقيل إنّها تطلّق طلقةً بائنةً، روي عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وعثمان، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وزيد بن ثابتٍ، وبه يقول: عطاءٌ وجابر بن زيدٍ، ومسروقٌ وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، ومحمّد بن الحنفيّة، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيبٍ، وأبو حنيفة، والثّوريّ، والحسن بن صالحٍ، وكلّ من قال: إنّها تطلّق بمضيّ الأربعة أشهرٍ أوجب عليها العدّة، إلّا ما روي عن ابن عبّاسٍ وأبي الشّعثاء: «أنّها إن كانت حاضت ثلاث حيضٍ فلا عدّة عليها»، وهو قول الشّافعيّ، والّذي عليه الجمهور «أنّه يوقف فيطالب إمّا بهذا أو هذا ولا يقع عليها بمجرّد مضيّها طلاقٌ».
وروى مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: «إذا آلى الرّجل من امرأته لم يقع عليه طلاقٌ وإن مضت أربعة أشهرٍ، حتّى يوقف، فإمّا أن يطلّق، وإمّا أن يفيء». وأخرجه البخاريّ.
وقال الشّافعيّ، رحمه اللّه: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سليمان بن يسارٍ قال: «أدركت بضعة عشر من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كلّهم يوقف المولي» قال الشّافعيّ: «وأقلّ ذلك ثلاثة عشر». ورواه الشّافعيّ عن عليٍّ رضي اللّه عنه: «أنّه وقف المولي. ثمّ قال: وهكذا نقول، وهو موافقٌ لما رويناه عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وعن عثمان، وزيد بن ثابتٍ، وبضعة عشر من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم». هكذا قال الشّافعيّ، رحمه اللّه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا يحيى بن أيّوب، عن عبيد اللّه بن عمر، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه قال: «سألت اثني عشر رجلًا من الصّحابة عن الرّجل يولي من امرأته، فكلّهم يقول: ليس عليه شيءٌ حتّى تمضي أربعة أشهرٍ فيوقف، فإن فاء وإلّا طلّق». ورواه الدّارقطنيّ من طريق سهيلٍ.
قلت: وهو مرويٌّ عن عمر، وعثمان، وعليٍّ، وأبي الدّرداء، وعائشة أمّ المؤمنين، وابن عمر، وابن عبّاسٍ. وبه يقول سعيد بن المسيّب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهدٌ، وطاوسٌ، ومحمّد بن كعبٍ، والقاسم. وهو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وأصحابهم، رحمهم اللّه، وهو اختيار ابن جريرٍ أيضًا، وهو قول اللّيث بن سعدٍ وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيدٍ، وأبي ثورٍ، وداود، وكلّ هؤلاء قالوا: «إن لم يفئ ألزم بالطّلاق، فإن لم يطلّق طلّق عليه الحاكم، والطّلقة تكون رجعيّةً له رجعتها في العدّة».
وانفرد مالكٌ بأن قال: «لا يجوز له رجعتها حتّى يجامعها في العدّة». وهذا غريبٌ جدًّا ). [تفسير ابن كثير: 1/ 605-606]

تفسير قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجةٌ واللّه عزيزٌ حكيمٌ (228)}
هذا الأمر من اللّه سبحانه وتعالى للمطلّقات المدخول بهنّ من ذوات الأقراء، بأن يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ، أي: بأن تمكث إحداهنّ بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروءٍ؛ ثمّ تتزوّج إنّ شاءت، وقد أخرج الأئمّة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلّقت، فإنّها تعتدّ عندهم بقرءين، لأنّها على النّصف من الحرّة، والقرء لا يتبعّض فكمّل لها قرءان. ولما رواه ابن جريحٍ عن مظاهر بن أسلم المخزوميّ المدنيّ، عن القاسم، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان».
رواه أبو داود، والتّرمذيّ وابن ماجه. ولكن مظاهرٌ هذا ضعيفٌ بالكلّيّة. وقال الحافظ الدّارقطنيّ وغيره: «الصحيح أنّه من قول القاسم بن محمّدٍ نفسه».
ورواه ابن ماجه من طريق عطيّة العوفي عن ابن عمر مرفوعًا. قال الدّارقطنيّ: والصّحيح ما رواه سالمٌ ونافعٌ، عن ابن عمر قوله. وهكذا روي عن عمر بن الخطّاب. قالوا: «ولم يعرف بين الصّحابة خلافٌ». وقال بعض السّلف: «بل عدّتها كعدّة الحرّة لعموم الآية»؛ ولأنّ هذا أمرّ جبلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواءً، واللّه أعلم، حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبد البرّ، عن محمّد بن سيرين وبعض أهل الظّاهر، وضعّفه.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا إسماعيل -يعني ابن عيّاش -عن عمرو بن مهاجرٍ، عن أبيه: أنّ أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصاريّة قالت: «طلّقت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولم يكن للمطلّقة عدّةٌ، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ، حين طلّقت أسماء العدّة للطّلاق، فكانت أوّل من نزلت فيها العدّة للطّلاق، يعني: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ}». هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وقد اختلف السّلف والخلف والأئمّة في المراد بالأقراء ما هو؟ على قولين:
أحدهما: أنّ المراد بها: الأطهار، وقال مالكٌ في الموطّأ عن ابن شهابٍ، عن عروة، عن عائشة أنّها قالت: «انتقلت حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ، حين دخلت في الدّم من الحيضة الثّالثة، قال الزّهريّ: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرّحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناسٌ فقالوا: إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: {ثلاثة قروءٍ} فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراء؟ إنّما الأقراء: الأطهار».
وقال مالكٌ: عن ابن شهابٍ، سمعت أبا بكر بن عبد الرّحمن يقول: «ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلّا وهو يقول ذلك»، يريد قول عائشة. وقال مالكٌ: عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر، أنّه كان يقول: «إذا طلّق الرّجل امرأته فدخلت في الدّم من الحيضة الثّالثة فقد برئت منه وبرئ منها». وقال مالكٌ: «وهو الأمر عندنا». وروي مثله عن ابن عبّاسٍ وزيد بن ثابتٍ، وسالمٍ، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسارٍ، وأبي بكر بن عبد الرّحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباحٍ، وقتادة، والزّهريّ، وبقيّة الفقهاء السّبعة، وهو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ وغير واحدٍ، وداود وأبي ثورٍ، وهو روايةٌ عن أحمد، واستدلّوا عليه بقوله تعالى: {فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} [الطّلاق: 1] أي: في الأطهار. ولمّا كان الطّهر الّذي يطلّق فيه محتسبًا، دلّ على أنّه أحد الأقراء الثّلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إنّ المعتدة تنقضي عدّتها وتبين من زوجها بالطّعن في الحيضة الثّالثة، وأقلّ مدّةٍ تصدّق فيها المرأة في انقضاء عدّتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان.
واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشّاعر -وهو الأعشى -:

ففي كلّ عامٍ أنت جاشم غزوة ....... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة عدّا، وفي الحيّ رفعةٌ ....... لمّا ضاع فيها من قروء نسائكا


يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتّى ضاعت أيّام الطّهر من نسائه لم يواقعهنّ فيها.
والقول الثّاني: أنّ المراد بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدّة حتّى تطهر من الحيضة الثّالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها. وأقلّ وقتٍ تصدّق فيه المرأة في انقضاء عدّتها ثلاثةٌ وثلاثون يومًا ولحظةٌ. قال الثّوريّ: عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن علقمة قال: «كنّا عند عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، فجاءته امرأةٌ فقالت: إن زوجي فارقني بواحدةٍ أو اثنتين فجاءني وقد وضعت مائي وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر لعبد اللّه -يعني ابن مسعودٍ -ما ترى؟ قال: أراها امرأته، ما دون أن تحلّ لها الصّلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك».
وهكذا روي عن أبي بكرٍ الصّديق، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وأبي الدّرداء، وعبادة بن الصّامت، وأنس بن مالكٍ، وابن مسعودٍ، ومعاذٍ، وأبيّ بن كعبٍ، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، ومحمّد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشّعبيّ، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ، ومكحولٍ، والضّحّاك، وعطاءٍ الخراسانيّ، أنّهم قالوا: «الأقراء: الحيض».
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصحّ الرّوايتين عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، وحكى عنه الأثرم أنّه قال: الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون: «الأقراء الحيض». وهو مذهب الثّوريّ، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.
ويؤيّد هذا ما جاء في الحديث الّذي رواه أبو داود والنّسائيّ، من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزّبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لها: «دعي الصّلاة أيّام أقرائك». فهذا لو صحّ لكان صريحًا في أنّ القرء هو الحيض، ولكنّ المنذر هذا قال فيه أبو حاتمٍ: مجهولٌ ليس بمشهورٍ. وذكره ابن حبّان في الثّقات.
وقال ابن جريرٍ: «أصل القرء في كلام العرب: الوقت لمجيء الشّيء المعتاد مجيئه في وقتٍ معلومٍ، ولإدبار الشّيء المعتاد إدباره لوقتٍ معلومٍ». وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض العلماء الأصوليّين فاللّه أعلم. وهذا قول الأصمعيّ: «أنّ القرء هو الوقت». وقال أبو عمرو بن العلاء: «العرب تسمّي الحيض: قرءًا، وتسمّي الطّهر: قرءًا، وتسمّي الحيض مع الطّهر جميعًا: قرءًا». وقال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ: «لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أنّ القرء يراد به الحيض ويراد به الطّهر، وإنّما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين».
وقوله: {ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ} أي: «من حبل أو حيضٍ». قاله ابن عبّاسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌ، والشّعبيّ، والحكم بن عيينة والرّبيع بن أنسٍ، والضّحّاك، وغير واحدٍ.
وقوله: {إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر} تهديدٌ لهنّ على قول خلاف الحقّ. ودلّ هذا على أنّ المرجع في هذا إليهنّ؛ لأنّه أمرٌ لا يعلم إلّا من جهتين، وتتعذّر إقامة البيّنة غالبًا على ذلك، فردّ الأمر إليهنّ، وتوعّدن فيه، لئلّا تخبر بغير الحقّ إمّا استعجالًا منها لانقضاء العدّة، أو رغبةً منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد. فأمرت أن تخبر بالحقّ في ذلك من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ.
وقوله: {وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} أي: وزوجها الّذي طلّقها أحقّ بردّتها ما دامت في عدّتها، إذا كان مراده بردّتها الإصلاح والخير. وهذا في الرّجعيّات. فأمّا المطلّقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلّقةٌ بائنٌ، وإنّما صار ذلك لمّا حصروا في الطّلقات الثّلاث، فأمّا حال نزول هذه الآية فكان الرّجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلّقها مائة مرّةٍ، فلمّا قصروا في الآية الّتي بعدها على ثلاث تطليقاتٍ صار للنّاس مطلّقةٌ بائنٌ وغير بائنٍ. وإذا تأمّلت هذا تبيّن لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليّين، من استشهادهم على مسألة عود الضّمير -هل يكون مخصّصًا لما تقدّمه من لفظ العموم أم لا؟ - بهذه الآية الكريمة، فإنّ التّمثيل بها غير مطابقٍ لما ذكروه، واللّه أعلم.
وقوله: {ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف} أي: ولهنّ على الرّجال من الحقّ مثل ما للرّجال عليهنّ، فليؤد كلٌّ واحدٌ منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلمٍ، عن جابرٍ، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجّة الوداع: «فاتّقوا اللّه في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه، ولكم عليهنّ ألّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرّح، ولهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف». وفي حديث بهز بن حكيمٍ، عن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جدّه، أنّه قال: يا رسول اللّه، ما حقّ زوجة أحدنا؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلّا في البيت». وقال وكيع عن بشير بن سليمان، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «إنّي لأحبّ أن أتزيّن للمرأة كما أحبّ أن تتزيّن لي المرأة؛ لأنّ اللّه يقول: {ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف} » رواه ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ.
وقوله: {وللرّجال عليهنّ درجةٌ} أي: في الفضيلة في الخلق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالحٍ، والفضل في الدّنيا والآخرة، كما قال تعالى: {الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم} [النّساء:34].
وقوله: {واللّه عزيزٌ حكيمٌ} أي: عزيزٌ في انتقامه ممّن عصاه وخالف أمره، حكيمٌ في أمره وشرعه وقدره). [تفسير ابن كثير: 1/ 606-610]

تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229) فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه وتلك حدود اللّه يبيّنها لقومٍ يعلمون (230)}
هذه الآية الكريمة رافعةٌ لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أنّ الرّجل كان أحقّ برجعة امرأته، وإن طلّقها مائة مرّةٍ ما دامت في العدّة، فلمّا كان هذا فيه ضررٌ على الزّوجات قصرهم اللّه عزّ وجلّ إلى ثلاث طلقاتٍ، وأباح الرّجعة في المرّة والثّنتين، وأبانها بالكلّيّة في الثّالثة، فقال: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}
قال أبو داود، رحمه اللّه، في سننه: "بابٌ في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث": حدثنا أحمد ابن محمّدٍ المروزيّ، حدّثني عليّ بن الحسين بن واقدٍ، عن أبيه، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ} الآية: وذلك أنّ الرّجل كان إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها، وإن طلّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: {الطّلاق مرّتان} الآية». ورواه النّسائيّ عن زكريّا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عليّ بن الحسين، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا هارون بن إسحاق، حدّثنا عبدة - يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه:«أنّ رجلًا قال لامرأته: لا أطلّقك أبدًا ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلّقك، حتّى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {الطّلاق مرّتان}».
وهكذا رواه ابن جريرٍ في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد، وابن إدريس. ورواه عبد بن حميد في تفسيره، عن جعفر بن عونٍ، كلّهم عن هشامٍ، عن أبيه. قال: «كان الرّجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلّقها ما شاء، ما دامت في العدّة، وإنّ رجلًا من الأنصار غضب على امرأته فقال: واللّه لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك. قال: أطلّقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثمّ أطلّقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {الطّلاق مرّتان} قال: فاستقبل النّاس الطّلاق، من كان طلّق ومن لم يكن طلّق».
وقد رواه أبو بكر بن مردويه، من طريق محمّد بن سليمان، عن يعلى بن شبيبٍ -مولى الزّبير -عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدّم. ورواه التّرمذيّ، عن قتيبة، عن يعلى بن شبيبٍ به. ثمّ رواه عن أبي كريبٍ، عن ابن إدريس، عن هشامٍ، عن أبيه مرسلًا. قال: هذا أصحّ. ورواه الحاكم في مستدركه، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسبٍ، عن يعلى بن شبيبٍ به، وقال صحيح الإسناد.
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه، حدّثنا محمّد بن حميد، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «لم يكن للطّلاق وقتٌ، يطلق الرّجل امرأته ثمّ يراجعها ما لم تنقض العدّة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين النّاس فقال: واللّه لأتركنّك لا أيّمًا ولا ذات زوجٍ، فجعل يطلّقها حتّى إذا كادت العدّة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيه: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} فوقّت الطّلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثّالثة، حتّى تنكح زوجًا غيره». وهكذا روي عن قتادة مرسلًا. وذكره السّدّيّ، وابن زيدٍ، وابن جريرٍ كذلك، واختار أنّ هذا تفسير هذه الآية.
وقوله: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} أي: إذا طلّقتها واحدةً أو اثنتين، فأنت مخيّرٌ فيها ما دامت عدّتها باقيةً، بين أن تردّها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتّى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا إليها، لا تظلمها من حقّها شيئًا، ولا تضارّ بها.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قال: «إذا طلّق الرّجل امرأته تطليقتين، فليتّق اللّه في الثّالثة، فإمّا أن يمسكها بمعروفٍ فيحسن صحابتها أو يسرّحها بإحسانٍ فلا يظلمها من حقّها شيئًا».
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني سفيان الثّوريّ، حدّثني إسماعيل بن سميعٍ، قال: سمعت أبا رزين يقول: «جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} أين الثّالثة؟ قال:«التّسريح بإحسانٍ».
ورواه عبد بن حميدٍ في تفسيره، ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي حكيمٍ، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميعٍ، أنّ أبا رزينٍ الأسديّ يقول: «قال رجلٌ: يا رسول اللّه، أرأيت قول اللّه:{الطّلاق مرّتان}، فأين الثّالثة؟ قال: «التّسريح بإحسانٍ الثّالثة».
ورواه الإمام أحمد أيضًا. وهكذا رواه سعيد بن منصورٍ، عن خالد بن عبد اللّه، عن إسماعيل بن زكريّا وأبي معاوية، عن إسماعيل بن سميعٍ، عن أبي رزينٍ، به. وكذا رواه قيس بن الرّبيع، عن إسماعيل بن سميعٍ عن أبي رزينٍ به مرسلًا. ورواه ابن مردويه أيضًا من طريق عبد الواحد بن زيادٍ، عن إسماعيل بن سميعٍ، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره. ثمّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن عبد الرّحيم، حدّثنا أحمد بن يحيى، حدّثنا عبيد اللّه بن جرير بن جبلة حدّثنا ابن عائشة حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ قال: «جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، ذكر اللّه الطّلاق مرّتين، فأين الثّالثة؟ قال: «إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ».
وقوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه} أي: لا يحلّ لكم أن تضاجروهن وتضيّقوا عليهنّ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهنّ من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ} [النّساء:19] فأمّا إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفسٍ منها. فقد قال تعالى: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النّساء:4] وأمّا إذا تشاقق الزّوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرّجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الآية.
فأمّا إذا لم يكن لها عذرٌ وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا عبد الوهّاب -وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة -قالا جميعًا: حدّثنا أيّوب، عن أبي قلابة، عمّن حدّثه، عن ثوبان، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أيّما امرأةٍ سألت زوجها طلاقها من غير بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنّة».
وهكذا رواه التّرمذيّ، عن بندارٍ، عن عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثّقفيّ به. وقال حسنٌ: قال: ويروى، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. ورواه بعضهم، عن أيّوب بهذا الإسناد. ولم يرفعه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن أبي قلابة -قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان -قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّما امرأةٍ سألت زوجها الطّلاق في غير ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنّة».
وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن جريرٍ، من حديث حمّاد بن زيدٍ، به.
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن ليثٍ، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «أيّما امرأةٍ سألت زوجها الطّلاق في غير ما بأسٍ، حرّم اللّه عليها رائحة الجنّة». وقال: «المختلعات هنّ المنافقات».
ثمّ رواه ابن جريرٍ والتّرمذيّ جميعًا، عن أبي كريبٍ، عن مزاحم بن ذوّاد بن علبة، عن أبيه، عن ليثٍ، هو ابن أبي سليمٍ عن أبي الخطّاب، عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «المختلعات هنّ المنافقات». ثمّ قال التّرمذيّ: غريبٌ من هذا الوجه، وليس إسناده بالقويّ.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب حدّثنا حفص بن بشرٍ، حدّثنا قيس بن الرّبيع، عن أشعث بن سوّارٍ، عن الحسن عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ المختلعات المنتزعات هنّ المنافقات» غريبٌ من هذا الوجه ضعيفٌ.

حديثٌ آخر: قال ابن ماجه: حدّثنا بكر بن خلفٍ أبو بشرٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، عن جعفر بن يحيى بن ثوبان، عن عمّه عمارة بن ثوبان، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تسأل امرأةٌ زوجها الطّلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا».
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا وهيبٌ، حدّثنا أيّوب، عن الحسن عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات».
ثمّ قد قال طائفةٌ كثيرةٌ من السّلف وأئمّة الخلف: إنّه لا يجوز الخلع إلّا أن يكون الشّقاق والنّشوز من جانب المرأة، فيجوز للرّجل حينئذٍ قبول الفدية، واحتجّوا بقوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه}. قالوا: «فلم يشرع الخلع إلّا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلّا بدليلٍ، والأصل عدمه»، وممّن ذهب إلى هذا ابن عبّاسٍ، وطاوسٌ، وإبراهيم، وعطاءٌ، والحسن والجمهور، حتّى قال مالكٌ والأوزاعيّ: «لو أخذ منها شيئًا وهو مضارٌّ لها وجب ردّه إليها، وكان الطّلاق رجعيًّا». قال مالكٌ: «وهو الأمر الّذي أدركت الناس عليه». وذهب الشّافعيّ، رحمه اللّه، «إلى أنّه يجوز الخلع في حالة الشّقاق»، وعند الاتّفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبةً. وحكى الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب "الاستذكار" له، عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ، أنّه ذهب إلى أنّ الخلع منسوخٌ بقوله: {وآتيتم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} [النّساء: 20]. ورواه ابن جريرٍ عنه وهذا قولٌ ضعيفٌ ومأخذٌ مردودٌ على قائله. وقد ذكر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، «أنّ هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شمّاس وامرأته حبيبة بنت عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول». ولنذكر طرق حديثها، واختلاف ألفاظه: قال الإمام مالكٌ في موطّئه: عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة بنت عبد الرّحمن بن سعد بن زرارة، أنّها أخبرته عن حبيبة بنت سهلٍ الأنصاريّة: «أنّها كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاسٍ، وأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهلٍ عند بابه في الغلس، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من هذه؟» قالت: أنا حبيبة بنت سهلٍ. فقال: «ما شأنك؟» فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيسٍ -لزوجها -فلمّا جاء زوجها ثابت بن قيسٍ قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «هذه حبيبة بنت سهلٍ قد ذكرت ما شاء اللّه أن تذكر». فقالت حبيبة: يا رسول اللّه، كلّ ما أعطاني عندي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «خذ منها». فأخذ منها وجلست في أهلها».
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن مالكٍ بإسناده -مثله. ورواه أبو داود، عن القعنبيّ، عن مالكٍ. والنّسائيّ، عن محمّد بن مسلمة، عن ابن القاسم، عن مالكٍ به.
حديثٌ آخر: عن عائشة: قال أبو داود وابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن معمرٍ، حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا أبو عمرٍو السّدوسيّ، عن عبد اللّه -بن أبي بكرٍ -عن عمرة، عن عائشة: «أنّ حبيبة بنت سهلٍ كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاسٍ، فضربها فكسر نغضها فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد الصّبح فاشتكته إليه، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثابتًا فقال: «خذ بعض مالها وفارقها». قال: ويصلح ذلك يا رسول اللّه؟ قال: «نعم». قال: فإنّي أصدقتها حديقتين، فهما بيدها. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «خذهما وفارقها». ففعل». وهذا لفظ ابن جريرٍ. وأبو عمرٍو السّدوسيّ هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.
حديثٌ آخر فيه: عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنه:
قال البخاريّ: حدّثنا أزهر بن جميلٍ، أخبرنا عبد الوهّاب الثّقفيّ، حدّثنا خالدٌ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ امرأة ثابت بن قيس بن شمّاسٍ أتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، ما أعتب عليه في خلقٍ ولا دينٍ، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتردّين عليه حديقته؟» قالت: نعم. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اقبل الحديقة وطلّقها تطليقةً».
وكذا رواه النّسائيّ، عن أزهر بن جميلٍ بإسناده، مثله. ورواه البخاريّ أيضًا، عن إسحاق الواسطيّ، عن خالدٍ هو ابن عبد اللّه الطّحّان، عن خالدٍ، هو ابن مهران الحذّاء، عن عكرمة به، نحوه.
وهكذا رواه البخاريّ أيضًا من طرقٍ، عن أيّوب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، به. وفي بعضها أنّها قالت: «لا أطيقه»، تعني: بغضًا. وهذا الحديث من أفراد البخاريّ من هذا الوجه.
ثمّ قال: حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن عكرمة، أن جميلة رضي اللّه عنها. كذا قال، والمشهور أنّ اسمها حبيبة كما تقدّم.
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا أزهر بن مروان الرّقاشيّ، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ جميلة بنت سلول أتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: واللّه ما أعتب على ثابت بن قيس بن شمّاسٍ في دينٍ ولا خلقٍ، ولكنّني أكره الكفر بعد الإسلام، لا أطيقه بغضًا. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «تردّين عليه حديقته؟» قالت: نعم، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد».
وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان، بإسناده مثله سواءٍ، وهو إسنادٌ جيّدٌ مستقيمٌ ورواه أيضًا أبو القاسم البغويّ، عن عبيد اللّه القواريريّ، عن عبد الأعلى، مثله، لكن قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، حدّثنا الحسين بن واقدٍ، عن ثابتٍ، عن عبد اللّه بن رباحٍ عن جميلة بنت أبيّ ابن سلول: «أنّها كانت تحت ثابت بن قيسٍ، فنشزت عليه، فأرسل إليها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «يا جميلة، ما كرهت من ثابتٍ؟» قالت: واللّه ما كرهت منه دينًا ولا خلقًا، إلّا أنّي كرهت دمامته! فقال لها: «أتردّين الحديقة؟» قالت: نعم. فردّت الحديقة، وفرّق بينهما».
قال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيلٍ، عن أبي جريرٍ أنّه سأل عكرمة: «هل كان للخلع أصلٌ؟ قال: كان ابن عبّاسٍ يقول: إنّ أوّل خلعٍ كان في الإسلام في أخت عبد اللّه بن أبيٍّ، أنّها أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، لا يجمع رأسي ورأسه شيءٌ أبدًا، إنّي رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدّةٍ، فإذا هو أشدّهم سوادًا، وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهًا. قال زوجها: يا رسول اللّه، إنّي قد أعطيتها أفضل مالي، حديقةً لي، فإن ردّت عليّ حديقتي؟ قال: «ما تقولين؟» قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرّق بينهما».
حديثٌ آخر: قال ابن ماجه: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن حجّاجٍ، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: «كانت حبيبة بنت سهلٍ تحت ثابت بن قيس بن شمّاسٍ، وكان رجلًا دميمًا، فقالت: يا رسول اللّه، واللّه لولا مخافة اللّه إذا دخل عليّ بصقت في وجهه! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتردّين عليه حديقته؟» قالت: نعم. فردّت عليه حديقته. قال ففرّق بينهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقد اختلف الأئمّة، رحمهم اللّه، في أنّه: هل يجوز للرّجل أن يفاديها بأكثر ممّا أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، لعموم قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا أيّوب، عن كثيرٍ مولى سمرة: «أنّ عمر أتي بامرأةٍ ناشزٍ، فأمر بها إلى بيتٍ كثير الزّبل، ثمّ دعا بها فقال: كيف وجدت؟ فقالت: ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلّا هذه اللّيلة الّتي حبستني. فقال لزوجها:اخلعها ولو من قرطها». ورواه عبد الرّزّاق، عن معمر، عن أيّوب، عن كثيرٍ مولى سمرة، فذكر مثله، وزاد: فحبسها فيه ثلاثة أيّامٍ.
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرّحمن: «أنّ امرأةً أتت عمر بن الخطّاب، فشكت زوجها، فأباتها في بيت الزّبل. فلمّا أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما كنت عنده ليلةً أقرّ لعيني من هذه اللّيلة. فقال: خذ ولو عقاصها».
وقال البخاريّ: «وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ: أنّ الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء حدّثته قالت: «كان لي زوجٌ يقلّ عليّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عنّي. قالت: فكانت منّي زلّةٌ يومًا، فقلت له: أختلع منك بكلّ شيءٍ أملكه؟ قال: نعم. قالت: ففعلت. قالت: فخاصم عمّي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفّان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: ما دون عقاص الرّأس».
ومعنى هذا: أنّه يجوز أن يأخذ منها كلّ ما بيدها من قليلٍ وكثيرٍ، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها. وبه يقول ابن عمر، وابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وإبراهيم النّخعيّ، وقبيصة بن ذؤيبٍ، والحسن بن صالحٍ، وعثمان البتّيّ. وهذا مذهب مالكٍ، واللّيث، والشّافعيّ، وأبي ثورٍ، واختاره ابن جرير.
وقال أصحاب أبي حنيفة، رحمهم اللّه: «إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا تجوز الزّيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئًا، فإن أخذ جاز في القضاء».
وقال الإمام أحمد، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه: «لا يجوز أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها». وهذا قول سعيد بن المسيّب، وعطاءٍ، وعمرو بن شعيبٍ، والزّهريّ، وطاوسٍ، والحسن، والشّعبيّ، وحمّاد بن أبي سليمان، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال معمرٌ، والحكم: كان عليٌّ يقول: «لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها». وقال الأوزاعيّ: «القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر ممّا ساق إليها».
قلت: ويستدلّ لهذا القول بما تقدّم من رواية قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قصّة ثابت بن قيسٍ: فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روى عبد بن حميدٍ حيث قال: أخبرنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: «أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كره أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي: من الّذي أعطاها؛ لتقدّم قوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي: من ذلك. وهكذا كان يقرؤها الرّبيع بن أنسٍ: «فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه» رواه ابن جريرٍ؛ ولهذا قال بعده: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون}
فصلٌ
قال الشّافعيّ: اختلف أصحابنا في الخلع، فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينارٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ: «في رجلٍ طلّق امرأته تطليقتين ثمّ اختلعت منه بعد،يتزوّجها إن شاء؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: {الطّلاق مرّتان} قرأ إلى: {أن يتراجعا}». قال الشّافعيّ: وأخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ عن عكرمة قال: «كلّ شيءٍ أجازه المال فليس بطلاقٍ».
وروى غير الشّافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ إبراهيم بن سعد بن أبي وقّاصٍ سأله فقال: «رجلٌ طلّق امرأته تطليقتين ثمّ اختلعت منه، أيتزوّجها؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاقٍ، ذكر اللّه الطّلاق في أوّل الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيءٍ، ثمّ قرأ: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} وقرأ: {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره}». وهذا الّذي ذهب إليه ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما -من أنّ الخلع ليس بطلاقٍ، وإنّما هو فسخٌ - هو روايةٌ عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، وابن عمر. وهو قول طاوسٍ، وعكرمة. وبه يقول أحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثورٍ، وداود بن عليٍّ الظّاهريّ. وهو مذهب الشّافعيّ في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة.
والقول الثّاني في الخلع: إنّه طلاقٌ بائنٌ إلّا أن ينوي أكثر من ذلك. قال مالكٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان مولى الأسلميّين عن أمّ بكرٍ الأسلميّة: «أنّها اختلعت من زوجها عبد اللّه بن خالد بن أسيدٍ، فأتيا عثمان بن عفّان في ذلك، فقال: تطليقةٌ؛ إلّا أن تكون سمّيت شيئًا فهو ما سمّيت». قال الشّافعيّ: «ولا أعرف جمهان». وكذا ضعّف أحمد بن حنبلٍ هذا الأثر، واللّه أعلم.
وقد روي نحوه عن عمر، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاءٌ، وشريحٌ، والشّعبيّ، وإبراهيم، وجابر بن زيدٍ. وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وعثمان التبي، والشّافعيّ في الجديد. غير أنّ الحنفيّة عندهم أنّه متى نوى المخالع بخلعه تطليقةً أو اثنتين أو أطلق فهو واحدةٌ بائنةٌ. وإنّ نوى ثلاثًا فثلاثٌ. وللشّافعيّ قولٌ آخر في الخلع، وهو: «أنّه متى لم يكن بلفظ الطّلاق، وعرّي عن النّيّة فليس هو بشيءٍ بالكلّيّة».
مسألةٌ:
وذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، والشّافعيّ، وأحمد وإسحاق في روايةٍ عنهما، وهي المشهورة؛«إلى أنّ المختلعة عدّتها عدّة المطلّقة بثلاثة قروءٍ، إن كانت ممّن تحيض». وروي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسارٍ، وعروة، وسالمٌ، وأبو سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهابٍ، والحسن، والشّعبيّ، وإبراهيم النّخعيّ، وأبو عياضٍ، وجلاس بن عمرٍو، وقتادة، وسفيان الثّوريّ، والأوزاعيّ، واللّيث بن سعدٍ، وأبو عبيدٍ. قال التّرمذيّ: «وهو قول أكثر أهل العلم من الصّحابة وغيرهم. ومأخذهم في هذا أنّ الخلع طلاقٌ، فتعتدّ كسائر المطلّقات».
والقول الثّاني: «أنّها تعتدّ بحيضةٍ واحدةٍ تستبرئ بها رحمها». قال ابن أبي شيبة: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عبيد اللّه بن عمر:«عن نافعٍ أنّ الرّبيّع اختلعت من زوجها، فأتى عمّها عثمان، رضي اللّه عنه، فقال: «تعتدّ حيضةً». قال: «وكان ابن عمر يقول: تعتدّ ثلاث حيضٍ، حتّى قال هذا عثمان»، فكان ابن عمر يفتي به ويقول: «عثمان خيرنا وأعلمنا».
وحدّثنا عبدة، عن عبيد اللّه، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: «عدّة المختلعة حيضةٌ».
وحدّثنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ المحاربيّ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «عدّتها حيضةٌ». وبه يقول عكرمة، وأبان بن عثمان، وكلّ من تقدّم ذكره ممّن يقول: «إنّ الخلع فسخٌ – يلزمه القول بهذا»، واحتجّوا لذلك بما رواه أبو داود، والتّرمذيّ، حيث قال كلٌّ واحدٌ منهما: حدّثنا محمّد بن عبد الرّحيم البغداديّ، حدّثنا عليّ بن بحرٍ، حدّثنا هشام بن يوسف، عن معمرٍ، عن عمرو بن مسلمٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ امرأة ثابت بن قيسٍ اختلعت من زوجها على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمرها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن تعتدّ بحيضةٍ». ثمّ قال التّرمذيّ: «حسنٌ غريبٌ». وقد رواه عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن عمرو بن مسلمٍ، عن عكرمة مرسلًا.
حديثٌ آخر: قال التّرمذيّ: حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن وهو مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسارٍ، عن الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء: «أنّها اختلعت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمرها النّبيّ - أو أمرت -أن تعتدّ بحيضةٍ». قال التّرمذيّ: «الصّحيح أنّها أمرت أن تعتدّ بحيضةٍ».
طريقٌ أخرى: قال ابن ماجه: حدّثنا عليّ بن سلمة النّيسابوريّ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ، حدّثنا أبي عن ابن إسحاق، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء قال: قلت لها: «حدّثيني حديثك. قالت: اختلعت من زوجي، ثمّ جئت عثمان، فسألت: ماذا عليّ من العدّة؟ قال: لا عدّة عليك، إلّا أن يكون حديث عهدٍ بك فتمكثين عنده حتّى تحيضي حيضةً. قالت: وإنّما تبع في ذلك قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيسٍ، فاختلعت منه».
وقد روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن أبي سلمة ومحمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان، عن الرّبيّع بنت معوّذٍ قالت:«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمر امرأة ثابت بن قيسٍ حين اختلعت منه أن تعتدّ بحيضةٍ».
مسألةٌ:
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدّة بغير رضاها عند الأئمّة الأربعة وجمهور العلماء؛ لأنّها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد اللّه بن أبي أوفى، وماهان الحنفيّ، وسعيد بن المسيّب، والزّهريّ أنّهم قالوا: «إن ردّ إليها الّذي أعطاها جاز له رجعتها في العدّة بغير رضاها»، وهو اختيار أبي ثورٍ، رحمه اللّه. وقال سفيان الثّوريّ: «إن كان الخلع بغير لفظ الطّلاق فهو فرقةٌ ولا سبيل له عليها، وإن كان سمّى طلاقًا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدّة». وبه يقول داود بن عليٍّ الظّاهريّ: واتّفق الجميع على أنّ للمختلع أن يتزوّجها في العدّة. وحكى الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ، عن فرقةٍ أنّه لا يجوز له ذلك، كما لا يجوز لغيره، وهو قولٌ شاذٌّ مردودٌ.
مسألةٌ:
وهل له أن يوقع عليها طلاقًا آخر في العدّة؟ فيه ثلاثة أقوالٍ للعلماء:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنّها قد ملكت نفسها وبانت منه. وبه يقول ابن عبّاسٍ، وابن الزّبير، وعكرمة، وجابر بن زيدٍ، والحسن البصريّ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثورٍ.
والثّاني: قال مالكٌ: «إن أتبع الخلع طلاقًا من غير سكوتٍ بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع». قال ابن عبد البرّ: «وهذا يشبه ما روي عن عثمان، رضي اللّه عنه».
والثّالث: أنّه يقع عليها الطّلاق بكلّ حالٍ ما دامت في العدّة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثّوريّ، والأوزاعيّ. وبه يقول سعيد بن المسيّب، وشريحٌ، وطاوسٌ، وإبراهيم، والزّهريّ، والحكم وحمّاد بن أبي سليمان. وروي ذلك عن ابن مسعودٍ، وأبي الدّرداء قال ابن عبد البرّ: «وليس ذلك بثابتٍ عنهما».
وقوله:{تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون} أي: هذه الشّرائع الّتي شرعها لكم هي حدوده، فلا تتجاوزوها. كما ثبت في الحديث الصّحيح: «إن اللّه حدّ حدودًا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيّعوها، وحرّم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم من غير نسيانٍ، فلا تسألوا عنها».
وقد يستدلّ بهذه الآية من ذهب إلى أنّ جمع الطّلقات الثّلاث بكلمةٍ واحدةٍ حرامٌ، كما هو مذهب المالكيّة ومن وافقهم، وإنّما السّنّة عندهم أن يطلّق واحدةً واحدةً، لقوله: {الطّلاق مرّتان} ثمّ قال: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون} ويقوّون ذلك بحديث محمود بن لبيدٍ الّذي رواه النّسائيّ في سننه حيث قال: حدّثنا سليمان بن داود، أخبرنا ابن وهبٍ عن مخرمة بن بكيرٍ عن أبيه، عن محمود بن لبيدٍ قال:«أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رجلٍ طلّق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا فقام غضبان، ثمّ قال:«أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم؟!» حتّى قام رجلٌ فقال يا رسول اللّه، ألا أقتله؟»فيه انقطاعٌ.[تفسير ابن كثير: 1/ 610-621]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى:{فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره} أي: أنّه إذا طلّق الرّجل امرأته طلقةً ثالثةً بعد ما أرسل عليها الطّلاق مرّتين، فإنّها تحرم عليه حتّى تنكح زوجًا غيره، أي: حتّى يطأها
زوجٌ آخر في نكاحٍ صحيحٍ، فلو وطئها واطئٌ في غير نكاحٍ، ولو في ملك اليمين لم تحلّ للأوّل؛ لأنّه ليس بزوجٍ، وهكذا لو تزوّجت، ولكن لم يدخل بها الزّوج لم تحلّ للأوّل، واشتهر بين كثيرٍ من الفقهاء عن سعيد بن المسيّب، رحمه اللّه، أنّه يقول: «يحصل المقصود من تحليلها للأوّل بمجرّد العقد على الثّاني». وفي صحّته عنه نظرٌ، على أنّ الشّيخ أبا عمر بن عبد البرّ قد حكاه عنه في الاستذكار، فاللّه أعلم.
وقد قال أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن شعبة، عن علقمة بن مرثدٍ، عن سالم بن رزينٍ، عن سالم بن عبد اللّه عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الرّجل يتزوّج المرأة فيطلّقها قبل أن يدخل بها البتّة، فيتزوّجها زوجٌ آخر فيطلّقها، قبل أن يدخل بها: أترجع إلى الأوّل؟ قال: «لا حتّى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها».
هكذا وقع في رواية ابن جريرٍ.
وقد رواه الإمام أحمد فقال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن علقمة بن مرثدٍ، سمعت سالم بن رزينٍ يحدّث عن سالم بن عبد اللّه، يعني: ابن عمر، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: في الرّجل تكون له المرأة فيطلّقها، ثمّ يتزوّجها رجلٌ فيطلّقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى زوجها الأوّل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتى يذوق العسيلة».
وهكذا رواه النّسائيّ، عن عمرو بن عليٍّ الفلّاس، وابن ماجه عن محمّد بن بشّارٍ بندارٍ كلاهما عن محمّد بن جعفرٍ غندرٍ، عن شعبة، به كذلك. فهذا من رواية سعيد بن المسيّب عن ابن عمر مرفوعًا، على خلاف ما يحكى عنه، فبعيدٌ أن يخالف ما رواه بغير مستندٍ، واللّه أعلم.
وقد روى أحمد أيضًا، والنّسائيّ، وابن جريرٍ هذا الحديث من طريق سفيان الثّوريّ، عن علقمة بن مرثدٍ، عن رزين بن سليمان الأحمريّ، عن ابن عمر قال: «سئل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرّجل يطلّق امرأته ثلاثًا فيتزوّجها آخر، فيغلق الباب ويرخي السّتر ثمّ يطلّقها، قبل أن يدخل بها: هل تحلّ للأوّل؟ قال: «لا حتّى يذوق العسيلة». وهذا لفظ أحمد، وفي روايةٍ لأحمد: سليمان بن رزينٍ.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا محمّد بن دينارٍ، حدّثنا يحيى بن يزيد الهنائيّ، عن أنس بن مالكٍ: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن رجلٍ كانت تحته امرأةٌ فطلّقها ثلاثًا فتزوّجت بعده رجلًا فطلّقها قبل أن يدخل بها: أتحلّ لزوجها الأوّل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا حتّى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته». ورواه ابن جريرٍ، عن محمّد بن إبراهيم الأنماطيّ، عن هشام بن عبد الملك، حدّثنا محمّد بن دينارٍ، فذكره.
قلت: ومحمّد بن دينار بن صندلٍ أبو بكرٍ الأزديّ ثمّ الطّاحيّ البصريّ، ويقال له: ابن أبي الفرات: اختلفوا فيه، فمنهم من ضعّفه، ومنهم من قوّاه وقبله وحسن له. وقال أبو داود: أنّه تغيّر قبل موته، فاللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا عبيد بن آدم بن أبي إياسٍ العسقلانيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا شيبان، حدّثنا يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي الحارث الغفاريّ عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المرأة يطلّقها زوجها ثلاثًا فتتزوّج زوجًا غيره، فيطلّقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأوّل أن يراجعها، قال: «لا حتّى يذوق الآخر عسيلتها».
ثمّ رواه من وجهٍ آخر عن شيبان، وهو ابن عبد الرّحمن، به. وأبو الحارث غير معروفٍ.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن مثنّى، حدّثنا يحيى، عن عبيد اللّه، حدّثنا القاسم، عن عائشة: «أنّ رجلًا طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوّجت زوجًا فطلّقها قبل أن يمسّها، فسئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أتحلّ للأوّل؟ فقال: «لا حتّى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأوّل». أخرجه البخاريّ، ومسلمٌ، والنّسائيّ، من طرقٍ، عن عبيد اللّه بن عمر العمريّ، عن القاسم بن عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ، عن عمّته عائشة، به.
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا عبيد اللّه بن إسماعيل الهبّاريّ، وسفيان بن وكيعٍ، وأبو هشامٍ الرّفاعيّ قالوا: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رجلٍ طلّق امرأته، فتزوّجت رجلًا غيره، فدخل بها ثمّ طلّقها قبل أن يواقعها: أتحلّ لزوجها الأوّل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا تحلّ لزوجها الأوّل حتّى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته». وكذا رواه أبو داود عن مسدّدٍ، والنّسائيّ عن أبي كريبٍ، كلاهما عن أبي معاوية، وهو محمد بن حازم الضّرير، به.
طريقٌ أخرى: قال مسلمٌ في صحيحه:
حدّثنا محمّد بن العلاء الهمدانيّ، حدّثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن المرأة يتزوّجها الرّجل فيطلّقها، فتتزوّج رجلًا فيطلّقها قبل أن يدخل بها: أتحلّ لزوجها الأوّل؟ قال: «لا حتّى يذوق عسيلتها».
قال مسلمٌ: وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا ابن فضيلٍ: وحدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا أبو معاوية جميعًا، عن هشامٍ بهذا الإسناد.
وقد رواه البخاريّ من طريق أبي معاوية محمّد بن حازمٍ، عن هشامٍ به. وتفرّد به مسلمٌ من الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جريرٍ من طريق عبد اللّه بن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا بنحوه أو مثله. وهذا إسنادٌ جيّدٌ. وكذا رواه ابن جريرٍ أيضًا، من طريق عليّ بن زيد بن جدعان، عن امرأة أبيه أمينة أمّ محمّدٍ عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمثله وهذا السّياق مختصرٌ من الحديث الّذي رواه البخاريّ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى، عن هشامٍ، حدّثني أبي، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: «أنّ رفاعة القرظيّ تزوّج امرأةً ثمّ طلّقها، فتزوّجت آخر فأتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكرت له أنّه لا يأتيها، وأنّه ليس معه إلّا مثل هدبة الثّوب فقال: «لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». تفرّد به من هذين الوجهين.
طريقٌ أخرى: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الأعلى، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: «دخلت امرأة رفاعة القرظيّ -وأنا وأبو بكرٍ عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -فقالت: إنّ رفاعة طلّقني البتّة، وإنّ عبد الرّحمن بن الزّبير تزوّجني، وإنّما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبةً من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكرٍ، ألا تنهى هذه عمّا تجهر به بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم! فما زاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على التّبسّم، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كأنّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».
وهكذا رواه البخاريّ من حديث عبد اللّه بن المبارك، ومسلمٌ من حديث عبد الرّزّاق، والنّسائيّ من حديث يزيد بن زريعٍ، ثلاثتهم عن معمرٍ به. وفي حديث عبد الرّزّاق عند مسلمٍ: «أن رفاعة طلّقها آخر ثلاث تطليقاتٍ». وقد رواه الجماعة إلّا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة، والبخاريّ من طريق عقيلٍ، ومسلمٌ من طريق يونس بن يزيد وعنده ثلاث تطليقاتٍ، والنّسائيّ من طريق أيّوب بن موسى، ورواه صالح بن أبي الأخضر كلّهم عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة، به.
وقال مالكٌ عن المسور بن رفاعة القرظيّ عن الزّبير بن عبد الرّحمن بن الزّبير: «أنّ رفاعة بن سموالٍ طلّق امرأته تميمة بنت وهبٍ في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثًا، فنكحت عبد الرّحمن بن الزّبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسّها، ففارقها، فأراد رفاعة أن ينكحها، وهو زوجها الأوّل الّذي كان طلّقها، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنهاه عن تزويجها، وقال: «لا تحلّ لك حتّى تذوق العسيلة». كذا رواه أصحاب الموطّأ عن مالكٍ وفيه انقطاعٌ. وقد رواه إبراهيم بن طهمان، وعبد اللّه بن وهبٍ، عن مالكٍ، عن رفاعة، عن الزّبير بن عبد الرّحمن، عن أبيه، فوصله.
فصلٌ
والمقصود من الزّوج الثّاني أن يكون راغبًا في المرأة، قاصدًا لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التّزويج، واشترط الإمام مالكٌ مع ذلك أن يطأها الثّاني وطئًا مباحًا، فلو وطئها وهي محرمةٌ أو صائمةٌ أو معتكفةٌ أو حائضٌ أو نفساء أو والزّوج صائمٌ أو محرمٌ أو معتكفٌ، لم تحلّ للأوّل بهذا الوطء. وكذا لو كان الزّوج الثّاني ذمّيًّا لم تحلّ للمسلم بنكاحه؛ لأنّ أنكحة الكفّار باطلةٌ عنده. واشترط الحسن البصريّ فيما حكاه عنه الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ أن ينزل الزّوج الثّاني، وكأنّه تمسّك بما فهمه من قوله عليه السّلام: «حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضًا. وليس المراد بالعسيلة المنيّ لما رواه الإمام أحمد والنّسائيّ، عن عائشة رضي اللّه عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنّ العسيلة الجماع» فأمّا إذا كان الثّاني إنّما قصده أن يحلّها للأوّل، فهذا هو المحلّل الّذي وردت الأحاديث بذمّه ولعنه، ومتى صرّح بمقصوده في العقد بطل النّكاح عند جمهور الأئمّة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:
الحديث الأوّل: عن ابن مسعودٍ. قال الإمام أحمد:
حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا سفيان، عن أبي قيسٍ، عن الهذيل، عن عبد اللّه قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة، والمحلّل والمحلّل له، وآكل الرّبا وموكله».
ثمّ رواه أحمد، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من غير وجهٍ، عن سفيان، وهو الثّوريّ، عن أبي قيسٍ واسمه عبد الرّحمن بن ثروان الأوديّ، عن هزيل بن شرحبيل الأوديّ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم به. ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصّحابة، منهم: عمر، وعثمان، وابن عمر. وهو قول الفقهاء من التّابعين، ويروى ذلك عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ.
طريقٌ أخرى: عن ابن مسعودٍ. قال الإمام أحمد: حدّثنا زكريّا بن عديٍّ، حدّثنا عبيد اللّه، عن عبد الكريم، عن أبي الواصل، عن ابن مسعودٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لعن اللّه المحلّل والمحلّل له».
طريقٌ أخرى: روى الإمام أحمد، والنّسائيّ، من حديث الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن الحارث الأعور، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: «آكل الرّبا وموكله، وشاهداه وكاتبه إذا علموا به، والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصّدقة، والمتعدّي فيها، والمرتدّ على عقبيه إعراضًا بعد هجرته، والمحلّل والمحلّل له، ملعونون على لسان محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم القيامة».
الحديث الثّاني: عن عليٍّ رضي اللّه عنه. قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا سفيان، عن جابرٍ [وهو ابن يزيد الجعفيّ] عن الشّعبيّ، عن الحارث، عن عليٍّ قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آكل الرّبا وموكله، وشاهديه وكاتبه، والواشمة والمستوشمة للحسن، ومانع الصّدقة، والمحلّل، والمحلّل له، وكان ينهى عن النّوح».
وكذا رواه عن غندرٍ، عن شعبة، عن جابرٍ، وهو ابن يزيد الجعفيّ، عن الشّعبيّ عن الحارث، عن عليٍّ، به.
وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالدٍ، وحصين بن عبد الرّحمن، ومجالد بن سعيدٍ، وابن عونٍ، عن عامرٍ الشعبي، به.
وقد رواه أبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه من حديث الشّعبيّ، به. ثمّ قال أحمد:
حدّثنا محمّد بن عبد اللّه، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليٍّ قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صاحب الرّبا، وآكله، وكاتبه، وشاهده، والمحلّل، والمحلّل له».
الحديث الثّالث: عن جابرٍ: قال التّرمذيّ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، أخبرنا أشعث بن عبد الرّحمن بن زبيدٍ الياميّ، حدّثنا مجالدٌ، عن الشّعبيّ، عن جابر بن عبد اللّه وعن الحارث، عن عليٍّ: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعن المحلّل والمحلّل له» ثمّ قال: وليس إسناده بالقائم، ومجالدٌ ضعّفه غيرٌ واحدٍ من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبلٍ. قال: ورواه ابن نميرٍ، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، عن جابر بن عبد اللّه، عن عليٍّ. قال: وهذا وهمٌ من ابن نميرٍ، والحديث الأوّل أصحّ.
الحديث الرّابع: عن عقبة بن عامرٍ: قال أبو عبد اللّه محمّد بن يزيد بن ماجه: حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، حدّثنا أبي، سمعت اللّيث بن سعدٍ يقول: قال أبو مصعبٍ مشرحٌ هو: ابن عاهان، قال عقبة بن عامرٍ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «هو المحلّل، لعن اللّه المحلّل والمحلّل له». تفرّد به ابن ماجه. وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ، عن عثمان بن صالحٍ، عن اللّيث، به، ثمّ قال: «كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا».
قلت: عثمان هذا أحد الثّقات، روى عنه البخاريّ في صحيحه. ثمّ قد تابعه غيره، فرواه جعفرٌ الفريابيّ عن العبّاس المعروف بابن فريقٍ عن أبي صالحٍ عبد اللّه بن صالحٍ، عن اللّيث به، فبرئ من عهدته واللّه أعلم.
الحديث الخامس: عن ابن عبّاسٍ. قال ابن ماجه:
حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا أبو عامرٍ، عن زمعة بن صالحٍ، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المحلّل والمحلّل له».
طريقٌ أخرى: قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ السّعديّ: حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن نكاح المحلّل قال: «لا إلّا نكاح رغبةٍ، لا نكاح دلسة ولا استهزاءٍ بكتاب اللّه، ثمّ يذوق عسيلتها».
ويتقوّى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن حميد بن عبد الرّحمن، عن موسى بن أبي الفرات، عن عمرو بن دينارٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوّى كلٌّ من هذا المرسل والّذي قبله بالآخر، واللّه أعلم.
الحديث السّادس: عن أبي هريرة. قال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا عبد اللّه، هو ابن جعفرٍ، عن عثمان بن محمّدٍ، المقبريّ، عن أبي هريرة قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المحلّل والمحلّل له».
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجانيّ، والبيهقيّ، من طريق عبد اللّه بن جعفرٍ القرشيّ. وقد وثّقه أحمد بن حنبلٍ، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معينٍ وغيرهم. وأخرج له مسلمٌ في صحيحه، عن عثمان بن محمّدٍ الأخنسيّ -وثّقه ابن معينٍ -عن سعيد المقبريّ، وهو متّفقٌ عليه.
الحديث السّابع: عن ابن عمر. قال الحاكم في مستدركه:
حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ، حدّثنا محمّد بن إسحاق الصّغانيّ حدّثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان محمّد بن مطرّفٍ المدنيّ، عن عمر بن نافعٍ، عن أبيه أنّه قال: «جاء رجلٌ إلى ابن عمر، فسأله عن رجلٍ طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوّجها أخٌ له من غير مؤامرةٍ منه، ليحلّها لأخيه: هل تحلّ للأوّل؟ فقال: لا إلّا نكاح رغبةٍ، كنّا نعدّ هذا سفاحًا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم». ثمّ قال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
وقد رواه الثّوريّ، عن عبد اللّه بن نافعٍ، عن أبيه، عن ابن عمر، به. وهذه الصّيغة مشعرةٌ بالرّفع. وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجانيّ، وحربٌ الكرمانيّ، وأبو بكرٍ الأثرم، من حديث الأعمش، عن المسيّب بن رافعٍ، عن قبيصة بن جابرٍ، عن عمر أنّه قال: «لا أوتى بمحلّلٍ ولا محلّلٍ له إلّا رجمتهما».
وروى البيهقيّ من حديث ابن لهيعة، عن بكير بن الأشجّ، عن سليمان بن يسارٍ: «أنّ عثمان بن عفّان رفع إليه رجلٌ تزوّج امرأةً ليحلّها لزوجها، ففرّق بينهما». وكذا روي عن عليٍّ، وابن عباس، وغير واحدٍ من الصّحابة، رضي اللّه عنهم.وقوله: {فإن طلّقها} أي: الزّوج الثّاني بعد الدّخول بها {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} أي: المرأة والزّوج الأوّل {إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه} أي: يتعاشرا بالمعروف وقال مجاهدٌ: «إنّ ظنًّا أنّ نكاحهما على غير دلسةٍ» {وتلك حدود اللّه} أي: شرائعه وأحكامه {يبيّنها} أي: يوضّحها {لقومٍ يعلمون}.
وقد اختلف الأئمّة، رحمهم اللّه، فيما إذا طلّق الرّجل امرأته طلقةً أو طلقتين، وتركها حتّى انقضت عدّتها، ثمّ تزوّجت بآخر فدخل بها، ثمّ طلّقها فانقضت عدّتها، ثمّ تزوّجها الأوّل: هل تعود إليه بما بقي من الثّلاث؟، كما هو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وهو قول طائفةٍ من الصّحابة، رضي اللّه عنهم، أو يكون الزّوج الثّاني قد هدم ما قبله من الطّلاق، فإذا عادت إلى الأوّل تعود بمجموع الثّلاث؟، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه، وحجّتهم أنّ الزّوج الثّاني إذا هدم الثّلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 621 - 629]


رد مع اقتباس