العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة المائدة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 06:36 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير سورة المائدة [ من الآية (32) إلى الآية (34) ]

تفسير سورة المائدة
[ من الآية (32) إلى الآية (34) ]

بسم الله الرحمن الرحيم
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:28 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر قال تلا قتادة من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فقال عظم والله أجرها وعظم والله وزرها). [تفسير عبد الرزاق: 1/188]

قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} ]
- (حدّثنا سعيدٌ)، قال: نا سفيان، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهدٍ - في قوله عزّ وجلّ: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} - قال: في الإثم، قال: {ومن أحياها} قال: من لم يقتل). [سنن سعيد بن منصور: 4/1453]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): ({من أحياها} [المائدة: 32]: «يعني من حرّم قتلها إلّا بحقٍّ، حيي النّاس منه جميعًا»). [صحيح البخاري: 6/50] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله من أحياها يعني من حرم قتلها إلّا بحق حيا النّاس منه جميعًا وصله بن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاسٍ). [فتح الباري: 8/270]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
قال سفيان ما في القرآن آية أشد علّي من {لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} 68 المائدة
وقال ابن عبّاس مخمصة مجاعة من أحياها يعني من حرم قتلها إلّا بحق حييّ النّاس منه جميعًا شرعة ومنهاجا سنة وسبيلا فبما نقضهم بنقضهم الّتي كتب الله حرم واحدها حرام تبوء تحمل دائرة دولة المهيمن الأمين القرآن أمين على كل كتاب قبله
قلت وأكثر هذه التفاسير وقع غير منسوب لأحد عند الأكثر
أما قول سفيان
وأما تفاسير ابن عبّاس فقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا أبو صالح ثنا معاوية
[تغليق التعليق: 4/200]
عن علّي عن ابن عبّاس في قوله 3 المائدة {مخمصة} يعني مجاعة وبه {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} 32 المائدة وأحياها لا يقتل نفسا حرمها الله فذاك الّذي أحيى النّاس جميعًا يعني أنه من حرم قتلها إلّا بحق يحي النّاس منه جميعًا
وتفسيره). [تغليق التعليق: 4/201] (م)
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ({من أحياها} يعني من حرّم قتلها إلاّ بحقّ حيي النّاس منه جميعا)
أشار به إلى قوله تعالى: {ومن أحياها فكأنّما أحيى النّاس جميعًا} (المائدة: 32) وفسره بقوله: يعني من حرم إلى آخره، ووصله ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس. وقال مجاهد: من لم يقتل أحدا فقد حيى النّاس منه، وعنه في رواية: ومن أحياها. أي: أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة). [عمدة القاري: 18/198]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({مخمصة}) قال ابن عباس (مجاعة). وقال أيضًا فيما وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى: ({من أحياها} يعني من حرّم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعًا) ). [إرشاد الساري: 7/100] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون}
يعني تعالى ذكره بقوله: {من أجل ذلك} من جرّ ذلك وجريرته وجنايته، يقول: من جرّ القاتل أخاه من ابني آدم اللّذين اقتصصنا قصّتهما الجريرة الّتي جرّها وجنايته الّتي جناها، كتبنا على بني إسرائيل.
يقال منه: أجلت هذا الأمر: أي جررته إليه وكسبته آجله أجلاً، كقولك: أخذته أخذًا، ومن ذلك قول الشّاعر:.
وأهل خباءٍ صالحٍ ذات بينهم = قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجله
يعني بقوله: أنا آجله: أنا الجارّ ذلك عليه والجاني.
فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا، حكمنا على بني إسرائيل أنّه من قتل منهم نفسًا ظلمًا بغير نفسٍ قتلت فقتل بها قصاصًا {أو فسادٍ في الأرض} يقول: أو قتل منهم نفسًا بغير فسادٍ كان منها في الأرض، فاستحقّت بذلك قتلها. وفسادها في الأرض إنّما يكون بالحرب للّه ولرسوله وإخافة السّبيل
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} يقول: من أجل ابن آدم الّذي قتل أخاه ظلمًا.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيًّا أو إمام عدلٍ، فكأنّما قتل النّاس جميعًا، ومن شدّ على عضد نبيٍّ أو إمام عدلٍ، فكأنّما أحيا النّاس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا أبو عمّارٍ حسين بن حريثٍ المروزيّ، قال: حدّثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من شدّ على عضد نبيٍّ أو إمام عدلٍ فكأنّما أحيا النّاس جميعًا. ومن قتل نبيًّا أو إمام عدلٍ فكأنّما قتل النّاس جميعًا.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} يقول: من قتل نفسًا واحدةً حرّمتها، فهو مثل من قتل النّاس جميعًا {ومن أحياها} يقول: من ترك قتل نفسٍ واحدةٍ حرّمتها مخافتي واستحيا أن يقتلها، فهو مثل استحياء النّاس جميعًا؛ يعني بذلك الأنبياء.
وقال آخرون: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} عند المقتول في الإثم {ومن أحياها} فاستنقذها من هلكةٍ {فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} عند المستنقذ.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، فيما ذكر عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن عبد اللّه، وعن ناسٍ، من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قوله: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} عند المقتول، يقول في الإثم: ومن أحياها فاستنقذها من هلكةٍ، فكأنّما أحيا النّاس جميعًا عند المستنقذ.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنّ قاتل النّفس المحرّم قتلها يصلى النّار كما يصلاها لو قتل النّاس جميعًا، ومن أحياها: من سلم من قتلها فقد سلم من قتل النّاس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: {من أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من كفّ عن قتلها فقد أحياها، ومن قتل نفسًا بغير نفسٍ فكأنّما قتل النّاس جميعًا. قال: ومن أوبقها.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا سفيان، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، قال: من أوبق نفسًا فكما لو قتل النّاس جميعًا، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل النّاس جميعًا، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل النّاس جميعًا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريكٍ، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال أوبق نفسه حتى كأنما قتل جميعا {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} لم يقتلها، وقد سلم منه النّاس جميعًا لم يقتل أحدًا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعيّ، قال: أخبرنا عبدة بن أبي لبابة، قال: سألت مجاهدًا. أو سمعته يسأل، عن قوله: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: لو قتل النّاس جميعًا كان جزاؤه جهنّم خالدًا فيها، وغضب اللّه عليه ولعنه، وأعدّ له عذابًا عظيمًا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن الأعرج، عن مجاهدٍ في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: الّذي يقتل النّفس المؤمنة متعمّدًا، جعل اللّه جزاءه جهنّم، وغضب اللّه عليه ولعنه، وأعدّ له عذابًا عظيمًا يقول: لو قتل النّاس جميعًا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال ابن جريجٍ، قال مجاهدٌ: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من لم يقتل أحدًا فقد استراح النّاس منه.
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن سفيان، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، قال: أوبق نفسًا.
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: الإثم.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا}، وقوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم} قال: يصير إلى جهنّم بقتل المؤمن، كما أنّه لو قتل النّاس جميعًا لصار إلى جهنّم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: هو كما قال. وقال: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} فإحياؤها لا يقتل نفسًا حرّمها اللّه، فذلك الّذي أحيا النّاس جميعًا، يعني أنّه من حرّم قتلها إلاّ بحقٍّ حيي النّاس منه جميعًا.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهدٍ: {ومن أحياها} قال: ومن حرّمها فلم يقتلها.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن العلاء، قال: سمعت مجاهدًا يقول: {من أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من كفّ عن قتلها فقد أحياها.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه عزّ وجلّ: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: هي كالّتي في النّساء: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم} في جزائه.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} كالّتي في سورة النّساء: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا} في جزائه {ومن أحياها} ولم يقتل أحدًا فقد حيي النّاس منه.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهدٍ، في قوله: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا، لأنّه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله، مثل الّذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل النّاس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: يجب عليه من القتل مثل لو أنّه قتل النّاس جميعًا. قال: كان أبي يقول ذلك.
وقال آخرون: معنى قوله: {ومن أحياها} من عفا عمّن وجب له القصاص منه فلم يقتله.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} يقول: من أحياها أعطاه اللّه جلّ وعزّ من الأجر مثل لو أنّه أحيا النّاس جميعًا.اذا احياها فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا مؤمّلٌ، قال: حدّثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن، في قوله: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من عفا.
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من قتل حميمٌ له فعفا عن دمه.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: العفو بعد القدرة.
وقال آخرون: معنى قوله: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} ومن أنجاها من غرقٍ أو حرقٍ.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من أنجاها من غرقٍ أو حرقٍ أو هلكةٍ.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، وحدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من غرقٍ أو حرقٍ أو هدمٍ.
- حدّثني الحرث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا إسرائيل، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ: {ومن أحياها} قال: أنجاها.
وقال الضّحّاك بما:
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن يمانٍ، عن سفيان، عن أبي عامرٍ، عن الضّحّاك، قال: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ} قال: من تورّع أو لم يتورّع.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيا النّاس، فلم يستحلّ محرّمًا.
وقال قتادة والحسن في ذلك بما:
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض} قال: عظم ذلك.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ} الآية: من قتلها على غير نفسٍ ولا فسادٍ أفسدته {فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} عظم واللّه أجرها، وعظم وزرها. فأحيها يا ابن آدم بمالك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوّة إلاّ باللّه. وإنّا لا نعلمه يحلّ دم رجلٍ مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلاّ بإحدى ثلاثٍ: رجلٌ كفر بعد إسلامه فعليه القتل، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرّجم، أو قتل متعمّدًا فعليه القود.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: تلا قتادة: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: عظم واللّه أجرها، وعظم واللّه وزرها.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سلاّم بن مسكينٍ، قال: حدّثني سليمان بن عليٍّ الرّبعيّ قال: قلت للحسن: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ} الآية، أهي لنا يا أبا سعيدٍ كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والّذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيدٍ، قال: سمعت خالدًا أبا الفضل، قال: سمعت الحسن، تلا هذه الآية: {فطوّعت له نفسه قتل أخيه} إلى قوله: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} ثمّ قال: عظّم واللّه في الوزر كما تسمعون، ورغّب واللّه في الأجر كما تسمعون، إذا ظننت يا ابن آدم أنّك لو قتلت النّاس جميعًا فإنّ لك من عملك ما تفوز به من النّار، كذبتك واللّه نفسك، وكذبك الشّيطان.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا ابن فضيلٍ، عن عاصمٍ، عن الحسن، في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: وزرًا {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: أجرًا.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصّواب قول من قال: تأويل ذلك أنّه من قتل نفسًا مؤمنةً بغير نفسٍ قتلتها فاستحقّت القود بها والقتل قصاصًا، أو بغير فسادٍ في الأرض، بحرب اللّه ورسوله وحرب المؤمنين فيها، فكأنّما قتل النّاس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من اللّه جلّ ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربّه بقوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا}.
وأمّا قوله: {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} فأولى التّأويلات به قول من قال: من حرّم قتل من حرّم اللّه عزّ ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيي النّاس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إيّاها. وذلك نظير خبر اللّه عزّ ذكره عمّن حاجّ إبراهيم في ربّه، إذ قال له إبراهيم: {ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} فكان معنى الكافر في قيله: أنا {أنا أحيي}: أنا أترك من قدرت على قتله؛ وفي قوله: وأميت: قتله من قتله. فكذلك معنى الإحياء في قوله: {ومن أحياها} من سلم النّاس من قتله إيّاهم، إلاّ فيما أذن اللّه في قتله منهم {فكأنّما أحيا النّاس جميعًا}
وإنّما قلنا ذلك أولى التّأويلات بتأويل الآية، لأنّه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضّرّ مقام قتل جميع النّفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النّفوس في عاجل النّفع، فكان معلومًا بذلك أنّ معنى الإحياء: سلامة جميع النّفوس منه، لأنّه من لم يتقدّم على نفسٍ واحدةٍ، فقد سلم منه جميع النّفوس، وأنّ الواحدة منها الّتي يقوم قتلها مقام جميعها إنّما هو في الوزر، لأنّه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعضٍ). [جامع البيان: 8/347-358]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون}.
وهذا قسمٌ من اللّه جلّ ثناؤه أقسم به، أنّ رسله صلوات اللّه عليهم قد أتت بني إسرائيل الّذين قصّ اللّه قصصهم وذكر نبّأهم في الآيات الّتي تقدّمت من قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ همّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم} إلى هذا الموضع {بالبيّنات} يعني: بالآيات الواضحة، والحجج البيّنة على حقّيقّة ما أرسلوا به إليهم وصحّة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم وأداء فرائض اللّه عليهم، يقول اللّه عزّ ذكره: {ثمّ إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} يعني أنّ كثيرًا من بني إسرائيل.
والهاء والميم في قوله: {ثمّ إنّ كثيرًا منهم} من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله: {ولقد جاءتهم}
بعد ذلك، يعني بعد مجيء رسل اللّه بالبيّنات في الأرض {لمسرفون} يعني: أنّهم في الأرض لعاملون بمعاصي اللّه، ومخالفون أمر اللّه ونهيه، ومحادّو اللّه ورسله، باتّباعهم أهواءهم وخلافهم على أنبيائهم؛ وذلك كان إسرافهم في الأرض). [جامع البيان: 8/358-359]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ومن أحياها يقول من لم يقتل أحدا فقد أحيا الناس منه). [تفسير مجاهد: 194]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون}.
أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} عند المقتول يقول: في الإثم {ومن أحياها} فاستنقذها من هلكة {فكأنما أحيا الناس جميعا} عند المستنفذ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله {فكأنما قتل الناس جميعا} قال: أوبق نفسه كما لو قتل الناس جميعا وفي قوله {ومن أحياها} قال: من سلم من قتلها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: احياؤها أن لا يقتل نفسا حرمها الله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا.
وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك، فقال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإيار معهم قلت: لا، قال: فانك أن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا فانصرف.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {فكأنما قتل الناس جميعا}
قال: هذه مثل التي في سورة النساء {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} النساء الآية 93 يقول: لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك العذاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن في قوله {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} قال: في الوزر {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} قال: في الأجر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {ومن أحياها} قال: من انجاها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن في قوله {ومن أحياها} قال: من قتل حميم فعفا عنه فكأنما أحيا الناس جميعا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية: أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل قال: أي والذي لا إله غيره). [الدر المنثور: 5/277-279]

تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال في المائدة: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ}؛
قال: {إلا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}؛
فمن تاب من قبل أن يقدر عليه فلا سبيل عليه، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم إذا قتل أو أفسد وحارب من أن يقام عليه الحد فإن لحق بأهل الكتاب). [الجامع في علوم القرآن: 3/83]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة والكلبي وعطاء الخراساني في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا قالوا هذا اللص الذي يقطع الطريق فهو محارب قالوا فإن قتل وأخذ مالا صلب وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل وإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله وإن أخذ قبل أن يفعل شيئا من ذلك نفي وأما قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فهذه لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فأخذ مالا وأصاب دماء ثم تاب من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى). [تفسير عبد الرزاق: 1/188]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن الزهري في وقوله تعالى أو ينفوا من الأرض قال نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه كلما سمع به في أرض طلب). [تفسير عبد الرزاق: 1/188]

قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا داود بن عبد الرّحمن، (عن عبد الكريم) بن أبي المخارق، عن سعيد بن جبيرٍ - في قوله عزّ وجلّ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} - قال: إذا قتل المحارب قتل، وإذا قتل وأخذ المال صلب، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا دفّ في الطّريق، وأخاف السّبيل، ولم يأخذ مالًا، ولم يقتل نفي من الأرض.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيم، قال: نا أبو حرّة، عن الحسن.
- وأنا عبيدة، عن إبراهيم.
- وجويبر، عن الضّحّاك.
- وليث بن أبي سليم، عن عطاء ومجاهد.
- وحجّاج بن أرطأة، عن عطاءٍ ومجاهدٍ، قالوا : الإمام مخيّر في المحارب، أيّ ذلك شاء فعل.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا حمّاد بن زيدٍ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ قال: ما كان في القرآن، ((أو كذا))، ((أو كذا))، فهو بالخيار.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، قال: أتي عبد الحميد وهو أميرٌ على العراق بثلاثة نفرٍ قد قطعوا الطّريق، وخذموا بالسّيوف، فأشار عليه ناسٌ بقتلهم، فاستشارني، فقلت له: لا تفعل، فنهيته أن يقتلهم لما كنت أعلم من رأي عمر بن عبد العزيز في ذلك: أنّه لا يستحلّ قتل شيءٍ كان على ذلك الحال، فلم يزالوا به حتّى قتل أحدهم، ثمّ أخذ بقلبه بعض ما قلت، فكتب بعضهم إلى عمر، فجاءه جوابه جوابًا غليظًا يقبّح له ما صنع، وفي الكتاب: فهلاّ إذ تأوّلت هذه الآية ورأيت أنّهم أهلها، أخذت بأيسر ذلك. قال أبو الزّناد: فإنّ رأي الّذي ينتهى إلى رأيهم بالمدينة، مدّعيًا أنّه ليس بالمحارب الّذي يتلصّص ويستخفي من السّلطان ويغزو، لكنّهم قالوا: إنّ المحارب الّذي يفسد نسل المؤمنين، ولا يجيب دعوة السلطان). [سنن سعيد بن منصور: 4/1454-1463]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (باب {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا، أن يقتّلوا أو يصلّبوا} [المائدة: 33] إلى قوله {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33] «المحاربة للّه الكفر به»
- حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ، حدّثنا ابن عونٍ، قال: حدّثني سلمان أبو رجاءٍ، مولى أبي قلابة، عن أبي قلابة، أنّه كان جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز فذكروا وذكروا، فقالوا وقالوا، قد أقادت بها الخلفاء، فالتفت إلى أبي قلابة وهو خلف ظهره، فقال: ما تقول يا عبد اللّه بن زيدٍ؟ - أو قال: ما تقول يا أبا قلابة؟ - قلت: ما علمت نفسًا حلّ قتلها في الإسلام، إلّا رجلٌ زنى بعد إحصانٍ، أو قتل نفسًا بغير نفسٍ، أو حارب اللّه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عنبسة: حدّثنا أنسٌ، بكذا وكذا، قلت: إيّاي حدّث أنسٌ، قال: قدم قومٌ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكلّموه، فقالوا: قد استوخمنا هذه الأرض، فقال: «هذه نعمٌ لنا تخرج، فاخرجوا فيها فاشربوا من ألبانها وأبوالها» ، فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها، واستصحّوا ومالوا على الرّاعي فقتلوه، واطّردوا النّعم، فما يستبطأ من هؤلاء؟ قتلوا النّفس، وحاربوا اللّه ورسوله، وخوّفوا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، فقال: سبحان اللّه، فقلت: تتّهمني؟ قال: حدّثنا بهذا أنسٌ، قال: وقال: «يا أهل كذا، إنّكم لن تزالوا بخيرٍ ما أبقي هذا فيكم أو مثل هذا»). [صحيح البخاري: 6/51-52]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا الآية)
كذا لأبي ذرٍّ وساقها غيره قوله المحاربة لله الكفر به هو قول سعيد بن جبير والحسن وصله بن أبي حاتمٍ عنهما وفسّره الجمهور هنا بالّذي يقطع الطّريق على النّاس مسلمًا أو كافرًا وقيل نزلت في النّفر العرنيّين وقد تقدّم في مكانه
[4610] قوله حدّثنا عليّ بن عبد اللّه هو بن المدينيّ ومحمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ هو من كبار شيوخ البخاريّ وربّما حدّث عنه بواسطةٍ كهذا قوله حدّثني سلمان كذا للأكثر بالسّكون وفي رواية الكشميهنيّ بالتّصغير وكذا ذكر أبو عليٍّ الجيّانيّ أنّه وقع في رواية القابسيّ عن أبي زيدٍ المروزيّ قال والأوّل هو الصّواب وقوله هذه نعمٌ لنا مغايرٌ لقوله في الطّريق المتقدّمة اخرجوا إلى إبل الصّدقة ويجمع بأنّ في قوله لنا تجوّزًا سوّغه أنّه كان يحكم عليها أو كانت له نعمٌ ترعى مع إبل الصّدقة وفي سياق بعض طرقه ما يؤيّد هذا الأخير حيث قال فيه هذه نعمٌ لنا تخرج فاخرجوا فيها وكأنّ نعمه في ذلك الوقت كان يريد إرسالها إلى الموضع الّذي ترعى فيه إبل الصّدقة فخرجوا صحبة النّعم قوله فذكروا وذكروا أي القسامة وسيأتي ذلك واضحًا في كتاب الدّيات مع بقيّة شرح الحديث وقوله واستصحّوا بفتح الصّاد المهملة وتشديد الحاء أي حصلت لهم الصّحّة وقوله واطّردوا بتشديد الطّاء أي أخرجوها طردًا أي سوقًا وقوله فما يستبطأ بضمّ أوّله استفعالٌ من البطء وفي الرّواية الأخرى بالقاف بدل الطّاء وقوله حدّثنا أنسٌ بكذا وكذا أي بحديث العرنيّين وقوله وقال يا أهل كذا في الرّواية الآتية عن بن عونٍ المنبّه عليها في الدّيات يا أهل الشّام قوله ما أبقي مثل هذا فيكم كذا للأكثر بضمّ الهمزة من أبقى وفي رواية الكشميهنيّ ما أبقى اللّه مثل هذا فأبرز الفاعل). [فتح الباري: 8/274]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (بابٌ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} (المائدة: 33)

أي: هذا باب في قوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله} إلى آخره وليس في بعض النّسخ لفظ باب، ووقع في رواية: أبي ذر: باب {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} الآية، وغيره ساق الآية. وقال الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل فيمن نزلت هذه الآية، فروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، وفي رواية أبي داود عن ابن عبّاس نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الّذي أصابه، وعن السّديّ: نزلت في سودان عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر فشكوا ذلك إليه الحديث، وذكر الثّعلبيّ عن الكلبيّ أنّها نزلت في قوم من بني هلال، كان أبو برزة الأسلميّ عاهد النّبي صلى الله عليه وسلم أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناسٍ ممّن أسلم من قوم أبي برزة قال: ولم يكن أبو برزة يومئذٍ شاهدا، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فنزلت هذه الآية.
المحاربة لله الكفر به
روي هذا عن سعيد بن جبير، ووصله ابن أبي حاتم، حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد في قوله: عز وجل: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله}، قال: يعني بالمحاربة الكفر بعد الإسلام.

- حدّثنا عليّ بن عبد الله حدّثنا محمّد بن عبد الله الأنصاريّ حدّثنا ابن عونٍ قال حدّثني سلمان أبو رجاءٍ مولى أبي قلابة عن أبي قلابة أنّه كان جالسا خلف عمر بن عبد العزيز فذكروا وذكروا فقالوا وقالوا قد أقادت بها الخلفاء فالتفت إلى أبي قلابة وهو خلف ظهره فقال ما تقول يا عبد الله بن زيدٍ أو قال ما تقول يا أبا قلابة قلت ما علمت نفسا حلٍّ قتلها في الإسلام إلاّ رجلٌ زنى بعد إحصانٍ أو قتل نفسا بغير نفسٍ أو حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال عنبسة حدّثنا أنسٌ بكذا وكذا قلت إياي حدّث أنسٌ قال قدم قومٌ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فكلموه فقالوا قد استوخمنا هاذه الأرض فقال هاذه نعمٌ لنا تخرج فاخرجوا فيها فاشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحّوا ومالوا على الرّاعي فقتلوه واطّردوا النّعم فما يستنبطا من هاؤلاء قتلوا النّفس وحاربوا الله ورسوله وخوّفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله فقلت تتّهمني قال حدّثنا بهاذا أنسٌ قال وقال يا أهل كذا إنّكم لن تزالوا بخيرٍ ما أبقى هاذا فيكم أو مثل هذا.
مطابقته للتّرجمة تؤخذ من معناه، وعلي بن عبد الله هو ابن المدينيّ، ومحمّد هو ابن عبد الله الأنصاريّ من شيوخ البخاريّ روى عنه هنا بواسطة، وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزنيّ البصريّ، وسلمان، بفتح السّين وسكون اللّام. أبو رجاء مولى أبي قلابة الجرمي البصريّ، وفي رواية الكشميهني، سليمان، بضم السّين وفتح اللّام والأول هو الصّواب، وأبو قلابة بكسر القاف عبد الله بن زيد.
وهذا الحديث أخرجه البخاريّ في مواضع عديدة، فقطعة من ذلك مضت في كتاب الطّهارة في: باب أبواب الإبل والدّواب والغنم، فإنّه أخرج فيها حديث العرنيين عن سليمان بن حرب، وقطعة مشتملة على ما في حديث الباب أخرجها في كتاب المغازي في: باب قصّة عكل وعرينة أخرجها عن محمّد بن عبد الرّحيم عن حفص بن عمر عن حمّاد بن زيد عن أيّوب والحجاج الصّواف عن أبي رجاء مولى أبي قلابة الحديث.
قوله: (خلف عمر بن عبد العزيز) وفي الرّواية المتقدّمة في المغازي، قال: يعني أبو رجاء وأبو قلابة خلف سريره. قوله: (فذكروا ذكروا) أي: القسامة، وقد بين البخاريّ هذا في مكان آخر أعني في كتاب الدّيات، وهو: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للنّاس ثمّ أذن لهم فدخلوا. فقال لهم: ما تقولون في القسامة؟ قالوا: نقول في القسامة القود بها حق وقد أقادت بها الخلفاء، فقال لي: ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للنّاس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين رجلا منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قدرنا ولم يروه أكنت ترجمة؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه قد سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. قلت: فواللّه ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قطّ إلاّ في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بحديدة نفسا فقتل، ورجل زنى بعد إحصان، ورجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام. فقال القوم: أو ليس قد حدث أنس بن مالك أن نفرا من عكل؟ الحديث. قوله: (فقالوا وقالوا)، مقول القول الأول محذوف، وهو الّذي ذكره البخاريّ في مكان آخر، ومقول القول الثّاني هو قوله: قد أقادت بها الخلفاء. يقال: أقاد القاتل بالقتيل إذا قتله به، وفي الرّواية المتقدّمة في المغازي: أن عمر ابن عبد العزيز استشار النّاس يومًا فقال: ما تقولون في هذه القسامة؟ فقالوا: حق قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضت بها الخلفاء قبلك. قوله: (فالتف)، أي: عمر بن عبد العزيز إلى أبي قلابة، والحال أنه خلف ظهر. قوله: (فقال)، أي: عمر بن عبد العزيز. قوله: (يا عبد الله بن زيد)، هو المكنى بأبي قلابة. قوله: (أو ما تقول يا أبا قلابة) ؟ شكّ من الرّاوي هل سمّاه باسمه أو خاطبه بكنيته. قوله: قلت: القائل هو أبو قلابة. قوله: (فقال عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النّون وفتح الباء الموحدة والسّين المهملة ابن سعيد بن العاص بن أميّة أبو خالد القرشي الأموي أخو يحيى وعمرو الأشدق، سمع أبا هريرة، روى عنه الزّهريّ في غزوة خيبر عن البخاريّ، وسمع أنسا في الحدود، روى عنه أبو قلابة حديث العرنيين عند مسلم. قوله: (حدثنا أنس بكذا وكذا) أي: قال عنبسة: حدثنا أنس بن مالك بقصّة القسامة، وحديث العرنيين. قوله: (قلت) : القائل أبو قلابة ويروى: (فقلت)، وفي رواية كتاب الدّيات، (فقلت: أنا أحدثكم بحديث أنس، حدثني أنس أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا الأرض) الحديث. قوله: (قدم قوم) هم نفر من عكل (فكلموه) أي: فكلّموا النّبي صلى الله عليه وسلم أريد به المبايعة على الإسلام كما صرح به في الرّواية المذكورة الآن. قوله: (قد استوخمنا) من استوخمت البلد إذا لم يوافق بدنك، وأصله من الوخم وهو ثقالة الطّعام في المعدة، يقال: وخم الطّعام إذا ثقل فلم يستمرىء فهو وخيم، قال ابن الأثير في حديث العرنيين: واستوخموا المدينة أي: استثقلوها ولم يوافق هواؤها أبدانهم. قوله: (هذه نعم لنا) المراد بالنعم الإبل، فإن قلت: قد قال في رواية أخرى: أخرجوا إلى إبل الصّدقة. قلت: إنّما قال ذلك باعتبار أنه كان حاكما عليها أو كانت له نعم ترعى مع إبل الصّدقة. قوله: (تخرج) في محل النصب على الحال. قوله: (واستصحوا) أي: حصلت لهم الصّحّة، والسّين فيه للصيرورة. قوله: (واطّردوا النعم)، أي: ساقوها سوقا شديدا. وأصله من طرد فنقل إلى باب الافتعال فصار: اتطرد، ثمّ قلبت التّاء طاء وأدغمت الطّاء في الطّاء. قوله: (فما يستبطأ من هؤلاء) على صيغة المجهول من باب الاستفعال، من البطء بالهمزة في آخره وهو نقيض السرعة، وقال الكرماني: فما يستبطأ. استفهام. قلت: معناه على قوله أي شيء يستبطأ من هؤلاء الّذين قتلوا راعي النّبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل؟ وفيه معنى التّعجّب أيضا فافهم، ويؤيّد ما ذكرناه ما جاء في كتاب الدّيات في هذا الحديث. قلت: وأي شيء أشد ممّا صنع هؤلاء؟ ارتدّوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا؟ ! وفي رواية بالقاف بدل الطّاء، ومعناه: ما يترك من هؤلاء، وهو استفهام أيضا فيه معنى التّعجّب، وأصله من استبقيت الشّيء أي: تركت بعضه. قوله: (فقال: سبحان الله) القائل عنبسة متعجّبا من قول أبي قلابة. قوله: (فقلت تتهمني) ؟ القائل أبو قلابة يقول لعنبسة تتهمني فيما رويته من حديث أنس؟ ويوضح هذا ما جاء في كتاب الدّيات فيه، فقال عنبسة بن سعيد يعني: عند رواية أبي قلابة الحديث، والله إن سمعت كاليوم قطّ؟ فقلت: أترد على حديثي يا عنبسة؟ قال لا ولكن جئت بالحديث على وجهه. قوله: (قال: حدثنا بهذا أنس) أي: قال أبو قلابة، حدثنا بهذا الحديث أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه. قوله: (قال: وقال يا أهل كذا) أي: قال الرّاوي وقال عنبسة يا أهل كذا مراده يا أهل الشّام وقال بعضهم وفي الرّواية الآتية في الدّيات يا أهل الشّام قلت هذا ليس بمذكور في كتاب الدّيات، ولكن المراد بخطاب عنبسة بقوله: (يا أهل كذا) هو أهل الشّام لأن هذا كله وقع في دمشق. قوله: (ما أبقى هذا فيكم) بضم الهمزة وكسر القاف على صيغة المجهول، وأشار عنبسة بقوله هذا إلى أبي قلابة، وفي رواية كتاب الدّيات: والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشّيخ بين أظهرهم، ويروى: ما أبقى الله مثل هذا. قوله: (أو مثل هذا)، شكّ من الرّاوي، أي: أو قال عنبسة مثل ما ذكر من قوله: (ما أبقى هذا فيكم) ؟ ومثله ما ذكر في الدّيات فافهم فإنّي ما رأيت شارحا أتى بحق شرح هذا الحديث). [عمدة القاري: 18/203-205]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا} -إلى قوله- {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33] المحاربة للّه: الكفر به
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا}) مفعول من أجله أي: يحاربون لأجل الفساد أو حال أي مفسدين ({أن يقتلوا}) خبر المبتدأ وهو جزاء الذين ({أو يصلبوا} -إلى قوله- {أو ينفوا من الأرض}) [المائدة: 33] أي من أرض الجناية إلى غيرها. وقال أبو حنيفة بالحبس لأن المحبوس لا يرى أحدًا من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وأو قيل للتخيير أي للإمام أن يفعل بهم أيّ خصلة شاء وهو مروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة فيما رواه ابن جرير.
قال شارح البزدوي فيما حكاه الطيبي نظر هذا القائل أن كلمة أو للتخيير حقيقة فيجب العمل بها إلى أن يقوم دليل المجاز ولأن قطع الطريق في ذاته جناية واحدة وهذه الأجزية ذكرت بمقابلتها فيصلح كل واحد جزاء له فيثبت التخيير كما في كفارة اليمين اهـ.
والجمهور أنها للتنويع. قال إمامنا الشافعي أخبرنا إبراهيم هو ابن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض، ورواه ابن أبي شيبة عن عطية عن ابن عباس بنحوه.
وأجاب في فتوح الغيب عما سبق من القول بالتخيير بأنه غير ممكن لأن الجزاء على حسب الجناية ويزداد بزيادتها وينقص بنقصانها قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] فيبعد أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها بأغلظها وذلك أن المحاربة تتفاوت أنواعها في صفة الجناية من تخويف أو أخذ مال أو قتل نفس أو جمع بين القتل وأخذ المال، والمذكور في الآية أجزية متفاوتة في معنى التشديد والغلظة فوقع الاستغناء بتلك المقدّمة عن بيان تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصًّا وهذا التقسيم يرجع إلى أصل لهم وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة ينقسم البعض على البعض اهـ.
واختلف في كيفية الصلب فقيل يصلب حيًّا ثم يطعن في بطنه برمح حتى يموت، وعن الشافعي يقتل أوّلًا ثم يصلّى عليه ثم يصلب وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يتهرى ويسيل صديده، وسقط قولها {أن يقتلوا} إلى آخره لأبي ذر وقال بعد قوله تعالى: {فسادًا} الآية.
(المحاربة لله) قال سعيد بن جبير فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن عطاء بن يسار عنه في (الكفر به) تعالى. وقال غيره: هو من باب حذف المضاف أي يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون ففيه تعظيم لهم، ومنه قوله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب، وأصل الحرب السلب والمحارب يسلب الروح والمال والمراد هنا قطع الطريق وهو أخذ المال مكابرة اعتمادًا على الشوكة وإن كان في مصر.
- حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ، حدّثنا ابن عونٍ، قال: حدّثني سلمان أبو رجاءٍ مولى أبي قلابة، عن أبي قلابة أنّه كان جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز فذكروا وذكروا فقالوا: وقالوا قد أقادت بها الخلفاء، فالتفت إلى أبي قلابة وهو خلف ظهره فقال: ما تقول يا عبد اللّه بن زيدٍ -أو قال: ما تقول يا أبا قلابة-؟ قلت: ما علمت نفسًا حلّ قتلها في الإسلام إلاّ رجلٌ زنى بعد إحصانٍ، أو قتل نفسًا بغير نفسٍ، أو حارب اللّه ورسوله -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقال عنبسة: حدّثنا أنسٌ بكذا وكذا، قلت إيّاي حدّث أنسٌ قال: قدم قومٌ على النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- فكلّموه فقالوا: قد استوخمنا هذه الأرض فقال: «هذه نعمٌ، لنا تخرج فاخرجوا فيها فاشربوا من ألبانها وأبوالها» فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحّوا ومالوا على الرّاعي فقتلوه، واطّردوا النّعم فما يستبطأ من هؤلاء قتلوا النّفس وحاربوا اللّه ورسوله، وخوّفوا رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقال: "سبحان اللّه" فقلت: تتّهمني قال: حدّثنا بهذا أنسٌ قال: وقال يا أهل كذا إنّكم لن تزالوا بخيرٍ ما أبقى هذا فيكم أو مثل هذا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري) أحد شيوخ المؤلّف روى عنه هنا بواسطة قال: (حدّثنا ابن عون) هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري (قال: حدّثني) بالإفراد (سلمان) بفتح السين وسكون اللام مكبرًا ولأبي ذر عن الكشميهني سليمان بضم السين وفتح اللام مصغرًا والصواب الأول كما ذكره ابن طاهر وعبد الغني المقدسي وغيرهما (أبو رجاء مولى أبي قلابة) بكسر القاف عبد الله بن زيد (عن أبي قلابة أنه كان جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز) وكان قد أبرز سريره للناس ثم أذن لهم فدخلوا (فذكروا) القسامة لما استشارهم عمر فيها (وذكروا) له شأنها (فقالوا) نقول فيها القود (وقالوا قد أقادت بها الخلفاء) قبلك. وفي المغازي من طريق أيوب والحجاج الصواف عن أبي رجاء فقالوا حق قضى بها رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- وقضت بها الخلفاء قبلك (فالتفت) عمر رحمة الله عليه (إلى أبي قلابة وهو خلف ظهر. فقال: ما تقول يا عبد الله بن زيد، أو قال ما تقول يا أبا قلابة؟) شك الراوي. زاد في الدّيات من طريق الحجاج عن أبي عثمان عن أبي رجاء فقلت: يا أمير المؤمنين عندك رؤوس الأجناد وأشراف العرب أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق كنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. (قلت) زاد في الدّيات أيضًا والله (ما علمت نفسًا حلّ قتلها في الإسلام إلا رجل زنى بعد إحصان، أو قتل نفسًا بغير نفس، أو حارب الله ورسوله -صلّى اللّه عليه وسلّم-) سقطت التصلية لأبي ذر وزاد في الدّيات وارتد عن الإسلام.
(فقال عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الموحدة والسين المهملة ابن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي (حدّثنا أنس) هو ابن مالك (بكذا وكذا) يعني بحديث العرنيين قال أبو قلابة (قلت): ولأبي ذر فقلت: (إياي حدث أنس قال: قدم قوم}) من عكل أو عرينة ثمانية سنة ست (على النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- فكلموه) بعد أن بايعوه على الإسلام (فقالوا: قد استوخمنا هذه الأرض) أي استثقلنا المدينة فلم يوافق هواؤها أبداننا وكانوا قد سقموا (فقال) -صلّى اللّه عليه وسلّم-:
(هذه نعم) أي إبل (لنا تخرج) لترعى مع إبل الصدقة (فأخرجوا فيها فاشربوا من ألبانها وأبوالها) للتداوي فليس فيه دليل على الإباحة في غير حال الضرورة. وعن ابن عباس مرفوعًا فيما رواه ابن المنذر أن "في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم" والذرب فساد المعدة فلا دلالة فيه على الطهارة (فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحوا) أي حصلت لهم الصحة من ذلك الداء (ومالوا على الراعي) يسار النوبي (فقتلوه واطردوا النعم) بتشديد الطاء أي ساقوها سوقًا شديدًا (فما يستبطأ) بضم أوّله وسكون المهملة وبعد الفوقية موحدة ساكنة فطاء مهملة فهمزة مبنيًا
للمفعول استفعال من البطء الذي هو نقيض السرعة أي شيء يستبطأ به (من هؤلاء) العكليين.
وفي نسخة أخرى فما يستبقي بالقاف بدل الطاء من غير همز أي ما يترك من هؤلاء استفهام فيه معنى التعجب كالسابق (قتلوا النفس وحاربوا الله ورسوله) في رواية حميد عن أنس عند الإمام أحمد وهربوا محاربين (وخوّفوا رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقال): أي عنبسة متعجبًا من أبي قلابة (سبحان الله) قال أبو قلابة (فقلت) لعنبسة (تتهمني) فيما رويته من حديث أنس، وفي الدّيات فقال عنبسة بن سعيد والله أن سمعت كاليوم قط فقلت: أتردّ عليّ حديثي يا عنبسة؟ (قال): لا ولكن جئت بالحديث على وجهه (حدّثنا بهذا أنس قال) أبو قلابة: (وقال) عنبسة: (يا أهل كذا) أي يا أهل الشام لأن وقوع ذلك كان بها وقول الحافظ ابن حجر أنه وقع التصريح به في رواية الدّيات لم أره فلعله سهو (إنكم لن تزالوا بخير ما أبقى الله) بفتح الهمزة والقاف مبنيًّا للفاعل (هذا) أبا قلابة (فيكم ومثل هذا) ولأبي ذر أو وهو شك من الراوي، ولأبي ذر أيضًا عن الحموي والمستملي: ما أبقى مثل هذا فيكم برفع مثل وضم همزة أبقى وكسر قافه وللكشميهني ما أبقى الله مثل هذا فيكم بإظهار الفاعل، وفي نسخة ما بقي بإسقاط الألف، وفي الدّيات والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم.

وهذا الحديث مرّ في الطهارة في أبوال الإبل والمغازي، ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله في الدّيات مع بقية مباحثه). [إرشاد الساري: 7/103-105]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله جلّ ثناؤه: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله}
- أخبرنا عمرو بن عثمان بن سعيدٍ، عن الوليد، عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أنسٍ: أنّ نفرًا، من عكلٍ قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصّدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، فقتلوا راعيها واستاقوها، فبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم قافلةً، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم حتّى ماتوا، فأنزل الله عزّ وجلّ {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] الآية). [السنن الكبرى للنسائي: 10/81]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ}
وهذا بيانٌ من اللّه عزّ ذكره عن حكم الفساد في الأرض الّذي ذكره في قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض} أعلم عباده ما الّذي يستحقّ المفسد في الأرض من العقوبة والنّكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدّنيا إلاّ القتل والصّلب وقطع اليد والرّجل من خلافٍ أو النّفي من الأرض، خزيًا لهم؛ وأمّا في الآخرة إن لم يتب في الدّنيا فعذابٌ عظيمٌ.
ثمّ اختلف أهل التّأويل فيمن نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في قومٍ من أهل الكتاب، كانوا أهل موادعةٍ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فعرّف اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم الحكم فيهم.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} قال: كان قومٌ من أهل الكتاب بينهم وبين النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عهدٌ وميثاقٌ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض؛ فخيّر اللّه رسوله، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قال: كان قومٌ بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض؛ فخيّر اللّه جلّ وعزّ نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك يقول، فذكر نحوه.
وقال آخرون: نزلت في قومٍ من المشركين.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا الحسين بن واقدٍ، عن يزيد، عن عكرمة، والحسن البصريّ، قالا: قال: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى: {إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيلٌ؛ وليست تحرز هذه الآية الرّجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب اللّه ورسوله ثمّ لحق بالكفّار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الّذي أصاب.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن أشعث، عن الحسن: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} قال: نزلت في أهل الشّرك.
وقال آخرون: بل نزلت في قومٍ من عرينة وعكلٍ ارتدّوا عن الإسلام، وحاربوا اللّه ورسوله.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنسٍ: أنّ رهطًا، من عكل وعرينة أتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا أهل ضرعٍ ولم نكن أهل ريفٍ وإنّا استوخمنا المدينة. فأمر لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذودٍ وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فقتلوا راعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، واستاقوا الذّود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتي بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقطّع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرّة حتّى ماتوا. فذكر لنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله}.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا هشام بن أبي عبد اللّه، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمثل هذه القصّة.
- حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، قال: سمعت أبي، يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم، وسئل، عن أبوال الإبل، فقال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ، عن المحاربين، فقال: كان ناسٌ أتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه وهم كذبةٌ، وليس الإسلام يريدون. ثمّ قالوا: إنّا نجتوي المدينة. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: هذه اللّقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها. قال: فبينا هم كذلك إذ جاء الصّريخ، فصرخ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: قتلوا الرّاعي، وساقوا النّعم. فأمر نبيّ اللّه فنودي في النّاس، أن: يا خيل اللّه اركبي.
قال: فركبوا لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال: فركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتّى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، قال: فكان نفيهم أن نفوهم، حتّى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبيّ اللّه منهم وصلّب وقطّع وسمل الأعين قال: فما مثّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل ولا بعد. قال: نهى عن المثلة، وقال: ولا تمثّلوا بشيءٍ قال: فكان أنس بن مالكٍ يقول ذلك، غير أنّه قال: أحرقهم بالنّار بعد ما قتلهم. قال: وبعضهم يقول: هم ناسٌ من بني سليمٍ، ومنهم من عرينة وناسٌ من بجيلة.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني محمّد بن خلفٍ، قال: حدّثنا الحسن بن حمّادٍ، عن عمرو بن هاشمٍ، عن موسى بن عبيدٍ، عن محمّد بن إبراهيم، عن جريرٍ، قال: قدم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قومٌ من عرينة حفاةً مضرورين، فأمر بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا صحّوا واشتدّوا قتلوا رعاء اللّقاح، ثمّ خرجوا باللّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جريرٌ: فبعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في نفرٍ من المسلمين حتّى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وسمل أعينهم، وجعلوا يقولون: الماء. ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: النّار حتّى هلكوا. قال: وكره اللّه سمل الأعين، فأنزل هذه الآية: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى آخر الآية.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمّد بن عبد الرّحمن، عن عروة بن الزّبير، وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يحيى بن عبد اللّه بن سالمٍ، وسعيد بن عبد الرّحمن، وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أغار ناسٌ من عرينة على لقاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فاستاقوها وقتلوا غلامًا له فيها، فبعث في آثارهم فأخذوا، فقطّع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن أبي الزّناد، عن عبد اللّه بن عبد اللّه، عن عبد اللّه بن عمر أو عمرٍو، شكّ يونس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك، ونزلت فيهم آية المحاربة.
- حدّثنا عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدّثنا الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي قلابة، عن أنسٍ، قال: قدم ثمانية نفرٍ من عكل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأسلموا، ثمّ اجتووا المدينة، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصّدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أثرهم قافةً، فأتي بهم، فقطّع أيديهم وأرجلهم، وتركهم فلم يحسمهم حتّى ماتوا.
- حدّثنا عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: حدّثني سعيد، عن قتادة، عن أنسٍ، قال:. كانوا أربعة نفرٍ من عرينة وثلاثةً من عكلٍ، فلمّا أتي بهم قطّع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم، وتركهم يتلقّمون الحجارة بالحرّة، فأنزل اللّه جلّ وعزّ في ذلك: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، أنّ عبد الملك بن مروان، كتب إلى أنسٍ يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنسٌ يخبره أنّ هذه الآية نزلت في أولئك النّفر العرنيّين، وهم من بجيلة، قال أنسٌ: فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الرّاعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السّبيل، وأصابوا الفرج الحرام.
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} قال: أنزلت في سودان عرينة، قال: أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبهم الماء الأصفر، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الصّدقة، فقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتّى إذا صحّوا وبرئوا، قتلوا الرّعاة واستاقوا الإبل.
وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل اللّه هذه الآية على نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم معرّفةً حكمه على من حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، بعد الّذي كان من فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالعرنيّين ما فعل.
وإنّما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصّواب في ذلك، لأنّ القصص الّتي قصّها اللّه جلّ وعزّ قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسّطًا منه يعرّف الحكم فيهم وفي نظرائهم، أولى وأحقّ.
وقلنا: كان نزول ذلك بعد الّذي كان من فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالعرنيّين ما فعل لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك. وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو سعى بفسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا، ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا، ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات، ثمّ إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون، يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلو النّفوس بغير نفسٍ وغير سعي في الأرض بالفساد حربًا للّه ولرسوله، فمن فعل ذلك منهم يا محمّد، فإنّما جزاؤه أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال الّتي ذكرت من حال نقض كافرٍ من بني إسرائيل عهده، ومن قولك إنّ حكم هذه الآية حكمٌ من اللّه في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟
قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك، لأنّ حكم من حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا من أهل ذمّتنا وملّتنا واحدٌ، والّذين عنوا بالآية كانوا أهل عهدٍ وذمّةٍ، وإن كان داخلا في حكمها كلّ ذمّيٍّ وملّيٍّ، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من النّاس أن يكون صحيحًا نزولها فيمن نزلت فيه.
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في العرنيّين، فقال بعضهم: ذلك حكمٌ منسوخٌ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية، أعني بقوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} الآية، وقالوا: أنزلت هذه الآية عتابًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما فعل بالعرنيّين.
وقال بعضهم: بل فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالعرنيّين حكمٌ ثابتٌ في نظرائهم أبدًا، لم ينسخ ولم يبدّل. وقوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، حكمٌ من اللّه فيمن حارب وسعى في الأرض فسادًا بالحرابة. قالوا: والعرنيّون ارتدّوا وقتلوا وسرقوا وحاربوا اللّه ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب السّاعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام والذّمّة.
وقال آخرون: لم يسمل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعين العرنيّين، ولكنّه كان أراد أن يسمل، فأنزل اللّه جلّ وعزّ هذه الآية على نبيّه يعرّفه الحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم.
ذكر القائلين ما وصفنا:
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: ذاكرت اللّيث بن سعدٍ ما كان من سمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أعينهم وتركه حسمهم حتّى ماتوا، فقال: سمعت محمّد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معاتبةً في ذلك، وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنّفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرٍو، فأنكر أن تكون نزلت معاتبةً، وقال: بلى كانت عقوبة أولئك النّفر بأعيانهم، ثمّ نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم من حارب بعدهم فرفع عنهم السّمل.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثني أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتي بهم، يعني العرنيّين، فأراد أن يسمل أعينهم، فنهاه اللّه عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها اللّه عليه.
واختلف أهل العلم في المستحقّ اسم المحارب للّه ورسوله الّذي يلزمه حكم هذه، فقال بعضهم: هو اللّصّ الّذي يقطع الطّريق.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، وعطاءٍ الخراسانيّ، في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} الآية، قالا: هذا هو اللّصّ الّذي يقطع الطّريق، فهو محاربٌ.
وقال آخرون: هو اللّصّ المجاهر بلصوصيّته، المكابر في المصر وغيره. وممّن قال ذلك الأوزاعيّ.
- حدّثنا بذلك العبّاس، عن أبيه، عنه وعن مالكٍ، واللّيث بن سعدٍ، وابن لهيعة.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: قلت لمالك بن أنسٍ: تكون محاربةٌ في المصر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السّلاح على المسلمين في مصرٍ أو خلاءٍ، فكان ذلك منه على غير نائرةٍ كانت بينهم ولا ذحلٍ ولا عداوةٍ، قاطعًا للسبيل والطّريق والدّيار، مخيفًا لهم بسلاحه، فقتل أحدًا منهم قتله الإمام كقتله المحارب ليس لوليّ المقتول فيه عفوٌ ولا قودٌ.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: سألت عن ذلك اللّيث بن سعدٍ، وابن لهيعة، قلت: تكون المحاربة في دور المصر والمدائن والقرى؟ فقال: نعم، إذا هم دخلوا عليهم بالسّيوف علانيةً، أو ليلاً بالنّيران. قلت: فقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتّلوا؟ فقال: نعم هم المحاربون، فإن قتلوا قتلوا، وإن لم يقتلوا وأخذوا المال قطعوا من خلافٍ إذا هم خرجوا به من الدّار، ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسّبيل بأعظم من محاربة ممن حاربهم في حريمهم ودورهم.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: قال أبو عمرٍو: وتكون المحاربة في المصر شهر على أهله بسلاحه ليلاً أو نهارًا.قال عليٌّ: قال الوليد: وأخبرني مالكٌ أنّ قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغيلة؟ قال: هو الرّجل يخدع الرّجل والصّبيّ، فيدخله بيتًا أو يخلو به فيقتله ويأخذ ماله، فالإمام وليّ قتل هذا، وليس لوليّ الدّم والجرح قودٌ ولا قصاصٌ.
وهو قول الشّافعيّ حدّثنا بذلك عنه الرّبيع
وقال آخرون: المحارب: هو قاطع الطّريق؛ فأمّا المكابر في الأمصار فليس بالمحارب الّذي له حكم المحاربين. ومن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا بشر بن المفضّل، عن داود بن أبي هندٍ، قال: تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة في ناسٍ من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم أنّ المحارب ما كان خارجًا من المصر.
وقال مجاهدٌ بما:
- حدّثني القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} قال: الزّنا والسّرقة، وقتل النّاس، وإهلاك الحرث والنّسل.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ: {ويسعون في الأرض فسادًا} قال: الفساد: القتل، والزّنا، والسّرقة.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصّواب، قول من قال: المحارب للّه ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمّتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابةٌ.
وإنّما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصّواب، لأنّه لا خلاف بين الحجّة أنّ من نصب حربًا للمسلمين على الظّلم منه لهم أنّه لهم محاربٌ، ولا خلاف فيه. فالّذي وصفنا صفته، لا شكّ فيه أنّه لهم مناصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم أو في سبلهم وطرقهم في أنّه للّه ولرسوله محاربٌ بحربه من نهاه اللّه ورسوله عن حربه.
وأمّا قوله: {ويسعون في الأرض فسادًا} فإنّه يعني: يعملون في أرض اللّه بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين به، أو سبل ذمّتهم وقطع طرقهم، وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، والتّوثّب على حرمهم فجورًا وفسوقًا). [جامع البيان: 8/359-372]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض}
يقول تعالى ذكره: ما للّذي حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا من أهل ملّة الإسلام أو ذمّتهم إلاّ بعض هذه الخلال الّتي ذكرها جلّ ثناؤه.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في هذه الخلال أتلزم المحارب باستحقاقه اسم المحاربة، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه مختلفًا باختلاف إجرامه؟ فقال بعضهم: يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه، مختلفًا باختلاف إجرامه.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: إذا حارب فقتل، فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصّلب إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرّجل من خلافٍ إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السّبيل، فإنّما عليه النّفي.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، وأبو السّائب، قالا: حدّثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن حمّادٍ، عن إبراهيم: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} قال: إذا خرج فأخاف السّبيل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلافٍ. وإذا أخاف السّبيل ولم يأخذ المال وإذا قتل قتل إذا أخاف السبيل وأخذا المال وقتل، صلب.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، فيما أرى، في الرّجل يخرج محاربًا، قال: إن قطع الطّريق وأخذ المال قطعت يده ورجله، وإن أخذ المال وقتل قتل، وإن أخذ المال وقتل ومثّل: صلب.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن عمران بن حديرٍ، عن أبي مجلزٍ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية. قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السّبيل صلب، وإذا قتل لم يعد ذلك قتل، إذا أخذ المال لم يعد ذلك قطع، وإذا كان يفسد نفي.
- حدّثني المثنّى، قال حدّثنا الحمّانيّ، قال حدّثنا شريكٌ، عن سماكٍ، عن الحسن: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: إذا أخاف الطّريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن حصينٍ، قال: كان يقال: من حارب فأخاف السّبيل وأخذ المال ولم يقتل: قطعت يده ورجله من خلافٍ. وإذا أخذ المال وقتل: صلب.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، أنّه كان يقول في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} حدودٌ أربعةٌ أنزلها اللّه. فأمّا من أصاب الدّم والمال جميعًا: صلب؛ وأمّا من أصاب الدّم وكفّ عن المال: قتل؛ ومن أصاب المال وكفّ عن الدّم: قطع؛ ومن لم يصب شيئًا من هذا: نفي.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: فنهى اللّه عن ذلك نبيّه عليه الصّلاة والسّلام عن أن يسمل أعين العرنيّين الّذين أغاروا على لقاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها اللّه عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل فقطع يده ورجله من خلافٍ، يده اليمنى ورجله اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالاً فقتله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل فصلبه. وكذلك ينبغي لكلّ من أخاف طريق المسلمين وقطع أن يصنع به إن أخذ وقد أخذ مالاً قطعت يده بأخذه المال ورجله بإخافة الطّريق، وإن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، وإن قتل وأخذ المال: صلب.
- حدّثني الحرث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا فضيل بن مرزوقٍ، قال سمعت السّدّيّ، يسأل عطيّة العوفيّ، عن رجلٍ محاربٍ، خرج فأخذ ولم يصب مالاً ولم يهرق دمًا. قال: النّفي بالسّيف؛ وإن أخذ مالاً فيده بالمال ورجله بما أخاف المسلمين؛ وإن هو قتل ولم يأخذ مالاً: قتل؛ وإن هو قتل وأخذ المال: صلب. وأكبر ظنّي أنّه قال: تقطع يده ورجله.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن عطاءٍ الخراسانيّ، وقتادة، في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، قال: هذا اللّصّ الّذي يقطع الطّريق، فهو محاربٌ. فإن قتل وأخذ مالاً: صلب؛ وإن قتل، ولم يأخذ مالاً: قتل؛ وإن أخذ مالا ولم يقتل: قطعت يده ورجله؛ وإن أخذ قبل أن يفعل شيئًا من ذلك: نفي.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن قيس بن سعدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: من خرج في الإسلام محاربًا للّه ورسوله فقتل وأصاب مالاً، فإنّه يقتل ويصلب؛ ومن قتل ولم يصب مالاً، فإنّه يقتل كما قتل؛ ومن أصاب مالاً ولم يقتل، فإنّه يقطع من خلافٍ؛ وإن أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره، لقول اللّه جلّ وعزّ: {أو ينفوا من الأرض}.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} قال: كان ناسٌ يسعون في الأرض فسادًا وقتلوا وقطعوا السّبيل، فصلب أولئك. وكان آخرون حاربوا واستحلّوا المال ولم يعدوا ذلك، فقطعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حاربوا واعتزلوا ولم يعدوا ذلك، فأولئك أخرجوا من الأرض.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن أبي هلالٍ، قال: حدّثنا قتادة، عن مورّقٍ العجليّ، في المحارب، قال: إن كان خرج فقتل وأخذ المال: صلب؛ وإن قتل ولم يأخذ المال: قتل؛ وإن كان أخذ المال ولم يقتل: قطع؛ وإن كان خرج مشاقًّا للمسلمين: نفي.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن حجّاجٍ، عن عطيّة العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، قال: إذا خرج المحارب وأخاف الطّريق وأخذ المال: قطعت يده ورجله من خلافٍ؛ فإن هو خرج فقتل وأخذ المال: قطعت يده ورجله من خلافٍ ثمّ صلب؛ وإن خرج فقتل ولم يأخذ المال: قتل؛ وإن أخاف السّبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال: نفي.
- حدّثنا ابن البرقيّ، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: حدّثني أبو صخرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبيرٍ، في هذه الآية: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} قالا: إن أخاف المسلمين، فاقتطع المال، ولم يسفك: قطع؛ وإذا سفك دمًا: قتل وصلب؛ وإن جمعهما فاقتطع مالاً وسفك دمًا: قطع ثمّ قتل ثمّ صلب. كأنّ الصّلب مثلةٌ، وكأنّ القطع {السّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما}، وكأنّ القتل. النّفس بالنّفس. وإن امتنع فإنّ من الحقّ على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتّى يأخذوه فيقيموا عليه حكم كتاب اللّه، أو ينفوا من الأرض من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
واعتلّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إنّ اللّه أوجب على القاتل القود، وعلى السّارق القطع.
وقالوا: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلاّ بإحدى ثلاث خلالٍ: رجلٌ قتل فقتل، ورجلٌ زنى بعد إحصانٍ فرجم، ورجلٌ كفر بعد إسلامه.
قالوا: فحظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قتل رجلٍ مسلمٍ إلاّ بإحدى هذه الخلال الثّلاث، فإمّا أن يقتل من أجل إخافته السّبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالاً، فذلك تقدّمٌ على اللّه ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال: الإمام فيه بالخيار إذا قتل وأخاف السّبيل وأخذ المال؛ فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل أو القتل والصّلب، أو قطع اليد والرّجل من خلافٍ. وأمّا صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئًا من قتلٍ أو أخذ مالٍ، فذلك ما لم يقله عالمٌ.
وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار أن يفعل أيّ هذه الأشياء الّتي ذكرها اللّه في كتابه.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن عطاءٍ، وعن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ، في المحارب: أنّ الإمام، مخيّرٌ فيه أيّ ذلك شاء فعل.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن عبيدة، عن إبراهيم: الإمام مخيّرٌ في المحارب، أيّ ذلك شاء فعل: إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، عن الحسن، في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: يأخذ الإمام بأيّهما أحبّ.
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن عاصمٍ، عن الحسن: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} قال: الإمام مخيّرٌ فيها.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، مثله.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن قيس بن سعدٍ، قال: قال عطاءٌ: يصنع الإمام في ذلك ما شاء: إن شاء قتل، أو قطع، أو نفى، لقول اللّه: {أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} فذلك إلى الإمام الحاكم يصنع فيه ما شاء.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، قال: من شهر السّلاح في فبة الإسلام، وأخاف السّبيل، ثمّ ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو أسامة، قال: أخبرنا أبو هلالٍ، قال: أخبرنا قتادة، عن سعيد بن المسيّب، أنّه قال في المحارب: ذلك إلى الإمام، إذا أخذه يصنع به ما شاء.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن أبي هلالٍ، قال: حدّثنا هارون، عن الحسن في المحارب، قال: ذاك إلى الإمام يصنع به ما شاء.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا حفص بن غياثٍ، عن عاصمٍ، عن الحسن: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} قال: ذلك إلى الإمام.
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف الّتي بأو في القرآن بمعنى التّخيير في كلّ ما أوجب اللّه به فرضًا منها، وذلك كقوله في كفّارة اليمين: {فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ} وكقوله: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} وكقوله: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} قالوا: فإذا كانت العطوف الّتي بأو في القرآن في كلّ ما أوجب اللّه به فرضًا منها في سائر القرآن بمعنى التّخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين الإمام مخيّرٌ فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التّوبة.
وأولى التّأويلين بالصّواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفًا باختلاف أفعالهم، فأوجب على مخيف السّبيل منهم إذا قدر عليه قبل التّوبة وقبل أخذ مالٍ أو قتلٍ: النّفي من الأرض؛ وإذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النّفس المحرّم قتلها: الصّلب؛ لما ذكرت من العلّة قبل لقائلي هذه المقالة.
فأمّا ما اعتلّ به القائلون: إنّ الإمام فيه بالخيار من أنّ أو في العطف تأتي بمعنى التّخيير في الفرض، فنقول: لا معنى له، لأنّ أو في كلام العرب قد تأتي بضروبٍ من المعاني لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بيّنت كثيرًا من معانيها فيما مضى وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء اللّه.
فأمّا في هذا الموضع فإنّ معناها: التّعقيب، وذلك نظير قول القائل: إنّ جزاء المؤمنين عند اللّه يوم القيامة أن يدخلهم الجنّة، أو يرفع منازلهم في علّيّين، أو يسكنهم مع الأنبياء والصّدّيقين. فمعلومٌ أنّ قائل ذلك غير قاصدٍ بقيله إلى أنّ جزاء كلّ مؤمنٍ آمن باللّه ورسوله، فهو في مرتبةٍ واحدةٍ من هذه المراتب ومنزلةٍ واحدةٍ من هذه المنازل بإيمانه، بل المعقول عنه أنّ معناه: أنّ جزاء المؤمن لن يخلو عند اللّه من بعض هذه المنازل، فالمقتصد منزلته دون منزلة السّابق بالخيرات، والسّابق بالخيرات أعلى منه منزلةً، والظّالم لنفسه دونهما، وكلٌّ في الجنّة كما قال جلّ ثناؤه: {جنّات عدنٍ يدخلونها} فكذلك معنى المعطوف بأو في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، إنّما هو التّعقيب. فتأويله: إنّ الّذي يحارب اللّه ورسوله، ويسعى في الأرض فسادًا، لن يخلو من أن يستحقّ الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع الّتي ذكرها اللّه عزّ ذكره، لا أنّ الإمام محكّمٌ فيه، ومخيّرٌ في أمره كائنةً ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفّت؛ لأنّ ذلك لو كان كذلك لكان للإمام قتل من شهر السّلاح مخيفًا السّبيل وصلبه، وإن لم يأخذ مالاً ولا قتل أحدًا، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السّبيل. وذلك قولٌ إن قاله قائلٌ خلاف ما صحّت به الآثار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قوله: لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلاّ بإحدى ثلاثٍ: رجلٌ قتل رجلاً فقتل، أو زنى بعد إحصانٍ فرجم، أو ارتدّ عن دينه وخلاف قوله: القطع في ربع دينارٍ فصاعدًا وغير المعروف من أحكامه.
فإن قال قائلٌ: فإنّ هذه الأحكام الّتي ذكرت كانت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غير المحارب، وللمحارب حكمٌ غير ذلك منفردٌ به؟
قيل له: فما الحكم الّذي انفرد به المحارب في سننه، فإن ادّعى عنه صلّى اللّه عليه وسلّم حكمًا خلاف الّذي ذكرنا، أكذبه جميع أهل العلم، لأنّ ذلك غير موجودٍ بنقل واحدٍ ولا جماعةٍ، وإن زعم أنّ ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب. قيل له: فإنّ أحسن حالاتك أن سلّم لك أنّ ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت، وما قاله من خالفك فما برهانك على أنّ تأويلك. أولى بتأويل الآية من تأويله.
وبعد: فإذا كان الإمام مخيّرًا في الحكم على المحارب من أجل أنّ أو بمعنى التّخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيًّا ويتركه على الخشبة مصلوبًا حتّى يموت من غير قتله؟ فإن قال: ذلك له، خالف في ذلك الأمّة. وإن زعم أنّ ذلك ليس له، وإنّما له قتله ثمّ صلبه أو صلبه ثمّ قتله، ترك علّته من أنّ الإمام إنّما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أنّ أو تأتي بمعنى التّخيير.
وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النّفي أو القطع ولم يكن له الخيار في الصّلب وحده، حتّى تجمع إليه عقوبةٌ أخرى؟ وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت وأبى ذلك حيث جعلته له، فرقٌ من أصلٍ أو قياسٍ؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلاّ ألزم في الآخر مثله.
وقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بتصحيح ما قلنا في ذلك خبرفي إسناده نظرٌ. وذلك ما:.
- حدّثنا به، عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ: أنّ عبد الملك بن مروان، كتب إلى أنس بن مالكٍ يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنسٌ يخبره أنّ هذه الآية نزلت في أولئك النّفر العرنيّين، وهم من بجيلة. قال أنسٌ: فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الرّاعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السّبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنسٌ: فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل عليه السّلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السّبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السّبيل واستحلّ الفرج الحرام فاصلبه.
وأمّا قوله: {أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ} فإنّه يعني جلّ ثناؤه: أنّه تقطّع أيديهم مخالفًا في قطعها قطع أرجلهم، وذلك أن تقطع أيمن أيديهم وأشمل أرجلهم، فذلك الخلاف بينهما في القطع. ولو كان مكان من في هذا الموضع على أو الباء، فقيل: أو تقطّع أيديهم وأرجلهم خلافٌ أو بخلافٍ، لأدّيا عمّا أدّت عنه من من المعنى.
واختلف أهل التّأويل في معنى النّفي الّذي ذكر اللّه في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو أن يطلب حتّى يقدر عليه، أو يهرب من دار الإسلام.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرّجال حتّى يأخذهم، فيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: نفيه: أن يطلب.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {أو ينفوا من الأرض} يقول: أو يهربوا حتّى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: أخبرني عبد اللّه بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن كتاب أنس بن مالكٍ، إلى عبد الملك بن مروان: أنّه كتب إليه: ونفيه: أن يطلبه الإمام حتّى يأخذه، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل الّتي ذكر اللّه جلّ وعزّ بما استحلّ.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد، قال: فذكرت ذلك للّيث بن سعدٍ، فقال: نفيه: طلبه من بلدٍ إلى بلدٍ حتّى يؤخذ، أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلى دار الشّرك والحرب، إذا كان محاربًا مرتدًّا عن الإسلام. قال الوليد: وسألت مالك بن أنسٍ، فقال مثله.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: قلت لمالك بن أنسٍ واللّيث بن سعدٍ: وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه، يضطرّه بطلبه من بلدٍ إلى بلدٍ حتىٌّ يصير إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، أو أقصى جواز المسلمين، فإن هم طلبوه دخل دار الشّرك؟ قالا: لا يضطرّ مسلمٌ إلى ذلك.
- حدّثنا هنّاد بن السّريّ، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {أو ينفوا من الأرض} قال: أن يطلبوه حتّى يعجزوا.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ يقول: حدّثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك يقول، فذكر نحوه.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا حفص بن غياثٍ، عن عاصمٍ، عن الحسن: {أو ينفوا من الأرض} قال: ينفى حتّى لا يقدر عليه.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، في قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: أخرجوا من الأرض أينما أدركوا، أخرجوا حتّى يلحقوا بأرض العدوّ.
- حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: حدّثنا معمرٌ، عن الزّهريّ، في قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: نفيه: أن يطلب فلا يقدر عليه، كلّما سمع به في أرضٍ طلب.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: أخبرني سعيدٌ، عن قتادة: {أو ينفوا من الأرض} قال: إذا لم يقتل ولم يأخذ مالاً، طلب حتّى يعجز.
- حدّثني ابن البرقيّ، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني نافع بن يزيد، قال: حدّثني أبو صخرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبيرٍ: {أو ينفوا من الأرض} من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
وقال آخرون: معنى النّفي في هذا الموضع: أنّ الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن قيس بن سعدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {أو ينفوا من الأرض} قال: من أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره، لقول اللّه عزّ وجلّ: {أو ينفوا من الأرض}.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني اللّيث، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيبٍ وغيره، عن حبّان بن شريحٍ، أنّه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللّصوص، ووصف له لصوصيّتهم وحبسهم في السّجون، قال: قال اللّه في كتابه: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ}، وترك: {أو ينفوا من الأرض} فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أمّا بعد، فإنّك كتبت إليّ تذكر قول اللّه جلّ وعزّ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ} وتركت قول اللّه: {أو ينفوا من الأرض}، فنبيّ أنت يا حبّان ابن أمّ حبّان، لا تحرّك الأشياء عن مواضعها، أتجرّدت للقتل والصّلب كأنّك عبد بني عقيلٍ من غير ما أشبّهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا فانفهم إلى شغبٍ.
- حدّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني اللّيث، عن يزيد وغيره بنحو هذا الحديث، غير أنّ يونس قال في حديثه: كأنّك عبد بني أبي عقالٍ من غير أن أشبّهك به.
- حدّثني يونس، قال أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، أنّ الصّلت كاتب حبّان بن شريج، أخبرهم أنّ حبّان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أنّ ناسًا من القبط قامت عليهم البيّنة بأنّهم حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، وأنّ اللّه يقول: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ} وسكت عن النّفي، وكتب إليه: فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء اللّه فيهم، فليكتب بذلك. فلمّا قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه، قال: لقد اجتزأ حبّان. ثمّ كتب إليه: إنّه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأت كأنّما كتبت بكتاب يزيد بن أبي مسلمٍ أو علجٍ صاحب العراق من غير أن أشبّهك بهما، فكتبت بأوّل الآية ثمّ سكتّ عن آخرها، وإنّ اللّه يقول: {أو ينفوا من الأرض} فإن كانت قامت عليهم البيّنة بما كتبت به، فاعقد في أعناقهم حديدًا، ثمّ غيّبهم إلى شغبٍ وبدا.
قال أبو جعفرٍ: شغبٌ وبدا: موضعان.
وقال آخرون: معنى النّفي من الأرض في هذا الموضع: الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصّواب في قول من قال: معنى النّفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلدٍ إلى بلدٍ غيره وحبسه في السّجن في البلد الّذي نفي إليه، حتّى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربّه.
وإنّما قلت ذلك أولى الأقوال بالصّحّة، لأنّ أهل التّأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثّلاثة الّتي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما جعل جزاء المحارب: القتل أو الصّلب، أو قطع اليد والرّجل من خلافٍ، بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه؛ كان معلومًا أنّ النّفي أيضًا إنّما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطّلب نفيًا له من الأرض، كان قطع يده ورجله من خلافٍ في حال امتناعه وحربه على وجه القتال بمعنى إقامة الحدّ عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أنّ ذلك لا يقوم مقام نفيه الّذي جعله اللّه عزّ وجلّ حدًّا له بعد القدرة عليه. وإذ كان كذلك، فمعلومٌ أنّه لم يبق إلاّ الوجهان الآخران، وهو النّفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها أو السّجن. فإذ كان كذلك، فلا شكّ أنّه إذا نفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها فلم ينف من الأرض، بل إنّما نفي من أرضٍ دون أرضٍ. وإذ كان ذلك كذلك، وكان اللّه جلّ ثناؤه إنّما أمر بنفيه من الأرض، كان معلومًا أنّه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلاّ بحبسه في بقعةٍ منها عن سائرها، فيكون منفيًّا حينئذٍ عن جميعها، إلاّ ممّا لا سبيل إلى نفيه منه.
وأمّا معنى النّفي في كلام العرب: فهو الطّرد، ومن ذلك قول أوس بن حجرٍ:.
ينفون عن طرق الكرام كما = تنفي المطارق ما يلي القرد.
ومنه قيل للدّراهم الرّديئة وغيرها من كلّ شيءٍ: النّفاية. وأمّا المصدر من نفيت، فإنّه النّفي والنّفاية، ويقال: الدّلو ينفي الماء. ويقال لما تطاير من الماء من الدّلو النّفي، ومنه قول الرّاجز:.
كأنّ متنيه من النّفيّ = مواقع الطّير على الصّفيّ
ومنه قيل: نفى شعره: إذا سقط، يقال: حال لونك ونفى شعرك). [جامع البيان: 8/372-390]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: ذلك هذا الجزاء الّذي جازيت به الّذين حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا في الدّنيا، من قتلٍ، أو صلبٍ، أو قطع يدٍ ورجلٍ من خلاف لهم يعني لهؤلاء المحاربين خزي في الدّنيا يقول هو لهم شرٌّ وعارٌ وذلّةٌ، ونكالٌ وعقوبةٌ في عاجل الدّنيا قبل الآخرة، يقال منه: أخزيت فلانًا فخزي هو خزيًا.
وقوله: ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ يقول عزّ ذكره لهؤلاء الّذين حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا فلم يتوبوا من فعلهم ذلك، حتّى هلكوا في الآخرة مع الخزي الّذي جازيتهم به في الدّنيا، والعقوبة الّتي عاقبتهم بها فيها عذابٌ عظيمٌ، يعني: عذاب جهنّم). [جامع البيان: 8/390]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د س) ابن عباس - رضي الله عنه - قال: {إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم (33) إلّا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفورٌ رحيمٌ} [المائدة: 33، 34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. أخرجه أبو داود والنسائي). [جامع الأصول: 2/114-115]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} [المائدة: 33]
- عن ابن عبّاسٍ - رضي اللّه عنهما - «في قوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} [المائدة: 33] قال: كان قومٌ من أهل الكتاب بينهم وبين رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - عهدٌ وميثاقٌ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر اللّه نبيّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - فيهم، إن شاء أن يقتّل وإن شاء صلّب وإن شاء أن يقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وأمّا النّفي فهو الهرب في الأرض، فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف منه».
رواه الطّبرانيّ، وعليّ بن أبي طلحة لم يسمع ابن عبّاسٍ.
- وعن ابن عبّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: ما كان في القرآن [قتّل] بالتّشديد فهو عذابٌ، وما كان قيل بالتّخفيف فهو رحمةٌ.
رواه الطّبرانيّ، وفيه سهل بن إبراهيم المروزيّ ولم أعرفه). [مجمع الزوائد: 7/15]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم.
أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال: نزلت في المشركين منهم من تاب قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد أن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله نبيه فيهم أن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي فهو الهرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف.
وأخرج ابن مردويه عن ابن سعد قال: نزلت هذه الآية في الحرورية {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.
وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر والنحاس في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وآمنوا فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فانزل الله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.
وأخرج أبو داود والنسائي، وابن جرير عن ابن عمر قال: نزلت آية المحاربين في العرنين.
وأخرج ابن جرير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة مضرورين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاء اللقاح ثم صرخوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فقدمنا بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم فأنزل الله هذه الآية {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.
وأخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى انس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر من العرنين وهم من بجيلة، قال أنس فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه.
وأخرج الحافظ عبد الغني في إيضاح الإشكال من طريق أبي قلابة عن أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال: هم من عكل.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزالا فأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه فسرقوها فطلبوا فأتى بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم قال أبو هريرة: فيهم نزلت هذه الآية {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال: فترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأعين بعد.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كان ناس من بني سليم أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام وهم كذبة ثم قالوا: انا نجتوي المدينة فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح فاشربوا من أبوالها فبينما هم كذلك إذ جاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي وساقوا النعم فركبوا في أثرهم فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهم فأنزل الله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، فقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم منهم وصلب وقطع وسمل الأعين قال: فما مثل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن المثلة وقال: لا تمثلوا بشيء.
وأخرج مسلم والنحاس في ناسخه والبيهقي عن أنس قال إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، قال: نزلت في سودان عرينة أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر فشكوا ذلك إليه فأمرهم فخرجوا إلى إبل الصدقة فقال اشربوا من أبوالها وألبانها فشربوا حتى إذا صحوا وبرئوا قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم فأراد أن يسمل اعينهم فنهاه الله عن ذلك وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما انزل الله.
وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذكرت لليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك حسمهم حتى ماتوا فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ولم يسمل بعدهم وغيرهم، قال: وكان هذا القول ذكر لابن عمر فانكر أن تكون نزلت معاتبة وقال: بل كانت عقوبة ذلك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنه السمل.
وأخرج البيهقي في "سننه" عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين أخذوا لقاحه وسمل أعينهم عاتبه الله في ذلك فأنزل الله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.
وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، قال: إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل يقطع من خلاف وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل وإذا خرج فقتل وأخذ المال قتل وصلب وإذا خرج فأخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، قال: من شهر السلاح في قبة الإسلام وأفسد السبيل وظهر عليه وقدر فإمام المسلمين مخير فيه أن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله قال {أو ينفوا من الأرض} يهربوا يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.
وأخرج أبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه والبيهقي عن عائشة أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدا فيقتل ورجل خرج من الإسلام فحارب فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض.
وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس أن قوما من عرينة جاؤوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا وكان منهم مواربة قد شلت أعضاؤهم واصفرت وجوههم وعظمت بطونهم فأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة يشربوا من أبوالها وألبانها فشربوا حتى صحوا وسمنوا فعمدوا إلى راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقتلوه واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام وجاء جبريل فقال: يا محمد ابعث في آثارهم فبعث ثم قال: ادع بهذا الدعاء: اللهم أن السماء سماؤك والارض أرضك والمشرق مشرقك والمغرب مغربك اللهم ضيق من مسك حمل حتى تقدرني عليهم، فجاؤوا بهم فانزل الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، فأمره جبريل أن من أخذ المال وقتل يصلب ومن قتل ولم يأخذ المال يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل تقطع يده ورجله من خلاف وقال ابن عباس هذا الدعاء: لكل آبق ولكل من ضلت له ضالة من إنسان وغيره يدعو هذا الدعاء ويكتب في شيء ويدفن في مكان نظيف إلا قدره الله عليه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، قال: هذا الذي يقطع الطريق فهو محارب فإن قتل وأخذ ما لا صلب وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل وإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله وإن أخذ قبل أن يفعل شيئا من ذلك نفي وأما قوله {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فهؤلاء خاصة ومن أصاب دما ثم تاب من قبل أن يقدر عليه اهدر عنه ما مضى.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن عطاء ومجاهد قالا: الإمام في ذلك مخير أن شاء قتل وإن شاء قطع وإن شاء صلب وإن شاء نفى وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب والحسن والضحاك في الآية قالوا: الإمام مخير في المحارب يصنع به ما شاء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الضحاك فال كان قوم بينهم وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق فنقضوا العهد وقطعوا السبل وأفسدوا في الأرض فخير الله نبيه فيهم أن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، قال: هو أن يطلبوا حتى يعجزوا فمن تاب قبل أن يقدروا عليه قبل ذلك منه.
وأخرج أبو داود في ناسخه عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في المشركين.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نفيه أن يطلبه الإمام حتى يأخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله بما استحل.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله {أو ينفوا من الأرض} قال: من بلد إلى بلد.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: ينفى حتى لا يقدر عليه
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الزهري في قوله {أو ينفوا من الأرض} قال: نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه كلما سمع به أرض طلب.
وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في الآية قال: يخرجوا من الأرض أينما أدركوا خرجوا حتى يلحقوا بأرض العدو.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في الآية قال: من أخاف سبيل المؤمنين نفي من بلد إلى غيره.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله {ويسعون في الأرض فسادا} قال: الزنا والسرقة وقتل النفس وهلاك الحرث والنسل). [الدر المنثور: 5/279-289]

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال في المائدة: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ}؛
قال: {إلا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}؛
فمن تاب من قبل أن يقدر عليه فلا سبيل عليه، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم إذا قتل أو أفسد وحارب من أن يقام عليه الحد فإن لحق بأهل الكتاب). [الجامع في علوم القرآن: 3/83] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك إلاّ الّذين تابوا من شركهم ومناصبتهم الحرب للّه ولرسوله، والسّعي في الأرض بالفساد بالإسلام، والدّخول في الإيمان من قبل قدرة المؤمنين عليهم، فإنّه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيءٍ من العقوبات الّتي جعلها اللّه جزاءً لمن حاربه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، من قتلٍ، أو صلبٍ، أو قطع يدٍ ورجلٍ من خلافٍ، أو نفي من الأرض، فلا تباعة قبله لأحدٍ فيما كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين في مالٍ ولا دمٍ ولا حرمةٍ قالوا: فأمّا المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبة ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين اللّه، وعلى الإمام إقامة الحدّ الّذي أوجبه اللّه عليه وأخذه بحقوق النّاس.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، والحسن البصريّ، قالا: قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض} إلى قوله: {فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيلٌ، وليس تحرز هذه الآية الرّجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب اللّه ورسوله ثمّ لحق بالكفّار قبل أن يقدر عليه،لم يمنعه ذلك ان يقام عليه الحدّ الّذي أصاب.
- حدّثنا بشّارٌ، قال: حدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا شبلٌ، أنّ ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} قال: هذا لأهل الشّرك إذا فعلوا شيئًا في شركهم، فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ إذا تابوا وأسلموا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} بالزّنا، والسّرقة وقتل النّفس، وإهلاك الحرث والنّسل {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} على عهد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قال: كان قومٌ بينهم وبين الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض، فخيّر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه قبل ذلك منه.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، فذكر نحو قول الضّحّاك، إلاّ أنّه قال: فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} قال: هذا لأهل الشّرك إذا فعلوا شيئًا من هذا في شركهم ثمّ تابوا وأسلموا، فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن عطاءٍ الخراسانيّ، وقتادة، أمّا قوله: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فهذه لأهل الشّرك، فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم حربٌ، فأخذ مالاً أو أصاب دمًا ثمّ تاب قبل أن تقدروا عليه، أهدر عنه ما مضى.
وقال آخرون: بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها المحاربون اللّه ورسوله الحرّاب من أهل الإسلام، من قطع منهم الطّريق وهو مقيمٌ على إسلامه، ثمّ استأمن فأومن على جناياته الّتي جناها وهو للمسلمين حربٌ. ومن فعل ذلك منهم مرتدًّا عن الإسلام ثمّ لحق بدار الحرب، ثمّ استأمن فأومن؛ قالوا: فإذا أمّنه الإمام على جناياته الّتي سلفت لم يكن قبله لأحدٍ تبعةٌ في دمٍ ولا مالٍ أصابه قبل توبته وقبل أمان الإمام إيّاه.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد، قال: أخبرني أبو أسامة، عن أشعث بن سوّارٍ، عن عامرٍ الشّعبيّ: أنّ حارثة بن بدرٍ، خرج محاربًا فأخاف السّبيل، وسفك الدّم، وأخذ الأموال، ثمّ جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، فقبل عليّ بن أبي طالبٍ عليه السّلام توبته، وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دمٍ أو مالٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ: أنّ حارثة بن بدرٍ، حارب في عهد عليّ بن أبي طالبٍ، فأتى الحسن بن عليٍّ رضوان اللّه عليهما، فطلب إليه أن يستأمن له من عليٍّ، فأبى. ثمّ أتى ابن جعفرٍ، فأبى عليه. فأتى سعيد بن قيسٍ الهمدانيّ فأمّنه، وضمّه إليه، وقال له: استأمن إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ.
قال: فلمّا صلّى عليٌّ الغداة، أتاه سعيد بن قيسٍ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله؟ قال: {أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض}. قال: ثمّ قال: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}. قال سعيدٌ: وإن كان حارثة بن بدرٍ؟ قال: وإن كان حارثة بن بدرٍ. قال: فهذا حارثة بن بدرٍ قد جاء تائبًا فهو آمنٌ؟ قال: نعم. قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانًا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مغراء، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، قال: كان حارثة بن بدرٍ قد أفسد في الأرض وحارب ثمّ تاب، وكلّم له عليٌّ فلم يؤمّنه. فأتى سعيد بن قيسٍ فكلّمه، فانطلق سعيد بن قيسٍ إلى عليٍّ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول فيمن حارب اللّه ورسوله؟ فقرأ الآية كلّها، فقال: أرأيت من تاب من قبل أن تقدر عليه؟ قال: أقول كما قال اللّه. قال: فإنّه حارثة بن بدرٍ. قال: فأمّنه عليٌّ فقال حارثة:.
ألا أبلغن همدان إمّا لقيتها = على النّأي لا يسلم عدوٌّ يعيبها.
لعمر أبيها إنّ همدان تتّقي الـ = ـإله ويقضي بالكتاب خطيبها.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وتوبته من قبل أن يقدر عليه أن يكتب إلى الإمام يستأمنه على ما قتل وأفسد في الأرض: فإن لم يؤمّنّي على ذلك ازددت فسادًا وقتلاً وأخذًا للأموال أكثر ممّا فعلت ذلك قبل. فعلى الإمام من الحقّ أن يؤمّنه على ذلك، فإذا أمّنّه الإمام جاء حتّى يضع يده في يد الإمام. فليس لأحدٍ من النّاس أن يتبعه ولا يأخذه بدمٍ سفكه ولا مالٍ أخذه، وكلّ مالٍ كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضًا ويفسده. فإذا رجع إلى اللّه جلّ وعزّ فهو وليّه يأخذه بما صنع. وتوبته فيما بينه وبين الإمام والنّاس، فإذا أخذه الإمام وقد تاب فيما يزعم إلى اللّه جلّ ثناؤه قبل أن يؤمّنه الإمام فليقم عليه الحدّ.
- حدّثنا عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحولٌ، أنّه قال: إذا أعطاه الإمام أمانًا، فهو آمنٌ ولا يقام عليه الحدّ ما كان أصاب.
وقال آخرون: معنى ذلك: كلّ من جاء تائبًا من الحراب قبل القدرة عليه، استأمن الإمام فأمّنه أو لم يستأمنه بعد أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا محمّد بن فضيلٍ، عن أشعث، عن عامرٍ، قال: جاء رجلٌ من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمرة عثمان بعد ما صلّى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلانٌ ابن فلانٍ المراديّ، كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض، وإنّي تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى فقال: هذا فلانٌ ابن فلانٍ، وإنّه كان حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، وإنّه تاب قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخيرٍ وتوبة. فأقام الرّجل ما شاء اللّه، ثمّ إنّه خرج، فأدركه اللّه بذنوبه فقتله.
- حدّثني الحارث بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا سفيان، عن إسماعيل السّدّيّ، عن الشّعبيّ قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فذكر نحوه.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: قلت لمالكٍ: أرأيت هذا المحارب الّذي قد أخاف السّبيل وأصاب الدّم والمال، فلحق بدار الحرب أو تمنّع في بلاد الإسلام، ثمّ جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه؟ قال: تقبل توبته. قال: قلت: فلا يتّبع بشيءٍ من أحداثه؟ قال: لا، إلاّ أن يوجد معه مالٌ بعينه فيردّ إلى صاحبه، أو يطلبه وليّ من قتل بدمٍ في حربه يثبت ببيّنةٍ أو اعترافٍ فيقاد به؛ وأمّا الدّماء الّتي أصابها ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيءٍ. قال عليٌّ: قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرٍو، فقال: تقبل توبته إذا كان محاربًا للعامّة والأئمّة قد آذاهم بحربه فشهر سلاحه وأصاب الدّماء والأموال، فكانت له منعةٌ أو فئةٌ يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتدّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه ثمّ جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته ولم يتبع بشيءٍ منه.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: قال أبو عمرٍو: سمعت ابن شهابٍ الزّهريّ، يقول ذلك.
- حدّثني على بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد، قال: فذكرت قول أبي عمرٍو ومالكٍ للّيث بن سعدٍ في هذه المسألة، فقال: إذا أعلن بالمحاربة للعامّة والأئمّة وأصاب الدّماء والأموال، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه، أو لحق بدار الحرب ثمّ جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته ولم يتبع بشيءٍ من أحداثه في حربه من دم خاصّةً ولا عامّةٍ وإن طلبه وليّه.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: قال اللّيث: وكذلك حدّثني موسى بن إسحاق المدنيّ، وهو الأمر عندنا: أنّ عليًّا الأسديّ حارب وأخاف السّبيل وأصاب الدّم والمال، فطلبته الأئمّة والعامّة، فامتنع ولم يقدر عليه، حتّى جاء تائبًا؛ وذلك أنّه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: {يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه} الآية، فوقف عليه فقال: يا عبد اللّه، أعد قراءتها فأعادها عليه. فغمد سيفه، ثمّ جاء تائبًا، حتّى قدم المدينة من السّحر، فاغتسل، ثمّ أتى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فصلّى الصّبح، ثمّ قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه؛ فلمّا أسفروا عرفه النّاس وقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ، جئت تائبًا من قبل أن تقدروا عليّ. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتّى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليّ، جاء تائبًا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فترك من ذلك كلّه. قال: وخرج عليٌّ تائبًا مجاهدًا في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الرّوم، فقرّبوا سفينته إلى سفينةٍ من سفنهم، فاقتحم على الرّوم في سفينتهم، فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى، فمالت بهم وبه فغرقوا جميعًا.
- حدّثني أحمد بن حازمٍ، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا مطرّف بن معقلٍ، قال: سمعت عطاءً، قال في رجلٍ سرق سرقة فجاء بها تائبًا من غير أن يؤخذ: فهل عليه حدٌّ؟ قال: لا، ثمّ قال: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية.
- حدّثنا ابن البرقيّ، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: حدّثني أبو صخرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبيرٍ، قالا: إن جاء تائبًا لم يقتطع مالاً ولم يسفك دمًا ترك، فذلك الّذي قال اللّه: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} يعني بذلك: أنّه لم يسفك دمًا ولم يقتطع مالا.
وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك التّائب من حربه اللّه ورسوله والسّعي في الأرض فسادًا، بعد لحاقه في حربه بدار الكفر؛ فأمّا إذا كانت حرابته وحربه وهو مقيمٌ في دار الإسلام وداخلٌ في غمار الأمّة، فليست توبته واضعةً عنه شيئًا من حدود اللّه ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: أخبرني إسماعيل، عن هشام بن عروة: أنّه أخبره أنّهم سألوا عروة عمّن تلصّص في الإسلام فأصاب حدودًا ثمّ جاء تائبًا، فقال: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترءوا عليه وكان فسادًا كبيرًا، ولكن لو فرّ إلى العدوّ ثمّ جاء تائبًا، لم أر عليه عقوبةً.
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما:
- حدّثني به عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: أخبرني من، سمع هشام بن عروة، عن عروة، قال: يقام عليه حدّ ما فرّ منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمانٌ، يعني: الّذي يصيب حدًّا، ثمّ يفرّ فيلحق الكفّار، ثمّ يجيء تائبًا.
وقال آخرون: إن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام، وهو في غير منعةٍ من فئةٍ يلجأ إليها، ثمّ جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإنّ توبته لا تضع عنه شيئًا من العقوبة ولا من حقوق النّاس. وإن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام أو هو لاحقٌ بدار الكفر، غير أنّه في كلّ ذلك كان يلجأ إلى فئةٍ تمنعه من أراده من سلطان المسلمين، ثمّ جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإنّ توبته تضع عنه كلّ ما كان من أحداثه في أيّام حرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدًّا أو أمر الرّفقة بما فيه عقوبةٌ أو غرمٌ لمسلمٍ أو معاهدٍ، وهو غير ملتجئٍ إلى فئةٍ تمنعه، فإنّه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبته.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا الوليد، قال: قال أبو عمرٍو: إذا قطع الطّريق لصٌّ أو جماعةٌ من اللّصوص، فأصابوا ما أصابوا من الدّماء والأموال ولم يكن لهم فئةٌ يلجئون إليها ولا منعةٌ ولا يأمنون إلاّ بالدّخول في غمار أمّتهم وسواد عامّتهم، ثمّ جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، لم تقبل توبته وأقيم عليه حدّه ما كان.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: ذكرت لأبي عمرٍو قول عروة: يقام عليه حدّ ما فرّ منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمانٌ. فقال أبو عمرٍو: إن فرّ من حدثه في دار الإسلام فأعطاه إمامٌ أمانًا، لم يجز أمانه. وإن هو لحق بدار الحرب، ثمّ سأل إمامًا على أحداثه، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانًا، وإن أعطاه الإمام أمانًا وهو غير عالمٍ بأحداثه، فهو آمنٌ، وإن جاء أحدٌ يطلبه بدمٍ أو مالٍ، ردّ إلى مأمنه، فإن أبى أن يرجع فهو آمنٌ، ولا يتعرّض له. قال: وإن أعطاه أمانًا على أحداثه وهو يعرفها، فالإمام ضامنٌ واجبٌ عليه عقل ما كان أصاب من دمٍ أو مالٍ، وكان فيما عطّل من تلك الحدود والدّماء آثمًا، وأمره إلى اللّه جلّ وعزّ. قال: وقال أبو عمرٍو: فإذا أصاب ذلك وكانت له منعةٌ أو فئةٌ يلجأ إليها، أو لحق بدار الحرب فارتدّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه ثمّ جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته، ولم يتبع بشيءٍ من أحداثه الّتي أصابها في حربه، إلاّ أن يوجد معه شيءٌ قائمٌ بعينه فيردّ إلى صاحبه.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا الوليد، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن ربيعة، قال: تقبل توبته، ولا يتبع بشيءٍ من أحداثه في حربه إلاّ أن يطلبه أحدٌ بدمٍ كان أصابه في سلمه قبل حربه فإنّه يقاد به.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا معمرٌ الرّقّيّ، قال: حدّثنا الحجّاج، عن الحكم بن عتيبة، قال: قاتل اللّه الحجّاج، إن كان ليفقه، أمّن رجلاً من محاربته، فقال: انظروا هل أصاب شيئًا قبل خروجه؟
وقال آخرون تضع توبته عنه حدّ اللّه الّذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم.
وممّن قال ذلك الشّافعيّ، حدّثنا بذلك عنه الرّبيع.
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصّواب عندي قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعةٍ معه قبل القدرة عليه، تضع عنه تبعات الدّنيا الّتي كانت لزمته في أيّام حربه وحرابته من حدود اللّه، وغرمٌ لازمٌ وقودٌ وقصاصٌ، إلاّ ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ على أهله؛ لإجماع الجميع على أنّ ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة للّه ولرسوله السّاعية في الأرض فسادًا على وجه الرّدّة عن الإسلام، فكذلك حكم كلّ ممتنعٍ سعى في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا، فأمّا المستخفي بسرقته والمتلصّص على وجه إغفال من سرقه، والشّاهر السّلاح في خلاءٍ على بعض السّابلة، وهو عند الطّلب غير قادرٍ على الامتناع، فإنّ حكم اللّه عليه تاب أو لم يتب ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله أو أصاب وليّه بدمٍ أو ختلٍ مأخوذٌ، وتوبته فيما بينه وبين اللّه؛ قياسًا على إجماع الجميع على أنّه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سلمٌ ثمّ صار لهم حربًا، أنّ حربه إيّاهم لن يضع عنه حقًّا للّه عزّ ذكره ولا لآدميٍّ، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاءٍ أو باستخفاءٍ وهو غير ممتنعٍ من السّلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئةٌ يلجأ إليها مانعةٌ منه.
وفي قوله: {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} دليلٌ واضحٌ لمن وفّق لفهمه، أنّ الحكم الّذي ذكره اللّه في المحاربين يجري في المسلمين والمعاهدين دون المشركين الّذين قد نصبوا للمسلمين حربًا. وذلك أنّ ذلك لو كان حكمًا في أهل الحرب من المشركين دون المسلمين ودون ذمّتهم لوجب أو لا يسقط إسلامهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيّ يضع عنه بعد قدرة المسلمين عليه ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة عليه، ما يدلّ على أنّ الصّحيح من القول في ذلك من قال: عنى بآية المحاربين في هذا الموضع: حرّاب أهل الإسلام أو الذّمّة دون من سواهم من مشركي أهل الحرب.
وأمّا قوله: {فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} فإنّ معناه: فاعلموا أيّها المؤمنون أنّ اللّه غير مؤاخذٍ من تاب من أهل الحرب للّه ولرسوله السّاعين في الأرض فسادًا وغيرهم بذنوبه، ولكنّه يعفو عنه فيسترها عليه ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدّنيا والآخرة، رحيمٌ به في عفوه عنه وتركه عقوبته عليها). [جامع البيان: 8/391-402]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د س) ابن عباس - رضي الله عنه - قال: {إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم (33) إلّا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفورٌ رحيمٌ} [المائدة: 33، 34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. أخرجه أبو داود والنسائي). [جامع الأصول: 2/114-115] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وسعيد بن جبير قالا: أن جاء تائبا لم يقطع مالا ولا سفك دما فذلك الذي قال الله {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في كتاب الأشراف، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب وكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمذاني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أمانا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن الأشعث عن رجل قال: صلى رجل مع أبي موسى الأشعري الغداة ثم قال: هذا مقام العائذ التائب أنا فلان بن فلان أنا كنت ممن حارب الله ورسوله وجئت تائبا من قبل أن يقدر علي فقال أبو موسى: أن فلان بن فلان كان ممن حارب الله ورسوله وجاء تائبا من قبل أن يقدر عليه فلا يعرض له أحد إلا بخير فإن يكن صادقا فسبيلي ذلك وإن يك كاذبا فلعل الله أن يأخذه بذنبه
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أنه سئل عن رجل سرق سرقة فجاء تائبا من غير أن يؤخذ عليه هل عليه حد قال: لا ثم قال: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية.
وأخرج أبو داود في ناسخه عن السدي في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال: سمعنا انه إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده بالمال ورجله بالمحاربة وإذا قتل وأخذ المال قطعت يده ورجلاه وصلب {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فإن جاء تائبا إلى الإمام قبل أن يقدر عليه فأمنه الإمام فهو آمن فإن قتله إنسان بعد أن يعلم أن الإمام قد أمنه قتل به فإن قتله ولم يعلم أن الإمام قد أمنه كانت الدية). [الدر المنثور: 5/289-291]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:29 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) )

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {من أجل ذلك...}
جواب لقتل ابن آدم صاحبه.
وقوله: {ومن أحياها} يقول: عفا عنها، والإحياء ها هنا العفو).[معاني القرآن: 1/305]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (من أجل ذلك) (32) أي: من جناية ذلك وجرّ ذلك، وهي مصدر أجلت ذلك عليه.
قال الخنّوت، وهو توبة بن مضرّس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة ابن تميم؛ وإنما سماه الخنّوت الأحنف بن قيس، لأن الأحنف كلّمه فلم يكلمه احتقاراً له، فقال إن صاحبكم هذا الخنّوت؛ والخنّوت المتجبّر الذاهب بنفسه، المستصغر للناس فيما أخبرني أبو عبيدة محمد بن حفص بن محبور الأسيديّ
وأهل خباءٍ صالحٍ ذات بينهم=قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجله
فأقبلت في الساعين أسأل عنهم=سؤالك بالشيء الذي أنت جاهله
أي جانيه وجارّ ذلك عليهم، ويقال: أجلت لي كذا وكذا، أي جررت إليّ وكسبته لي.
(من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض) (32) مجازه: أو بغير فساد في الأرض.
(لمسرفون (32) أي: لمفسدون معتدون). [مجاز القرآن: 1/162-164]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالّبيّنات ثمّ إنّ كثيراً مّنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون}
[و] قال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}. وإن شئت أذهبت الهمزة من {أجل} وحركت النون في لغة من خفف الهمزة. و"الأجل": الجناية من "أجل" "يأجل"، تقول: "قد أجلت علينا شراً" ويقول بعض العرب {من جرّا} من: "الجريرة" ويجعله على "فعلى".
وقال: {أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض} يقول: "أو بغير فسادٍ في الأرض"). [معاني القرآن: 1/223]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة الحسن وابي عمرو {من أجل ذلك} بفتح الألف، وهي قراءة نافع.
[معاني القرآن لقطرب: 477]
أبو جعفر "من إجل ذلك" بكسر الألف، مهموز مقطوعة؛ وهي تميمية؛ وقد حكي عنه {من اجل ذلك} بحذف الهمزة، وألقى حركتها على النون؛ وإنما المعنى فيها من قول العرب: أجل يا جل؛ أي جر جريرة.
وقال زهير:
وأهل خباء صالح ذات بينهم = قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي أنا جاره.
وقال عدي بن زيد على قراءة أبي جعفر:
إجل إن الله قد فضلكم = فوق ما أحكأ صلبا بإزار
أحكأ، يعني: شد العقد، أحكأت العقدة: إذا شددتها.
وقالوا في اللغة أيضًا: فعلته من إجلالك وجلالتك وجلالك، ومن أجلك وإجلك وجراك.
قال الشاعر:
ويهماء من جرى نوار سريتها = وهاجرة ذوابة لا أقيلها
"من جرا" يريد: من أجل نوار سريتها.
وقال الآخر فمدها وهي قليلة:
فمن جرائنا صرتم عبيدًا = لقوم بعد ما وطئ الخيار). [معاني القرآن لقطرب: 478]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({فكأنّما قتل النّاس جميعاً} أي يعذّب كما يعذّب قاتل الناس جميعا.
{ومن أحياها} أجر في إحيائها كما يؤجر من أحيا النّاس جميعاً وإحياؤه إياها: أن يعفو عن الدم إذا وجب له القود). [تفسير غريب القرآن: 143]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (فأصبح من النّادمين (31) من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)
الأجود أن يكون (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل).
يقال أجلت الشيء أأجله أجلا إذا جنيته قال خوّات بن جبير:
وأهل خباء صالح كنت بينهم=قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي أنا جانيه.
وتأويل الويل في اللغة قال سيبويه، الويل كلمة تقال عند الهلكة، وقيل الويل واد في جهنم، وهذا غير خارج من مذاهب أهل اللغة.
لأن من وقع في ذلك فقد وقع في هلكة:
وقوله: (أنّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض).
" فساد " معطوف على " نفس "، المعنى بغير فساد، فكأنما قتل الناس جميعا، أي المؤمنون كلهم خصماء القاتل، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعا.
(ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا).
أي من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم، أو ما يميت لا محالة، أو استنقذها من ضلالة.
(فكأنّما أحيا النّاس جميعا).
أي أجره على اللّه أجر من أحياهم أجمعين. وجائز أن يكون في إسدائه إليهم المعروف بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كلّ واحد منهم.
فإن قال قائل، كيف يكون ثوابه ثواب من أحياهم جميعا؟ فالجواب في هذا كالجواب في قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) فالتأويل أن الثواب الذي إذا جعل للحسنة كان غاية ما يتمنّى يعطى العامل لها عشرة أمثاله). [معاني القرآن: 2/168-169]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} وقرأ الحسن (أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) والمعنى على قراءته أو عمل فسادا
وقال ابن عباس في قوله جل وعز: {فكأنما قتل الناس جميعا}: أوبق نفسه فصار بمنزلة من قتل الناس جميعا أي في استحقاقه العذاب ويستحق المقتول النصر وطلب الثأر من القاتل على المؤمنين جميعا.
قال ابن عباس: إحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله عز وجل.
وقال قتادة: عظم الله أمره فألحقه من الإثم هذا.
وقيل: هو تمثيل أي الناس جميعا له خصماء ومعنى أو فساد في الأرض وفساده الحرب وإخافة السبيل
وفي حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: سمعت عثمان بن عفان رحمه الله يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل نفس بغير حق)))
ومعنى {فكأنما أحيا الناس جميعا} على قول قتادة أنه يعطى من الثواب على قدر ذلك.
وقيل: وجب شكره على الناس جميعا فكأنما من عليهم جميعا يروى هذا عن مكحول، وقول ابن عباس أولاها وأصحها). [معاني القرآن: 2/298-300]

تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع...}
(أن) في موضع رفع.
فإذا أصاب الرجل الدم والمال وأخاف السبيل صلب، وإذا أصاب القتل ولم يصب المال قتل، وإذا أصاب المال ولم يصب القتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى "من خلاف" ويصلح مكان (من) على، والباء، واللام.
ونفيه أن يقال: من قتله فدمه هدر. فهذا النفي). [معاني القرآن: 1/306]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (يحاربون الله ورسوله) (33) والمحاربة ها هنا: الكفر.
(أو تقطع أيديهم وأرجلهم) من خلافٍ) (33) يده اليمنى ورجله اليسرى، يخالف بين قطعهما). [مجاز القرآن: 1/164]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} مفسر في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 143]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
المحاربون لله ورسوله: هم الخارجون على الإمام وعلى جماعة المسلمين، يخيفون السّبل، ويسعون في الأرض بالفساد. وهم ثلاثة أصناف:
رجل قتل النفس ولم يأخذ مالا.
ورجل قتل النفس وأخذ المال.
ورجل أخذ المال ولم يقتل النفس.
فإذا قدر الإمام عليهم فإنّ بعضهم يقول: هو مخيّر في هذه العقوبات، بأيّها شاء عاقب كل صنف منهم.
وكان بعضهم يجعل لكل صنف منهم حدّا لا يتجاوزه إلى غيره:
فمن قتل النفس ولم يأخذ المال قتل، لأن النفس بالنفس.
ومن قتل وأخذ المال: صلب إلى أن يموت، فكان الشّهر له بالصّلب جزاء له بأخذه المال، وقتله جزاء له بقتله للنفس.
ومن أصاب المال ولم يقتل، فإن شاء الإمام قطع يده اليمنى جزاء بالسّرق، ورجله اليسرى جزاء بالخروج والمجاهرة بالفساد. وإن شاء نفاه من الأرض.
وقد اختلفوا في نفيه من الأرض، فقال بعضهم: هو أن يقال: من لقيه فليقتله.
وقال آخر: هو أن يطلب في كل أرض يكون بها.
وقال آخر: هو أن ينفى من بلده.
وقال آخر: هو أن يحبس.
قال أبو محمد:
ولا أرى شيئا من هذه التفاسير، أشبه بالنفي في هذا الموضع من الحبس، لأنّه إذا حبس ومنع من التصرّف والتقلّب في البلاد، فقد نفي منها كلّها وألجئ إلى مكان واحد. وقال بعض المسجونين:
خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدّنيا
ومن جعل النفي له أن يقال: من لقيه فليقتله، أو أن يطلب في كل أرض يكون بها- فإنه يذهب- فيما أحسب- إلى أنّ هذا جزاؤه قبل أن يقدر عليه، لأنّه لا يجوز أن يكون الإمام يظفر به فيدع عقوبته ثم يقول: من لقيه فليقتله. أو يجده فيتركه ثم يطلبه في كل أرض.
وإذا كان هذا هكذا اختلفت العقوبات فصار بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه. وأشبه الأشياء أن تكون كلّها فيمن ظفر به.
وأما نفيه من بلده إلى غيره، فليس نفي الخارب من بلده إلى غيره عقوبة له، إذ كان في خرابته وخروجه غائبا عن مصره، بل هو إهمال وتسليط وبعث على التّزيّد في العيث والفساد). [تأويل مشكل القرآن: 399-401]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)
موضع " أن " رفع المعنى: إنما جزاؤهم القتل أو الصلب أو القطع للأيدي والأرجل من خلاف، لأن القائل إذا قال: إنما جزاؤك دينار.
فالمعنى ما جزاؤك إلا دينار.
وقول العلماء إنّ هذه الآية نزلت في الكفار خاصة.
وروي في التفسير أن أبا برزة الأسلمي كان عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يعرض لما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم – بسوء، وألا يمنع من ذلك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع من يريد أبا برزة، فمر قوم يريدون النبي بأبي برزة، فعرض أصحابه لهم فقتلوا وأخذوا المال فأنزل اللّه تعالى على نبيه وأتاه جبريل فأعلمه أنّّ اللّه يأمره أن من أدركه منهم قد قتل وأخذ المال قتله وصلبه، ومن قتل ولم يأخذ المال قتله، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع يده لأخذه المال وقطع رجله لإخافة السبيل..
وقال بعضهم: المسلمون مخيرون في أمر المشركين، إن شاؤوا قتلوهم وصلبوهم أو قطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف.
ومعنى: (ينفوا من الأرض) فيه قولان:
قال بعضهم من قتله فدمه هدر أي لا يطالب قاتله بدمه.
وقيل: (أو ينفوا من الأرض) أن يقاتلوا حيث توجهوا منها، لا يتركوا فارين. يقال: نفيت الشيء أنفيه نفيا ونفاية والنّفاية ما يطرح وينفى، القليل.
مثل البراية والنّحّاتة.
وقوله: (ذلك لهم خزي في الدّنيا).
يقال: خزي الرجل يخزى خزيا إذا افتضح وتحيّر فضيحة.
وقد خزى يخزي خزاية، إذا استحا كأنه يتحير أن يفعل قبيحا). [معاني القرآن: 2/169-170]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف}
قال الحسن: السلطان مخير أي هذه الأشياء شاء فعل. وكذلك روى ابن نجيح عن عطاء وهو قول مجاهد وإبراهيم والضحاك وهو حسن في اللغة؛ لأن أو تقع للتخيير كثيرا
وقال أبو مجلز: الآية على الترتيب فمن حارب فقتل وأخذ المال صلب ومن قتل قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن لم يقتل ولم يأخذ المال نفي.
وروى هذا القول حجاج بن أرطأة عن عطية عن ابن عباس مثله غير أنه قال في أوله: فمن حارب وقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب، وليس في قول أبي مجلز قبل الصلب ذكر شيء، واحتج أصحاب هذا القول بحديث رواه عثمان وعائشة وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث..) وذكر الحديث قالوا: فقد امتنع قتله إلا أن يقتل فوجب أن تكون الآية على المراتب
وقال الزهري في قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} كلما علم أنه في موضع قوتل حتى يخرج منه.
وقال أهل الكوفة: النفي ههنا الحبس.
وقال سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز: ينفى من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها). [معاني القرآن: 2/300-302]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}
يقال: خزي يخزى خزيا إذا افتضح وتحير وخزي يخزى خزاية إذا استحيا كأنه تحير كراهة أن يفعل القبيح). [معاني القرآن: 2/302]

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (إلّا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفور رحيم (34)
جائز أن يكون موضع الذين رفعا بالابتداء، وخبره (فاعلموا أنّ اللّه غفور رحيم).
المعنى غفور رحيم لهم، المعنى: لكن التائبون من قبل القدرة عليهم.
فاللّه غفور رحيم لهم.
وجائز أن يكون (إلّا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) موضع " الذين " نصب، فيكون المعنى جزاؤهم الذي وصفنا إلّا التائبين.
ثم قال بعد: (أنّ اللّه غفور رحيم)
واللّه جلّ وعزّ، جعل التوبة لك، فادرأوا عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك أدعى إلى الدخول في الإسلام.
وجعل توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا ترفع عنهم إقامة الحدود عليهم، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة؛ لأن في إقامة الحدود الصلاح للمؤمنين، والحياة، قال الله جل ثناؤه:
(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) ). [معاني القرآن: 2/170-171]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 2 جمادى الأولى 1434هـ/13-03-2013م, 02:44 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي المجموع

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) }
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (أبو اليقظان قال: بعث الحجاج إلي الفُضَيْل بن بَزَوَان العدواني، وكان خيرًا من أهل الكوفة، فقال: إني أريد أن أوليك. قال: أوَ يُعفيني الأمير؟ فأبى وكتب عهده، فأخذه وخرج من عنده فرمى بالعهد وهَرَب، فأخِذَ وأتِيَ به الحجاجُ، فقال: يا عدو الله؛ فقال: لستُ لله ولا للأمير بعدوّ؛ قال: ألم أكرمك! قال: بل أردتَ أن تُهينني. قال: ألم أستعملك! قال: بل أردت أن تستعبدني. قال: {إِنًمَا جَزَاءُ الًذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ} الآية؛ قال: ما استوجب واحدةً منهن؛ قال: كل ذلك قد استوجبت بخلافك. وأمر رجلاً من أهل الشأم أن يضرب عُنقه). [عيون الأخبار: 5/210-211]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 11:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 11:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 11:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 11:59 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)
جمهور الناس على أن قوله: من أجل ذلك متعلق بقوله كتبنا أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله من النّادمين [المائدة: 31] أي ندم من «أجل» ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف من النّادمين، ويقال أجل الأمر أجلا وأجلا إذا جناه وجره، ومنه قول خوات:
وأهل خباء صالح ذات بينهم = قد احتربوا في عاجل أنا آجله
ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ذلك بوصل الألف وكسر النون قبلها، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا كم إبلك بكسر الميم ووصل الألف. ومن ابراهيم بكسر النون وكتبنا معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك، وخص الله تعالى: بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظورا لوجهين، أحدهما فيما روي أن بني إسرائيل أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلما، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم، وقوله تعالى: بغير نفسٍ معناه بغير أن تقتل نفسا فتستحق القتل، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا. وهنا يندرج المحارب، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة، وقرأ الحسن «أو فسادا في الأرض» بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فسادا أو أحدث فسادا، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه، وقوله تعالى: فكأنّما قتل النّاس جميعاً اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنّما أحيا النّاس جميعاً.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول لا تعطيه الألفاظ، وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا. ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحياها أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعا. وقال عبد الله بن عباس أيضا، المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ.
وقال ابن عباس أيضا وغيره المعنى من قتل نفسا فأوبق نفسه فكأنه قتل الناس جميعا إذ يصلى النار بذلك ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من «قتل الناس جميعا»، وقال مجاهد الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، يقول لو «قتل الناس جميعا» لم يزد على ذلك. ومن لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه، وقال ابن زيد المعنى أي من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من «قتل الناس جميعا». قال ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله، وقاله الحسن أيضا أي هو العفو بعد القدرة، وقال مجاهد ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعا.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات. إحداها القود فإنه واحد، والثانية الوعيد، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار، وتلك غاية العذاب، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك، والثالثة انتهاك الحرمة، فإن نفسا واحدة، في ذلك وجميع الأنفس سواء، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله، فقد استويا في الحنث، وقوله تعالى: ومن أحياها فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى.
وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود، أنا أحيي، سمى الترك إحياء، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد، ثم أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل» أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم). [المحرر الوجيز: 3/150-153]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ (33) إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (34)
اقتضى المعنى في هذه الآية كون إنّما حاصرة الحصر التام، واختلف الناس في سبب هذه الآية، فروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويشبه أن تكون نازلة بني قريظة حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة والحسن: نزلت الآية في المشركين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا ضعف، لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال، وقال أنس بن مالك وجرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم: إن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة، وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها.
فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الرعاء واستاقوا الإبل فجاء الصريخ فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر فنودي في الناس يا خيل الله اركبي، فركب رسول الله على أثرهم فأخذوا، وقال جرير بن عبد الله فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى إذا أدركناهم، وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال جميع الرواة فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، ويروى وسمل، وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون، وفي حديث جرير، فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم، قال أبو قلابة، هؤلاء كفروا وقتلوا وأخذوا الأموال وحاربوا الله ورسوله، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ووقفت الأمر على هذه الحدود، وقال بعضهم وجعلها الله عتابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سمل الأعين، وحكي عن جماعة من أهل العلم أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في المرتدين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لا سيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاة قالوا، وهذه الآية هي في المحارب المؤمن، وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عن ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف تخالفه الروايات المتظاهرة، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، واختلفوا فيمن هو الذي يستحق اسم الحرابة، فقال مالك بن أنس رحمه الله، المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة، وقال بهذا القول جماعة من أهل العلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل العلم، لا يكون المحارب إلا القاطع على الناس في خارج الأمصار، فأما في المصر فلا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يريدون أن القاطع في المصر يلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك. والحرابة رتب أدناها إخافة الطريق فقط لكنها توجب صفة الحرابة، ثم بعد ذلك أن يأخذ المال مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يقتل مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يجمع ذلك كله، فقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: في أي رتبة كان المحارب من هذه الرتب فالإمام مخير فيه في أن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات، واستحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقوبات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لا سيما إن كانت زلة ولم يكن صاحب شرور معروفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله، وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن وأبو مجلز وقتادة وغيرهم من العلماء بل لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب، فمن أخاف الطرق فقط فعقوبته النفي، ومن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته القطع من خلاف. ومن قتل دون أخذ مال فعقوبته القتل، ومن جمع الكل قتل وصلب، وحجة هذا القول أن الحرابة لا تخرج عن الإيمان ودم المؤمن حرام إلا بإحدى ثلاث: ارتداد أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس، فالمحارب إذا لم يقتل فلا سبيل إلى قتله، وقد روي عن ابن عباس والحسن أيضا وسعيد بن المسيب وغيرهم مثل قول مالك: إن الإمام مخير، ومن حجة هذا القول أن ما كان في القرآن «أو. أو»، فإنه للتخيير، كقوله تعالى: ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ [البقرة: 196] وكآية كفارة اليمين وآية جزاء الصيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب وقول مالك أسد للذريعة وأحفظ للناس والطرق، والمخيف في حكم القاتل ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحسانا، وذكر الطبري عن أنس بن مالك أنه قال سأل رسول الله جبريل عليهما السلام عن الحكم في المحارب، فقال: من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ، ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبقي النفي للمخيف فقط، وقوله تعالى: يحاربون اللّه تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة، وقيل التقدير يحاربون عباد الله، ففي الكلام حذف مضاف، وقوله تعالى: ويسعون في الأرض فساداً تبيين للحرابة أي: ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فسادا منضافا إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة، وقرأ الجمهور «يقتّلوا، يصلّبوا، تقطّع» بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل يذبّحون وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا، ويصلبوا، تقطع» بالتخفيف في الأفعال الثلاثة، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقي العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله ويخرج من دار الإسلام، وروي عن ابن عباس أنه قال: نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكا قال: لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك، وقال سعيد بن جبير: النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز: النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد، وقال الشافعي: ينفيه من عمله، وقال أبو الزناد: كان النفي قديما إلى دهلك وباضع وهما من أقصى اليمن، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة: النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أن الأرض في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر، نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا، وهذا هو صريح مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح وقوله تعالى: ذلك لهم خزيٌ إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو له كفارة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة، اما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وعظم الذنب، والخزي في هذه الآية الفضيحة والذل والمقت). [المحرر الوجيز: 3/153-158]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إلّا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر عليه وأخبر بسقوط حقوق الله عنه بقوله تعالى: فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ واختلف الناس في معنى الآية فقال قتادة والزهري في كتاب الاشراف: ذلك لأهل الشرك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: من حيث رأيا الوعيد بعد العقاب، وهذا ضعيف، والعلماء على أن الآية في المؤمنين وأن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه فقد سقط عنه حكم الحرابة ولا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين، فإن طلبه أحد بدم نظر فيه وأقاد منه إذا كان الطالب وليا، وكذلك يتبع بما وجد عنده من مال الغير وبقيمة ما استهلك من الأموال، هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر، وقال قوم من الصحابة والتابعين: إنه لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده بعينه، وأما ما استهلك فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم كتابا منشورا، وحكى الطبري عن عروة بن الزبير أنه قال: لا تقبل توبة المحارب، ولو قبلت لاجترؤوا وكان فساد كثير ولكن لو فر إلى العدو ثم جاء تائبا لم أر عليه عقوبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لا أدري هل أراد ارتد أم لا، وقال الأوزاعي نحوه إلا أنه قال: إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام أو بقي عليه ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح من هذا كله مذهب الفقهاء الذي قررته آنفا أن حكم الحرابة يسقط ويبقى كسائر المسلمين، واختلف إذا كان المال أقل مما يقطع فيه السارق، فقال مالك: ذلك كالكثير، وقال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من المحاربين إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق). [المحرر الوجيز: 3/158-159]

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 11:59 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 11:59 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32) إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ (33) إلا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (34)}
يقول تعالى: {من أجل} قتل ابن آدم أخاه ظلمًا وعدوانًا: {كتبنا على بني إسرائيل} أي: شرعنا لهم وأعلمناهم {أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} أي: ومن قتل نفسًا بغير سببٍ من قصاصٍ، أو فسادٍ في الأرض، واستحلّ قتلها بلا سببٍ ولا جناية، فكأنّما قتل النّاس جميعًا؛ لأنّه لا فرق عنده بين نفسٍ ونفسٍ، {ومن أحياها} أي: حرّم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم النّاس كلّهم منه بهذا الاعتبار؛ ولهذا قال: {فكأنّما أحيا النّاس جميعًا}.
وقال الأعمش وغيره، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدّار فقلت: جئت لأنصرك وقد طاب الضّرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة، أيسرّك أن تقتل النّاس جميعًا وإيّاي معهم؟ قلت: لا. قال فإنّك إن قتلت رجلًا واحدًا فكأنّما قتلت النّاس جميعًا، فانصرف مأذونًا لك، مأجورًا غير مأزورٍ. قال: فانصرفت ولم أقاتل.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: هو كما قال اللّه تعالى: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} وإحياؤها: ألّا يقتل نفسًا حرّمها اللّه، فذلك الّذي أحيا النّاس جميعًا، يعني: أنّه من حرّم قتلها إلّا بحق، حيي الناس منه [جميعًا]
وهكذا قال مجاهدٌ: {ومن أحياها} أي: كفّ عن قتلها.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} يقول: من قتل نفسًا واحدةً حرّمها اللّه، فهو مثل من قتل النّاس جميعًا. وقال سعيد بن جبيرٍ: من استحلّ دم مسلم فكأنّما استحلّ دماء النّاس جميعًا، ومن حرّم دم مسلمٍ فكأنّما حرّم دماء النّاس جميعًا.
هذا قولٌ، وهو الأظهر، وقال عكرمة والعوفيّ، عن ابن عبّاسٍ [في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} يقول] من قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنّما قتل النّاس جميعًا، ومن شدّ على عضد نبيٍّ أو إمام عدل، فكأنّما أحيا النّاس جميعًا. رواه ابن جريرٍ.
وقال مجاهدٌ في روايةٍ أخرى عنه: من قتل نفسًا بغير نفسٍ فكأنّما قتل النّاس جميعًا؛ وذلك لأنّه من قتل النّفس فله النّار، فهو كما لو قتل النّاس كلّهم.
وقال ابن جريج عن الأعرج، عن مجاهدٍ في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} من قتل النّفس المؤمنة متعمّدًا، جعل اللّه جزاءه جهنّم، وغضب اللّه عليه ولعنه، وأعدّ له عذابًا عظيمًا، يقول: لو قتل النّاس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب.
قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: من لم يقتل أحدًا فقد حيي النّاس منه.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسًا فكأنّما قتل النّاس [جميعًا] يعني: فقد وجب عليه القصّاص، فلا فرق بين الواحد والجماعة {ومن أحياها} أي: عفا عن قاتل وليّه، فكأنّما أحيا النّاس جميعًا. وحكي ذلك عن أبيه. رواه ابن جريرٍ.
وقال مجاهدٌ -في روايةٍ-: {ومن أحياها} أي: أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة.
وقال الحسن وقتادة في قوله: {أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} هذا تعظيمٌ لتعاطي القتل -قال قتادة: عظم واللّه وزرها، وعظم واللّه أجرها.
وقال ابن المبارك، عن سلام بن مسكينٍ، عن سليمان بن عليٍّ الرّبعي قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيدٍ، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والّذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل. وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا.
وقال الحسن البصريّ: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} قال: وزرًا. {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا} قال: أجرًا.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا حيي بن عبد اللّه، عن أبي عبد الرّحمن الحبلي، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: جاء حمزة بن عبد المطّلب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، اجعلني على شيءٍ أعيش به. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا حمزة، نفسٌ تحييها أحبّ إليك أم نفسٌ تميتها؟ " قال: بل نفسٌ أحييها: قال: "عليك بنفسك".
وقوله: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات} أي: بالحجج والبراهين والدّلائل الواضحة {ثمّ إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} وهذا تقريعٌ لهم وتوبيخٌ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنّضير وغيرهم من بني قينقاع ممّن حول المدينة من اليهود، الّذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهليّة، ثمّ إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر اللّه عليهم ذلك في سورة البقرة، حيث يقول: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون} [البقرة: 84، 85]). [تفسير القرآن العظيم: 3/92-94]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} الآية. المحاربة: هي المضادّة والمخالفة، وهي صادقةٌ على الكفر، وعلى قطع الطّريق وإخافة السّبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواعٍ من الشّرّ، حتّى قال كثيرٌ من السّلف، منهم سعيد بن المسيّب: إنّ قرض الدّراهم والدّنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال اللّه تعالى: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد} [البقرة: 205].
ثمّ قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، حدّثنا الحسين بن واقدٍ، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصريّ قالا [قال تعالى] {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى {أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيلٌ، وليست تحرز هذه الآية الرّجل المسلم من الحدّ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب اللّه ورسوله، ثمّ لحق بالكفّار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الّذي أصاب.
ورواه أبو داود والنّسائيّ، من طريق عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الّذي أصابه.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} قال: كان قومٌ من أهل الكتاب، بينهم وبين النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عهدٌ وميثاقٌ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر اللّه رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ. رواه ابن جريرٍ.
وروى شعبة، عن منصورٍ، عن هلال بن يساف، عن مصعب بن سعدٍ، عن أبيه قال: نزلت في الحروريّة: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} رواه ابن مردويه.
والصّحيح أنّ هذه الآية عامّةٌ في المشركين وغيرهم ممّن ارتكب هذه الصّفات، كما رواه البخاريّ ومسلمٌ من حديث أبي قلابة -واسمه عبد اللّه بن زيدٍ الجرمي البصريّ-عن أنس بن مالكٍ: أنّ نفرًا من عكل ثمانيةً، قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "ألّا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟ " فقالوا: بلى. فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحّوا فقتلوا الرّاعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبعث في آثارهم، فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثمّ نبذوا في الشّمس حتّى ماتوا.
لفظ مسلمٍ. وفي لفظٍ لهما: "من عكلٍ أو عرينة"، وفي لفظٍ: "وألقوا في الحرّة فجعلوا يستسقون فلا يسقون. وفي لفظٍ لمسلمٍ: "ولم يحسمهم". وعند البخاريّ: قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا اللّه ورسوله. ورواه مسلمٌ من طريق هشيم، عن عبد العزيز بن صهيب وحميدٍ، عن أنسٍ، فذكر نحوه، وعنده: "وارتدّوا". وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنسٍ، بنحوه. وقال سعيدٌ عن قتادة: "من عكلٍ وعرينة". ورواه مسلمٌ من طريق سليمان التّيميّ، عن أنسٍ قال: إنّما سمل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعين أولئك؛ لأنّهم سملوا أعين الرّعاء. ورواه مسلمٌ، من حديث معاوية بن قرّة عن أنسٍ قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفرٌ من عرينة، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الموم -وهو البرسام-ثمّ ذكر نحو حديثهم، وزاد: وعنده شبابٌ من الأنصار، قريبٌ من عشرين فارسًا فأرسلهم، وبعث معهم قائفًا يقتصّ أثرهم. وهذه كلّها ألفاظ مسلمٍ، رحمه اللّه.
وقال حمّاد بن سلمة: حدّثنا قتادة وثابتٌ البناني وحميد الطّويل، عن أنس بن مالكٍ: أنّ ناسًا من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في إبل الصّدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصحّوا فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الرّاعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وسمر أعينهم وألقاهم في الحرّة. قال أنسٌ: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا حتّى ماتوا، ونزلت: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية.
وقد رواه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن مردويه -وهذا لفظه-وقال التّرمذيّ: "حسنٌ صحيحٌ".
وقد رواه ابن مردويه من طرقٍ كثيرةٍ، عن أنس بن مالكٍ، منها ما رواه من طريقين، عن سلام بن أبي الصّهباء، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: ما ندمت على حديثٍ ما ندمت على حديثٍ سألني عنه الحجّاج قال أخبرني عن أشدّ عقوبةٍ عاقب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قال: قلت: قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قومٌ من عرينة، من البحرين، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرّت ألوانهم، وضخمت بطونهم، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصّدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتّى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عدوا على الرّاعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثمّ ألقاهم في الرّمضاء حتّى ماتوا. فكان الحجّاج إذا صعد المنبر يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد قطع أيدي قومٍ وأرجلهم ثمّ ألقاهم في الرّمضاء حتّى ماتوا لحال ذودٍ [من الإبل] وكان يحتجّ بهذا الحديث على النّاس.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن سهلٍ، حدّثنا الوليد -يعني ابن مسلمٍ-حدّثني سعيدٌ، عن قتادة، عن أنسٍ قال: كانوا أربعة نفرٍ من عرينة، وثلاثة نفرٍ من عكل، فلمّا أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتلقّمون الحجارة بالحرّة، فأنزل اللّه في ذلك: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن حربٍ الموصليّ، حدّثنا أبو مسعودٍ -يعني عبد الرّحمن بن الحسن الزّجاج-حدّثنا أبو سعدٍ -يعني البقّال-عن أنس بن مالكٍ قال: كان رهطٌ من عرينة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبهم جهد، مصفرّة ألوانهم، عظيمةٌ بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الرّاعي واستاقوا الإبل، فبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في طلبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسمر أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، ونزلت: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى آخر الآية.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن سهلٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أنسٍ يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنسٌ يخبره أنّ هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة قال أنسٌ: فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الرّاعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السّبيل، وأصابوا الفرج الحرام.
وقال: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن أبي الزّناد، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه، عن عبد اللّه بن عمر -أو: عمرٍو، شكّ يونس-عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك -يعني بقصّة العرنيين-ونزلت فيهم آية المحاربة. ورواه أبو داود والنّسائيّ من طريق أبي الزّناد، وفيه: "عن ابن عمر" من غير شكٍّ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن خلف، حدّثنا الحسن بن حمّادٍ، عن عمرو بن هاشمٍ، عن موسى بن عبيدة، عن محمّد بن إبراهيم، عن جريرٍ قال: قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قومٌ من عرينة حفاة مضرورين، فأمر بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا صحّوا واشتدّوا قتلوا رعاء اللّقاح، ثمّ خرجوا باللّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جريرٌ: فبعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في نفرٍ من المسلمين حتّى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء. ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "النّار"! حتّى هلكوا. قال: وكره اللّه، عزّ وجلّ، سمل الأعين، فأنزل اللّه هذه الآية: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} إلى آخر الآية.
هذا حديثٌ غريبٌ وفي إسناده الرّبذيّ وهو ضعيفٌ، وفيه فائدةٌ، وهو ذكر أمير هذه السّريّة، وهو جرير بن عبد اللّه البجليّ وتقدّم في صحيح مسلمٍ أنّ السّريّة كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأمّا قوله: "فكره اللّه سمل الأعين، فأنزل اللّه هذه الآية" فإنّه منكرٌ، وقد تقدّم في صحيح مسلمٍ أنّهم سملوا أعين الرّعاء، فكان ما فعل بهم قصاصًا، واللّه أعلم.
وقال عبد الرّزّاق، عن إبراهيم بن محمّدٍ الأسلميّ، عن صالحٍ مولى التّوأمة، عن أبي هريرة قال: قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجالٌ من بني فزارة قد ماتوا هزلًا. فأمرهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى لقاحه، فشربوا منها حتّى صحّوا، ثمّ عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطلبوا، فأتي بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال أبو هريرة: ففيهم نزلت هذه الآية: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} فترك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم سمر الأعين بعد.
وروي من وجهٍ آخر عن أبي هريرة.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا أحمد بن إسحاق، حدّثنا الحسين بن إسحاق التستريّ، حدّثنا أبو القاسم محمّد بن الوليد، عن عمرو بن محمّدٍ المدينيّ، حدّثنا محمّد بن طلحة، عن موسى بن محمّد بن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم غلامٌ يقال له: "يسار" فنظر إليه يحسن الصّلاة فأعتقه، وبعثه في لقاحٍ له بالحرّة، فكان بها، قال: فأظهر قومٌ الإسلام من عرينة، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، قال: فبعث بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى "يسارٍ" فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتّى انطوت بطونهم، ثمّ عدوا على "يسارٍ" فذبحوه، وجعلوا الشّوك في عينيه، ثمّ أطردوا الإبل، فبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في آثارهم خيلًا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابرٍ الفهري، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. غريبٌ جدًّا.
وقد روى قصّة العرنيّين من حديث جماعةٍ من الصّحابة، منهم جابرٌ وعائشة وغير واحدٍ. وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوهٍ كثيرةٍ جدًّا، فرحمه اللّه وأثابه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة، عن عبد الكريم -وسئل عن أبوال الإبل-فقال: حدّثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناسٌ أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون. ثمّ قالوا: إنّا نجتوي المدينة. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "هذه اللّقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها" قال: فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الصّريخ، فصرخ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: قتلوا الرّاعي، واستاقوا النّعم. فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فنودي في النّاس: أن "يا خيل اللّه اركبي". قال: فركبوا لا ينتظر فارسٌ فارسًا، قال: وركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتّى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية. قال: فكان نفيهم: أن نفوهم حتّى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم، وصلب، وقطع، وسمر الأعين. قال: فما مثّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل ولا بعد. قال: ونهى عن المثلة، قال: "ولا تمثّلوا بشيءٍ" قال: وكان أنسٌ يقول ذلك، غير أنّه قال: أحرقهم بالنّار بعد ما قتلهم.
قال: وبعضهم يقول: هم ناسٌ من بني سليمٍ، ومنهم عرينة ناسٌ من بجيلة.
وقد اختلف الأئمّة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخٌ أو محكمٌ؟ فقال بعضهم: هو منسوخٌ بهذه الآية، وزعموا أنّ فيها عتابًا للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كما في قوله [تعالى] {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} [التّوبة:43] ومنهم من قال: هو منسوخٌ بنهي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن المثلة. وهذا القول فيه نظرٌ، ثمّ صاحبه مطالبٌ ببيان تأخّر النّاسخ الّذي ادّعاه عن المنسوخ. وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمّد بن سيرين، وفي هذا نظرٌ، فإنّ قصّتهم متأخّرةٌ، وفي رواية جرير بن عبد اللّه لقصّتهم ما يدلّ على تأخّرها فإنّه أسلم بعد نزول المائدة. ومنهم من قال: لم يسمل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعينهم، وإنّما عزم على ذلك، حتّى نزل القرآن فبيّن حكم المحاربين. وهذا القول أيضًا فيه نظرٌ؛ فإنّه قد تقدّم في الحديث المتّفق عليه أنّه سمل -وفي روايةٍ: سمر-أعينهم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن سهلٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ قال: ذاكرت اللّيث بن سعدٍ ما كان من سمل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعينهم، وتركه حسمهم حتّى ماتوا، قال: سمعت محمّد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معاتبةً في ذلك، وعلّمه عقوبة مثلهم: من القتل والقطع والنّفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرٍو -يعني الأوزاعيّ-فأنكر أن يكون نزلت معاتبةً، وقال: بل كانت عقوبة أولئك النّفر بأعيانهم، ثمّ نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممّن حارب بعدهم، ورفع عنهم السّمل.
ثمّ قد احتجّ بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السّبلان على السّواء لقوله: {ويسعون في الأرض فسادًا} وهذا مذهب مالكٍ، والأوزاعيّ، واللّيث بن سعدٍ، والشّافعيّ، أحمد بن حنبلٍ، حتّى قال مالكٌ -في الّذي يغتال الرّجل فيخدعه حتّى يدخله بيتًا فيقتله، ويأخذ ما معه-: إنّ هذا محاربةٌ، ودمه إلى السّلطان لا [إلى] وليّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلّا في الطّرقات، فأمّا في الأمصار فلا؛ لأنّه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطّريق لبعده ممّن يغيثه ويعينه. [واللّه أعلم]
وأمّا قوله: {أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} الآية: قال [عليّ] بن أبي طلحة عن ابن عباس في [قوله: {إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله}] الآية [قال] من شهر السّلاح في قبّة الإسلام، وأخاف السّبيل، ثمّ ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
وكذا قال سعيد بن المسيّب، ومجاهدٌ، وعطاءٌ، والحسن البصريّ، وإبراهيم النّخعي، والضّحّاك. وروى ذلك كلّه أبو جعفر بن جريرٍ، وحكي مثله عن مالك بن أنسٍ، رحمه اللّه. ومستند هذا القول أنّ ظاهر "أو" للتّخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن، كقوله في جزاء الصّيد: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} [المائدة: 95] وقوله في كفّارة التّرفّه: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} [البقرة: 196] وكقوله في كفّارة اليمين: {إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ} [المائدة: 89]. [و] هذه كلّها على التّخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزّلةٌ على أحوالٍ كما قال أبو عبد اللّه الشّافعيّ [رحمه اللّه] أنبأنا إبراهيم -هو ابن أبي يحيى-عن صالحٍ مولى التّوأمة، عن ابن عبّاسٍ في قطّاع الطّريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وإذا أخافوا السّبيل ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض.
وقد رواه ابن أبي شيبة، عن عبد الرّحيم بن سليمان، عن حجّاجٍ، عن عطيّة، عن ابن عبّاسٍ، بنحوه. وعن أبي مجلزٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وإبراهيم النّخعي، والحسن، وقتادة، والسّدّي، وعطاءٍ الخراساني، نحو ذلك. وهكذا قال غير واحدٍ من السّلف والأئمّة.
واختلفوا: هل يصلب حيًّا ويترك حتّى يموت بمنعه من الطّعام والشّراب، أو بقتله برمحٍ ونحوه، أو يقتل أوّلًا ثمّ يصلب تنكيلًا وتشديدًا لغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيّامٍ ثمّ ينزل، أو يترك حتّى يسيل صديده؟ في ذلك كلّه خلافٌ محرّرٌ في موضعه، وباللّه الثّقة وعليه التّكلان.
ويشهد لهذا التّفصيل الحديث الّذي رواه ابن جريرٍ في تفسيره -إن صحّ سنده-فقال:
حدّثنا عليّ بن سهلٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ؛ أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس [بن مالكٍ] يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره: أنّ هذه الآية نزلت في أولئك النّفر العرنيّين -وهم من بجيلة-قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الرّاعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السّبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنسٌ: فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل، عليه السّلام، عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السّبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السّبيل واستحلّ الفرج الحرام، فاصلبه.
وأمّا قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} قال بعضهم: هو أن يطلب حتّى يقدر عليه، فيقام عليه الحدّ أو يهرب من دار الإسلام.
رواه ابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ، وأنس بن مالكٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضّحّاك، والرّبيع بن أنسٍ، والزّهريّ، واللّيث بن سعدٍ، ومالك بن أنسٍ.
وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلدٍ آخر، أو يخرجه السّلطان أو نائبه من معاملته بالكلّيّة، وقال الشّعبيّ: ينفيه -كما قال ابن هبيرة-من عمله كلّه. وقال عطاءٌ الخراسانيّ: ينفى من جند إلى جندٍ سنين، ولا يخرج من أرض الإسلام.
وكذا قال سعيد بن جبيرٍ، وأبو الشّعثاء، والحسن، والزّهريّ، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان: إنّه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام.
وقال آخرون: المراد بالنّفي هاهنا السّجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جريرٍ: أنّ المراد بالنّفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلدٍ آخر فيسجن فيه.
وقوله: {ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} أي: هذا الّذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، ونفيهم -خزي لهم بين النّاس في هذه الحياة الدّنيا، مع ما ادّخر اللّه لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيّد به من ذهب إلى أنّ هذه الآية نزلت في المشركين، فأمّا أهل الإسلام فقد ثبت في الصّحيح عند مسلمٍ، عن عبادة بن الصّامت قال: أخذ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما أخذ على النّساء: ألّا نشرك باللّه شيئًا: ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضًا، فمن وفّى منكم فأجره على اللّه، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفّارةٌ له، ومن ستره اللّه فأمره إلى اللّه، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له
وعن عليٍّ [رضي اللّه عنه] قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أذنب ذنبًا في الدّنيا، فعوقب به، فاللّه أعدل من أن يثنّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدّنيا فستره اللّه عليه وعفا عنه، فاللّه أكرم من أن يعود في شيءٍ قد عفا عنه".
رواه الإمام أحمد، والتّرمذيّ، وابن ماجه، وقال التّرمذيّ: "حسنٌ غريبٌ". وقد سئل الحافظ الدّارقطنيّ عن هذا الحديث، فقال: روي مرفوعًا وموقوفًا، قال: ورفعه صحيحٌ.
وقال ابن جريرٍ في قوله: {ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا} يعني: شرٌّ وعارٌ ونكالٌ وذلّةٌ وعقوبةٌ في عاجل الدّنيا قبل الآخرة، {ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتّى هلكوا -في الآخرة مع الجزاء الّذي جازيتهم به في الدّنيا، والعقوبة الّتي عاقبتهم بها فيها - {عذابٌ عظيمٌ} يعني: عذاب جهنم). [تفسير القرآن العظيم: 3/94-101]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إلا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أمّا على قول من قال: هي في أهل الشّرك فظاهرٌ، وأمّا المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنّه يسقط عنهم انحتام القتل والصّلب وقطع الرّجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء.
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصّحابة، كما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، عن مجاهدٍ عن الشّعبيّ قال: كان حارثة بن بدرٍ التّميميّ من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلّم رجالًا من قريشٍ منهم: الحسن بن عليٍّ، وابن عبّاسٍ، وعبد اللّه بن جعفرٍ، فكلّموا عليًّا، فلم يؤمّنه. فأتى سعيد بن قيسٍ الهمدانيّ فخلفه في داره، ثمّ أتى عليًّا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، فقرأ حتّى بلغ: {إلا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} قال: فكتب له أمانًا. قال سعيد بن قيسٍ: فإنّه حارثة بن بدرٍ.
وكذا رواه ابن جريرٍ من غير وجهٍ، عن مجاهدٍ عن الشّعبيّ، به. وزاد: فقال حارثة بن بدرٍ:
ألا أبلغن همدان إمّا لقيتها = على النّأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إنّ همدان تتّقي الـ = إله ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جريرٍ من طريق سفيان الثّوريّ، عن السّدّي -ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامرٍ الشّعبيّ قال: جاء رجلٌ من مراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان، رضي اللّه عنه، بعدما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلانٍ المراديّ، وإنّي كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا، وإنّي تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى فقال: إنّ هذا فلان بن فلانٍ، وإنّه كان حارب اللّه ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وإنّه تاب من قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلّا بخيرٍ، فإن يك صادقًا فسبيل من صدقٍ، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه، فأقام الرّجل ما شاء اللّه، ثمّ إنّه خرج فأدركه اللّه تعالى بذنوبه فقتله.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثني عليٌّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ قال: قال اللّيث، وكذلك حدّثني موسى بن إسحاق المدنيّ، وهو الأمير عندنا: أنّ عليًّا الأسديّ حارب وأخاف السّبيل وأصاب الدّم والمال، فطلبه الأئمّة والعامّة، فامتنع ولم يقدر عليه، حتّى جاء تائبًا، وذلك أنّه سمع رجلًا يقرأ هذه الآية: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرّحيم} [الزّمر:53]، فوقف عليه فقال: يا عبد اللّه، أعد قراءتها. فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثمّ جاء تائبًا. حتّى قدم المدينة من السّحر، فاغتسل، ثمّ أتى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصلّى الصّبح، ثمّ قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه، فلمّا أسفروا عرفه النّاس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا عليّ. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتّى أتى مروان بن الحكم -وهو أميرٌ على المدينة في زمن معاوية-فقال: هذا عليٌّ جاء تائبًا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فترك من ذلك كلّه، قال: وخرج عليٌّ تائبًا مجاهدًا في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الرّوم، فقرّبوا سفينته إلى سفينةٍ من سفنهم فاقتحم على الرّوم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقّها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعًا. ). [تفسير القرآن العظيم: 3/102-103]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:45 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة