عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 13 محرم 1440هـ/23-09-2018م, 03:39 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين (78) ففهّمناها سليمان وكلا آتينا حكمًا وعلمًا وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطّير وكنّا فاعلين (79) وعلّمناه صنعة لبوسٍ لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80) ولسليمان الرّيح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض الّتي باركنا فيها وكنّا بكلّ شيءٍ عالمين (81) ومن الشّياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنّا لهم حافظين (82)}.
قال ابن إسحاق، عن مرّة، عن ابن مسعودٍ: كان ذلك الحرث كرمًا قد نبتت عناقيده. وكذا قال شريح.
قال ابن عبّاسٍ: النّفش: الرّعي.
وقال شريح، والزّهريّ، وقتادة: النّفش باللّيل. زاد قتادة: والهمل بالنّهار.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصمّ قالا حدثنا المحاربي، عن أشعت، عن أبي إسحاق، عن مرّة، عن ابن مسعودٍ في قوله: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} قال: كرمٌ قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبيّ اللّه! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتّى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتّى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: {ففهّمناها سليمان}.
وهكذا روى العوفي، عن ابن عبّاسٍ.
وقال حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، حدّثنا خليفة، عن ابن عبّاسٍ قال: فحكم داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم؟
فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا! فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الّذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرث وردّوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا خديج، عن أبي إسحاق، عن مرّة، عن مسروقٍ قال: الحرث الّذي نفشت فيه الغنم إنّما كان كرمًا نفشت فيه الغنم، فلم تدع فيه ورقةً ولا عنقودًا من عنبٍ إلّا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمّروه حتّى يعود كالّذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثمّ يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.
وهكذا قال شريح، ومرّة، ومجاهدٌ، وقتادة، وابن زيدٍ وغير واحدٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن أبي زيادٍ، حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن عامرٍ، قال: جاء رجلان إلى شريح، فقال أحدهما: إنّ شاة هذا قطعت غزلًا لي، فقال شريحٌ: نهارًا أم ليلًا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشّاة، وإن كان ليلًا ضمن، ثمّ قرأ: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه} الآية.
وهذا الّذي قاله شريح شبيهٌ بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث اللّيث بن سعدٍ، عن الزّهريّ، عن حرام بن محيصة ؛ أنّ ناقة البراء بن عازبٍ دخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أهل الحوائط حفظها بالنّهار، وما أفسدت المواشي باللّيل ضامنٌ على أهلها. وقد علّل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب "الأحكام" وباللّه التّوفيق.
وقوله: {ففهّمناها سليمان وكلا آتينا حكمًا وعلمًا} قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبي، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّادٌ، عن حميدٍ؛ أنّ إياس بن معاوية لمّا استقضى أتاه الحسن فبكى، قال ما يبكيك؟ قال يا أبا سعيدٍ، بلغني أنّ القضاة: رجلٌ اجتهد فأخطأ، فهو في النّار، ورجلٌ مال به الهوى فهو في النّار، ورجلٌ اجتهد فأصاب فهو في الجنّة. فقال الحسن البصريّ: إنّ فيما قصّ اللّه من نبأ داود وسليمان، عليهما السّلام، والأنبياء حكمًا يردّ قول هؤلاء النّاس عن قولهم، قال اللّه تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين} فأثنى اللّه على سليمان ولم يذمّ داود. ثمّ قال -يعني: الحسن-: إنّ اللّه اتّخذ على الحكماء ثلاثًا: لا يشترون به ثمنًا قليلًا ولا يتّبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثمّ تلا {يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه]} [ص:26] وقال: {فلا تخشوا النّاس واخشون} [المائدة:44]، وقال {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا} [المائدة:44].
قلت: أمّا الأنبياء، عليهم السّلام، فكلّهم معصومون مؤيّدون من اللّه عزّ وجلّ. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين العلماء المحقّقين من السّلف والخلف، وأمّا من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاريّ، عن عمرو بن العاص أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ" فهذا الحديث يردّ نصًّا ما توهّمه "إياسٌ" من أنّ القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النّار، واللّه أعلم.
وفي السّنن: "القضاة ثلاثةٌ: قاضٍ في الجنّة، وقاضيان في النّار: رجلٌ علم الحقّ وقضى به فهو في الجنّة، ورجلٌ حكم بين النّاس على جهلٍ فهو في النّار، ورجلٌ علم الحقّ وقضى بخلافه، فهو في النّار.
وقريبٌ من هذه القصّة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال: حدّثنا عليّ بن حفص، أخبرنا ورقاء عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء الذّئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السّكّين أشقّه بينهما، فقالت الصّغرى: يرحمك اللّه هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصّغرى".
وأخرجه البخاريّ ومسلمٌ في صحيحهما وبوّب عليه النّسائيّ في كتاب القضاء: (باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحقّ).
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة "سليمان عليه السّلام" من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالحٍ، عن الوليد بن مسلمٍ، عن سعيد بن بشرٍ، عن قتادة، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ -فذكر قصّةً مطوّلةً ملخّصها-: أنّ امرأةً حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعةٌ من رؤسائهم، فامتنعت على كلٍّ منهم، فاتّفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود، عليه السّلام، أنّها مكّنت من نفسها كلبًا لها، قد عوّدته ذلك منها، فأمر برجمها. فلمّا كان عشيّة ذلك اليوم، جلس سليمان، واجتمع معه ولدانٌ، مثله، فانتصب حاكمًا وتزيّا أربعةٌ منهم بزيّ أولئك، وآخر بزيّ المرأة، وشهدوا عليها بأنّها مكنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان: فرّقوا بينهم. فقال لأوّلهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود. فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال: أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر: أبيض. فأمر بقتلهم، فحكي ذلك لداود، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرّقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم.
وقوله: {وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطّير وكنّا فاعلين}: وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزّبور، وكان إذا ترنّم به تقف الطّير في الهواء، فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويبًا؛ ولهذا لمّا مرّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على أبي موسى الأشعريّ، وهو يتلو القرآن من اللّيل، وكان له صوتٌ طيّبٌ [جدًا]. فوقف واستمع لقراءته، وقال: "لقد أوتي هذا مزامير آل داود". قال يا رسول اللّه، لو علمت أنّك تسمع لحبّرته لك تحبيرًا.
وقال أبو عثمان النّهديّ: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمارٍ مثل صوت أبي موسى رضي اللّه عنه، ومع هذا قال: لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود). [تفسير ابن كثير: 5/ 355-358]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وعلّمناه صنعة لبوسٍ لكم ليحصنكم من بأسكم} يعني صنعة الدّروع.
قال قتادة: إنّما كانت الدّروع قبله صفائح، وهو أوّل من سردها حلقًا. كما قال تعالى: {وألنّا له الحديد. أن اعمل سابغاتٍ وقدّر في السّرد} [سبأٍ:10، 11] أي: لا توسّع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتقدّ الحلقة؛ ولهذا قال: {ليحصنكم من بأسكم} يعني: في القتال، {فهل أنتم شاكرون} أي: نعم اللّه عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلّمه ذلك من أجلكم). [تفسير ابن كثير: 5/ 358]

تفسير قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولسليمان الرّيح عاصفةً} أي: وسخّرنا لسليمان الرّيح العاصفة، {تجري بأمره إلى الأرض الّتي باركنا فيها} يعني أرض الشّام، {وكنّا بكلّ شيءٍ عالمين} وذلك أنّه كان له بساطٌ من خشبٍ، يوضع عليه كلّ ما يحتاج إليه من أمور المملكة، والخيل والجمال والخيام والجند، ثمّ يأمر الرّيح أن تحمله فتدخل تحته، ثمّ تحمله فترفعه وتسير به، وتظلّه الطّير من الحرّ، إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل وتوضع آلاته وخشبه، قال اللّه تعالى: {فسخّرنا له الرّيح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب} [ص:36]، وقال {غدوّها شهرٌ ورواحها شهرٌ} [سبأٍ:12].
قال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن سفيان بن عيينة، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبيرٍ قال: كان يوضع لسليمان ستّمائة ألف كرسيٍّ، فيجلس ممّا يليه مؤمنو الإنس، ثمّ يجلس من ورائهم مؤمنو الجنّ، ثمّ يأمر الطّير فتظلّهم، ثمّ يأمر الرّيح فتحمله صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ: كان سليمان يأمر الرّيح، فتجتمع كالطّود العظيم، كالجبل، ثمّ يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكانٍ منها، ثمّ يدعو بفرس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتّى تصعد على فراشه، ثمّ يأمر الرّيح فترتفع به كل شرف دون السّماء، وهو مطأطئٌ رأسه، ما يلتفت يمينًا ولا شمالًا تعظيمًا للّه عزّ وجلّ، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله تعالى حتّى تضعه الرّيح حيث شاء أن تضعه). [تفسير ابن كثير: 5/ 358-359]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن الشّياطين من يغوصون له} أي: في الماء يستخرجون اللّآلئ [وغير ذلك. {ويعملون عملا دون ذلك} أي: غير ذلك، كما قال تعالى: {والشّياطين كلّ بنّاءٍ وغوّاصٍ *] وآخرين مقرّنين في الأصفاد}. [ص: 37، 38].
وقوله: {وكنّا لهم حافظين} أي: يحرسه اللّه أن يناله أحدٌ من الشّياطين بسوءٍ، بل كلٌّ في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحدٌ منهم على الدّنوّ إليه والقرب منه، بل هو محكّم فيهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء؛ ولهذا قال: {وآخرين مقرّنين في الأصفاد}). [تفسير ابن كثير: 5/ 359]

رد مع اقتباس