عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 17 ذو الحجة 1438هـ/8-09-2017م, 08:46 PM
جمهرة علوم اللغة جمهرة علوم اللغة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 2,897
افتراضي

شرح أبي الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ)

باب مواضع "إنْ" المكسورة الخفيفة
قال أبو الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ): (باب مواضع "إنْ" المكسورة الخفيفة
اعلم أن لها ستة مواضع:
تكون جزاء، كقولك: «"إن" تأتني آتيك».
وتكون نفيًا بمعنى "ما" كقولك: «"إن" زيدٌ قائمٌ»، تريد: "ما" زيدٌ قائمٌ، وكان سيبويه رحمه الله لا يرى فيها إلا رفع الخبر، لأنها حرف نفي دخل على ابتداء وخبر، كما تدخل "ألف" الاستفهام فلا تغيره، وكذلك مذهب بني تميم في "ما" وكان القياس في "ما" ألا تعمل شيئًا، فلما خالف بعض العرب القياس وأعملوها فليس لنا أن تتعدى ذلك، لأن القياس لا يوجبه، وغير سيبويه يجيز النصب على التشبيه بـ "ليس" كما فعل ذلك في "ما" لأنه لا فصل بين "ما" وبينها في المعنى، فتقول: «"إن" زيدٌ قائمًا»، كما تقول: «"ما" زيدٌ قائمًا»، وأنشد:
إن هو مستوليًا على أحدٍ .... إلا على حزبه الملاعين
فنصب «مستوليًا» وهو خبر "إن" وهذا مذهب الكسائي رحمه الله والمبرد، وقول الفراء: هو مثل قول سيبويه.

والموضع الثالث: تكون مخففة من الثقيلة:
ولك فيها وجهان: إن شئت رفعت ما بعدها على الابتداء وأبطلت عملها، وتلزم خبرها "لام" التوكيد لابد منها، ولا يجوز بغير "لام"، كقولك: «"إن" زيدٌ لقائمٌ»، «و"إن" زيدٌ لفي الدار»، تريد: "إن" زيدًا لقائم، و"إن" زيدًا لفي الدار، فلما خففت أبطلت عملها، وهذا الوجه أكثر، لأنها كانت تعمل بلفظها وفتح آخرها، وقد بطل اللفظ، ومن ذلك قول النابغة.
وإن مالك للمرتجى إن تقعقعت .... رحى الحرب أو دارت علي خطوب.
وقال آخر:
إن القوم والحي الذي أنا منهم .... لأهل مقامات وشاءٍ وجامل
وإنما ألزمت خبرها "اللام" إذا رفعت، لئلا تلتبس بـ "إن" التي للنفي، لأنك لو قلت: «"إن" زيدٌ قائمٌ» وأنت تريد الإيجاب لتوهم السامع أنك تريد: "ما" زيدٌ قائمٌ، فأدخلت "اللام" ليعلم أنك تريد الإيجاب لا النفي؟
وإن شئت نصبت بها على معنى التثقيل، كقولك: «"إن" زيدًا قائمٌ»، و«"إن" أخاك خارجٌ» تريد "إن" زيدًا قائم، و"إن" أخاك خارج، ولا تحتاج إلى "اللام" إذا نصبت، لأن النصب قد أبان أنها الموجبة، إلا أن تدخلها توكيدًا، كما تقول إذا ثقلتها: «"إن" زيدًا لقائم»، ومنه قول الشاعر:
كليب إن الناس الذين عهدتهم ..... بجمهور حزوى فالرياض لذي النخل
فنصب «الناس» على نية تثقيلها، أراد: "إن" الناس فخفف.
وقرأ بعض القراء: {وإن كلًا لما ليوفينهم}، خفف "إن" ونصب "كلا" على نية تثقيلها.
واعلم أنه إذا بطل عمل "إن" المخففة من الثقيلة جاز أن يقع بعدها الاسم والفعل جميعًا، ولم يكن بينها وبين "إن" النافية فرق إلا "باللام"، فمتى ذكرت "اللام" فهي المخففة من الثقيلة في معنى الإيجاب، ومتى حذفت "اللام" فهي المخففة من الثقيلة في معنى الإيجاب، ومتى حذفت "اللام" فهي النافية، تقول في الاسم: «"إن" زيد لمنطلق» و«"إن" عمروٌ لخارج» تدخل "اللام" في الخبر إذا أردت بها الإيجاب والتحقيق، وإن أردت النفي أسقطت "اللام"، فقلت: «"إن" زيدٌ منطلقٌ»، و«"إن" عمروٌ خارجٌ»، تريد: "ما" زيد منطلق، و"ما" عمرو خارج، وتقول في الفعل إذا أردت بها الجحد: «"إن" قام زيد» بمعنى: "ما" قام زيد، و«"إن" ضربت زيدًا» بمعنى "ما" ضربتُ زيدًا، وإن أردت بها الإيجاب قلت «"إن" قام لزيد»، و«"إن" ضربت لزيدًا»، فتدخل "اللام" على الفاعل والمفعول به، لتكون فرقًا بين الإيجاب والجحد، وكذلك تقول: «"إن" كان زيد منطلقًا» على معنى: "ما" كان زيد منطلقًا، و: «"إن" كان زيد لمنطلقًا»، على معنى الإيجاب، كأنك قلت: "إنه" كان زيد منطلقًا، فأدخلت "اللام" مع "إن" للفرق بين الإيجاب والجحد، ومنه قول الشاعر:
شلت يمينك إن قتلت لمسلمًا ..... حلت عليك عقوبة المتعمد
ومن ذلك قول الله عز وجل: {وإن كنت لمن الساخرين}، {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}، {وإن نظنك لمن الكاذبين}، {وإن كنت من قبله لمن الغافلين}، {تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين}، {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين}، {وإن كانوا ليقولون}، {وإن كدت لتردين}، {وإن كادوا ليفتنونك}، و{إن كان وعد ربنا لمفعولًا}، وما أشبه ذلك "إن" في جميع ذلك ونحوها مخففة من الثقيلة، على مذهب البصريين، و"اللام" "لام" التوكيد التي تلزم في خبر "إن" الخفيفة، للفصل بين الإيجاب وبين النفي.
وأهل الكوفة يقدرون "إن" في قولك: «"إن" زيد لقائم»، و«"إن" قام لزيد» بمعنى "ما"، و"اللام" بمعنى "إلا"، والتقدير عندهم: "ما" زيد إلا قائم، و"ما" قام
"إلا" زيد، ويقولون في قول الشاعر: «"إن" قتلت لمسلمًا» "إن" معناه:"ما" قتلت"إلا" مسلمًا، وكذلك يجعلون "إن" في قول الله تعالى: {وإن كنت لمن الساخرين}، وما أشبهها من الآيات بمعنى "ما" و"اللام" بمعنى "إلا" كأنه قال: و"ما" كنت "إلا" من الساخرين.
ومن الناس من يقول: إن "إن" فيها بمعنى "قد" كأنه قال: "قد" كنت لمن الساخرين، و"قد" وجدنا أكثرهم لفاسقين، و"قد" كدت لتردين، و"قد" كادت لتبدي به، وكذلك ما أشبهها.

والموضع الرابع تكون "إن" زائدة مع "ما" لتوكيد الجحد، ويبطل عمل "ما" في لغة أهل الحجاز، وتسمى كافة لـ "ما" عن عملها، ويكون ما بعدها ابتداء وخبرًا، كقولك: «"ما" "إن" زيد قائم»، و«"ما" "إن" يقوم زيد»، و«"ما" "إن" رأيت مثله».
وأما في لغة بني تميم إذا قلت: «"ما" "إن" زيدٌ قائمٌ» فتكون "إن" مع "ما" لغوًا وتأكيدًا، لأنهم لا يعملون "ما" قال فروة بن مسيك:
وما إن طبنا جبن ولن .... منايانا ودولة آخرينا
فرفع خبر "ما" على لغة أهل الحجاز، لدخول "إن" وهي زائدة، والمعنى: و"ما" طبنا جبن، وقال النابغة:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه..... إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي
"إن" ها هنا زائدة لتوكيد النفي، والمعنى: "ما" أتيت بشيء أنت تكرهه.
وقال امرؤ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ .... لناموا فما إن من حديثٍ ولا صال
أراد: فما حديث، و"إن" و"من" زائدتان، وقال آخر:
يا طائر البين لا إن زلت ذا وجلٍ .... من المقنص والقناص محجوبًا.
أراد: لازلت، و"إن" زائدة.
وقد تدخل "إن" زائدة أيضًا بعد "ما" التي بمعنى "حين" كما قال الشاعر:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته .... على السن خيرًا لا يزال يزيد
أراد: "حين" رأيته.
واعلم أن "إن" إذا كانت جحدًا فلك في خبرها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تقول: «"إن" زيد قائم» و«"إن" أقوم معك»، تريد: "ما" زيد قائم، و"ما" أقوم معك، قال الله تعالى: {قل إن أدري أقريب ما توعدون}، أي: "ما" أدري، وقال: {إن عندكم من سلطان بهذا}، أي: "ما" عندكم، وقال: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه}، أي: في الذي "ما" مكناكم فيه، وقال: {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده}، يريد: "ما" يمسكها.
والوجه الثاني: أن تدخل "إلا" في الخبر، فتقول: «"إن" زيد "إلا" قائم» و«"إن" قام "إلا" زيد»، و«"إن" يقوم "إلا" زيد»، تريد: "ما" زيد "إلا" قائم، و"ما" قام "إلا" زيد، و"ما" يقوم "إلا" زيد، قال الله تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور}، أي: "ما" الكافرون، ومثله: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم}، {إن هو إلا نذير مبين}، {إن يقولون إلا كذبًا}، {إن يدعون من دونه إلى إناثًا}، {إن كانت إلا صيحة واحدة}، {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا}، {إن في صدورهم إلا كبر}، وقال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}، أي: و"ما" من أهل الكتاب أحد، وقال: {وإن منكم إلا واردها}، أي: و"ما" منكم أحدٌ
"إلا" واردها، وكذلك ما أشبهها.
والوجه الثالث: أن تدخل "لما" بتشديد "الميم"، موضع "إلا" ويكون معناها "إلا"، كقولك: «"إن" زيدٌ "لما" قائم»، و«"إن" زيد "لما" في الدار»، تريد: "ما" زيد "إلا" قائم، و"ما" زيد "إلا" في الدار، قال الله تعالى: {إن كل نفسٍ لمَّا عليها حافظ}، {وإن كل لمَّا جميع لدينا محضرون}، {وإن كل ذلك لمَّا متاع الحياة الدنيا}، وقد قرئت هذه الآيات بتشديد "لما" وتخفيفها، فمن شدد جعلها بمعنى "إلا"، وجعل "إن" بمعنى "ما"، كأنه قال: "ما" كل نفس "إلا" عليها حافظ، و"ما" كل "إلا" جميع لدينا محضرون، ومن خفف "لما" جعل
"ما" صلة، وجعل "إن" مخففة من الثقيلة بمعنى الإيجاب وأدخل "لام" التوكيد ليعلم أن "إن" بمعنى الإيجاب، والمعنى: "إن" كل نفسٍ لعليها حافظ، "إن" كلًّا لجميع؛ وفي هذا وجه آخر عند الكوفيين وهو أن يقول: "إن" زيدٌ لقائم، فتكون "إن" بمعنى "ما" و"اللام" بمعنى "إلا" والتقدير: "ما" زيد "إلا" قائم.

والموضع الخامس: تكون "إن" بمعنى "إذ"، كما قال الله عز وجل: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}، معناه عند بعضهم: "إذ" كنتم مؤمنين؛ لأن الخطاب للمؤمنين، ولو كانت "إن" للجزاء لوجب أن الخطاب لغير المؤمنين، ولو كانت "إن" للجزاء لوجب أن الخطاب لغير المؤمنين، لأن الفعل الماضي في الجزاء معناه في المستقبل، وكذلك قوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، وقوله تعالى: {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}، وكذلك ما أشبهه، وقال بعضهم: "إن" فيها للجزاء، كأنه قال: "من" كان مؤمنًا ترك الربا، و"من" كان مؤمنًا لم يخش "إلا" الله.

والموضع السادس تكون "إن" بمعنى "إما"، قال النسر ابن تولب:
سقته الرواعد من صيفٍ .... وإن من خريفٍ فلن يعد ما
قال سيبويه: يريد و"إما" من خريف؛ وحذف "ما" لضرورة الشعر، وإنما يصف وعلًا، والوعل هو تيس الجبل، وابتداؤه:
فلو أن من حتفه ناجيًا .... لكان هو الصدع الأعصما
سقته الرواعد من صيفٍ .... وإن من خريفٍ فلن يعدما
الصيف: مطر الصيف، والمعنى سقته الرواعد من مطر الصيف، وأما في الخريف فلن يعدم السقي أيضًا، أي هو يسقى من الصيف.
قال الأصمعي: "إن" ها هنا بمعنى الجزاء، أراد: و"إن" سقته من خريف فلن يعدم الري، وبه أخذ المبرد، وقال: لأن "إما" تكون مكررة، وهي ها هنا غير مكررة، والدليل على قول سيبويه أنه وصفه بالخصب، وأنه لا يعدم الري، ويجب في قول الأصمعي أنه يعدم الري، لأنه قال: و"إن" سقته من خريف فلن يعدم الري، فكأنه يعدم الري "إن" لم يسقه الخريف.
وقال دريد بن الصمة:
لقد كذبتك عينك فاكذبنها ... فإن جزعًا وإن إجمال صبر
قال سيبويه: فهذا على "إما" ولا يكون على "إن" التي للجزاء، لأنها لو جعلت للجزاء لاحتيج إلى جواب، لأن جواب "إن" فيما بعدها إذا ألحقتها "الفاء"، ولا يجوز أن يكون ما قبلها جوابًا لها من "الفاء"، ألا ترى أنك لو قلت: «أكرمك "إن" جئتني» لسد ما تقدم حرف الشرط مسد الجواب، ولو ألحقت "الفاء" فقلت: «أكرمك "فإن" جئتني» لم يجز حتى تأتي بالجواب، فتقول: «أكرمك "فإن" جئتني زدت في إكرامك» فلذلك بطل أن يكون «"فإن" جزعا» على معنى المجازاة، وصار بمعنى "إما" لأنها تحسن في هذا الموضع، وحذف "ما" للضرورة، وتقديره: "فإما" جزعت جزعًا و"إما" أجملت إجمال صبر.
وقال غير سيبويه: هو على "إن" التي للجزاء والجواب محذوف، كأنه قال: "إن" كان جزعًا شقيت به، و"إن" كان إجمال صبر سعدت به). [الأزهية: 45 - 58]

باب: مواضع "أنْ" المفتوحة الخفيفة
قال أبو الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ): (باب: مواضع "أنْ" المفتوحة الخفيفة
اعلم أن "أن" لها سبعة مواضع:
أحدها: "أن" تدخل على الفعل الماضي والمستقبل، فتكون هي والفعل اسمًا بمعنى المصدر، وتنصب الفعل المستقبل، كقولك: «أريد "أن" تقوم» و«يسرني "أن" تقعد» و«أعجبني "أن" خرجت» و«"أن" تسكت خيرٌ لك» و«من لي "بأن" تسكت» المعنى: أريد قيامك، ويسرني قعودك، وأعجبني خروجك، والسكوت خير لك، ومن لي بسكوتك؟ فهي مع الفعل بعدها اسم كمصدر ذلك الفعل يكون في موضع رفع ونصب وخفض، ومنه قوله تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا}، معناه: "إلا" قولهم، ومثله قوله عز وجل: {وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم}، معناه: "إلا" دعوتكم، ومثله قوله تعالى: {أكان للناس عجبًا أن أوحينا}، المعنى: وحينا، هذا في الماضي، وقال تعالى في المستقبل: {وأن تصوموا خيرٌ لكم}، {وأن تعفوا أقرب للتقوى}، {وأن يستعففن خيرٌ لهن}، {يريد الله أن يخفف عنكم}، المعنى: والصيام خيرٌ لكم، والعفو أقرب للتقوى ... وقال عز وجل: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} "أن" و"ما" مع الفعل بعدهما بتأويل المصدر، والمعنى: "من" قبل إتيانك و"من" بعد مجيئك. وكذلك قوله تعالى: {من بعد أن أظفركم عليهم} و{من قبل أن ينزل عليهم}، وما أشبه ذلك "أن" مع الفعل في ذلك بتأويل المصدر.
واعلم أن "أن" لا تدخل على فعل الحال، وتقول: «عسى زيد "أن" يقوم» و"أن" مع الفعل بتأويل المصدر، ولكن لا يجوز "أن" تظهر المصدر مع "عسى"، فتقول: «"عسى" زيد القيام» لأن المصدر، يكون "لما" أنت فيه، و"لما" مضى، و"لما" لم يأت، و"عسى" إنما تعد بما يقع، فلا يكون بعدها في الأصل إلا الفعل المستقبل.
قال سيبويه: تقول العرب: «أنت أكرم علي من "أن" أضربك» تأويله: أنت أكرم علي من ضربك، لأن "أن" مع الفعل بتأويل المصدر، قال أبو القاسم الزجاجي: وهذا كلام على ظاهره محال؛ لأنه لا يقال: فلان أكرم علي من الضرب، ولكن في الكلام حذف، تأويله: أنت أكرم علي من الضرب، ولكن في الكلام حذف، تأويله: أنت أكرم علي من صاحب ضربك الذي نسبته إلى نفسك، كأن رجلًا قال لآخر: أخاف "أن" تضربني، فقال له: أنت أكرم علي من "أن" أضربك، أي: من صاحب ضربك الذي نسبته إلى نفسك.

الوجه الثاني: أن تكون "أن" مخففة من الثقيلة، ويليها الاسم والفعل الماضي والمستقبل.
فإذا وليها الاسم فلك فيه وجهان:
أحدهما أن تنصبه على نية تثقيلها كقولك: «علمت "أن" زيدًا قائم» تريد "أن" زيدًا قائم، قال الشاعر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني .... فراقك لم أبخل وأنت صديق
الكاف في "أنك" بموضع نصب، لأنه أراد تثقيل "أن" فخففها، وقال كعب بن زهير:
لقد علم الضيف والمرملون .... إذا اغبرَّ أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيثٌ مريعٌ .... وقدما هناك تكون الثمالا
فخفف "أن" وأنفذ عملها، ومعنى الثمال: الغياث، والمريع: الكثير المرعى.
والوجه الثاني: وهو الأجود، "أن" ترفعه، على "أن" تريد بها الثقيلة، وتضمر اسمًا فيها، تجعل ما بعدها مبتدأ وخبرًا في موضع خبرها، كقولك: «علمت "أن" زيد منطلق»، رفعت «زيدًا» بالابتداء، و«منطلق» خبره، والمعنى علمت "أنه" زيد منطلق، ومثله «أكثر قولي "أن" زيد ظريف» تريد "أنه" زيد ظريف، «وأكثر قولي "أن" لا إله إلا الله وحده»، تريد: "أنه" لا إله إلا الله، و«أول ما أقول "أن" بسم الله» تريد: "أنه" باسم الله، قال الله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}، "أن" ها هنا مخففة من الثقيلة، كأنه قال: "أنه" الحمد لله رب العالمين، ومثله قوله عز وجل: {أن لعنة الله على الظالمين}، في قراءة من قرأها بالرفع، وتخفيف "أن" أراد "أنه" لعنة الله ... وذلك قوله تعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا}، كأنه قال: "أنك" يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، ومنه قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا .... أن هالك كل من يحفى وينتعل
أراد "أنه" هالك فخفف.
وإذا وليها الفعل المستقبل نظرت إلى الفعل الذي قبلها، فإن كان لا يحسن معه "أن" يريد بها الثقيلة، ويضر اسمها مثل: «عسى، وأردت، واشتهيت، وكرهت، وخفت» ونحوها من الأفعال التي لا يحسن معها "أن" يثقلها ويضمر اسمها فيها فإنها غير مخففة من الثقيلة، بل تكون بمعنى المصدر، وتنصب الفعل المستقبل بعدها، كقولك: «أردت "أن" تقوم»، و«كرهت "أن" يخرج زيد»، و«عسى "أن" تأتينا»، ونحو ذلك، نصبت هذه الأفعال لأنه لا يحسن معها التثقيل والإضمار، ألا ترى "أنك" لا تقول: «أردت "أنك" تقوم، وكرهت "أنه" يخرج».
وإن كان الفعل الذي قبلها يحسن معه أن يريد بها الثقيلة التي تعمل في الأسماء ويضمر اسمها مثل: «ظننت، وحسبت، وعلمت» ونحوها، فأنت بالخيار، "إن" شئت نصبت بها الفعل المستقبل، و"إن" شئت رفعته، كقولك: «علمت "أن" يقوم زيد» و«"أن" يقوم زيد»، فالنصب على "أن" تجعلها غير مخففة من الثقيلة، والرفع على "أنك" تريد بها الثقيلة التي تعمل في الأسماء فخففتها، والمعنى: "أنه" يقوم، ومنه قول الشاعر:
إني زعيمٌ يا نويـــ .... ـــقة إن سلمت من الرزاح
وسلمت من غرض الحتو .... ف من الغدو إلى الرواح
أن تهبطين بلاد قو .... مٍ يرتعون من الطلاح
فرفع الفعل، جعلها مخففة من الثقيلة، أراد "أنك" تهبطين، والأحسن إذا رفعت الفعل بعدها، أن تفصل بينها وبين الفعل بشيء يكون عوضًا مما حذف، وهو التشديد والاسم، نحو: "لا" و"السين" و"سوف" و"قد" وما أشبه ذلك، تقول: «"قد" علمت "أن" "لا" يقوم زيد» و«"أن" سيقوم زيد» و«"أن" "قد" يقوم زيد» وإذا فصلت بينهما بـ "لا" فلك "أن" ترفع الفعل و"أن" تنصب، كقولك: «ظننت "أن" "لا" تقوم، و"أن" "لا" تقوم» قال الله تعالى: {وحسبوا أن لا تكون فتنة}، {أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولًا}، "قد" قرئ بالرفع والنصب، فمن رفعها قدرها "أن" الثقيلة التي تعمل في الأسماء وحذف الاسم وجعل "لا" عوضًا، وأراد: وحسبوا "أنه" لا تكون فتنة، ومن نصب لم يقدرها ثقيلة ولم يجعل "لا" عوضًا، وأعمل "أن" في الفعل، قال الله عز وجل: {أن لا تزر وازرة وزر أخرى} بالرفع، أراد: "أنه" "لا" تزر، وقال تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله}، أراد: "أنهم" "لا" يقدرون، وقوه: {لئلا يعلم}، معناه: لأن يعلم، و"لا" صلة، فإن فصلت بينهما "بالسين" و"سوف" و"ليس" و"قد" لم يجز إلا الرفع؛ لأن عوامل الأفعال لا يجوز أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه، لأنها أضعف من عوامل الأسماء، وإنما جاز الفصل في "لا" لأنها قد تزاد في الكلام توكيدًا كقوله عز وجل: {ما منعك أن لا تسجد}، والمعنى: "ما" منعك "أن" تسجد، وتقول من ذلك: «"قد" علمت "أن" سيقوم زيد» و«"أن" ليس يقوم» و«"أن" سوف يقوم» وقال الله عز وجل: {علم أن سيكون منكم مرضى}، وقال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ..... أبشر بطول سلامة يا مربع
فرفع «سيقتل» أراد "أنه" سيقتل، وقال أيضًا
لقد سرني أن لا يعد مجاشع ....من المجد إلا عقر نابٍ بصوأر
فرفع «"أن" "لا" يعد» أراد "أنه" "لا" يعد، وقال أبو محجن الثقفي:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمةٍ .....تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني .... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
فرفع «"أن" "لا" أذوقها» على "أنها" مخففة من الثقيلة، أراد "أني" "لا" أذوقها.
وقال غير البصريين: إن "لا" في هذا الموضع بمعنى "ليس" كأنه قال: "أن" "لست" أذوقها، وكذلك قوله تعالى: {وحسبوا ألا تكون فتنة}، معنا: "أن" "ليس" تكون فتنة.
وتقول: «أرست إليك "أن" "لا" تقول ذاك»، و«"أن" "لا" تقول ذاك» و«"أن" "لا" تقل» فالرفع على نية الثقيلة، كأنه قال: أرسلت إليك "بأنك" "لا" تقول ذاك، كأن الأمر "قد" وقع، والنصب على "أن" تجعل "أن" الناصبة للفعل، والجزم على "أن" تجعل "لا" للنهي.

والوجه الثالث: تكون "أن" زائدة للتوكيد كقولك: «لما "أن" جاء زيد كلمته»، و«والله "أن" لو فعلت كذا وكذا لكان خيرًا لك»، والمعنى: "لما" جاء زيد، ووالله "لو" فعلت، و"أن" زائدة، وقال الله تعالى: {ولما أن جاءت رسلنا}، قال في موضع آخر: {ولما جاءت}، وقال: {فلما أن جاء البشير}، المعنى: "فلما" جاء البشير، وقال الشاعر:
ولما أن رأيت الخيل قبلًا..... تباري بالخدود شبا العوالي
المعنى: و"لما" رأيت الخيل.

والوجه الرابع: تكون "أن" بمعنى "أي" التي للعبارة والتفسير لما قبلها، كقولك: «دعوت الناس "أن" ارجعوا» المعنى "أي" ارجعوا، قال الله تبارك وتعالى: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} معناه: "أي" امشوا، وقال: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله}، يريد: "أي" اعبدوا الله، وقال: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي}، معناه: "أي" طهرا بيتي، وتكون هذه في الأمر خاصة، ولا تجيء، إلا بعد كلام تام، لأنها تفسير، ولا موضع لها من الإعراب، لأنها حرف يعبر به عن المعنى.

والوجه الخامس تكون "أن" بمعنى "لئلا" كقولك: «ربطت الفرس "أن" تنفلت» تريد: "لئلا" تنفلت، قال الله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا}، معناه: "لئلا" تضلوا، وقال: {يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا}، معناه: "لئلا" تقولوا، وقال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة}، معناه: "لئلا" تقولوا: وقال: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}، معناه: "لئلا" تميد بكم، وقال: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}، معناه: "لئلا" تزولا، وقال: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه}، معناه: "لئلا" تقع، وقال: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم}، معناه: "لئلا" تحبط أعمالكم.
وقال: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم}، معناه: "لئلا" تؤمنوا، وقال عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا .... فعجلنا القرى أن تشتمونا
معناه: "لئلا" تشتمونا، وقال الراعي:
أيام قومي والجماعة كالذي .... لزم الرحالة أن تميل مميلا
معناه: "لئلا" تميل.

والوجه السادس: تكون "أن" بمعنى "إذ" وإن شئت بمعنى "لأن" وبمعنى "من أجل" كقولك: «كلمني زيد "أن" قام عمرو» يريد: "إذ" قام عمرو، و«وغضب أخوك "أن" ضربته»، يريد: "إذ" ضربته، قال الله عز وجل: {وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم} معناه: "إذ" جاءهم، وقال: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك}، معناه: "إذ"، وقال: {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}، معناه: "إذ" كنا أول المؤمنين.
وقال: {ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا} أي: "من أجل" أن يكبروا، وقال: {فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما}، أي: "من أجل" أن تضل إحداهما، أي: تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، وقال: {ولا يجرمنكم شنآن قومٍ أن صدوكم}، معناه: "إذ" صدوكم، و"لأن" صدوكم، ومن قرأ بكسر "إن" معناه الاستقبال، وكذلك قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين}، يقرأ بكسر "إن" وفتحها، فالمكسورة للاستقبال، والمفتوحة للمضي.
وكذلك ما أشبهه، قال الشاعر زيد بن عمرو بن نفيل:
سالتاني الطلاق أن رأتاني .... قل مالي، قد جئتماني بنكر
يريد، "إذ" رأتاني، وقال جميل بن معمر:
أحبك أن سكنت جبال جسمي ....وأن ناسبت بثنة من قريب
يريد: "إذ" سكنت و"إذا" ناسبت، ومعنى بثنة: الزبدة، وتصغيرها بثينة، وبها سميت المرأة بثينة، وقال الفرزدق في مثله:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا .... جهارًا ولم تغضب لقتل ابن خازم
يريد: "إذ" أذنا قتيبة، وأما قوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه أن أنذر قومك}، فمعناه "بأن" أنذر، و"أن" في موضع نصب بـ «أرسلنا» لأن الأصل: "بأن" أنذر، فلما حذفت "الباء" تعدى الفعل إلى "أن" فنصبها.

والوجه السابع: تكون "أن" بمعنى "لا" قال الله تعالى: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}، قال أبو إسحاق الزجاج: معناه: "لا" يؤتى أحد مثل "ما" أوتيتم، وقال بعض النحويين معناه: "لا" تؤمنوا أي: "لا" تقروا "بأن" يؤتى أحدٌ مثل "ما" أوتيتم "إلا" لمن تبع دينكم، وقوله: {قل إن الهدى هدى الله} اعتراض بين المفعول والفعل). [الأزهية: 59 - 74]


رد مع اقتباس