عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 12 جمادى الأولى 1435هـ/13-03-2014م, 06:38 PM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

تفسير لَمَّةِ الملَك وَلَمَّةِ الشَّيطَانِ

قالَ أَحْمَدُ بنُ عبدِ الحَليمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ (ت:728هـ):(فَالشَّيْطَانُ يُلْقِي فِي النَّفْسِ الشَّرَّ، وَالمَلَكُ يُلْقِي الخَيْرَ،وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا وَقَدْ وُكِّلَ بهِ قَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ وَقَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ )).
قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: (( وَإِيَّايَ إلا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلا يَأْمُرُنِي إلا بخَيْرِ )) أَيْ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ.
وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَة يَرْوِيه فَأَسْلَمُ بالضَّمِّ، وَيَقُولُ: إنَّ الشَّيْطَانَ لا يُسْلِمُ لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الأخْرَى: (( فَلا يَأْمُرُنِي إلا بخَيْرِ)) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَأْمُرُهُ بالشَّرِّ، وَهَذَا إسْلامُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ خُضُوعِهِ وَذِلَّتِهِ لا عَنْ إيمَانِهِ باللَّهِ كَمَا يَقْهَرُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ الظَّاهِرَ وَيَأْسِرُهُ، وَقَدْ عَرَفَ العَدُوُّ المَقْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ القَاهِرَ يَعْرِفُ مَا يُشِيرُ بهِ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ؛ فَلا يَقْبَلُهُ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَحْتَاجُ لانْقِهَارِهِ مَعَهُ إلَى أَنَّهُ لا يُشِيرُ عَلَيْهِ إلا بخَيْرٍ لِذِلَّتِهِ وَعَجْزِهِ لا لِصَلاحِهِ وَدِينِهِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إلا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلا يَأْمُرُنِي إلا بخَيْرِ)).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ المَلَكِ إيعَادٌ بالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بالحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بالحَقِّ).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ بمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبكُمْ مِنَ الوَسْوَسَةِ المُرْعِبَةِ كَشَيْطَانِ الإِنْسِ الَّذِي يُخَوِّفُ مِنَ العَدُوِّ فَيَرْجُفُ وَيَخْذُلُ، وَعَكْسُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَـبِّـتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12].
وَقَالَ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74)} [الإسراء: 74].
وَالتَّثْبيتُ جَعْلُ الإِنْسَانِ ثَابتًا لا مُرْتَابًا، وَذَلِكَ بإِلْقَاءِ مَا يُثَبِّتُهُ مِنَ التَّصْدِيقِ بالحَقِّ وَالوَعْدِ بالخَيْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَمَّةُ المَلَكِ وَعْدٌ بالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بالحَقِّ) فمتى عَلِمَ القَلْبُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بهِ الرَّسُولُ حَقٌّ صَدَّقَهُ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَهُ بالتَّصْدِيقِ وَثقَ بوَعْدِ اللَّهِ فَثَبَتَ؛ فَهَذَا تَثْبيتٌ بالكَلامِ كَمَا يُثَبِّتُ الإِنْسَانُ الإِنْسَانَ فِي أَمْرٍ قَدِ اضْطَرَبَ فِيهِ بأَنْ يُخْبرَهُ بصِدْقِهِ وَيُخْبرَهُ بمَا يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ مَنْصُورٌ؛ فَيَثْبُتُ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّثْبيتُ بالفِعْلِ بأَنْ يُمْسِكَ القَلْبَ حَتَّى يَثْبُتَ كَمَا يُمْسِكُ الإِنْسَانُ الإِنْسَانَ حَتَّى يَثْبُتَ.
وَفِي الحَدِيثِ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ سَأَلَ القَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْأَلِ القَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ )) فَهَذَا المَلَكُ يَجْعَلُهُ سَدِيدَ القَوْلِ بمَا يُلْقِي فِي قَلْبهِ مِنَ التَّصْدِيقِ بالحَقِّ وَالوَعْدِ بالخَيْرِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، وَقَدْ ذَكَرَ إخْرَاجَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].
وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} [الحديد: 9].
وَقَالَ: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بإِذْنِ رَبهِمْ} [إبراهيم: 1].
وَفِي الحَدِيثِ (( أَنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ ))
وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا بتَعْلِيمِهِ الخَيْرَ يُخْرِجُ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَلِهَذَا كَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ النَّاسِ بكَمَالِ هَذِهِ الصَّلاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ} س[الأحزاب: 56].
وَالصَّلاةُ هِيَ الدُّعَاءُ إمَّا بخَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ، وَإِمَّا بصِيغَةِ الدُّعَاءِ؛ فَالمَلائِكَةُ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (( وَالمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ))؛ فَبَيَّنَ أَنَّ صَلاتَهُمْ قَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.
وَفِي الأثَرِ: (( إنَّ الرَّبَّ يُصَلِّي فَيَقُولُ: سَبَقَتْ - أَوْ غَلَبَتْ - رَحْمَتِي غَضَبي ))
وَهَذَا كَلامُهُ سُبْحَانَهُ وهُوَ خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَسْبقُ الغَضَبَ وَتَغْلِبُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لا يَدْعُو غَيْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا يَدْعُوهُ المَلائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الخَلْقِ، بَلْ طَلَبُهُ بأَمْرِهِ وَقَوْلِهِ وَقَسَمِهِ كَقَوْلِهِ: لأفْعَلَنَّ كَذَا، وَقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ.
وَقَوْلُهُ: لأفْعَلَنَّ كَذَا قَسَمٌ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبعَكَ} [ص: 85].
وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13].
وَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].
وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21].
وَهَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ بالقَسَمِ بخِلافِ قَوْلِهِ: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ وَخَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ، لَكِنَّهُ مُؤَكَّدٌ باللامِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ.
وَقَوْلِهِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20].
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7].
وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعْدٌ مُجَرَّدٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَى البَشَرِ تَارَةً وَحْيًا مِنْهُ وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِي إلَى الرَّسُولِ بإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، وَالمَلائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ). [مجموع الفتاوى:17/524-526]

اشتقاق لفظ الملَك
قالَ أَحْمَدُ بنُ عبدِ الحَليمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ (ت:728هـ):(وَالمَلائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ، وَلَفْظُ المَلَكِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الكَلِمَةِ مَلأك عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ، لَكِنْ لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ خُفِّفَتْ بأَنْ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ وَمَلاك مَأْخُوذٌ مِنَ المَأْلُك وَالمَلأك بتَقْدِيمِ الهَمْزَةِ عَلَى اللامِ وَاللامِ عَلَى الهَمْزَةِ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ، وَكَذَلِكَ الألُوكَةُ بتَقْدِيمِ الهَمْزَةِ عَلَى اللامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:


أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا.....أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وَهَذَا بتَقْدِيمِ الهَمْزَةِ، لَكِنَّ المَلَكَ هُوَ بتَقْدِيمِ اللامِ عَلَى الهَمْزَةِ، وَهَذَا أَجْوَدُ؛ فَإِنَّ نَظِيرَهُ فِي الاشْتِقَاقِ الأكْبَرِ لاكَ يَلُوكُ إذَا لاكَ الكَلامَ وَاللِّجَامَ، وَالهَمْزُ أَقْوَى مِنَ الوَاوِ وَيَلِيهِ فِي الاشْتِقَاقِ الأوْسَطِ: أَكَلَ يَأْكُلُ؛ فَإِنَّ الآكِلَ يَلُوكُ مَا يُدْخِلُهُ فِي جَوْفِهِ مِنَ الغِذَاءِ وَالكَلامِ.
وَالعِلْمُ مَا يَدْخُلُ فِي البَاطِنِ وَيُغَذَّى بهِ صَاحِبُهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: (إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ، وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ القُرْآنُ).
وَالآدِبُ: المُضيفُ، وَالمَأْدُبَةُ الضِّيَافَةُ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ مِنَ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ضَيَّفَ عِبَادَهُ بالكَلامِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ؛ فَهُوَ غِذَاءُ قُلُوبهِمْ وَقُوتُهَا، وَهِيَ أَشَدُّ انْتِفَاعًا بهِ وَاحْتِيَاجًا إلَيْهِ مِنَ الجَسَدِ بغِذَائِهِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الرَّبَّانِيُّونَ همُ الَّذِينَ يُغَذُّونَ النَّاسَ بالحِكْمَةِ وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهَا).
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إنِّي أَبيتُ عِنْدَ رَبي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي )).
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ القُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالنَّاسُ إلَى الغِذَاءِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى الشِّفَاءِ فِي القُلُوب وَالأبْدَانِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَسَقُوا وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبتُ كَلأ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بهِ )).
فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا بُعِثَ بهِ لِلْقُلُوب كَالمَاءِ لِلأرْضِ تَارَةً تَشْرَبُهُ فَتَنْبُتُ وَتَارَةً تَحْفَظُهُ وَتَارَةً لا هَذَا وَلا هَذَا وَالأرْضُ تَشْرَبُ المَاءَ وَتَغْتَذِي بهِ حَتَّى يَحْصُلَ الخَيْرُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رُوحٌ تَحْيَا بهِ القُلُوبُ فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}[الشورى: 52].
وَإِذَا كَانَ مَا يُوحِيهِ إلَى عِبَادِهِ تَارَةً يَكُونُ بوَسَاطَةِ مَلَكٍ وَتَارَةً بغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ مُطْلَقًا لا يَخْتَصُّ بهِ الأنْبيَاءُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بي وَبرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} [المائدة: 111] وَإِذَا كَانَ قَدْ قَالَ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] الآيَةَ.
فَذَكَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَيْهِمْ فَإِلَى الإِنْسَانِ أَوْلَى، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] ). [مجموع الفتاوى:17/527-529]


رد مع اقتباس