عرض مشاركة واحدة
  #48  
قديم 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:56 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
ذهب الزرقاني في مناهل العرفان إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية فهو منسوخ بالعرضة الأخيرة؛ فقال: (ما لا يوافق رسم المصحف بحال من الأحوال نحو قوله سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وقرأ ابن عباس هكذا [يأخذ كل سفينة صالحة غصبا] بزيادة كلمة صالحة فإنَّ هذه الكلمة لم تثبت في مصحف من المصاحف العثمانية فهي مخالفة لخطّ المصحف، وذلك لأنَّ هذه القراءة وما شاكلها منسوخة بالعرضة الأخيرة، أي عرض القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل آخر حياته الشريفة، ويدل على هذا النسخ إجماع الأمة على ما في المصاحف)ا.هـ.

وهذه الدعوى لا تصحّ؛ فإنّه من المقطوع به أنّ الصحابة كانوا يقرءون قبل جمع عثمان على أحرف مختلفة غير منسوخة، وكانوا يصلون بها في الجمع والجماعات ويتلونها في المجامع وحلق التعليم، ولو كان أحد منهم يقرأ بالمنسوخ لأُنكِرَ عليه.
- والقراءة بالمنسوخ قد تُتَصوّر من الرجل والرجلين في أحرف يسيرة، وأما ما يحمله العدد الكثير من القراء، ويشتهر ذكره ولا ينكر فلا.
- وقد كان في حِلَقِ ابن مسعود في الكوفة العدد الكثير، وكان يدور على تلك الحِلَق، ويُشرف على قراءة كلّ حلقة ومقرئها، وروي أنّ في حِلَق أبي الدرداء نحو ألف رجل، لكل عشرة منهم ملقّن، وأنّ أبا الدرداء كان يطوف عليهم قائماً؛ فإذا أحكمَ الرجلُ منهم تحوَّل إلى أبي الدرداء يعرض عليه.

- ثمّ إنّ الصحابة رضي الله عنهم إنما حملهم على الجمع في زمن عثمان اختلافُ الناس في الأحرف، لا أنّ أحداً من القرّاء كان مصرّا على الإقراء بالمنسوخ، واعتراضُ ابن مسعود رضي الله عنه يدلّ دلالة بيّنة على أنّ قراءته تخالف قراءة زيد في بعض الأحرف التي لم تكن منسوخة قطعاً، وقد بيّن أنّه لا يعلم أحداً في زمانه ذلك أعلم منه بكتاب الله، وأنه يعلم أين نزلت كلّ آية ومتى نزلت، وأنّه عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين في العام الذي قبض فيه.
- وقد شهد ابنُ عباس لابن مسعود أن قراءته هي الأخيرة، كما تقدّم، وزيد بن ثابت ممن عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه، فكلاهما قد شهد العرضة الأخيرة، واختلفت قراءتاهما في بعض الأحرف لا أنّ أحدهما يقرأ بما هو منسوخ، وكلاهما أقرأ الناسَ زمناً طويلاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، من غير إنكار، وابن عباس قرأ على زيد بن ثابت وروي أنه أخذ بعض الأحرف من قراءة ابن مسعود، ولم ينكر على أحد منهما أنه يقرئ بالمنسوخ.
قال هارون بن موسى الأزدي: حدثنا صاحبٌ لنا، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن ابن عباس قال: (قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود، هذا أحدها [من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها] ). رواه ابن أبي داوود في المصاحف، وقد رويت هذه القراءة عن ابن مسعود من طرق أخرى.

- وكان حذيفة عالماً باختلاف القرَّاء، ولو كان أحدهم يُقرئ بالمنسوخ لأَنكر عليه، ولما احتاج الجمعُ إلى أكثر من الإنكار على من يُقرئ بالمنسوخ.
- ولمّا تكلّم أئمة القراء في ردّ دعوى احتواء المصاحف العثمانية للأحرف السبعة كان من أدلّتهم أنه يلزم من ذلك القول بنسخ ما لا يوافق رسم المصاحف العثمانية من الأحرف الأخرى، وذكروا أنه قول باطل، وهذا مما يدلّ على تقرر بطلان هذه الدعوى.
قال ابن الجزري: (إذا قلنا إن المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يُقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم)ا.هـ
وقال مكي بن أبي طالب القيسي: (ولو كانت هي السبعة كلها، وهي موافقة للمصحف لكان المصحف قد كتب على سبع قراءات، ولكان عثمان رضي الله عنه، قد أبقى الاختلاف الذي كرهه، وإنما جمع الناس على المصحف، ليزول الاختلاف)ا.هـ.

فهذا كلّه مما يدلّ دلالة بيّنة على خطأ هذه الدعوى، وقد تفكّرت في منشأ هذه الدعوى؛ فوجدت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه في الأحرف السبعة وآخر لابن الجزري رحمه الله في كتابه النشر وفيهما ما يستدعي التوضيح لإزالة اللبس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما [والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى] كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد الله: [فصيام ثلاثة أيام متتابعات]. وكقراءته: [إن كانت إلا زقية واحدة] . ونحو ذلك؛ فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ على قولين للعلماء: هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك:
إحداهما: يجوز ذلك لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة.
والثانية: لا يجوز ذلك وهو قول أكثر العلماء، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين.
والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر، وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره)ا.هـ.
وهذا القول استدرك عليه ابن الجزري في النشر وهذّبه تهذيباً حسناً فقال: (قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى} وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد.
وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة، كل هذه مآخذ للمانعين)ا.هـ

فابن الجزري رحمه الله جمع أجوبة العلماء في منع الإقراء بما ثبت مما يخالف رسم المصاحف العثمانية، وبيَّن أنّ ما خالف رسم المصحف منه ما يكون من المنسوخ تلاوة، ومنه ما يكون مما أجمع الصحابة على ترك القراءة به بعد جمع عثمان، ولذلك فإنّ الإجماع على ترك القراءة بما خالف رسم المصحف لا يقتضي القول بالنسخ مطلقاً.

والقول بأنّ كلّ ما خالف رسم المصحف فهو منسوخ قد تقدّم عن بعض المتكلمين كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وغيره، لكنّهم زعموا أنّ رسم المصحف مشتمل على الأحرف السبعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أوفق لهم، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون إنه نسخ ما سوى ذلك.
وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة)
ا.هـ.
وهذا حكاية لأقوال المتكلمين في الأحرف السبعة). [جمع القرآن:161 - 166]


رد مع اقتباس