عرض مشاركة واحدة
  #86  
قديم 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م, 11:02 AM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

مثال على فائدة علم الاشتقاق في الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ومن أمثلة فوائده في الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين:
ما وقع من اختلاف المفسرين في معنى "المسحَّرين" في قول الله تعالى: {قالوا إنما أنت من المسحّرين}

فإنّهم اختلفوا فيه على أقوال كثيرة:
القول الأول: من المخلوقين، رواه ابن جرير والخطيب البغدادي كلاهما من طريق موسى بن عمير القرشي عن أبي صالح عن ابن عباس، وموسى بن عمير متروك الحديث.
وقال بهذا القول: الخليل بن أحمد، وجماعة من أهل اللغة.
القول الثاني: المسحورين، وهو قول مجاهد رواه عنه ابن جرير.
القول الثالث: الساحرين، وهو قول قتادة رواه عنه عبد الرزاق وابن أبي حاتم.
والقول الرابع: من المخدوعين، وهو رواية عن مجاهد أخرجها ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" من طريق الكلبي عن أبي صالح وعبد الوهاب عن مجاهد.
والقول الخامس: المسحَّر المجوَّف، وهو قول الفراء.
والقول السادس: المسحَّر الذي ليس له شَيء ولا مُلك، وهو تفسير الكلبي فيما ذكره يحيى بن سلام.
والقول السابع: المسحَّرون المرزوقون الذين لا بدّ لهم من الغذاء، ذكره ابن دريد في الجمهرة، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة نحوه.
قال أبو عبيدة: (كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحّر).
والقول الثامن: من المعلَّلين بالطعام والشراب، وهو قول ابن قتيبة.
والقول التاسع: ممن له سَحْر أي: رئة، والمقصد إنما أنت بشر مثلنا، وهذا قول الزجاج.
وقد حكى الماوردي أقوالاً أخرى لا أعلم لها أصلاً.


وهذه الأقوال المذكورة ترجع إلى معنيين في الاشتقاق:

المعنى الأول: أن يكون لفظ "المسحّرين" مشتقّا من السِّحْر، بكسر السين.
والمعنى الثاني: أن يكون مشتقّا من "السَّحْر" بفتح السين، لكن اختلف فيه على قولين:
القول الأول: أنّ المراد السَّحْر الذي بمعنى التغذية، وهو قول الخليل بن أحمد.
والقول الثاني: أن المراد السَّحْر الذي هو الرئة، وهو قول الفراء وأبي عبيدة والزجاج.
والذي يظهر لي أنّ هذين المعنيين يرجعان إلى اشتقاق واحد وهو الصَّرف، وأنّ المسحَّر هو المصروف عن شأنه وما ينفعه.
ومنه قوله تعالى: {فأنّى تُسحرون} أي "تُصرفون" في قول جمهور المفسّرين.
قال لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسَحَّر
عبيد لِحَيَّيْ حميرٍ إن تملَّكوا ... وتظلمنا عُمَّالُ كسرى وقيصرِ
نحلُّ بلاداً كلّها حُلَّ قبلَنا ... ونرجو الفلاحَ بعد عادٍ وحِمْيَرِ

يقول نحن أمّة ضعيفة مستضعفة كالعصافير في ضعفها واشتغالها بطلب المأكل والمشرب حتى استذلّتنا الأمم الأخرى كملوك حِمير من الجنوب، والمناذرة الذي هم وكلاء كسرى على من يليهم من العرب من جهة المشرق، والغساسنة الذين هم وكلاء قيصر على من يليهم من العرب من جهة الشمال.
يقول: فلم نهتدِ لما ننجو به من هذا الذلّ، ولم نفق من سكرتنا بطلب المأكل والمشرب، وغفلنا عن مصيرنا وقد علمنا هلاك الأمم قبلنا؛ فكأنّنا مسحَّرون أي: مصروفون عن شأننا وسبيل عزّتنا، مقيمون على ضعفنا واشتغالنا بما نُلهى به مما لا ينفع.
وهذا من شعر لبيد في الجاهلية.
وقال لبيد أيضاً:
وإنا قد يُرى ما نحن فيه ... ونُسحر بالشراب وبالطعام
كما سُحرت به إرم وعاد ... فأضحوا مثل أحلام النيام
وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
أرانا موضِعين لأمرِ غيبٍ ... وَنُسْحَرُ بالطعامِ وَبالشرابِ
عَصــــــــــــافيرٌ وَذُبَّانٌ وَدُودٌ ... وأجْرأُ مِنْ مُجَلِّحَةِ الذِّئـــــــــابِ
يقول: نحن في ضعفنا وقعودنا عن طلب العزّة كالمخلوقات الضعيفة من العصافير والذبّان والدود، وفي الشرّ والمآثم وقطيعة الأرحام أجرأ من الذئاب الضارية.
والمقصود من هذه الشواهد أنّ "المسحَّر" هو المصروف عن شأنه وما ينفعه، المشتغل بما يُلهى به عما يراد له.
والتعبير بالتسحير فيه معنى زائد عن مجرّد الصرف؛ فهو صرف مصحوب بأمرين:
1. غفلة عما أمامه من كيد يراد له أو عاقبة لم يستعدّ لها.

2. واشتغال بما لا ينفع، وهذا المشتغَلُ به قد يُذكر وقد يُحذف احتقاراً له أو لعدم فائدة ذكره.

ومن هذا الاشتقاق سمّي السِّحْر سحراً؛ لأنّ المسحور مصروف عما ينفعه ويصلح شأنه مشتغل بما لا ينفعه.
قال أبو منصور الأزهري: ( والسحر سمي سحرا: لأنه صرف الشيء عن جهته، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه)ا.هـ.
وتقرير معنى الآية على هذا - والله تعالى أعلم - أنّهم أرادوا بقولهم: "إنما أنت من المسحَّرين" أي من المصروفين عن شأنهم وما ينفعهم، المتعلّلين بما زُيّن لهم مما التهوا به وشغلهم.
وفيه تكذيب بالرسالة، واتهام رسولهم بأنّ ما يدعوا إليه إنما هو لهوٌ تعلّل به فخُدع به وصرفه عما يرونه من صلاح الشأن الذي يزعمون أنهم يبصرون فيه سبيل الرشاد، وأنّ رسولهم مُسحَّرٌ عنه، ولتأكيد هذا المعنى قالوا: {ما أنت إلا بشر مثلنا} وفي الموضع الآخر: {وما أنت إلا بشر مثلنا}.
وبذلك يظهر أن لفظ "المسحَّرين" ينتظم أكثر الأقوال المذكورة في تفسيره؛ فكلٌّ قد عبّر ببعض المعنى ، وبعض تلك الأقوال لها علل يحسن التنبيه عليها.
1. فأما القول بأنّ "المسحّرين" هم المخلوقون؛ فنسبته إلى ابن عباس لا تصحّ من جهة الإسناد، وهو قول صحيح من جهة المعنى؛ لكنّه تفسير باللازم.
2. وأما القول بأنّ المسحّرين هم المسحورون الذي سُحروا مرّة بعد مرّة، فهو قول له وجهه في اللغة، من جهة أنّ مُفعَّلا يأتي لتأكيد معنى المفعولية في "مفعول" ، كما في "مغلوب" و"مُغلَّب" ؛ فالمغلوب يقع على من غُلب مرة واحدة، والمُغلَّب الذي يُغلب مراراً؛ فلا يكاد يُغالب إلا غُلب.
قال عمرو بن كلثوم:
فإنْ نَغلب فغلابون قدما وإنْ نُغلب فغير مُغَلَّبينا
ولذلك قال بعض أهل اللغة في تقريب هذا القول: المُسَحَّر المسحور مرّة بعد مرّة.
وهذا القول رواه ابن جرير من طرق عن مجاهد.
3. وأما القول بأنّ "المسحَّرين" هم الساحرون، فرواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم.
وقد روى هذا القول ابن جرير في تفسيره من هذا الطريق لكن قال: (من المسحورين) وقرنه بقول مجاهد، ولعلّ الصواب من جهة الرواية ما في تفسير عبد الرزاق.


ولهذا القول تخريجان لغويان مقبولان:
أحدهما:
أنّ المُسحَّر هو الذي عُلّم السِّحْرَ حتى صار ساحراً؛ فهو وإن كان اسم مفعول إلا أنّه يؤول إلى معنى اسم الفاعل كما في "مُسلَّم" و"سالم" و"مخلَّد" و"خالد"، و"ومغلَّب" و"غالب".

والآخر: أن يكون المسحَّر بمعنى المتَّهم بالسحر؛ كالمكذَّب المتَّهم بالكذب، و"المبخَّل" الموصوف بالبخل.
4. وأما تفسير "المسحّرين" بالمخدوعين، فلا يصحّ عن مجاهد من حيث الإسناد، لكنّه تفسير صحيح قائم على المعنى المتقدّم تقريره بشواهده.
5. وأما تفسير الفراء للمسَحَّر بالمجوَّف؛ فهذا مأخوذ من لازم التعليل بالطعام والشراب، والشارب والطاعم له جوف؛ لكن لا يقصر المعنى عليه.
6. وأما تفسير المسحَّر بالذي ليس له شَيء ولا مُلك، فهو تفسير صحيح باعتبار اللازم على المعنى المتقدم ذكره.
7. وأما تفسير المسحَّر بالمرزوق الذين لا بدّ له من الغذاء، فهو تفسير ببعض المعنى على ما تقدّم ذكره.
8. وأما تفسير المسحَّر بالمعلل بالطعام والشراب؛ فهو مأخوذ من الشواهد الشعرية عن لبيد وامرئ القيس لكن قصر المعنى عليه لا يصح، لأنّ هذا الوصف له مقصد.
9. وأما تفسير الزجاج للمسحَّر بالذي له سَحر وهو الرئة فهو تفسير أراد به التنبيه على اشتقاق اللفظ، وهو أحد الأقوال في الاشتقاق كما تقدّم، والأظهر خلافه
وقد ردّ ابن القيّم هذا القول في بدائع الفوائد فأحسن). [طرق التفسير:231 - 237]


رد مع اقتباس