العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > أحكام المصاحف

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:01 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

تجليد المصحف


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (المراد بتجليد المصحف تغليفه بغلاف متصل به مشرز عليه يصونه ويحفظه ويكون بمثابة الدفتين له , ويتصل به حتى يتبعه فى البيع ويأخذ حكمه عند جمهور الفقهاء , فلا يمس حال الحدث ولا يمكن منه كافر بحال حتى ولو كان ذلك التمكين لمصلحة المصحف على ما صرح به بعض فقهاء الشافعية .
قال الرملى فى النهاية : ( ويمنع الكافر من وضع يده على المصحف لتجليده كما قاله ابن عبد السلام وإن رجى إسلامه , بخلاف تمكينه من القراءة لما فى تمكينه من الاستيلاء عليه من الإهانة).
قال الشبراملسى فى حاشيته على النهاية : (" قوله لتجليده " ظاهره وإن احتيج للتجليد وانحصر فى الكافر , وهو ظاهر لأن غاية ما يترتب على عدم تمكينه منه نقصان ورقه أو تلفه , ولم ينظروا له فى غير هذه الصورة . " قوله بخلاف تمكينه من القراءة " إذا رجى إسلامه بأن فهم ذلك من حاله , أما إذا لم يرج إسلامه فإنه يمنع منها , والمخاطب بالمنع الحاكم لا الآحاد لما فيه من الفتنة ).
قالوا ويحرم مع عدم الحاجة ومعها يكره . {245}
تجليد المصحف قربة :
عقد ابن الحاج فى المدخل جملة فصول تختص من يتعاطى صنعة التجليد وما ينبغى فيها من مراعاة آدابها بكونها قربة من القرب بنيتها , وما يلزمه من التحرز واتخاذ الحيطة فيما يحل ويحرم فى بابها , وقد استهل تلك الفصول بقوله (" فصل" فى نية الصانع الذى يجلد المصاحف والكتب وغيرها . اعلم وفقنا الله وإياك أن هذه الصنعة من أهم الصنائع فى الدين , إذ بها تصان المصاحف وكتب الأحاديث والعلوم الشرعية , فيحتاج فى ذلك إلى النية المتقدم ذكرها فى الناسخ لأنه معين بصنعته على صيانة ما تعب فيه الناسخ وحصله , وفيه أيضا جمال للكتاب وترفيع له واحترامه , وترفيعه متعين فإذا خرج الصانع من بيته أخذ من نيات العالم والمتعلم ما يعتوره ويحتاج إليه ثم مع ذلك ينوى إعانة إخوانه المسلمين بصناعته على صيانة مصاحفهم وكتبهم , ثم يصحب مع ذلك نية الإيمان والاحتساب ). ثم مضى فى بيان ذلك وسرد بقية الفصول المتعلقة بآداب التجليد مما لايتسع المقام لذكره هنا وإن كانت فصوله نفيسة يحسن الرجوع إليها للاستفادة منها , وقد تأتى بتمامها فى موضعها من تجليد الكتب فى مصنف أفردته فى أحكام الكتابة والكتب .
ويتعين أن يكون الجلد المتخذ للمصحف طاهر العين لم يطرأ عليه خبث ولا نجس وأن يكون خاليا عن كل ما لايليق بالمصحف من تصاوير وكتابات أو نقوش محرمة , فإن كانت النقوش والكتابات مباحة فالظاهر من كلام أهل العلم أنه لا بأس بتغليف المصحف بمثلها على ما صرح به بعض فقهاء الحنفية . قال فى الفتاوى الهندية :( سئل أبو حامد عن الكواغد من الأخبار ومن التعليقات يستعملها الوراقون فى الغلاف ؟ فقال : إن كان فى المصحف أو فى كتب الفقه أو فى التفسير فلا بأس به , وإن كان فى كتب الأدب والنجوم يكره لهم ذلك كذا فى الغرائب ) . إلى أن قال : ( لا يجوز فى المصحف الخلق الذى لا يصلح للقراءة أن {246}
أن يجلد به القرآن

ويأتى فى مسألة جلد المصحف ما يتعلق بحكم الجلد والفرق بين المتصل منه والمنفصل , كما يأتى فى مسألة تحلية المصحف ما يتعلق بالنقدين فى جلده وتحليته بهما والكتابة بالذهب مثلا وتجليده بالحرير مفصلا ....) {247}

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:02 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

تحشية المصاحف


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (مضى فى مسألة تجريد المصحف جملة آثار عن السلف تقتضى المنع من إضافة ما ليس بقرآن إلى القرآن ولو على سبيل البيان , وأن المصحف الإمام قد ظل بضعا وأربعين سنة خاليا عن النقط والشكل فضلا عن الفواتح والخواتم وأسماء السور والعواشر إمعانا منهم رضى الله عنهم فى تجريد القرآن عما ليس بقرآن , حتى روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : " ألا أنه إن ناسا يقولون ما بال الرجم كذا , وإنما فى كتاب الله الجلد وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه , والله لولا أن يقول قائلون زاد عمر فى كتاب الله لأثبتها كما أنزلت "
وفى لفظ : " ولولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف "
وفى لفظ : " والذى نفسى بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها بيدى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة " وهذا لفظ الموطأ . قال مالك :( الشيخ والشيخة الثيب والثيبة ). وفى لفظ " لكتبتها فى آخر القرآن " {250 }
قال صاحب الكوكب الدرى عن قول عمر فى رواية الترمذى " ولولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف ": ( ليس المراد أن أكتبه حيث تكتب آيات الكتاب لأنه حرام , فكيف يكتفى الكراهة , وإنما يعنى أن أكتبه فى حواشى المصاحف حتى ينظر إليه من يقرأ المصحف إلا أن الأمر بتجريد القرآن يمنعنى عن ذلك لئلا ينجر الأمر بالآخرة إلى إدخاله فيه ) . قال فى تحقيق التعليق الممجد: ( قوله : لولا أن يقول .... إلخ , قال الزركشى فى " البرهان ": ظاهره أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس , والجائز فى نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه , وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة. وقد يقال : لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعرج على مقالة الناس , لأن مقالة الناس لا يصلح مانعا . وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة , ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم , انتهى ورده السيوطى فى " الإتقان " بأن قوله لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود , فقد صح أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم , انتهى . والأظهر فى هذا المقام ما قاله الزرقانى وغيره أن مراد عمر من هذا الكلام المبالغة والحث على العمل بالرجم , لأن معنى الاية باق وإن لم يبق لفظها ).
وأخرج ابن أبى شيبة عن عامر الشعبى قال : ( كتب رجل مصحفا وكتب عند كل آية تفسيرها , فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين.
وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف من عدة طرق عن مسروق قال : ( كان عبد الله بن مسعود يكره التعسير فى المصحف ). وقد مضى قول بن مسعود رضى الله عنه :" جردوا القرآن ولا تخلطوا بشئ " مخرجا فى مسألة تجريد المصحف .
وقال السيوطى فى الإتقان : ( قال الجرجانى من أصحابنا فى الشافى : من {251}
المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره ).
وذكر السيوطى وغيره قول الحليمى: ( تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله :" جردوا القرآن ").
وقال الهيتمى فى الفتاوى الحديثية:( وانه يجوز أن يحشى المصحف من التفسير والقراءات كما تحشى الكتب لكن ينبغى أخذا مما مر فى تحشية الكتب أن لا يكتب إلا المهم المتعلق بلفظ القرآن دون نحو القصص والأعاريب الغربية , قال الحليمى : ومن الآداب أن لا يخلط به ماليس بقرآن كعدد الاى والوقوف واختلاف القراآت ومعانى الآيات وأسماء السور والأعشار . قال البيهقى : لأنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان لم يفعلوا شيئا من ذلك , وكتب الأحاديث المتعلقة بفضائل السور لا بأس به لمن علم أن تلك الأحاديث أصلا ككون الفاتحة تعدل ثلثى القرآن والإخلاص ثلث القرآن والكافرون وما بعدها ربعه , وإذا زلزلت والعاديات نصفه , وكون آية الكرسى أعظم آية فى القرآن , وكون يسين قلب القرآن أو تعدله عشرات مرات ونحو ذلك مما له أصل , وأما الأحاديث التى لا أصل لها كالمذكورة فى تفسير الواحدى والزمخشرى والبيضاوى وغيرهم فلا يجوز روايتها ولا كتابتها لأنها كذب موضوعة مختلقة , بل الأحاديث التى لا يعلم أن مخرجها ممن يعتمد عليه فى أن الحديث له أصل لا يجوز روايتها ولا كتابتها ). {252}

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:03 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

الترجمة في المصحف


الكلام على قضية الترجمة فى المصحف يتناول مسائل :
· إحداها : ماهية الترجمة على وجه العموم , والترجمة فى المصحف على وجه الخصوص .
· المسألة الثانية : تتعلق بالأثر الوارد فى ابن عباس رضى عنهما , وتسميته بترجمان القرآن
· المسألة الثالثة : فى مدى إمكان ترجمة القرآن , وموقف العلماء من ذلك وما الذى يثبت لتلك الترجمة من أحكام القرآن على تقدير إمكانها وجوازها .
· والمسألة الرابعة : التعرف على أول ترجمة للقرآن وجدت فى تاريخ الإسلام , ومدى صحة المروى عن سلمان الفارسى رضى الله عنه فى ذلك , وكيف تأولها أهل العلم على تقدير ثبوتها .
· والمسألة الخامسة : فى الفرق بين قراءة القرآن بغير العربية وبين كتابته بالأعجمية
· المسألة السادسة : فى ذكر طائفة من النقول عن أهل العلم المقتضية لمنع الترجمة للقرآن مطلقا , وحكم تعاطيها , وأثرها على صحة الصلاة ونحوها .
· المسألة السابعة : فى ذكر طائفة من النقول عمن رخص فى الترجمة من أهل العلم , وحدود القدر المرخص فيه , وحال من يرخص له , ومستندهم فى ذلك .
· والمسألة الثامنة : فى كتابة القرآن والأعجمية وبشكل يمكن معه قراءة القرآن بالعربية , مع التنويه عن شبهة مروجى هذا التوجه وتفنيد تلك الشبهة .
· المسألة التاسعة : التمييز بين ترجمة القرآن وبين ترجمة تفسيره ومعانيه , وكون ذلك فى حدود ضرورات التبليغ , وتقدير تلك الضرورات بقدرها , وبيان التدابير التى يتعين اتخاذها فى هذا الباب رعاية لوحدة المسلمين وحذرا من مكائد الساعين للتفريق بين المؤمنين من المستشرقين أو مغتر بهم ممن قصر نظره من المسلمين أو انطلت عليه أراجيف الزنادقة والملحدين .
ماهية الترجمة :
الترجمة : مصدر ترجم , ويقال : ترجم كلامه إذا بينه , ويقال : ترجم كلام غيره إذا عبر عنه بلسان آخر , ومنه الترجمان والترجمان وهو المفسر للسان , وهو بالضم والفتح هو الذى يترجم الكلام أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى . قال ابن الأثير فى النهاية " ترجم " " هـ" فى حديث هرقل " أنه قال لترجمانه " الترجمان بالضم والفتح : هو الذى يترجم الكلام , أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى , والجمع التراجم والتاء والنون زائدتان .
قال الذهبى : ( والترجمة فى اللغة تطلق على معنيين :
الأول / نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم , وذلك كوضع رديف من لغة واحدة . {322}
والثانى / تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى . قال فى تاج العروس :" والترجمان المفسر للسان , وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر ". قال الجوهرى :" وقيل نقله من لغة إلى لغة أخرى " وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين : ترجمة حرفية , وترجمة معنوية أو تفسيرية .
أما الترجمة الحرفية : فهى نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى مع مراعاة الموافقة فى النظم والترتيب , والمحافظة على جميع معانى الأصل المترجم .
وأما الترجمة التفسيرية : فهى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعة لنظم الأصل وتربيته وبدون المحافظة على جميع معانيه المراده منه )
وذكر الزرقانى أن الترجمة فى اللغة العربية وضعت لتدل على أحد معان أربعة :
" أولها " : تبليغ الكلام لمن لم يبلغه , ومنه قول الشاعر :
إن الثمانين - وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان
" ثانيهما " : تفسير الكلام بلغته التى جاء بها , ومنه قيل فى ابن عباس : إنه ترجمان القرآن . ولعل الزمخشرى فى كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول :" كل ما ترجم عن حال شئ فهو تفسرته "
" ثالثهما " : تفسير الكلام بلغة غير لغته . ثم ذكر كلام صاحب اللسان وصاحب التاج بنحو مما مر , وذكر أن رابع معانى الترجمة هو نقل الكلام من لغة إلى أخرى , واستشهد بكلام ابن منظور والزبيدى السالف ذكره , ثم قال : ولكون هذه المعانى الأربعة فيها بيان جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة , فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أى عنون له , وترجم لفلان أى بين تاريخه وترجم حياته أى بين ما كان فيها , وترجمة هذا الباب أى بيان المقصود منه , وهلم جرا . ثم مضى رحمه الله فى الكلام عن الترجمة فى العرف , وبيان المراد بالعرف هنا , وأنه عرف التخاطب العام لا عرف طائفة خاصة وأمة معينة , إلى أن قال ويمكننا أن نعرف الترجمة فى هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول : هى التعبير من معنى الكلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده , ثم شرح محترزات هذا التعريف , وذكر أقسام الترجمة العرفية , وأنها تنقسم بهذا المعنى العرفى إلى قسمين : حرفية وتفسيرية . فالترجمة الحرفية هى التى تراعى فيها محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه , فهى تشبه وضع المرادف مكان مرادفه , وبعض الناس يسمى هذه الترجمة ترجمة لفظية , وبعضهم يسميها مساوية .
والترجمة التفسيرية : هى التى لا تراعى فيها تلك المحاكاة أى محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه , بل المهم فيها حسن تصوير المعانى والأغراض كاملة , لهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية , وسميت تفسيرية , لأن حسن تصوير المعانى والأغراض جعلها تشبه التفسير , وما هى بتفسير كما تبين لك بعد , فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة فى الأصل فيفهمها , ثم يستبدل بها كلمة تساويها فى اللغة الأخرى مع وضعها وإحلالها محلها , وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل بسبب اختلاف اللغتين فى مواقع استعمال الكلام فى المعانى المرادة إلفا واستحسانا , أما المترجم ترجمة تفسيرية فإنه يعمد إلى المعنى الذى يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصبه فى قالب يؤديه من اللغة الأخرى , موافقا لمراد صاب الأصل ممن غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره فى موضعه .
اعتراض على تعريف الترجمة الحرفية :
وقد تعقب الزرقانى ومن تابعه فى تعريف الترجمة الحرفية بأنها ليست كما ذكروا آنفا , وإنما هى الترجمة التى تعنى بالضبط الدقيق عن إيراد النص الأصلى , وليس {324}
معنى ذلك أن يعمد المترجم إلى كل كلمة أو حرف فيضع مقابلها من اللغة الأخرى بلا مراعة لأصول اللغة المنقول إليها , لأن هذا يولد الاضطراب فعلا . ومضى صاحب الاعتراض قائلا : ولم أورد ذلك لأن الترجمة الحرفية ممكنة فى نظرى , ولكنى أوردته للتنبيه على أن معالجة استحالة الترجمة بهذه الكيفية قد يوقعنا فى متناول النقد من الآخرين , وقد يلزمنا الحجة فى النهاية لعدم تعرفنا على الترجمة الحرفية فنكون قد سلمنا سلاح الانتصار علينا بأيدينا إلى أعدائنا , وهذا أمر غير مراد للكاتبين , ولو كان كذلك لمنعنا الترجمة بهذا المفهوم من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية لعدم الوفاء بالشروط التى ذكروها والضوابط التى ارتضوها , وليس لها فى الواقع المعاش وجود لأن الترجمة الحرفية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء اللغات أمر يجرى عليه العمل فى كل زمان وما ترجمة المعاهدات , والوثائق إلا مثال لذلك , والظاهر أن كلام الزرقانى ومن وافقه فى بيان حد الترجمة ينسجم مع المنقول عن أسلافهم من علماء هذه الأمة كالإمام الشافعى فى الرسالة , وابن قتيبة فى مشكل القرآن , وابن تيمية فى غير موضع من كتبه , والشاطبى فى موافقاته .
1- ماهية الترجمة المتعلقة بالقرآن على وجه الخصوص :
2- وترجمة القرآن أو الترجمة فى المصحف مشترك لفظى يصدق على عدة معانى :
3- أحدها : الترجمة بمعنى التبليغ , وذلك بإيصال ألفاظه ومعانيه إلى من يقع عليه البلاغ , وقد مر قريبا قول الشاعر :
4- إن الثمانين – وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان
أى : مبلغ . {325}
وثانى : هذه المعانى النقل : أى نقل الألفاظ من لغة إلى لغة , ومن لسان إلى لسان .
وثالثهما : التفسير والبيان , ومنه تسمية ابن عباس بترجمان القرآن .
ورابعهما : ترجمة التفسير بمعنى نقل معانية من لغة إلى لغة .
وخامسها : كتابة القرآن بغير العربية مع المحافظة على نظمه وترتيبه والاعتياض برموز ومصطلحات عما يترتب على مثل هذه الترجمة من فوات لحروف وحركات ليس لها نظير فى رسم اللغة المنقول إليها , وبعض هذه المعانى غير مسلمة , بل يكاد ينعقد الإجماع على استحالتها وتعذرها على ما سيأتى موضحا قريبا .
2- أثر ابن عباس بترجمان القرآن :
وقد ورد الأثر بتسمية ابن عباس بترجمان القرآن مرفوعا وقوفا , فقد أخرج المرفوع أبو نعيم فى الحلية قال :( حدثنا أبو بكر الطلحى قال : حدثنا جعفر بن أحمد بن عمران قال : حدثنا إبراهيم ابن يوسف الصيرفى الكوفى قال: حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنه قال :" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير كثير , وقال : نعم ترجمان القرآن أنت ") .
وأما الموقوف فقد أخرجه ابن سعد فى طبقاته , ويعقوب الفسوى فى تاريخه , والحاكم فى المستدرك أن عبد الله بن مسعود قال: {326}
" ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس "
مدى إمكان ترجمة القرآن الكريم :
المنقول عن المحققين من أهل العلم وفيهم الأئمة الثلاثة مالك , والشافعى , وأحمد أن ترجمة القرآن متعذرة مستحيلة , وأن الإقدام عليها {327}
أمر محرم , لكون القرآن معجزا بلفظه ومعناه , فالترجمة إخراج للقرآن عن إعجازه , وإفساد لنظمه وترتيبه وإخلال بمقاصده ومعانيه , وانتهاك لحرمته وقدسيته . قال ابن قتيبه وهو بصدد الكلام عن خصائص اللغة العربية :( وللعرب " المجازات " فى الكلام ومعناها : طرق القول ومآخذه , ففيها الاستعارة , والتمثيل , والقلب , والتقديم , والتأخير , والحذف , والتكرار , والإخفاء والإظهار , والتعريض , والإفصاح , والكناية والإيضاح , ومخاطبة الجميع , والجميع خطاب الواحد , والواحد والجميع خطاب الاثنين , والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم , وبلفظ العموم لمعنى الخصوص , وبكل " هذه المذاهب " نزل القرآن , ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شئ من الألسنة , كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرمية , وترجمة التوراة والزبور , وسائر كتب الله تعالى بالعربية , لأن " العجم" لم تتسع فى " المجاز " اتساع العرب , ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى : "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء"), لم تستطع أن تأتى بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذى أودعته حتى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها , {328}
وتظهر مستورها , فتقول : إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا , فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم , وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم فى العلم بالنقض على استواء . وكذلك فى قوله تعالى : (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً), إن أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه , فإن قلت أنمناهم سنين عددا , لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ. وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) إن ترجمته بمثل لفظه استغلق , وإن قلت لم يتغافلوا أديت المعنى بلفظ آخر ) وذكر ابن فارس طرفا من كلام بن قتيبة هذا فى كتاب فقه اللغة المعروف بالصاحبى , وصدره بقوله : قال بعض علمائنا . وكان ابن فارس شافعى المذهب , ثم تحول إلى المذهب المالكى .
وقال أبو عباس ابن تيمية فى غير موضع من كتبه : ( فأما القرآن فلا يقرؤه بغير {329} العربية , سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور , وهو الصواب الذى لا ريب فيه بل قد قال غير واحد : إنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز ).
وقال الزركشى فى كتابه البحر المحيط وعنه الزرقانى فى المناهل : (" مسألة " لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها , بل يجب قراءته على هيئته التى يتعلق بها الإعجاز , لتقصير الترجمة عنه , ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذى خص به دون سائر الألسن . قال تعالى : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) , وهذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه , وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربى المتحدى بنظمه فأحرى ألا تجوز بالترجمة بلسان غيره , ومن هنا قال القفال فى فتاويه : (عندى أنه لا يقدر أحد أن يأتى بالقرآن بالفارسية . قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن ؟ قال : ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتى ببعض مراد الله ويعجز عن البعض , وأما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتى بجميع مراد الله )
وفرق غيره الترجمة والتفسير فقال :" يجوز تفسير الألسن بعضها ببعض لأن التفسير عبارة عما قام فى النفس من المعنى للحاجة والضرورة , والترجمة هى إبدال اللفظة بلفظة تقوم مقامها فى مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ , فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار , والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم وهذا فرق حسن ")أ. هـ . {330}


النقول عن أهل العلم فى ترجمة القرآن وحكمها
أولا / النقول عن المانعين :
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى ترجمة القرآن غير جائزة , وأن الصلاة تبطل بها , وأن المترجم على تقدير جواز الترجمة لا يكون قرآنا ولا يثبت له شئ من أحكام القرآن , إذ هو كلام آدميين كسائر كلامهم , والقول بمنع ترجمة القرآن يتناول كافة ضروب الترجمة عند أكثر أهل العلم , ولم يجر فيه خلاف بينهم فى الصدر الأول , ولم ينقل تجويز الترجمة عن أحد من فقهاء السلف قبل أبى حنيفة وأصحابه , ولذا اشتد نكير أهل العلم عليه , واعتبروا القول بجواز الترجمة بدعة من البدع ..
وهاك طائفة من النقول فى هذا الباب يتجلى من خلالها موقف المانعين ومستندهم فى هذا المنع , وردهم لحجج المجوزين , وتفنديهم لكافة شبه المروجين للترجمة :
1 / قال ابن المنذر فى الأوسط : ( اختلفوا فيمن قرأ فى صلاته بالفارسية وهو يحسن العربية , ففى مذهب الشافعى لا يجوز , وكذلك نقول .
وكذلك قال يعقوب ومحمد إذا كان يحسن العربية , وقال النعمان :" تجزيه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية ".
قال أبو بكر : وليس كما قال : لايكون المرء قارئا إلا أن يقرأ كما أنزله الله جل ثناؤه , فمن قرأ على غير ما أنزل الله فغير مجزئ عنه صلاته , إذ قارئه قارئ خلاف ما أنزله الله فى كتابه , وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أ. هـ {331}
وقد بحث القاضى أبو بكر الباقلانى فى كتابه الانتصار لنقل القرآن مسألتى قراءة القرآن على المعنى دون اللفظ , وقراءة القرآن بالفارسية , وفصل فى تفنيد وابطال القول بجواز كل منهما . وقد أجمل أبو عبد الله الصيرفى فى نكت الانتصار كلام القاضى واختصره , بيد أنه لم يكن فى اختصاره له مبالغا , فقد وقع البحث عنده فى اثنتين وثلاثين صحيفة تقريبا .
2/ قال الإمام أبو الحسن الماوردى فى كتاب الحاوى الكبير : ( فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من وجوب الفاتحة واستحباب السورة فلا يجوز أن يقرأ بالفارسية ولا بلغة غير العربية , وأجازه أبو حنيفة إن أحسن العربية أو لا يحسنها , وأجازه أبو يوسف ومحمد لمن لا يحسن العربية دون من يحسنها . واستدلوا بقوله تعالى : (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) , وبقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ), فأخبر أنه كان فى صحفهم وزبرهم . ومعلوم أنها لم تكن بالعربية , وإنما كانت بلغتهم , فبعضها عبرانى , وبعضها سريانى . وقال تعالى { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} فأخبر أنه أنذار للكافة من العرب والعجم , ولا يمكن إنذار العجم إلا بلسانهم ).
3/ قال ابن حزم فى المحلى: ( ومن قرأ أم القرآن أو شيئا منها أو شيئا من القرآن فى صلاته مترجما بغير العربية , أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التى أنزل الله تعالى , عامدا لذلك , أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك بطلت صلاته وهو فاسق , لأن الله تعالى { قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وغير العربى ليس عربيا , فليس قرآنا , وإحالة رتبة القرآن تحريف كلام الله تعالى , وقد ذم الله تعالى قوما فعلوا ذلك فقال: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }. {332}
وقال أبو حنيفة :" تجزيه صلاته " , واحتج له من قلده بقوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ). قال على : لا حجة لهم فى هذا , لأن القرآن المنزل علينا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينزل على الأولين , وإنما فى زبر الأولين ذكره والإقرار به فقط , ولو أنزل على غيره عليه السلام لما كان آية له , ولا فضيلة له , وهذا لا يقوله مسلم ..
ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته , لقول الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } , ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذى افترض عليه أن يقرأه , لأنه غير الذى افترض عليه كما ذكرنا , فيكون مفتريا على الله تعالى ) أ. هــ
وقال فى موضع من المحلى أيضا : ( ومن أحال القرآن متعمدا فقد كفر , وهذا مالا خلاف فيه , ومن كانت لغته العربية جاز له أن يدعو بها فى صلاته , ولا يجوز له أن يقرأ بها , ومن قرأ بغير العربية فلا صلاة له ).
وقال أبو حنيفة : ( من قرأ بالفارسية فى صلاته جازت صلاته . قال على : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن " , وقال تعالى :{ قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } فصح أن غير العربية لم يرسل به الله تعالى به نبيه عليه السلام , ولا قرأ القرآن , بل لعب بصلاته فلا صلاة له إذ لم يصل كما أمر .
فإن ذكروا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } قلنا : نعم .. ذكر القرآن والإنذار به فى زبر الأولين , وأما أن يكون الله تعالى أنزل هذا القرآن على أحد قبل رسول صلى الله عليه وسلم فباطل وكذب ممن ادعى ذلك , ولو كان هذا ما كان فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا معجزة له , وما نعلم أحدا قال هذا قبل أبى حنيفة . {333} ومن لم يحفظ أم القرآن صلى كما هو , وعليه أن يتعلمها , لقول الله تعالى : (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهو غير مكلف ما لم يقدر عليه , فإن حفظ شيئا من القرآن غيرها لزمه فرضا أن يصلى به , ويتعلم أم القرآن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بقراءة ", ولقول الله تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } بل أن بن حزم فى موضع من المحلى قد قال بوجوب الالتزام بالألفاظ الشرعية الواردة فى العبادات والمعاملات والبراءة ممن تعمد ترك ذلك , ومثله كتابة المصحف بغير رسمه المأثور .
4/ قال أبو الخطاب الكلوذانى فى كتاب الانتصار فى المسائل الكبار :{334}
(لا تصح الصلاة بترجمة القرآن بالفارسية وغيرها , قال فى رواية إسماعيل بن سعيد : فمن يقرأ بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه , وإذا كان لا يحسن العربية لا يدعو فى الصلاة بالفارسية .. وبه قال مالك , والشافعى , وأبو يوسف و محمد .
قال أبو حنيفة : " تصح الصلاة بذلك " لنا : انعقاد الإجماع على أن الواجب فى الصلاة قراءة القرآن , قال تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } , وقال عليه الصلاة والسلام : " صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين إنما هى التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " , وترجمة القرآن ليست قرآنا , لأن القرآن نزل بلسان العرب على نظم مخصوص , قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وقال سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }, فدل على أنه لم يجعله أعجميا .
فإن قيل فهذا يدل على أنه لو جعله بلغة أخرى لكان قرآنا ؟ قلنا : نعم .. ولكن لم يجعله .
فإن قيل فقد قال : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً }, ولم يدل على أنه لا يكون {335}
قلنا : يحتمل إنا أنزلناه حكما بلفظ عربى , ويحتمل حكما أى محكما عربيا , ولم يرد به القضاء والله أعلم , فإن ذلك لا يتغير بالعجمية والعربية أن يكون حكما , لأنه معنى مفهوم , فأما القرآن فلا يكون بالترجمة قرآنا , ولهذا تفسير القرآن لا يسمى قرآنا , وترجمة الشعر لا تسمى شعرا , ولهذا تحدى الله سبحانه بالقرآن فى نظمه دون حكمه , ولهذا قال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } والحكم الذى هو المعنى ميسر بلسان كل أحد , ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " حبوا العرب لأنى عربى , ولأن القرآن عربى ".
فإن قيل : فقد قال تعالى {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } فدل على أنهم لا يأتون بقرآن لا مثله وفيهم العجم .
وقال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى × صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , ومعلوم أن الصحف والزبر لم تكن بالعربية . قلنا : الله تعالى نفى الإتيان بالمثل , وكذا لم يكن مثله لم يكن قرآنا . قوله : إنه فى المصحف والزبر أراد به الأحكام والمعانى مثل قوله : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى{17} إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى }
, إذ لو أراد اللفظ لما جاز أن يؤمر نبينا عليه {336} السلام بالتحدى , وقد قال تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ }, {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}. وقد قيل المراد به صفة نبينا والإخبار ببعثه .
فإن قيل : فقد قال تعالى :{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ومعلوم أن من بلغه من غير العرب لا يمكنه أن ينذره به إلا بلغته , وقد فهمت الصحابة رضى الله عنهم ذلك , فإنه روى عن سليمان :" أنه كتب إلى قوم من الفرس فاتحة الكتاب بالفارسية "
وقرأ ابن مسعود : {طَعَامُ الْأَثِيمِ} " طعام الفاجر " {337}
وقرأ أنس : {وَأَقْوَمُ قِيلاً} " وأصوب قيلا " .
قلنا : أما النذارة فقال ابن عباس :" ومن بلغ ", فالنبى عليه الصلاة والسلام نذيره بدعائه له , لأنه لا يكلف ما لا يحسن , ولم يكن يحسن بغير العربية , لأن النذارة تقع بالعلم بالترغيب والترهيب وما شرع من مكارم الأخلاق ومحاسنها وتعريف التوحيد , وذلك يقع بتفهم المعانى , وكلامنا فيما جعل شرطا فى الصلاة من القرآن , وأن معناه لا يسمى قرآنا , لأن التسمية توقيف , وأما الصحابة فأرادوا بما ذكروا {338} التفسير , ولهذا قال عمر :" إن الله تعالى أنزل القرآن عربيا بلغة هذا الحى من قريش , لا بلغة هذيل " لما بلغه أن ابن مسعود أقرأ رجلا " ليسسجننه حتى حين "
ملحوظه هناك خطأ فى الاية فى صفحة {339}من الكتاب
وكذلك قال عثمان لما اختلفوا فى " التابوت والتابوه " : " اكتبوه بالتاء , فإنه نزل بلغة قريش " واحتج بما تقدم فى مسألة التكبير أن المستحق عمل على اللسان يتأدى به معنى القرآن واللفظ ليس بمقصود على ما يعرف فى سائر الأذكار من الخطبة والتسبيح والتسمية وغير ذلك .
قلنا: بل المستحق قراءة القرآن وهو هذا اللفظ المخصوص بالنظم المعجز , والبلاغة الباهرة , وهو الذى تحدى الله به , فأما التفسير فمستحقه للحكم , ولهذا لا يحرم على المحدث مس التفسير ولا قراءته ولا يسمى قرآنا , ولأنه تعالى أمر فى الصلاة بالقرآن , وهذا هو المنزل بعينه , ولأن حفظه بهذا النظم المخصوص واجب فى الجملة , لأنه حجة النبوة كما أن معناه مقصود للحكم فكان بنظمه ومعناه هو الركم لا غير , وأما سائر الأذكار فقد تقدم الجواب فيها فى المسألة قبلها بما فيه كفاية , والله أعلم بالصواب ). آخر كلام أبى الخطاب . {339}
5/ قال فخر الرازى فى تفسيره وهو بصدد ذكر المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة : ( المسألة الحادية عشرة : قال الشافعى : ترجمة القرآن لا تكفى فى صحة الصلاة , لا فى حق من يحسن القراءة , ولا فى حق من لا يحسنها . وقال أبو حنيفة : " أنها كافية فى حق القادر والعاجز " . وقال أبو يوسف ومحمد :" أنها كافية فى حق العاجز وغير كافية فى حق القادر , واعلم أن مذهب أبى حنيفه فى هذه المسألة بعيدا جدا , ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندى والقاضى أبا يزيد الدبوسى صرحا بتركه .
لنا حجج ووجوه :
الحجة الأولى : أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربى وواظب عليه طوال عمره فوجب أن يجب علينا مثله , لقوله تعالى : {فاتبعوه }, والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا فى صحة الوضوء , ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربى .
الحجة الثانية : أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربى , فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام :" اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر " . ولقوله عليه السلام :" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى , عضوا عليها بالنواجذ " .
الحجة الثالثة : أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا فى الصلاة إلا هذا القرآن العربى , فوجب أن يجب عليه ذلك لقوله عليه السلام : " ستفترق أمتى على نيف وسبعين فرقة , كلهم فى النار إلا فرقة واحدة . قيل : ومن هم يارسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابى " . وجه الدليل أنه عليه السلام وهو وجميع أصحابه كانوا متفقين {340}
على القراءة فى الصلاة بهذا القرآن العربى فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار .
الحجة الرابعة : أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن فى الصلاة كما أنزل الله تعالى , فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}
الحجة الخامسة : أن الرجل أمر بقراءة القرآن فى الصلاة , ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن , فوجب أن لا يخرج عن العهدة , إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى : {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} , ولقوله عليه السلام للأعرابى :" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " . وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه :
[الأول ] قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}, إلى قوله تعالى : {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }
[الثانى ] قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }
[الثالث] قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً}, وكلمة " لو " تفيد انتفاء الشئ لانتفاء غيره , وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا , فيلزم أن يقال أن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن .
[الرابع ] قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} , فهذا الكلام المنظوم بالفارسية إما {341}
أن يقال إنه عين الكلام العربى أو مثله , أو لا عينه ولا مثله , والأول معلوم البطلان بالضروره , والثانى باطل إذ لو كان هذا النظم الفارسى مثلا لذلك الكلام العربى لكان الآتى به آتيا بمثل القرآن , وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه فى قوله : {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} , ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن وهو المطلوب , فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن , ولم يأت به , فوجب أن يبقى فى العهدة .
الحجة السادسة : ما رواه ابن المنذر عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " , فنقول : هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن , أو يقول إنها ليست بقرآن , والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع , وبيانه من وجوه :
[الأول ] أن أحد من العقلاء لا يجوز فى عقله ودينه أن يقول إن قول القائل :
" دوستها دربهشت " قرآن .
[الثانى ] يلزم أن يكون القادر على ترجمة القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول , وذلك باطل .
الحجة السابعة : روى عبد الله بن أبى أوفى أن رجلا قال : يارسول الله , إنى لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن فى الصلاة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قل سبحان الله والحمد لله ...." إلى آخرها هذا الذكر . وجه الدليل : أن الرجل لما سأله عما يجزيه فى الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربى أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح , وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول :" دوستان دربشهت "
الحجة الثامنة : يقال أن أول الإنجيل هو قوله :" بسم الاها رحمانا ومر حيانا " وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم , فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى أن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل , ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا .
الحجة التاسعة : أنا إذا ترجمنا قوله تعالى : {َابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} كان ترجمته : " بفر ستيديكى أزشمابا نقرة بشهر بس بنكر دكه كدام طعام بهترست باره ازان بياورد " , ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به لقوله عليه الصلاة والسلام :" إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس " , وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات , لأنه لا قائل بالفرق , وأيضا فهذه الحجة جارية فى ترجمة قوله تعالى : {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } إلى قوله : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } , فإن ترجمتها لا تكون شتما من جنس كلام الناس فى اللفظ والمعنى , وكذلك قوله تعالى : {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} , فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى , وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس , والعجيب من الخصوم أنهم قالوا إنه لو ذكر فى آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته . ثم قالوا : تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى .
الحجة العاشرة : قوله تعالى عليه الصلاة والسلام : " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف " , ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآن على حدة , وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن فى السبعة .
الحجة الحادية عشرة : أن عند أبى حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات , ولا شك أنه قد حصل فى التوراة آيات كثيرة مطابقة لما فى القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا , فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة {343} الإنجيل والتوراة , وبقراءة زيد و إنسان ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان , فإنه يلقى الله تعالى مطيعا , ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين .
الحجة الثانية عشرة : أنه لا ترجمة للفاتحة , ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين , والقادر على يوم الدين , أنت المعبود وأنت المستعان , إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان , وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه , فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب , ولما كان باطلا علمنا فساد هذا القول .
الحجة الثالثة عشرة : لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسى فى أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلى بها , ولكان قد أذن لصهيب فى أن يقرأ بالرومية , ولبلال فى أن يقرأ بالحبشية , ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه فى الخلق , فإنه يعظم فى أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق , لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس فى تعلم اللغة العربية , ويحصل لكل قوم فخر عظيم فى أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة , ومعلوم أن تجويزه يفضى إلى اندارس القرآن بالكلية , وذلك لا يقوله مسلم .
الحجة الرابعة عشرة : لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية , وهذا جائز وذاك غير جائز , بيان الملازمة أن الفارسى الذى لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة , أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود , وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب فى الآخرة , والتنفير عن الدنيا , ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعانى .
قال تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} , وقال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } , فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية فى الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة {344} والقراءة بالعربية مانعه منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة , وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة .
الحجة الخامسة عشرة : المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم , والفارق ظاهر , وأما المقتضى فلأن التكليف كان ثانيا , والأصل فى الثابت البقاء , وأما الفارق فهو أن القرآن العربى كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه , وذلك من وجهين :
[الأول ] أن الإعجاز فى فصاحته , وفصاحته فى لفظه .
[والثانى ] أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ , وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف , وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربى فإنه يختل هذا المقصود , فثبت أن المقتضى قائم , والفارق ظاهر . واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن , وقراءة الترجمة قراءة القرآن , ويدل عليه وجوه :
[الأول ] روى أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال : {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان الرجل عجميا , فكان يقول : " طعام اليتيم " فقال : قل طعام الفاجر .
ثم قال عبد الله : " إنه ليس الخطأ فى القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم , بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب " {345}
[الثانى ] قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , فأخبر أن القرآن فى زبر الأولين . وقال تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن فى زبر الأولين بهذا اللفظ , لكن كان بالعبرانية والسريانية .
[الثالث] أنه تعالى قال : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ} , ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربى إلا إذا ذكر تلك المعانى لهم بلسانهم , ثم إنه تعالى سماه قرآنا فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن .
والجواب عن الأول : أن نقول إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا , فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول : " أنا مؤمن إن شاء الله " , ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة فى نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود , ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا , بل تقول : إن القائل به شاك فى دينه , والشاك لا يكون مؤمنا , فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم يقبلوا قوله فى تلك المسألة ؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه فى هذه المسألة ؟{347}
ولعمرى هذه المناقضات عجيبة , وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين , وحذف الفاتحة عن القرآن , ويجب علينا إحسان الظن به , وأن نقول : إنه رجع عن هذه المذاهب . وأما قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فالمعنى : أن هذه القصص موجودة فى زبر الأولين , وقوله تعالى :{لأُنذِرَكُم } فالمعنى لأنذركم معناه . وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل الغامرة القاطعة التى ذكرناها ). أ . هـ كلام الفخر الرازى .
6/ قال الكيا الهراسى فى أحكام القرآن : ( قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} وإذا فيه دليل على أن القرآن بلغة العرب , وأنه ليس أعجميا ... وإذا نقل عن اللسان العربى إلى غيره لم يكن قرآنا ) .
7/ وقال أبو بكر بن العربى فى أحكام القرآن عند قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} : ( قال علماؤنا : هذا يبطل قول أبى حنيفة فى قوله : " إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية بالفارسية جائز , لأن الله تعالى قال : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا} كذا , لنفى أن يكون للعجمة إليه طريق , فكيف يصرف إلى ما نهى الله عنه , فأخبر أنه لم ينزل به , وقد بيناه فى مسألة الخلاف , وأوضحنا أن التبيان {348}
والإعجاز إنما يكون بلغة العرب , فلو قلب إلى غير هذا لما كان قرآنا , ولا بيانا , ولا اقتضى إعجازا , فلينظر هنالك على التمام إن شاء الله لا رب غيره , ولا خير إلا خيره ).
8/ وقال أبو عبد الله القرطبى فى تفسيره عند ذكره للماسائل المتعلقة بأحكام الفاتحة ( الثامنة عشرة : من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربى بلسانه الذى يفقه لإقامة صلاته , فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة : لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وإن أحسن العربية , لأن المقصود إصابة المعنى . قال بن المنذر : لا يجزئه ذلك , لإنه خلاف ما أمر الله به , وخلاف ما علم النبى صلى الله عليه وسلم وخلاف جماعات المسلمين , ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال ).
وقال القرطبى فى موضع من تفسيره أيضا عند قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} : ( أى وإن ذكر نزله لفى كتب الأولين يعنى الأنبياء . وقيل أى إن ذكر محمد عليه السلام فى كتب الأوليين , كما قال تعالى : {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} , والزبر : الكتب الواحد , وزبور كرسول , ورسل , وقد تقدم)
وقال القرطبى فى موضع ثالث من تفسيره عند كلامه على قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} قال :( فيها ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أى بلغة غير العرب {لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أى بينت بلغتنا فإننا عرب لانفهم الأعجمية . فبين أنه أنزله بلسانهم ليتقرر به معنى الإعجاز , إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا , وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله , ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان .
الثانية : وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربى , وأنه نزل بلغة العرب , وأنه ليس أعجميا , وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنا ).
9/ قال القرافى فى الذخيرة : ( فلو كان لا يقدر على القراءة إلا بالعجمية لم يجز له , خلافا ل"ح " محتجا بقوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} , {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , ولم تكن فيها عربية , ولأن الإعجاز يراد لإقامة الحجة وليس ذلك مقصودا فى الصلاة , بل الثناء على الله تعالى والاتعاظ وهما حاصلان .
وجوابه : أن الأول معارض بقوله تعالى : {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والقرآن فى عرف الشرع :" العربى "
وعن الثانى : أن الإعجاز مراد فى حق المصلى لا ستصحاب الإيمان الذى هو شرط فى الصلاة , وهو منقوض بما لو نظم للثناء على الله تعالى شعرا , بالثناء على الله تعالى بغير القرآن ).
10/ وقال النووى فى التبيان : ( ولا تجوز قراءة القرآن بالعجمية سواء أحسن العربية أم لم يحسنها , سواء كان فى الصلاة أم فى غيرها , فإن قرأ بها فى الصلاة لم تصح , هذا مذهبنا مالك وأحمد وداود وأبى بكر بن المنذر {350}
وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك وتصح به الصلاة . وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز ذلك لمن لم يحسن العربية , ولا يجوز لمن يحسنها ).
وقال فى موضع من التبيان أيضا : ( ولو قرأ آية السجدة بالفارسية لا يسجد عندنا , كما لو فسر آية سجدة. وقال أبو حنيفة : يسجد )
وذكر فى المجموع نحوا مما مر , وقال : ( وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه " أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية " فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها ) .
وجزم فى الروضة بعدم جواز الترجمة .
11/ وقال أبو العباس بن تيمية فى اقتضاء الصراط :( وقد اختلف الفقهاء فى أذكار الصلاة هل تقال بغير العربية ؟ وهى ثلاث درجات , أعلاها القرآن , ثم الذكر الواجب غير القرآن , كالتحريمة بالإجماع , وكالتحليل والتشهد عند من أوجبه , ثم الذكر غير الواجب من دعاء أو تسبيح أو تكبير وغير ذلك .
فأما القرآن : فلا يقرؤه بغير العربية , سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور , وهو الصواب الذى لا ريب فيه , بل قال غير واحد أنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز .
واختلف أبو حنيفة وأصحابه فى القادر على العربية , ثم تكلم عن ترجمة الأذكار والعقود بما يطول شرحه ).
لكن ابن تيمية قد مال فى غير موضع من كتبه إلى القول بجواز ترجمة معانى القرآن لضرورة التبليغ على أن تقدر تلك الضرورة بقدرها , وأن يكون المترجم مستوفيا لشروط المفسر والمترجم معا . قال وهو بصدد الكلام عن الانتفاع بكتب الكفار والأمم السابقة وترجمتها : ( ... والترجمة والتفسير ثلاث طبقات : {351}
أحدها : ترجمة مجرد اللفظ , مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف , ففى هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذى يعنى بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذى يعنى باللفظ عند هؤلاء , فهذا علم نافع , إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ فلا يجرده عن اللفظين جميعا .
والثانى : ترجمة المعنى وبيانه , بأن يصور المعنى للمخاطب , فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ , كما يشرح للعربى كتابا عربيا قد سمع ألفاظه العربية , لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها , وتصوير المعنى يكون بذكر عينه أو نظيره , إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب , يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى , إما تحديدا وإما تقريبا .
والدرجة الثالثة : بيان صحة ذلك وتحقيقه بذكر الدليل والقياس الذى يحقق ذلك المعنى , إما بدليل يبين علة وجوده , وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى , كما يحتاج فى الدرجة الثانية إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى وقد يكون نفس تصوره مفيدا للعلم بصدقه . وإذا كفى تصور معناه فى التصديق به لم يحتج إلى مقياس ومثل ودليل آخر ). إلى أن قال: ( ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبيلغ القرآن لفظه ومعناه , كما أمر بذلك الرسول , ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك , وأن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة لهم , فيترجم لهم بحسب الإمكان , والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعانى , فيكون ذلك من تمام الترجمة ).
12/ وقال شمس الدين بن مفلح فى فروعه فيمن لم يحسن شيئا من القرآن قال : ( ومن جهله حرم ترجمته عنه بغير العربية فى المنصوص " و م ش " كعالم {352}
"5" وخالفه صاحباه , مع أن عندهم يمنع من اعتياد القراءة وكتابة المصحف بغيرها , لا من فعله فى آيتين . قال أصحابنا : ترجمته بالفارسية لا تسمى قرآنا , فلا تحرم على الجنب , ولا يحنث بها من حلف لا يقرأ . قال أحمد : القرآن معجز بنفسه , فدل على أن الإعجاز فى اللفظ والمعنى , وفى بعض آيه , ذكره القاضى وغيره , وفى كلامه فى التمهيد فى النسخ وكلام أبى المعالى لا . وهو فى كلام الحنفية , وزاد بعضهم والآية . قال ابن حامد فى أصوله : الأظهر فى جواب أحمد بقاء الإعجاز فى الحروف المقطعة , وقيل للقاضى : لا نسلم أن الأعجاز فى اللفظ بل فى المعنى فقال : الدلالة على أن الإعجاز فى اللفظ والنظم دون المعنى أشياء منها أن المعنى يقدر على مثله كل أحد , يبين صحة هذا قوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} , وهذا يقتضى أن التحدى بألفاظها , ولأنه قال مثله مفتريات , والكذب لا يكون مثل الصدق , فدل على أن المراد به مثله فى اللفظ والنظم . قال شيخنا : يحسن للحاجة ترجمته لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة , وذكر غيره هذا المعنى . وحصل الإنذار بالقرآن دون تلك اللغة كترجمة الشهادة ).
13/ وقال ابن الحاج فى المدخل وهو بصدد الكلام على ما يتعن على الناسخ مراعاته , قال : ( وينبغى له , بل يتعين عليه أن لا ينسخ الختمة بلسان العجم لأن الله عزوجل أنزله بلسان عربى مبين ولم ينزله بلسان العجم .
وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف فى أجزاء متفرقة , وقال إن الله عز وجل قال : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } وهؤلاء يفرقونه , فإذا كره هذا فى الأجزاء فما بالك بتغييره عن اللسان العربى المبين , ولقد سرى هذا لبعض الناس فى هذا الزمان حتى أنهم ليعدون قراءة القرآن بالعجمية ونسخ الختمة بها من الفضيلة , وبعضهم يجمع فى {353}
الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربى واللسان العجمى , فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربى ثم يكتبها بعدها باللسان العجمى , وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول والسلف الصالح , والعلماء رضى الله عنهم , وإذا كان ذلك كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك فليحذر من ذلك والله الموفق ).
14/ وقال الزركشى فى البرهان : ( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية , والأقرب المنع , كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ولقولهم : القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى {وقد} قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ونقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا ولم يعقب عليه بشئ . وقد مضى فى مسألة مدى إمكان ترجمة القرآن كلام للزركشى فى البحر المحيط , ونقله عنه الزرقانى فى المناهل , فليراجعه فى موضعه من رامه .
15/ وقال ابن حجر الهيتمى فى الفتاوى الكبرى , وقد سئل رحمه الله هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ؟ فأجاب :( بقوله قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم , وذلك لأنه قال وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية . فأجاب كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها {354}
بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه , قلت بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه , فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه , فلا تلازم بينهما كما هو واضح , وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ فقال :" لا .. إلا على الكتبة الأولى " أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى . قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسألة , وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو: " ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة ". وقال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق , إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم , وإذا وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدث الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء , فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد , بل بما يوهم عدم الإعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم . وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة , وبعكس الآيات محرمة , وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون , وترتيب الآيات قطعى , وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقة لم يكن مبيحا لإخراج ألفاظ القرآن كما كتبت عليه , وأجمع السلف والخلف ).
16/ وقد جزم جمع من أئمة الفقهاء بعدم جواز قراءته بغير العربية . قال ابن قدامة فى المغنى : (" فصل " ولا تجزئه القراءة بغير العربية , ولا إبدال لفظها بلفظ {355} عربى , سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن , وبه قال الشافعى وأبو يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة :" يجوز ذلك " وقال بعض أصحابه إنما يجوز لمن لم يحسن العربية , واحتج بقوله تعالى :{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}, ولا ينذر كل قوم إلا بلسانهم .
ولنا : قول الله تعالى : {قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} , ولأن القرآن معجزة لفظه ومعناه , فإذ غير خرج عن نظمه فلم يكن قرآنا ولا مثله , وإنما يكون تفسيرا له , ولو كان تفسيره مثله لما عجزوا عنه لما تحداهم بالإتيان بسورة مثله .
أما الأنذار فإنه إذا فسره لهم كان الإنذار بالمفسر دون التفسير .."فصل " فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم , فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته ......)
والقول بعدم جواز قراءة القرآن بغير العربية هو الذى جزم به الأنصارى الشافعى فى شرح الروض , والتاج المحلى فى منهاج الطالبين , والشمس الرملى فى النهاية , وهو الذى رجحه العلاء المرداوى فى الإنصاف , وجزم به فى الإقناع وشرحه , وعبارة ابن جزى المالكى {356}
فى كتابة القوانين الفقهية تدل على أن القول بمنع الترجمة محل وفاق عندهم . قال : ( لا يجوز ترجمتها خلاف لأبى حنيفة ) أى الفاتحة ..
17/ بحوث معاصرة فى ترجمة القرآن الكريم :
وقد أثيرت قضية ترجمة القرآن على نطاق واسع فى منتصف القرن الماضى , وظهرت فى تلك الآونة دراسات تحرم ترجمة القرآن الكريم , ومن هذه الدراسات :
أ – واحدة للشيخ محمد رشيد رضا بعنوان " ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام " أقام فيها البراهين على حرمة ترجمة القرآن فى الإسلام , وعلى عدم إمكانها وعلى سوء أغراض بعض الجانحين إلى هذا العمل من الترك وغيرهم , ورد جميع الشبه التى قد تخطر على البال فى هذا الباب .
ب – وكذلك فقد نشر محمد سعيد البانى دراسة بهذا المعنى بعنوان " الفراقدان النيران فى بعض المباحث المتعلقة بالقرآن " حيث ضمنها البراهين على حظر ترجمة القرآن .
ج – وأصدر الشيخ محمد سليمان القاضى بالمحكمة الشرعية العليا بمصر كتابا فى هذا الموضوع بعنوان " حادث الأحداث فى الإقدام على ترجمة القرآن " سنة 1355 هـ طبعة جريدة مصر الحرة .
د – وأصدر الشيخ محمد مصطفى الشاطر القاضى للمحكمة الشرعية لشبين الكوم كتابا حول قضية ترجمة القرآن الكريم بعنوان " القول السديد فى حكم ترجمة القرآن المجيد " بمصر سنة 1355 هـ ـ 1936 م {357}
هـ - وأصدر الشيخ محمد مصطفى المراغى بحثا فى ترجمة القرآن الكريم وأحكامها نشرت سنة 1934 م طبعة الرغائب , ثم نشرته مجلة الأزهر فى السنة السابعة عام 1355 هـ.
و- ونشر الشيخ محمود شلتوت دراسة بعنوان " ترجمة القرآن ونصوص العلماء فيها " نشرتها أيضا مجلة الأزهر فى السنة السابعة عام 1355 هـ , وهذا بالإضافة إلى مجموعة من المقالات التى نشرت فى الصحف اليومية والمجلات العربية والإسلامية من قبل عدد من المفكرين حول هذا الموضوع الذى انقسموا فيه إلى فئتين , فئة تدافع عن وجهة نظرها القاضية بإمكانية ترجمة القرآن الكريم , وفئة تدافع عن وجهة نظرها القاضية بترجمة معانى القرآن الكريم , ذكر ذلك بنداق فى كتابة " المستشرقون وترجمة القرآن الكريم " .
وقارن أيضا بمقالة الدكتور عبد العزيز محمد عثمان فى مجلة القرآن بالجامعة الإسلامية العدد الأول ص 163 وما بعدها بعنوان " ترجمة القرآن الكريم بين واقعنا المعاش ومستقبلنا المنشود " وتعقيب هيئة التحرير على المقالة المذكورة ص 200 وما بعدها .
ومن الكتب التى عنيت بدراسة الجدل الدائر حول ترجمة القرآن , أو ترجمة معانية , أو كتابته بالأعجمية كتاب " دراسات حول ترجمة القرآن الكريم " للدكتور أحمد إبراهيم مهنا .
ثانيا / النقول عن مجوزى ترجمة القرآن :
والقول بجواز ترجمة القرآن فى الجملة محكى عن أبى حنيفة وأصحابه على اختلاف بينهم فى كون الترجمة مرهونه بالعجز عن القراءة بالعربية , كما هو رأى الصاحبين , أم أن الجواز على إطلاقه وهو القديم من قولى أبى حنيفة , على أن المحققين من فقهاء الحنفية قد حكوا رجوع أبى حنيفة عن قوله هذا وموافقته لصاحبيه فى قصر الجواز فى حق من لا يحسن القراءة بالعربية .
1/ قال السرخسى فى المبسوط : ( إذا قرأ فى صلاته بالفارسية جاز عند أبى حنيفة رحمه الله ويكره , وعندهما لا يجوز إذا كان يحسن العربية , وإذا كان لا يحسنها يجوز , وعند الشافعى رضى الله عنه لا تجوز القراءة بالفارسية بحال , ولكنه إن كان لا يحسن العربية وهو أمى يصلى بغير قراءة , وكذلك الخلاف فيما إذا تشهد بالفارسية أو {358} خطب الإمام يوم الجمعة بالفارسية , فالشافعى رحمه الله يقول إن الفارسية غير القرآن , قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقال تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً } الآية , فالواجب قراءة القرآن فلا يتأدى بغيره بالفارسية , والفارسية من كلام الناس فتفسد الصلاة , وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا : القرآن معجز والإعجاز فى النظم والمعنى , فإذا قدر عليهما فلا يتأدى الواجب إلا بهما , وإذا عجز عن النظم أتى بما قدر عليه , كمن عجز عن الركوع والسجود يصلى بالإيماء , وأبو حنيفة رحمه الله استدل بما روى :" أن الفرس كتبوا إلى سلمان رضى الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية , فكانوا يقرؤون ذلك فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية "
ثم الواجب عليه قراءة المعجز , والإعجاز فى المعنى . فإن القرآن حجة على الناس كافة , وعجز الفرس عن الإتيان بمثله إنما يظهر بلسانهم , والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا محدث , واللغات كلها محدثة , فعرفنا أنه لا يجوز أن يقال أنه قرآن بلسان مخصوص , كيف وقد قال الله تعالى :{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وقد كان بلسانهم . ولو آمن بالفارسية كان مؤمنا , وكذلك لو سمى عند الذبح بالفارسية أو لبى بالفارسية , فكذلك إذا كبر وقرأ بالفارسية , " وروى الحسن " عن أبى حنيفة رحمهما الله أنه أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز , وإن كانوا لا يعلمون ذلك لم يجز , لأن المقصود الإعلام ولم يحصل به . ثم عند أبى حنيفة رحمه الله إنما يجوز إذا قرأ بالفارسية إذا كان يتيقن بأنه معنى العربية , فأما إذا صلى بتفسير القرآن لا يجوز , لأنه غير مقطوع به ).
2/ قال الزمخشرى فى رؤوس المسائل : ( إذا عبر فاتحة الكتاب أو القرآن بالفارسية أو بالعجمية فقرأها فى الصلاة , فإنه تصح صلاته عندنا , وعند الشافعى لا تصح . دليلنا فى ذلك قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . {359}
وصحف إبراهيم موسى ليست على لسان العرب .
وروى عن عبد الله بن مسعود أنه كان يلقن الرجل هذه الآية قوله تعالى : {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان لسان الرجل لا يقدر أن يقول هذه الكلمة , فعجز عن الإتيان فى لفظه , فقال له :" قل طعام الفاجر " , فدل على أنه يجوز بلغة أخرى . والدليل عليه وهو أن النبى صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب والعجم , وأمره بالإنذار فكان ينذر العرب بلغته وبلسانه , وينذر العجم بلسانه دل على أنه يجوز .
احتج الشافعى وقال : لأن الله تعالى قال فى كتابه : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فدل أن القرآن عربى , فإذا عبر بعبارة أخرى لم تجز صلاته , لأنه لم يقرأ القرآن , وقراءة القرآن شرط لجواز الصلاة )
3/ قال الكاسانى فى البدائع عند كلامه عن القدر المجزئ فى الصلاة قال : ( ثم الجواز كما يثبت بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بالفارسية عند أبى حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن يجوز . وقال الشافعى : لا يجوز أحسن أو لم يحسن . وإذا لم يحسن العربية يسبح ويهلل عنده , ولا يقرأ بالفارسية وأصله قوله تعالى : {َاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أمر بقراءة القرآن فى الصلاة , فهم قالوا ان القرآن هو المنزل بلغة العرب , قال تعالى :{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فلا يكون الفارسى قرآنا , فلا يخرج به عن عهدة الأمر , ولأن القرآن معجز والإعجاز من حيث اللفظ يزول بزوال النظم العربى فلا يكون الفارسى قرآنا لانعدام الإعجاز , ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب {360}
والحائض , إلا أنه إذا لم يحسن العربية فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعة معناه ليكون التكليف بحسب الإمكان , وعند الشافعى هذا ليس بقرآن فلا يؤمر بقراءته , وأبو حنيفة يقول ان الواجب فى الصلاة قراءة القرآن من حيث هو لفظ دال على كلام الله تعالى الذى هو صفة قائمة به لما يتضمن من العبر والمواعظ والترغيب والترهيب والثناء والتعظيم , لا من حيث هو لفظ عربى , ومعنى الدلالة عليه لا يختلف بين لفظ ولفظ , قال الله :{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , وقال : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ومعلوم أنه ماكان فى كتبهم بهذا اللفظ بل بهذا المعنى " وأما " قولهم إن القرآن هو المنزل بلغة العرب " فالجواب " عنه من وجهين :
أحدهما : أن كون العربية قرآنا لا ينفى أن يكون غيرها قرآنا , وليس فى الآية نفيه , وهذا لأن العربية سميت قرآنا لكونها دليلا على ما هو القرآن , وهى الصفة التى هى حقيقة الكلام , ولهذا قلنا إن القرآن غير مخلوق على إرداة تلك الصفة دون العبارات العربية , ومعنى الدلالة يوجد فى الفارسية , فجاز تسميتها قرآنا دل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أخبر أنه لو عبر عنه بلسان العجم كان قرآنا .
والثانى : إن كان لا يسمى غير العربية قرآنا , لكن قراءة العربية ما وجبت لأنها تسمى قرآنا , بل لكونها دليلا على ما هو القرآن الذى هو صفة قائمة بالله , بدليل أنه لو قرأ عربية لا يتادى بها كلام الله تفسد صلاته فضلا من أن تكون قرآنا واجبا , ومعنى الدلالة لا يختلف فلا يختلف الحكم المتعلق به , والدليل على أن عندهما تفترض القراءة بالفارسية على غير القادر على العربية وعذرهما غير مستقيم , لأن الوجوب متعلق بالقرآن , وأنه قرآن عندهما باعتبار اللفظ دون المعنى , فإذا زال اللفظ لم يكن المعنى قرآنا فلا معنى للإيجاب , ومع ذلك وجب فدل أن الصحيح ما ذهب إليه أبو حنيفة , ولأن غير العربية إذا لم يكن قرآنا لم يكن من كلام الله تعالى , فصار من كلام الناس وهو يفسد الصلاة .
والقول بتعلق الوجوب بما هو مفسد غير سديد " وأما " قولهم أن الإعجاز من حيث اللفظ لا يحصل بالفارسية فنعم ,لكن قراءة ما هو معجز النظم عنده ليس بشرط لأن التكليف ورد بمطلق القراءة لا بقراءة ما هو معجز , ولهذا جوز قراءة آية قصيرة وإن لم تكن هى معجزة ما لم تبلغ ثلاث آيات , وفصل الجنب والحائض ممنوع , ولو قرأ شيئا من التوراة أو الأنجيل أو الزبور فى الصلاة إن تيقن أنه غير محرف يجوز عند أبى حنيفة لما قلت , وإن لم يتقن لا يجوز , لأن الله تعالى أخبر عن تحريفهم {361}
بقوله : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } فيحتمل أن المقروء محرف فيكون من كلام الناس فلا يحكم بالجواز بالشك والاحتمال , وعلى هذا الخلاف إذا تشهد , أو خطب يوم الجمعة بالفارسية , ولو أم بالفارسية , أو سمى عند الذبح بالفارسية , أو لبى عند الإحرام بالفارسية , أو بأى لسان كان يجوز بالأجماع , ولو أذن بالفارسية قيل إنه على هذا الخلاف , وقيل لا يجوز بالاتفاق , لأنه لا يقع به الإعلام حتى لو وقع به الإعلام يجوز والله أعلم ). أ هـ كلام الكاسانى .
4/ وقال صاحب الفتاوى التاتارخانية : ( وإذا قرأ فى الصلاة بالفارسية جازت قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا , وأما إذا كان يحسن " يجوز ويكره عند أبى حنيفة , وعندهما لا يجوز إن كان يحسن " ويجوز إن كان لا يحسن , وذكر شيخ الإسلام فى شرح كتاب الصلاة وشمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير رجوع أبى حنيفة رحمه الله إلى قولهما , وفى النصاب والخلاصة : هو الصحيح , وعليه الاعتماد . وفى الخلاصة الخانية : وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل يقول : الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصده , وأما من تعمد ذلك يكون زنديقا أو مجنونا , فالمجنون يداوى , والزنديق يقتل .م.
وقال الشافعى رحمه الله : " لايجوز قراءته على كل حال , وأجمعوا على أنه لا يفسد صلاته بالقراءة بالفارسية , وإنما الخلاف فى الجواز " . قال الشيخ الإمام شمس {362} الأئمة الحلوانى رحمه الله : إن أبا حنيفة إنما جوز قراءة القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة , يعنى قرأ ترجمة آية قصيرة , ثم ذكر الشيخ الفقيه أبو سعيد البردعى أن أبا حنيفة إنما جوز القراءة بالفارسية خاصة دون غيرها من الألسن لقربها من العربية على ما جاء فى الحديث :" لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية " . والأصح أن الاختلاف فى جميع الألسنة واللغات نحو التركية والرومية والهندية .
ثم إنما يجوز عند أبى حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما اتى به هو المعنى , ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى : {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} "سزائ وث دوزخ " , وقوله :{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} " فجمعناهم عندا " كذا . وقوله تعالى : {مَعِيشَةً ضَنكاً} فقال : " معيشت تنكا " , فأما إذا لم يكن على نظم القرآن فلا يجوز . قال الشيخ الإمام الصفار :" يجوز كيف ما كان " وقال بعضهم : " إنما يجوز إذا كان ثناء كسورة الإخلاص , فأما إذا كان من القصص فإنه لا يجوز , كقوله تعالى : {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} فقال :" بكشيد يوسف را " , تفسد صلاته . والصحيح أنه يجوز فى الكل , وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد {363}
أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آيه أو آيتين لا يمنع من ذلك .
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير :( وإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته تحته , روى عن الشيخ الفقيه أبى جعفر أنه لا بأس به فى ديارنا , وإنما يكره فى ديارهم لأن القرآن نزل بلغتهم ).
5/ وجاء فى مناهل العرفان مانصه : ( اختلفت نقول الحنفية فى هذا المقام , واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام , ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع , وتوفيق بين النقول اقتطفناها من مجلة الأزهر " ص 32 و 33 {364}
و66 و67 من المجلد الثالث " بقلم عالم كبير من علماء الأحناف إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلى :
أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة , ويمنع فاعل ذلك أشد المنع , لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف فى قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه , بل يوجب الركاكة .
وأما القراءة فى الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقد , لكن لو فرض وقرأ المصلى بغير العربية أتصح صلاته أم تفسد ؟ ذكر الحنفية فى كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول أولا : إذا قرأ المصلى بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة . ثم رجع عن ذلك , وقال متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربى , ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها , والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا . ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى الأقطاب فى المذهب , ومنهم نوح بن مريم وهو من أصحاب أبى حنيفة , ومنهم على بن الجعد وهو من أصحاب أبى يوسف , ومنهم أبو بكر الرازى هو شيخ علماء الحنفية فى عصره بالقرن الرابع , ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له , لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب , وحينئذ لا يكون فى مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية فى الصلاة للقادر عليها , فلا يصح التمسك به , ولا النظر إليه لا سيما أن إجماع الأئمة ومنهم أبو حنيفة صريح فى أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى , لا للمعنى وحده , أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمى فى أنه لا قراءة عليه , ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أونهيا فسدت صلاته , لأنه متكلم بكلام وليس {365}
ذكرا , وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته , لأن الذكر بأى لسان لا يفسد الصلاة , لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة , فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال .
6/ وقد عقد الإمام البخارى فى صحيحه بابا فى ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها ذكر فيه ثلاثة أحاديث , أحدها حديث ابن عباس وقصته مع أبى سفيان , والثانى حديث أيى هريرة فى قراءة أهل الكتاب التوراة بالعبرانية وتفسيرها بالعربية , والثالث حديث ابن عمر فى رجم اليهوديين اللذين زنيا , وأن حكم الرجم ثابت فى التوراة . وقد فهم بعض الناس من ذلك ميل البخارى إلى القول بجواز ترجمة القرآن , وأن وجه الدلالة من حديث ابن عباس أن فيه : أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربى , ولسان هرقل رومى , ففيه إشعار بأنه اعتمد فى إبلاغه ما فى الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه , والمترجم المذكور هو الترجمان , وكذا وقع . ووجه الدلالة من حديث أبى هريرة أنه إذا جاز تفسير التوراة التى هى بالعبرانية إلى العربية وهى كتاب من كتب الله فالذى بالعربية من كتب الله مثلا يجوز التعبير عنه بالعبرانية وبالعكس , لكن الأكثر من أهل العلم قيد الجواز بمن لا يفقه ذلك اللسان . ووجه الدلالة من حديث ابن عمر أن فيه قوله تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} , فالتوراة بالعبرانية , وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية فقضية ذلك الإذن فى التعبير عنها باللغة العربية قال الحافظ فى الفتح : فى كلامه على حديث أبى هريرة هذا (قال ابن بطال : فى هذا الحديث أى حديث أبى هريرة استدل بهذا الحديث من قال تجوز قراءة القرآن بالفارسية , وأيد ذلك بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء {366}
عليهم السلام كنوح عليه السلام وغيره ممن ليس عربيا بلسان القرآن وهو عربى مبين , وبقوله تعالى :{ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } , والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم , فقراءة أهل كل لغة بلسانهم حتى يقع لهم الإنذار به . قال : وأجاب من منع بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نطقوا إلا بما حكى الله عنهم فى القرآن سلمنا , ولكن يجوز أن يحكى الله قولهم بلسان العرب , ثم يتعبدنا بتلاوته على ما أنزله , ثم نقل الاختلاف فى إجزاء صلاة من قرأ فيها بالفارسى , ومن أجاز ذلك عند العجز دون الإمكان , وعمم وأطال فى ذلك .
والذى يظهر التفصيل , فإن كان القارئ قادرا على التلاوة باللسان العربى فلا يجوز له العدول عنه , ولا تجزئ صلاته , وإن كان عاجزا , وإن كان خارج الصلاة فلا يمتنع عليه القراءة بلسانه لأنه معذور , وبه حاجة إلى حفظ ما يجب عليه فعلا وتركا , وإن كان داخل الصلاة , فقد جعل الشارع له بدلا وهو الذكر وكل كلمة من الذكر لا يعجز عن النطق بها من ليس بعربى فيقولها ويكررها فتجزئ عن الذى يجب عليه قراءته فى الصلاة حتى يتعلم , وعلى هذا فمن دخل فى الإسلام أو أراد الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يعرب له لتعريف أحكامه , أو لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه , وأما الآستدلال لهذه المسئلة بهذا الحديث وهو قوله " إذا حدثكم أهل الكتاب " فهو وإن كان ظاهره أن ذلك لسانهم فيحتمل أن يكون بلسان العرب فلا يكون نصا فى الدلالة , ثم المراد بإيراد هذا الحديث فى هذا الباب ليس ما تشاغل به ابن بطال , وإنما المرادمنه كما قال البيهقى فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما أنزل , وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات , فبأى لسان قرئ فهو كلام الله ثم أسند عن مجاهد فى قوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } يعنى ومن أسلم من العجم وغيرهم . {367}
قال البيهقى: ( وقد يكون لا يعرف العربية فإذا بلغه معناه بلسانه فهو له نذير )
ثالثا : كتابة القرآن بالأعجمية , وكونها ضربا من ترجمته :
فجمهور أهل العلم على المنع من ذلك مطلقا , بل صرحوا بالمنع من مخالفة رسم المصحف الإمام وقالوا بوجوب التزام ذلك الرسم على ما سيأتى بيانه فى مسألة رسم المصحف فى موضعها من هذا البحث إن شاء الله تعالى. بيد أن طائفة من أهل العلم قد رخصت فى مخالفة رسم المصحف الإمام , واعتبرت الرسم مجرد نقوش والاصطلاحات نقوش واصطلاحات أخرى يتأدى بها الغرض المطلوب لم يكن فى الشرع ما يمنع من اعتبارها والاعتداد بها والاعتماد عليها لا فرق فى ذلك فى أن تكون تلك النقوش والاصطلاحات موضوعة من قبل عرب أو عجم يستوى فى ذلك كون اللغة فارسية أو تركية أو عربية أو هندية , وهكذا لا ضير عندهم فى اختلاف الأقلام والرسوم والاصطلاحات مادام أنها تدل فى آخر المطاف على مراد الشرع , ويتحقق بها نقل القرآن , ويمكن بواستطها تلاوته تلاوة صحيحة . وقد فرقت طائفة من أهل العلم بين الألسن , فجوزت القراءة بالفارسية الدرية خاصة لقربها من العربية , وقصرت طائفة من متأخرى أهل العلم جواز كتابة القرآن على ما كان بالقلم العربى والهندى خاصة , وألحقت طائفة أخرى القلم التركى بالهندى , ولا يخفى ما فى مخالفة الجمهور فى مسألة الرسم من المجازفات والتغرير بالدين , والفتح لباب الدس والتحريف على أوسع مراعيه , ناهيك عما يترتب على الأخذ بمثل هذه الأقوال من التفريق بين المؤمنين والتمزيق لوحدة المسلمين والتى يعتبر فيها رسم المصحف الإمام والتزام الأمة به أعظم الدعائم لتلك لوحدة المسلمين والتى يعتبر فيها رسم المصحف الإمام والتزام الأمة به أعظم الدعائم لتلك الوحدة , وأقوى الأواصر الجامعة لشمل الأمة .
ثم إن المستقرئ لتاريخ التوجه إلى ترجمة القرآن يخرج بنتيجة محصلها أن فكرة الترجمة فى أصلها ومبتدأ نشأتها كانت مكيدة كادها الكفار , وبخاصة الرهبان والأحبار من أهل الكتاب , فقد كانت البيع والكنائس منبتا لفكرة الترجمة , ومنشأ لذلك التوجه حتى يكون ذلك ثغرة ينفذ منها الرهبان والأحبار إلى أغراضهم من الطعن فى الدين {368}
الإسلامى والتحريف فى القرآن إن استطاعوا , فإن لم يكن هذا ولا ذاك قنعوا بما يترتب على الترجمة من التفريق بين المسلمين والحيلولة دون اجتماعهم على قرآن برسم موحد ولغة واحدة , ولما أدرك أولئك الكفار أن مكيدتهم المذكورة لن تلقى رواجا بين المسلمين إن الكفرة هم حملة لوائها بادروا إلى اصطناع فئات من المحسوبين على الإسلام , ليقوموا بالترويج للترجمة فى أوساط المسلمين غير عابئين بأخطارها , ولا مكترثين لأضرارها , قد أعماهم حب الشهرة عن ذلك كله , أو أغراهم الطمع والحرص على الدنيا فى المضى فى سبيل الشيطان , وخدمة أعداء الدين . أضف إلى ذلك وجود فئات من الزنادقة والملحدين وزمر من الباطنية والمنافقين الذين يتربصون بأهل الإيمان الدوائر , عليهم دائرة السوء , وغضب الله عليهم ولعنهم , وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا .
الخلاف فى كتابة المصحف بالأعجمية :
إن أقدم نص وقفت عليه يتطرق لحكم كتابة المصحف بغير العربية هو كلام الحاكم الشهيد الحنفى ( ت 334هـ) فى كتابه الكافى على مانقله عنه ابن الهمام فى الفتح , حيث قال وهو بصدد النقل من الكتاب المذكور , وفيه: إن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب مصحفا بها يمنع , وإن فعل فى آية أو آيتين لا , فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز ). ولم يتعقب ابن الهمام كلام صاحب الكافى بشئ مما يدل على موافقته إياه .
وقد جزم صاحب الفتاوى التتارخانية (ت 786 هـ) بمثل كلام الحاكم المتقدم معزوا لشمس الأئمة السرخسى فى شرحه على الجامع الصغير , وهاك نص الفتاوى التتارخانية : ( وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آية أو آيتين لا يمنع من ذلك .
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير : ( وإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته تحته , روى عن الشيخ الفقيه أبى جعفر أنه لا {369}
بأس به فى ديارنا , وإنما يكره فى ديارهم , لأن القرآن نزل بلغتهم وعبارة العينى (ت 855 هـ ) فى كتابه البناية: ( ويجوز كتابة الآية والآيتين بالفارسية , والأكثر منها لا يجوز . وقال الرازى "ره" أخاف أن يكون زنديقا أو مجنونا , فالجنون يشد والزنديق يقتل , ويكره كتابة التعشير بالفارسية فى المصحف كما يعتاده البعض ورخص فيه الهندوانى "ره" وما كتب سلمان رضى الله تعالى عنه الفاتحة بالفارسية كان للضرورة لأهل فارس ).{370}
قال الحصكفى فى الدر عن تجويز كتابة القرآن بغير العربية : ( وخصه البردعى بالفارسية لمزيتها بحديث لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية بتشديدالراء , يعنى الفصيحة, وهى إحدى اللغات الخمس للفرس ).
قال ابن عابدين :( " قوله وخصه البردعى ... إلخ " ضعيف , والظاهر أن كلام البردعى لا يتناول الكتابة , فقد جاء فى نقل الفتاوى التاتاريخنة ما نصه :
" ذكر الشيخ الفقيه أبو سعيد البردعى أن أبا حنيفة إنما جوز القراءة بالفارسية خاصة دون غيرها من الألسنة لقربها من العربية على ما جاء فى الحديث :" لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية ")
وقال ابن الحاج (ت 737هـ) فى كتابه المدخل وهو بصدد الكلام عما يلزم الناسخ : ( وينغبى له : بل يتعين عليه أن لا ينسخ الختمة بلسان العجم , لأن الله عزوجل أنزله بلسان عربى مبين , ولم ينزله بلسان العجم . وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف فى أجزاء متفرقة , وقال :" إن الله عزوجل قال : {ِإنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}ِوهؤلاء يفرقونه " , فإذا كره هذا فى الأجزاء فما بالك بتغييره عن اللسان العربى المبين , ولقد سرى هذا لبعض الناس فى هذا الزمان حتى أنهم ليعدون قراءة القرآن بالعجمية ونسخ الختمة بها من الفضيلة , وبعضهم يجمع فى الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربى واللسان العجمى , فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربى , ثم {372}
يكتبها بعدها باللسان العجمى , وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول والسلف الصالح والعلماء رضى الله عنهم .
وإذا كان كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك , فليحذر من ذلك والله والموفق )
وقال الزركشى (ت 794هـ) فى كتابة البرهان :( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذامما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية , والأقرب المنع . كما تحرم قراءته بغير لسان العرب , ولقولهم : القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى [وقد] قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ) .
ونقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا , ولم يعقب عليه بشئ . وقد مضى فى مسألة مدى إمكان ترجمة القرآن كلام للزركشى فى البحر المحيط ونقله عنه الزرقانى فى المناهل فليراجعه فى موضعه من رامه .
وقال ابن حجر الهيتمى (973) فى الفتاوى الكبرى وقد سئل رحمه الله هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ؟" فأجاب " قوله :( قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم , وذلك لأنه قال وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه : " أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية " فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها . أ. هـ فهو ظاهر أو صريح فى تحريم كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه . قلت : بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه , {373}
فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه , فلا تلازم بينهما كما واضح , وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضى الله عنه فى ذلك ظاهرا فيما قلناه , على أن مما يصرح به أيضا أن مالكا رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ فقال : " لا إلا على الكتبة الأولى " أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى . قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسئلة وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو : ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة . قال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى على أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم , وإذ وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدثه الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد بل بما يوهم عدم الإعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم , وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية , كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة , وبعكس الآيات محرمة , وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون , وترتيب الآيات قطعى , وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة , فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقه لم يكن مبيحا لإخراخ ألفاظ القرآن عما كتبت عليه , وأجمع عليها السلف والخلف ).
وسئل الهيتمى أيضا هل يحرم كتابة القرآن بغير العربية ؟ " فأجاب " بقوله : أفتى بعضهم بحرمة ذلك , وأطال فى الاستدلال له , لكن بما فى دلالته لما أفتى به نظر ظاهر .
وسئل الشمس الرملى الشافعى: ( هل تحرم كتابة القرآن العزيز بالقلم الهندى أو نحو ه ؟ " فأجاب " بأنه لا يحرم , لأنها دالة على لفظه العربى وليس فيها تغيير {374}
له , بخلاف ترجمته بغير العربية لأن فيها تغييرا له ).
وقال ابن قاسم العبادى الشافعى فى حواشيه على تحفه المحتاج للهيتمى : ( أفتى شيخنا المذكور – يعنى الشهاب الرملى – بجواز كتابة القرآن بالقلم الهندى , وقياسه جوازه بنحو التركى أيضا ) . وتعقبه الشروانى فقال : ( " قوله بالقلم الهندى .. إلخ " فيه تأمل فإن المكتوب بالقلم الهندى ونحوه إنما هو ترجمة القرآن لا نفسه ).
وكان الشروانى فى حاشيته على التحفة قد حكى قول العبادى السالف الذكر , ونقله عن حاشية الشبراملسى على نهاية المحتاج . فتوى الشيخ بكرى الصدفى ... سئل الشيخ الصدفى فى ذى الحجة 1325 هـ هل يجوز ترجمة القرآن الكريم باللغات المتداولة بين المسلمين ؟ فأجاب بما نصه : ( فى الدر المختار ما نصه : ويجوز كتابة آية أو آيتين بالفارسية لا أكثر ويكره كتب تفسيره تحته بها . انتهى . وفى رد المحتار ما نصه : فى الفتح عن الكافى إن اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب مصحف بها يمنع , وإن فعل فى آية أو آيتين لا , فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز . انتهى . ومنه يعلم الجواب عن المسألة الأولى فى السؤال , وأن كتابة القرآن جميعه بغير العربية ممنوعة إذ الفارسية غير قيد كما صرحوا به ) .
فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية (ت 1354هـ), {375}
وقد سئل الشيخ بخيت : ( ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام – أدام الله وجودكم – هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الأنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية , ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش , فلإنكليزى مثلا إذا أراد أن يكتب " مصر " بالإنكليزية تقرأ " مسر " أو " أحمد " تكتب " أهمد " ويكتب " شيك " يعنى " شيخ " لا سيما وإخواننا المسلمون فى مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها , وبعض المسلمين فى جنوبى أفريقية فى جدال عنيف منهم من يجوز ومنهم من يقول غير جائز , أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى ؟
" فأجاب " : اعلم أن القرآن هو النظم أى اللفظ الدال , لأنه الموصوف بالأنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التى لا تكون إلا للفظ , وأما المعنى وحده فليس بقرآن حقيقة , وقيل إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا والحق هو الأول , وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها , وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى . فقد كان تاج المحدثين الحسن البصرى يقرأ القرآن فى الصلاة بالفارسية, لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية , وفى النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسى بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية , فكتب فكانوا يقرأون ما كتب فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم , وقد عرض ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه . وفى النفحة القدسية فى " أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية " ما يؤخذ منه حرمة كتابة {376}
القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته , ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا .
وفى كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن , بل يعتبر تفسيرا له . وفى الإتقان للسيوطى عن الزركشى أنه لم ير كلام لعلماء مذهبه فى كتابة القرآن بالقلم الأعجمى , وأنه يحتمل الجواز , لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية , والأقرب المنع , كما تحرم قراءته بغير العربية , ولقولهم القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى , وقد قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها , وإن الأحوط أن يكتبه بالعربية , ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية ) . انتهى كلام الشيخ المطيعى .
وقد نقل الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار فتوى الشيخ بخيت فى معرض جواب له على أسئلة وردت إلى المجلة , ثم تعقب جواب الشيخ بخيت هذا وناقشه من وجوه عدة , وتأتى قريبا عن إيراد رأى الشيخ محمد رشيد رضا فى ترجمة القرآن وكتابته بالأعجمية
رأى الشيخ محمد رشيد رضا : ذكر الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار أن بعض المسلمين فى الترنسفال كتب إلى جريدة فى مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر , فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته . {377}
وذكر الشيخ رضا أن السؤال المهم هو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة – أى كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية – ثم ذكر جواب الشيخ بخيت عن هذا السؤال , ثم بين الشيخ رضا رأية فى السؤال , وجواب الشيخ بخيت عليه , ثم قال تعقيبا على جواب الشيخ بخيت ما نصه : ( عندنا مسألتان , أحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية , أى التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمى دون العربى , وهذه هى التى سألنا عنها الفاضل الروسى , ونشرنا السؤال والجواب فى هذا الجزء . والثانية كتابة القرآن العربى بحروف غير عربية , وهذه هى التى يسأل عنها السائل الترنسفالى . وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب , والنقول التى نقلها مضطربة , لذلك رأينا أن ننقله ونحرر القول فى المسألة تحريرا .
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة , فإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها لا تغنى غناء الحروف العربية لنقصها , كحروف اللغة الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها , لما تحريف كلمه , ومن رضى بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر . وإذا كان الأعجمى الداخل فى الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ محمد فينطق بها " مهمد " , وبلفظ خاتم النبيين فيقول " كاتم النبيين " فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم , وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر , ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التى دخلت فى الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة , ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر .
وإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها مما تأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا , ففى المسألة تفصيل , والذى نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا بأصل الدين , ولا تلاعبا به, وإن هو خالف الخط العربى فالفرق بين الخط العربى والخط الكوفى أبعد من الفرق بين الخطين العربى والفارسى , ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها , ولكنهم يعتقدونها عربية , وإذا قيل إنها مختلفة اختلاف لا يكفى لمتعلم أحدها أن يقرأ الآخر كالكوفى والفارسى , نقول قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز بشرطه , ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغى الاتفاق على خط واحد , فهم المسلمون {378}
هذا من روح الإسلام , فكانوا متحدين فى كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة فى التحسين والإتقان . ذلك من آيات حفظ الله له , وهو عندى واجب , فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين , والعروة الوثقى التى يستمسك بها جميع المؤمنين , ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها , وكذا يقال فى سائر الشعوب , وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفى , وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه . ولقائل أن يقول : إن فى هذا الرأى تضييقا على نشر القرآن وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام , وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة , وكتبوها بكل قلم , حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة , فما بال المسلمين يضيقون , وغيرهم يتوسعون , ولنا أن نقول فى الجواب إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك , ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التى هى بها , ولكن المسلم الذى يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية , إلا فى حالة واحدة وهى تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمى الذين يدخلون فى الإسلام , وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية . وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعلموا بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات , وكونها تقدر بقدرها , فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا كتابة الكلام العربى بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه ما داموا فى حاجة إليه , ثم ليجتهدوا فى تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربى بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين .
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم , فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا فى كلمها وخطها , ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون فى ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة , فما لنا لا نعتبر بهذا ) أ . هـ كلام صحاب المنار .

بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية :
وقد أعدت اللجنة المذكوره بحثا فى حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية {379}
نشرته فى مجلة البحوث الإسلامية , وقد تضمن هذا البحث :
أ – مقدمة فى تكييف الموضوع وتصويره .
ب – مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية فى نظر من فعل ذلك ومناقشاتها .
ج – بيان الموانع التى تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لا تينية ونحوها , وبيان ما فيها من الخطر .
د – خلاصة البحث , وتتضمن سردا لمبررات كتابة القرآن باللغة الاتينية ونحوها فى نظر القائلين بذلك , ومناقشة تلك المبررات , وذكر الموانع الشرعية المقتضية لعدم الترخيص فى كتابة القرآن بالأعجمية , وبيان جانب من المخاطر والمحاذير التى يوقع فيها القول بالترخيص فى كتابة القرآن بالأعجمية . وقد أوصت اللجنة حكام المسلمين باتخاذ كافة الأسباب المؤدية إلى حفظ كتاب الله من كل تحريف أوعبث أو تلاعب والتصدى لكافة المحاولات الرامية إلى الإساءة إليه تحت أى دعوى أو تبرير .

مبررات كتابة المصاحف باللاتينية ونحوها عند المنادين بها , ومناقشاتها :
احتج المنادون بتجويز كتابة القرآن باللاتينية ونحوها بجملة من الحجج العقلية وطائفة من المبررات النظرية , فمن ذلك قولهم : بأن القرآن هو الأصل الذى يرجع المسلمون إليه فى عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم , وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه , وأمر بتحكيمه فى جميع الشؤون والأحوال , وبينت السنة النبوية فضائله , وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام , وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات , ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته ويتدبروا آياته ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها . أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية وما يتألف منها من الكلام فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية , فلكى تسهل عليهم {380}
قراءة القرآن , وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه يرخص لهم فى كتابة القرآن بالحروف التى عهدوا الكتابة بها فى بلادهم كاللاتينية إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب , فإن التيسير من مقاصد الشريعة , وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة , قال تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال : {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} , وقال {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} . وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يسروا ولا تعسروا , وبشروا ولا تنفروا " رواه أحمد والبخارى ومسلم والنسائى , وثبت عنه أنه قال : " إن الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا .."
رواه البخارى والنسائى . ولا شك أن كتابة القرآن بحروف اللغة التى يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم , ورفع للحرج عنهم , وتعميم للبلاغ , وإقامة الحجة عليهم .
وليس ذلك بدعا , بل هو المناسب لمقاصد الشريعة وله نظائر , فقد جمع أبو بكر الصديق رضى الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء , وجمع عثمان رضى الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التى بها نزل القرآن منعا للاختلاف , ونقط المصحف وشكل فى عهد بنى أمية حينما أسلم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن فى التلاوة , فمحاظة على القرآن وعليهم من اللحن نقط القرآن وشكل , ولم يكن ذلك منكرا بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع , لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها , فليس ببعيد فى حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب فى كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم أن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التى نزل مكتوبا بها , وإنما نزل وحيا متلوا , فأملاه النبى صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف , ولم يكن هناك نص من الكتاب أو السنة يلزمهم بذلك , إنما هو واقع لغتهم الذى التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم فى رسم بعض الحروف , وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف .{381}
بحروف غير عربية كاللاتينية , لوجود الداعى إلى ذلك مع عدم الضرر .
مناقشة مبررات كتابة القرآن باللاتينية:
وقد ناقشت اللجنة الدائمة فى بحثها المذكور تلك المبررات بالمناقشات التالية :
الأول : أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادى معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا , وإشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم , ورغبة فى نيل الشهادات , وحرص على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الداوعى التى تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم فلا حرج على الأعاجم فى أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة , فإن ذلك متناول الأيدى ومستوى الطاقة البشرية , بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن , ويطلعوا على السنة النبوية , ويأخذوا منها أحكام الإسلام , بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة أو تعلم طب أو صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية , ومن رجع إلى ماضى المسلمين وجد من صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية , ومن رجع إلى ماضى المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية , وأسهموا كثيرا فى خدمة العلوم الدينية والعربية , وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية , فألفوا فى تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه , بل فى علم البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها .
الثانى : أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت , أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك , فلا تكون كتابة القرآن , ولا جمع عثمان رضى الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التى بها نزل القرآن , فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية وذلك فى متناول البشر , بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضى الله عنهما فإن الضرورة التى ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن , ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه , وكذا القول فى نقط القرآن وشكله , فلم يكن هناك ماص من الجمع والنقط والشكل لعدم وجود الدليل عن ذلك . {382}
الثالث : أنه كان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربى , ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية , والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم, ولم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم منهم أن يكتب الوحى حين ينزل بلغة غير العربية ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته , ولا اتخذ كاتبا للوحى منهم , بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التى بها نزل , وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه على هذا المنهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية , بل بلغة قريش , ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم , فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة , وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشددين من بعدى ....."
الرابع : أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها لوجود حروف فى اللغة العربية ليس لها نظير فى اللاتينية , فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا , واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية لتسهل قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها , وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها فهو لا ينقص عنه , وعلى ذلك تكون كتابة القرآن باللغة العربية أرجح وأسلم , ولكونها اللغة التى بها نزل , ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل .
الخامس : أن التجزئة فى كتابة كلمات الآية , وضم جزء من حروفها إلى ما سبق , وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ليعرف البحر الذى منه , ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ . وتشبه أيضا النوته الموسيقية التى يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقى , وهذه من البدع التى تسئ إلى القرآن الكريم .
السادس : أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به فى تعليماته فى كيفية الرسم الكتابى . فمثلا نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتينى الذى جعله عوضا عن الحركة فى الكتابة العربية , وأحيانا يتركه ,من ذلك ما وقع منه فى كتابة سورة الناس بالحروف اللاتينية فى النسخة الهندية والنسخة الأندونيسية الثانية , إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر , ويفضى إلى التلاعب بالقرآن الكريم وتحريفه والإلحاد فيه , ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن فى كتاب الله , ويشبهون على المسلمين , ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغير والتبديل , وتحريف الكلم عن مواضعه .

اختيار اللجنة الدائمة :
وقد اختارت اللجنة الدائمة القول بامتناع مشروعية كتابة القرآن بالأعجمية , مستندة إلى الموانع التى تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها , لما فيها من الخطر .. بيان ذلك :
أ_ ثبت أن كتابة المصحف فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم , وفى جمعه فى عهد أبى بكر , وجمعه فى عهد عثمان رضى الله عنهما كانت بالحروف العربية , بل قصد عثمان رضى الله عنه رسما معينا أمر كتابته عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشين فى رسم الحروف , ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم , وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود لغات وحروف غير عربية , ووجود كتبة مسلمين من غير العرب , ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة فى المصحف بحروف غير عربية . وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى " , فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة عملا بما كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين , وسائر الصحابة رضى الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير , وعملا بإجماع الأمة . {384}
ب – أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها , فهى قابلة للتغير والتبديل بحروف لغة أخرى , بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة , فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضى ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة , واختلف الاصطلاح فى الكتابة لنفس العلة , وقد يؤدى ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض والزيادة عليها والنقص منها , ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك , ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين , ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن فى القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه , وهذا من جنس البلاء الذى أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدى والأفكار , وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها محافظة على الدين ومنعا للشر والفساد .
ج – يخشى إذا رخص فى ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله – القرآن – ألعوبة بأيدى الناس , كلما عن لإنسان فكرة فى كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه , فيقترح , بعضهم كتابته بالعبرية , وآخرون كتابته بالسريانية وهكذا مستندين فى ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع فى الاطلاع والبلاغ , وإقامة الحجة , وفى هذا ما فيه من الخطر العظيم , وقد نصح مالك بن انس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم بناء الكعبة الذى أقامة عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذى بناه عبد الله بن الزبير رضى الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدى الولاة .
قال تقى الدين الفاسى فى كتابه شفاء الغرام :( ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة , وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير , فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله , وقال له :" نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك , لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره , فتذهب هيبته من قلوب الناس " انتهى بالمعنى . ثم قال : وكأنه فى ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح , وهى قاعدة مشهورة معتمدة ).أ.هـ.
ثم أورد بحث اللجنة الدائمة جملة من أقوال العلماء المعاصرين فى حكم كتابة القرآن بالأعجمية , كالشيخ محمد بخيت , والشيخ محمد رشيد رضا على ما مضى إيضاحه فى غير موضع من هذا البحث . {385}
وقد حكى الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقا فى كتابه " القول الفصل فى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية " إجماع علماء المسلمين على تحريم كتابة المصحف بالأعجمية , كما أجمعوا على تحريم ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنية , وعليه يكون القول بتجويز كتابة القرآن بالأعجمية قولا محدثا خارق للإجماع , فالقول به متابعة للمستشرقين والزنادقة , ومن اغتر بأقوالهم من المسلمين .
رابعا : ترجمة معانى القرآن :
وإذا تقرر أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية على تقدير إمكانها – حرام بإجماع علماء المسلمين وأن الدعوة إلى الترجمة المذكورة مكيدة كفرية بيقين لهثت فى الترويج لها طغمة من زنادقة المنافين ولفيف ممن كانوا صدى لصيحات المسترقين المتأسين بإبليس اللعين يوم وسوس بالمعصية لأبوينا وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين فالمستشرقون طامعون فى التفريق بين المؤمنين وجاهدون فى تمزيق وحدة المسلمين وذلك بإيهامهم أن ترجمة القرآن بلسان كل قوم أيسر لفهمهم وأمكن لهم وأمكن لهم من اكتشاف كنوزه - بزعمهم – وكأنهم لا يعلمون أن أئمة المعارف العربية وأساطين العلوم الشرعية ما كانوا فى الغالب الأعم من أصول عربية ومع ذلك فقد فاقوا فيه أقرانهم ممن نزل القرآن بلسانهم , فقد كان حبهم لدينهم أعظم حافز على إتقان لغته لديهم فما راموا للقرآن ترجمة ولابدا منهم فى هذا الشأن أية رغبة أو توجه غير مشروع من أصله فقد اعتيض عنه بتوجه نحو ترجمة معانى القرآن وتفسيره , وهذا التوجه الأخير على ما فيه من محاذير يبدو من حيث الحكم أقل وأخف خطرا , وحظه من المشروعية أقرب وأحرى وقد طرح هذا التوجه للنقاش العلمى فى أوائل النصف الثانى من القرن الرابع عشر الهجرى فاحتدم الجدل إذ ذاك فى شأنه واختلفت الآراء وتباينت الفتاوى بخصوصه إلى أن تصدت للبت فيه لجنة علمية ذات صفة رسمية على ما هو مبين فى الفقرة التالية ولواحقها من هذا البحث .

الذى استقرت عليه الفتوى فى أصل المسألة :
أعنى الترجمة ومصادر ذلك :
وقد أثير مسألة ترجمة معانى القرآن بشكل واسع فى أواخر النصف الأول من {386}
القرن الرابع عشر الهجرى , وكثر حولها الجدل , وألفت فيها الرسائل , وكتب {387}
فى شأنها العديد من المقالات على صفحات الجرائد والمجلات بين مؤيد ومعارض ومنكر لذلك الاتجاه أو منتصر , حتى إذا طال النقاش تصدت لحسمه أكثر من جهة {388}

شرعية فأصدرت فى شأن ذلك البيانات والقرارات , ووضعت لتلك المسألة جملة من القواعد والضوابط التى متى ما روعيت عند ترجمة معانى القرآن أمكن معها أن توصف تلك الترجمة بالصفة الشرعية .

فتوى جماعة كبار العلماء بمصر :
فمن ذلك تلك الفتوى الصادرة فى شأن ترجمة معانى القرآن , والمبنية على سؤال وجهه إلى جماعه كبار العلماء بمصر شيخ الجامع الأزهر ورئيس جماعة كبار العلماء بمصر الشيخ محمد مصطفى
المراغى " محرم سنة 1355 هـ" , وفيما يلى نص ذلك :
( بسم الله الرحمن الرحيم .. ما قول السادة حضرات أصحاب الفضيلة العلماء فى السؤال الآتى بعد ملاحظة المقدمات الآتية :

1: لا شبهة فى أن القرآن الكريم اسم للنظم العربى الذى أنزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله , ولا شبهة أيضا فى أنه إذا عبر عن معانى القرآن الكريم بعد فهمها من النص العربى بأية لغة من اللغات لا تسمى هذه المعانى ولا العبارات التى تؤدى هذه المعانى قرآنا .
2 – ومما لا محل للخلاف فيه أيضا أن الترجمة اللفظية بمعنى نقل المعانى مع خصائص النظم العربى المعجز مستحيلة .
3- وضع الناس تراجم للقرآن الكريم بلغات مختلفة اشتملت على أخطاء كثيرة , واعتمد على هذه التراجم بعض المسلمين ممن يريد الوقوف على معانى القرآن الكريم .
4- وقد دعا هذا التفكير فى نقل معانى القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى على الوجه التالى : يراد أولا فهم معانى القرآن الكريم بواسطة رجال من خيرة العلماء الأزهر الشريف بعد الرجوع لآراء أئمة المفسرين , وصوغ هذه المعانى بعبارات دقيقة محدودة , ثم نقل هذه المعانى التى فهمها العلماء إلى اللغات الأخرى بواسطة رجال موثوق بأمانتهم واقتدارهم فى تلك اللغات بحيث يكون ما يفهم من تلك اللغات من المعانى هو ما تؤديه العبارات العربية التى يضعها العلماء .
فهل الإقدام على هذا العلمل جائز شرعا أو غير جائز ؟ هذا مع العلم بأنه سيوضع تعريف شامل يتضمن أن الترجمة ليست قرآنا , وليس لها خصائص القرآن وليست هى ترجمة كل المعانى التى فهمها العلماء , وأنه ستوضع ترجمة وحدها بجوار النص العربى للقرآن الكريم

الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..
فقد اطلعنا على جميع ما ذكر بالاستفتاء المدون بباطن هذا , ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا فى السؤال جائز شرعا , والله سبحانه وتعالى أعم .
إمضاآت
محمود الدينارى – عضو جماعة كبار العلماء وشيخ معهد طنطا .
عبد المجيد اللبان – شيخ كلية أصول الدين وعضو جماعة كبار العلماء
إبراهيم حمروش – شيخ كلية اللغة العربية وعضو جماعة كبار العلماء
محمد مأمون الشناوى – شيخ كلية الشريعة وعضو جماعة كبار العلماء
عبد المجيد سليم – مفتى الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء
محمد عبد اللطيف اللحام – وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء
دسوقى عبد الله البدوى – " ختم " عضو جماعة كبار العلماء
أحمد الدبلشانى – " ختم " عضو جماعة كبار العلماء
يوسف الرجوى - " ختم " عضو كبار العلماء
محمد سبع الذهبى شيخ الحنابلة – عضو جماعة كبار العلماء
عبد المعطى الشرشيمى – عضو جماعة كبار العلماء {390}
عبد الرحمن قراعة - " ختم " عضو هيئة كبار العلماء
أحمد نصر – عضو هيئة كبار العلماء
محمد الشافعى الطواهرى – عضو هئية كبار العلماء .
· حيث أن الترجمة المرادة هى ترجمة لمعانى التفسير الذى يضعه العلماء , فهى جائزة شرعا بشرط طبع التفسير المذكور بجوار الترجمة المذكورة والله أعلم
كتبه بيده الفانية
عبد الرحمن عليش الحنفى
من جماعة كبار العلماء
رأى فضيلة الأستاذ الأكبر :
بسم الله الرحمن الرحيم
وجهت هذا السؤال إلى حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء , وإنى أوافقهم على ما رأوه , ولا أرى داعيا للتحفظ الذى أبداه فضيلة الشيخ عبد الرحمن عليش وهو طبع التفسير مع الترجمة لعدم الحاجة إلى ذلك مع مراعاة الشروط المدونة فى السؤال
رئيس جماعة كبار العلماء
محمد مصطفى المراغى
{391}
القواعد التى تجب مراعاتها عند ترجمة معانى القرآن :
قررت مشيخة الأزهر الجليلة ترجمة تفسير القرآن , وتألفت بالفعل لجنة من خيرة علمائه ورجالات وزارة المعارف لوضع تفسير عربى دقيق للقرآن تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة . وقد اجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برئاسة العلامة الباحث مفتى مصر الأكبر , وكان من أثر هذه الاجتماعات أن وضعت دستورا تلتزمه فى عملها العظيم , ثم بعثت بهذا الدستور العظيم إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية فى الأقطار الأخرى لتستطلعهم آراءهم فى هذا الدستور , رغبة منها فى أن يخرج هذا التفسير العربى فى صورة ما أجمع عليه .
ذكر ذلك الشيخ الزرقانى فى المناهل , ثم قال: ( وبما أن هذا الدستور قد حوى من ألوان الحيطة والحذر ما يتفق وجلال الغاية , فإنا نعرض عليك هنا مواده وقواعده لتضفيها أنت إلى ما أبديناه من التحفظات السابقة , وهاهى تلك القواعد كما جاءت فى مجلة الأزهر .
1- أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية .
2- ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية , فلا يذكر مثلا التفسير العلمى للرعد والبرق عن آية فيها رعد وبرق , ولا رأى الفلكيين فى السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم , إنما تفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربى , ويوضح موضع العبرة والهداية فيها .
3- إذا مست الحاجة إلى التوسع فى تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة فى حاشية التفسير .
4- ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة , فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية , ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها , ولا تتعسف فى تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك . {392}
5- أن يفسر القرآن بقراءة حفص , ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها .
6- أن يجتنب التكلف فى ربط الآيات والسور بعضها ببعض .
7- أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث وأعان على فهم الآية .
8- عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت مرتبطة بموضوع واحد, ثم تحرر معانى الكلمات فى دقة , ثم تفسر معانى الآية أو الآيات فى الوضع المناسب .
9- ألا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات .
10- يوضع فى أوائل كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها فى السورة أمكية هى أم مدنية ؟ وماذا فى السورة المكية من آيات مدنية , والعكس .
11- توضع للتفسير مقدمة فى التعريف بالقرآن , وبيان مسلكه فى كل ما يحتويه من فنونه , كالدعوة إلى الله , وكالتشريع , والقصص , والجدل ونحو ذلك , كا يذكر فيها منهج اللجنة فى تفسيرها ).
طريقة التفسير والقواعد المتبعة فى ذلك .
ومضى الزرقانى فى نص مجلة الأزهر قائلا : ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التى تتبعها فى تفسير معانى القرآن الكريم , وننشرها فيما يلى :
1: تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور , فتفحص مروياتها وتنقد , ويدون الصحيح منها
بالتفسير , مع بيان وجه قوة القوى وضعف الضعيف من ذلك .
2: تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا , وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا وتدون . {393}
3: تبحث آراء المفسرين بالرأى والتفسير بالمأثور , ويختار ما تفسر الآية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول .
4: وبعد ذلك كله يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه فى الفقرة الثانية من القواعد السابقة , وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لأفهام جمهرة المتعلمين , خال من الأغراب والصنعة .

فتوى اللجنة الدائمة للأفتاء – فى الرياض - :
ورد إلى رئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالى :
" قرأت فى مجلة العربى العدد 237 شهر شعبان لعام 1398 هـ مقالا حول موضوع دراسات قرآنية طرح جديد لموقف المعارضة للدكتور محمد أحمد خلف الله , الرجاء الاطلاع على المقال المذكور , وخاصة ترجمة القرآن والتى يريد منها حسب ظاهر كلامه الترجمة الحرفية , وما رأيكم فى الأسباب التى أوردها ضمن مقاله فى تبريره لترجمة القرآن ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا , وجعلكم من الذائدين عن شرعه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "
وأجابت بما يلى :( يتضح من مقال الدكتور المذكور أنه يريد ترجمة معانى القرآن والتعبير عنها باللغات الأخرى غير العربية , وترجمة معانى القرآن جائزة إذا فهم المعنى فهما صحيحا , وعبر عنه من عالم بما يحيل المعانى باللغات الأخرى تعبيرا دقيقا يفيد المعنى المقصود من نصوص القرآن , وذلك أداء لواجب البلاغ لمن لا يعرف اللغة العربية . قال شيخ الأسلام أحمد بن تيمية رحمه الله :" وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك , وكانت المعانى صحيحة كماخطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم , فإن هذا جائز حسن للحاجة , وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه , ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد سعيد بن العاص , وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة , لأن أباها كان {394}
من المهاجرين إليها , قال لها:( يا أم خالد ) هذا سنا . والسنا بلسان الحبشة الحسن , لأنها كانت من أهل هذه اللغة , ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة , وكذلك يقرأ المعلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم , ويترجم بالعربية كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت : " أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك " حيث لم يأتمن اليهود عليه ".
أما الترجمة الصوتية فهى غير جائزة , وسبق أن أصدر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا فى ذلك نرفق لك صورته لمزيد من الفائدة .. وبالله التوفيق وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ).
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرازق عفيفى رئيس

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ما يتشرط فى المترجم لمعانى القرآن :
قال البيهقى فى شعب الإيمان : ( سمعت أبا القاسم حيث يقول : سمعت أبا {395}
عبد الله الميدانى الخطيبى يقول : سمعت أبا القريش الحافظ يقول : سمعت يحى بن سليمان بن نضلة يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : " لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر ذلك إلا جعلته نكالا ") . {396}


الخلاصة
المتمعن فى النقول عن أهل العلم فى مسـألة الترجمة فى المصاحف يلحظ أن الإجماع منعقد على تحريم الترجمة الحرفية للمصاحف وللقرآن مطلقا , لكون الإعجاز متحققا فى لفظه ومعناه , وبهما يكون التحدى للعرب والعجم معا , وأن ما يبدو من خلاف بين العلماء فى هذا الشأن لا يعدو من أن يكون خلافا لفظيا , وأن من جوز الترجمة إنما أراد ترجمة المعانى فحسب , ثم هل تجوز الصلاة بهذه المعانى المترجمة أم لا ؟ كا وقد انعقد الإجماع على تحريم كتابة القرآن بالأعجمية , فلا عبرة بمن خرق هذا الأجماع , ولا اعتداد بصنيعه , لأن من أقدم على هذا الصنيع لا يخرج عن كونه متبعا فى دينه لمن لا يجوز اتباعه من كافر رام من ترجمته للقرآن التحريف والدس والطعن أو كان زنديقا ملحدا مبطنا للكفر وإن أظهر الإسلام ينادى بجواز الترجمة للقرآن , ويناصر التوجه إليها مجاملة لأحبار اليهود ورهبان النصارى , غير مكترث بما تجره هذه المجاملة وتفضى إليه تلك المناصرة من تفريق بين المؤمنين وتمزيق لأقوى رابطة بين المسلمين . وثمة طائفة ثالثة ناصرت التوجه المذكور عن جهل بالحكم لقلة بضاعتها فى ميادين الشرع وشدة اغترارها ببهرج الدعايات المشبوهة , وبريق الشعارات المرفوعة , ولكون ديدنها اللهث وراء كل ما هو استشراقى متلفقة له دون وعى لما يترتب عليه من وخيم العواقب , وأليم المصائب , بيد أن الله عزوجل قد تعهد بحفظ كتابه وهو بالمرصاد لكل مريد لإطفاء نوره , وهو حسبنا ونعم الوكيل ...) {397}

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:04 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

تشكيل المصحف

قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (ماهية التشكيل:
جاء في لسان العرب مادة شكل: ( وشكل الكتاب يشكله شكلا، وأشكله: أعجمه. أبو حاتم: شكلت الكتاب أشكله فهو مشكول إذا قيدته بالإعراب، وأعجمت الكتاب إذا نقطته.ويقال أيضا أشكلت الكتاب بالألف كأنك أزلت به عنه الإشكال والالتباس. قال الجوهري: وهذا نقلته من كتاب من غير سماع، وحرف مشكل: مشتبه ملتبس). ثم ذكر ابن منظور أصل اشتقاق الكلمة بما يطول شرحه فليطلب في اللسان.
وشكل الكلمة هو تقييدها بالحركات، وقد مر في مسألة تجريد المصحف أن المصحف الإمام بقي مجردا عن الشكل ونظائره بضعا وأربعين سنة.
أول من شكل المصحف:
ذكر غير واحد من أهل العلم أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع الشكل في المصحف على اختلاف بين الكاتبين في تسمية من أمر أبا الأسود بذلك، وهل كان عمر بن الخطاب، أم زياد بن أبي سفيان، أم عبد الملك بن مروان، فقد أخرج أبو عمرو الداني في محكمه قال: ( وذلك ما حدثناه محمد بن أحمد بن علي البغدادي قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال:ثنا أبي قال: حدثنا أبو عكرمة [406]
قال: قال العتبي: كتب معاوية رضي الله عنه إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلمه، فوجده يلحن، فرده إلى زياد، وكتب إليه كتابا يلومه فيه ويقول: " أمثل عبيد الله يضيع؟". فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال: " يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت، وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئا يصلح به الناس كلامهم، ويعربون به كتاب الله تعالى". فأبى ذلك، وكره إجابة زياد إلى ما سأل.
فوجه زياد رجلا فقال له: "أقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئا من القرآن، وتعمد اللحن فيه". ففعل ذلك، فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته فقال: أن الله بريء من المشركين ورسوله . فاستعظم ذلك أبو الأسود
الدؤلي، وقال: "عز وجه الله أن يبرأ من رسوله". ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: " ياهذا قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى ثلاثين رجلا" فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة. ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلا من عبد القيس فقال: " خذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي / فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين". فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك).
وذكر أبو عمرو أن أبا الأسود كان السابق إلى التشكيل ونظائره، وهو المبتديء به، وهو الذي جعل الحركات والتنوين لا غير على ما تقدم في الخبر عنه.
وقال القرطبي في مقدمة تفسيره: (وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله، فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه، وأمر وهو والي العراق الحسن ويحي بن يعمر بذلك، وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا، إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات، وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر).
ويأتي في مسألة التنقيط ومن هو أول من نقط المصحف بأبسط من هذا.
حكم تشكيل المصحف:
وقد اختلفت كلمة أهل العلم في مسألة تشكيل المصحف، فمنهم من استحب ذلك لكونه يقي من اللحن ويعين على صحة القراءة، ومنهم من منع من التشكيل ورأى فيه بدعة لم تفعل في الصدر الأول، ومنهم من فصل وفرق بين الأمهات من المصاحف ومصاحف الأولاد التي يتعلمون بها، فجوز التشكيل في مصاحف الصغار، ومنعه في الأمهات من المصاحف.
قال النووي في التبيان: ( قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه والتصحيف، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه، وقد أمن ذلك اليوم فلا منع، ولا يمتنع من ذلك لكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة فلم يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم، وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك والله أعلم).
وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية أن من أسباب ترك الصحابة المصاحف أول ما كتبت غير مشكولة ولا منقوطة لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين كالتاء والياء والفتح والضم. وقد سبقه إلى نحو ذلك أبو عمرو الداني في المحكم حيث قال: ( وإنما أخلي الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها).
وقال أبو العباس بن تيمية أيضا: (الصحابة كتبوا المصاحف بغير شكل ولا نقط لأنهم لا يلحنون). وقال في موضع آخر: ( وإن كتبت بنقط وشكل أو بدونهما جاز). وقال في موضع آخر: ( لما حدث اللحن في زمن التابعين صار بعضهم يشكل المصاحف وينقطها بالحمرة). وقال في موضع: ( حكم الشكل والنقط حكم الحروف المكتوبة من كلام الله، الشكل يبين إعراب القرآن، والنقط يبين الحروف، الصحابة لم يشكلوها ولم ينقطوها لأنهم يلحنون). وقال في موضع آخر: ( يجب احترام المصاحف واحترام الشكل والنقط إذا كانت مشكولة ومنقوطة لامتيازها عما سواها في المعاني والمتكلم بها).
رأي الإمام مالك في التشكيل:
أخرج أبو عمرو الداني في محكمه بسنده عن عبد الله بن الحكم قال: [: قد سمعت مالكا، وسئل عن شكل المصاحف؟ فقال: " أما الأمهات فلا أراه، وأما المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان فلا بأس"].
وذكر ابن رشد في البيان أن مالكا قال: ( إني لأكره لأمهات المصاحف أن
[409]
تشكل، وإنما أرخص فيما يتعلم فيه الغلمان، فأما الأمهات فإني أكرهه). قال محمد بن رشد: ( وأما كراهيته لشكل أمهات المصاحف فالمعنى في ذلك أن الشكل مما قد اختلف القراء في كثير منه إذ لم يجيء مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأي الشكلين أنزل، وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره أن يثبت في أمهات المصاحف ما فيه اختلاف وبالله التوفيق).
وقد مضى في مسألة ترقيم المصحف ذكر الروايات عن الإمام أحمد في هذه
المسألة، وكلام صاحب تصحيح الفروع في ترجيح رواية استحباب الشكل ونظائره مما أغنى عن إعادته هنا، وسيأتي في مسألة تعشير المصحف النقل عن فقهاء الحنفية في التعشير والنقط ونظائرهما، وأن كراهة ذلك هو مذهب متقدميهم، وأن المتأخرين منهم قد ذهبوا إلى القول باستحبابه، ولا سيما في بلاد العجم، وهو الذي صرح به الكاساني في بدائعه، والميرغناني في الهداية وشروحهما وبخاصة شرح العيني ومن تابعهم كالحصكفي في الدر المختار، وابن عابدين في حاشيته عليه، فليطلب ذلك كله في مسألة التعشير الآتية قريبا إن شاء الله تعالى).
[410]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:05 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

التفسير في المصحف


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بالمنع من كتابة التفسير في المصحف إعمالا لعموم الأمر بتجريد القرآن والمصاحف عما ليس بقرآن على ما مر بيانه في مسألة تجريد المصحف، ولأثر هو نص في المطلوب أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عامر الشعبي قال: (كتب رجل مصحفا وكتب عند كل آية تفسيرها، فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين). [وذكر ابن الباقلاني في كتابه الانتصار لنقل القرآن ص71 القول بكراهة السلف أن يثبت في المصحف ما ليس منه من ذكر أفتاح السور، وذكر خواتيمها وأعشارها وغير ذلك من تزيين المصحف، وأن قوما من التابعين قد أجازوا كتب التفسير وخاتمة السورة كذا وكذا، فأنكر عليهم فلم يحتجوا بصواب فعلهم].
وقال السيوطي في الإتقان: (قال الجرجاني من أصحابنا في الشافي: "من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره").
وقال الحليمي في كتابه المنهاج في شعب الإيمان: (تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله: "جردوا القرآن"، ولأنه قد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أنه كان يحك التعشير من المصحف"
إمعانا منه رضي الله عنه في التأكيد على تجريد المصحف عن كل ما ليس بقرآن،
[436]
وحذرا من أن يختلط القرآن بغيره في نظر من لا دراية له به. لكن فريقا من أهل العلم قد رخص في كتابة التفسير في المصحف إذا احتيط للقرآن، واقتصر على ما تمس الحاجة إليه من التفسير، ولذا صرح الهيتمي في الفتاوى الحديثية بأنه يجوز أن يحشى المصحف من التفسير والقراءات كما تحشى الكتب، لكن ينبغي أخذا مما مر في تحشية الكتب أن لا يكتب إلا المهم المتعلق بلفظ القرآن دون نحو القصص والأعاريب الغريبة.
قال الحليمي: (ومن الآداب أن لا يخلط به ما ليس بقرآن كعدد الآي، والوقوف، واختلاف القراآت، ومعاني الآيات، وأسماء السور والأعشار. قال البيهقي: لأنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان لم يفعلوا شيئا من ذلك).
وقد مر في مسألتي تجريد المصحف وتحشيته طرف من هذا، ويأتي في مسألة جمع قراآت شتى في مصحف واحد مزيد بيان.
[437]

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:06 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

جلد المصحف


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الكلام على جلد المصحف يتناول ماهية الجلد ومادته، وبيان حرمته، وحكم مسه حال الحدث أو الكفر، والفرق بين حكم الجلد المتصل بالمصحف والمنفصل عنه، والمنسوب إليه بعد الانفصال، وما انقطعت نسبته عنه، وحكم جلد المصحف وزخرفته.
ماهية جلد المصحف:
من أهل العلم من لا يفرق بين جلد المصحف وبين غلافه في الماهية، ومنهم من يميز بينهما ويعتبر الغلاف شيئا منفصلا عن المصحف كالخريطة مثلا على ما مر بيانه في الكلام على ثوب المصحف.
وقد مر في مسألة تجليد المصحف أن المراد بجلد المصحف على المشهور هو غلافه المتصل به المشرز عليه ليصونه ويحفظه ويكون بمثابة الدفتين له،
ويتصل به يتبعه حتى في البيع، ويأخذ حكمه عند جمهور الفقهاء، ومن هنا قال غير واحد من فقهاء الحنفية: ( وغلافه ما يكون متجافيا عنه دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح).
قال العيني: (واختلف المشايخ فيه فقال بعضهم هو الجلد الذي عليه. وقال بعضهم هو الكم وقال بعضهم هو الخريطة التي يعني الكيس الذي يوضع فيه
[488]
المصحف وهو الصحيح، أشار إليه بقوله: وغلافه "ما يكون متجافيا عنه" أي متباعدا عن المصحف وهو الكيس، وأصل مادته من الجفائف بالمد من جفا يجفو، وأصل معناه البعد والرفع، ومنه: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، أي بعدت عن مضاجعهم "دون ماهو متصل به" أي المصحف "كالجلد المشرز" أي اللصوق به، فيقال مصحف مشرز أي مضموم مشرز أجزاؤه، أي مسدو بعضها من الشيرازة وليست بعربية، وفي العباب مصحف مشرز أي مضموم الكراريس والأجزاء بعضها إلى بعض مضموم الطرفين، فإن لم يضم طرفاه فهو مشرش بشينين وليس مشرز مشتق من الشيرازة وهو فارسية، والشيراز الذي يؤكل المستجد من اللبن، وأصله شراز بالتشديد قلبت أحد الرائين ياء آخر الحروف كما في قيراط وديباج أصلها قيراط وديباج بالتشديد).
ومال الحصكفي إلى التفريق بين الجلد والغلاف، واعتبر أن الغلاف هو المتجافي عن المصحف لا المشرز به. قال ابن عابدين في حاشيته على الدر: ("قوله غير مشرز" أي غير مخيط به، وهو تفسير للمتجافي، قال في المغرب مصحف مشرز أجزاءه مشدود بعضها إلى بعض من الشيرازة وليست بعربية. أ.ه. فالمراد بالغلاف ما كان منفصلا كالخريطة وهي الكيس نحوها، لأن المتصل بالمصحف منه حتى يدخل في بيعه بلا ذكر. وقيل المراد به الجلد المشرز، وصححه في المحيط والكافي، وصحح الأول في الهداية وكثير من الكتب، وزاد السراج أن عليه الفتوى، وفي البحر أنه أقرب إلى التعظيم).
والظاهر من كلام فقهاء بقية المذاهب أن المراد بجلد المصحف وغلافه شيء واحد.
[489]
مادة جلد المصحف:
لا خلاف بين أهل العلم في أنه ينبغي أن يكون جلد المصحف طاهرا في عينه محترما في مادته خاليا من كل ما هو مظنة ابتذال وامتهان، وأن يكون نظيفا وخاليا عن أي تصاوير أو كتابات غير لائقة بالمصحف.
ثم اختلفوا في تذهيب الجلد ونقشه بالنقدين على ما مر في مسألة تحلية المصحف.
حكم الجلد:
جمهور الفقهاء على أن لجلد المصحف المتصل به حكمه في الحرمة، وأنه لا يحل للمحدث أن يمسه، وأن جلد المصحف إنما اكتسب هذه الحرمة بسبب مجاورته للمصحف. وذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن حكم المصحف لا يثبت لجلده، وإن كان متصلا به، وهو الذي حكاه غير واحد من أهل العلم عن الإمام أبي حنيفة، وهو اختيار الخراسانيين من أصحابه، وحكاه الدرامي الشافعي وجها، وشذذه النووي، وهو مقتضى اختيار أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي في فنونه، وهو ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية حيث قال غير واحد من الأصحاب: (وظاهر الرعاية لا يحرم عليه مس الجلد، فإنه قال: لا يمس المحدث مصحفا، وقيل ولا جلده).
[490]
جلد المصحف المنفصل عنه:
صرح بعض الفقهاء بأن حرمة المصحف تثبت لجلده، حتى وإن كان منفصلا عنه، وهو الذي صرح به القرافي، وذكره العدوي في حاشيته على الخرشي مقابلا للظاهر، ونقل الزركشي عن عصارة المختصر للغزالي التصريح بتحريم مس جلد المصحف حتى وإن كان منفصلا عنه.
وقال ابن العماد أنه الأصح، زاد في شرح الروض، وظاهر أن محله إذا لم تنقطع نسبته عن المصحف، فإن انقطعت كأن جعل جلد كتاب لم يحرم مسه قطعا أ.ه.
جلد المصحف الجامع معه غيره:
بحث جمع من فقهاء الشافعية حكم مس جلد المصحف الجامع للمصحف وغيره، وكذا حكم مس الكعب واللسان المنطبق على جهة المصحف. قال الهيتمي في التحفة إثر كلامه على حرمة مس جلد المصحف المتصل به حال الحدث قال:
( ويؤخذ منه أنه لو جلد مع المصحف غيره حرم مس الجلد الجامع لهما من سائر جهاته، لأن وجود غيره معه لا يمنع نسبة الجلد إليه، وبتسليم أنه منسوب إليهما فتغليب المصحف متعين نظير ما يأتي في تفسير وقرآن استويا، فإن قلت وجود غيره معه فيه يمنع إعداده له، قلت الإعداد إنما هو قيد في غيره مما يأتي ليتضح قياسه عليه، وأما هو فكالجزء كما تقرر فلا يشترط فيه إعداده).
وعبارة الرملي في النهاية: (ولو حمل مصحفا مع كتاب في جلد واحد فحكمه حكم المصحف مع المتاع في التفصيل، وأما مس الجلد فيحرم مع مس الساتر للمصحف دون ما عداه كما أفتى به الوالد رحمه الله).
[491]
وقال الشبراملسي في حاشيته على النهاية: ("قوله مس الجلد" مثل الجلد اللسان والكعب أي فيحرم كل منهما ما حاذى المصحف، وفي سم على حج ويبقى الكلام في الكعب فهل يحرم مسه مطلقا أو الجزء منه المحاذي للمصحف؟ وهل اللسان المتصل بجهة غير المصحف إذا انطبق في جهة المصحف كذلك؟ فيه نظر أ.ه. قلت: ولا يبعد تخصيص الحرمة بالجزء المحاذي للمصحف.
"فرع" جمع مصحف وكتاب في جلد واحد.قال م ر: ففي حمله تفصيل حمل المصحف في أمتعة، وأما مسه فهو حرام إن كان من جهة المصحف لا من جهة الأخرى أ.ه. أفاد بحثا أن كعب الجلد يلحق منه بالمصحف ما جاوره).
وقد يأتي في مسألتي كعب المصحف ولسانه مزيد بيان...)
[492]

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:07 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

جمع قراءات شتى وروايات مختلفة في مصحف واحد


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (عقد أبو عمرو الداني في المحكم بابا في جامع القول في النقط، وعلى ما يبنى من الوصل والوقف، وما يستعمل له من الألوان، وما يكره من جمع قراءات شتى وروايات مختلفة في مصحف واحد، وما يتصل بذلك من المعاني اللطيفة، والنكت الخفية. ثم مضى في تفصيل جزئيات هذا الباب إلى أن قال: (وأكره من ذلك وأقبح منه ما استعمله ناس من القراء، وجهلة من النقاط في جمع قراءات شتى، وحروف مختلفة في مصحف واحد، وجعلهم لكل قراءة وحرف لونا من الألوان المخالفة للسواد كالحمرة والخضرة والصفرة واللازورد، وتنبيههم على ذلك في أول المصحف، ودلالتهم عليه هناك لكي تعرف القراءات، وتميز الحروف، إذ ذلك من أعظم التخليط وأشد التغيير المرسوم. ومن الدلالة على كراهة ذلك والمنع منه سوى ما قدمناه من الأخبار على ابن مسعود والحسن وغيرهما ما حدثناه خلف بن إبراهيم بن محمد قال: نا أحمد بن محمد قال: نا علي ابن عبد العزيز قال: نا القاسم بن سلام قال: نا هشيم عن أبي بشر بن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ: (عباد الرحمن)، قال سعيد: فقلت لابن عباس: إن في مصحفي" عند الرحمن". فقال: أمحها واكتبها "عباد الرحمن". ألا ترى ابن عباس رحمه الله قد أمر سعيد بن جبير بمحو إحدى القراءتين وإثبات الثانية، مع علمه بصحة القراءتين في ذلك، وأنهما منزلتان من عند الله تعالى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما جميعا، وأقرأ
[498]
بهما أصحابه، غير أن التي أمره بإثباتها منهما كانت اختياره إما لكثرة القارئين بها من الصحابة، وإما لشيء صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر شاهده من علية الصحابة. فلو كان جمع القراءات وإثبات الروايات والوجوه واللغات في مصحف واحد جائزا لأمر ابن عباس سعيد بإثباتهما معا في مصحفه بنقطة يجعلها فوق الحرف الذي بعد العين، وضمة أمام الدال دون ألف مرسومة بينهما، إذ قد تسقط من الرسم في نحو ذلك كثيرا لخفتها، وتترك النقطة التي فوق ذلك الحرف، والفتحة التي على الدال، فتجتمع بذلك
القراءتان في الكلمة المتقدمة ، ولم يأمره بتغيير إحداهما ومحوها وإثبات الثانية خاصة، فبان بذلك صحة ما قلناه، وما ذهب إليه العلماء من كراهة ذلك، لأجل التخليط على القارئين، والتغيير للمرسوم، على أن أبا الحسين بن المنادي قد أشار إلى اجازة ذلك فقال في كتابه في النقط: "وإذا نقطت ما يقرأ على الوجهين فأكثر فارسم في رقعة غير ملصة بالمصحف أسماء الألوان، وأسماء القراء ليعرف ذلك الذي يقرأ فيه، ولتكن الأصباغ صوافي لامعات، والأقلام بين الشدة واللين". قال: " وإن شئت أن تجعل النقط مدورا فلا بأس بذلك، وإن جعلت بعضه مدورا ، وبعضه بشكل الشعر فغير ضائر بعد أن تعطي الحروف ذوات الاختلاف حقوقها". قال: " وكان بعض الكتاب لا يغير رسم المصحف الأول، وإذا مر بحرف يعلم أن النقط والشكل لا يضبطه كتب ما يريد من القراءات المختلفة تعليقا بألوان مختلفة، وهذا كله موجود في المصاحف".
قال أبو عمرو: وترك استعمال شكل الشعر، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحق اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين ، واتباعا للأئمة السالفين).
[499]

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:40 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

جمع المصحف

قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الكلام على مسألة جمع المصحف يتناول جملة من القضايا نعرض لذكر خمس عشرة قضية منها:
إحداها: ماهية الجمع المنشود.
الثانية: سبب ترك جمع المصحف في عهد النبوة.
الثالثة: أول من جمع المصحف.
الرابعة: تاريخ هذا الجمع والباعث عليه.
الخامسة: حكم هذا الجمع المذكور والدليل عليه.
السادسة: كيفية الجمع المذكور، والاحتيطات المتبعة لهذه الغاية.
السابعة: تسمية المصحف وكيف تمت.
الثامنة: مآل هذا المصحف بعد جمعه.
التاسعة: جمع المصحف الإمام في عهد عثمان، والفرق بين هذا الجمع وبين جمع المصحف الأول.
العاشرة: تاريخ جمع المصحف الإمام، والتوفيق بين الروايات المتعارضة في ذلك.
الحادية عشرة: الأسباب الحاملة على جمع المصحف الإمام.
الثانية عشرة: الكيفية التي تم بها هذا الجمع، وذكر الهيئة المكلفة بذلك.
الثالثة عشرة: موقف الصحابة من جمع المصحف الإمام وجمع الناس عليه وإتلاف ما سواه.
[500]
الرابعة عشرة: عدد نسخ المصحف الإمام، وذكر الأقطار التي وجه بتلك النسخ إليها.
الخامسة عشر: مصير نسخ المصحف الإمام.
ماهية جمع المصحف:
قد مرت الإشارة في غير موضع من هذا البحث إلى أن القرآن لم ينزل على النبي جملة واحدة، وإنما نزل عليه منجما في بضع وعشرين سنة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء من القرآن دعا بعض الكاتبين من أصحابه فأملاه عليهم فكتبوه فيما كان يتيسر لهم من أوعية الكتابة في تلك الآونة كالرقاع والعسب واللخاف والأكتاف والأقتاب ، ثم إن هذا المكتوب في تلك الأوعية كان يجمع في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كمل نزول القرآن وانقطع الوحي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن بتمامه مدونا، إلا أن هذا التدوين في الأوعية المذكورة قد لا يتأتى ترتيبه إلا بعسر ومشقة نظرا للتباين بين تلك الأوعية من حيث الحجم والتناسق فضلا عما تشكله تلك الأدوات من كم يخشى معه فقدان جزء من القرآن، ولا سيما عند نقله من مكان إلى مكان، وقد يكون الخطب في فوات شيء من القرآن أعظم إذا تناقص حفاظه وقل مع الزمن عدد متقنيه. ومن هنا عمد الصحابة إلى كتابة القرآن في صحف مجتمعة يضمها لوحان حرصا منهم على صيانة القرآن وتيسير تلاوته مجتمعا، وحتى يكون تتبعه ميسورا فتنسد بذلك كل ثغرة يمكن أن يلج منها المبطلون.
وقد تواتر أن هذا الجمع من الصحابة للقرآن يعني أن مابين دفتي المصحف هو القرآن كله من غير زيادة ولا نقص، وقد نقل غير واحد ممن صنف في علوم
[501]
القرآن كالزركشي في برهانه، والسيوطي في إتقانه، والزرقاني في المناهل. قول الحارث المحاسبي في كتابه فهم السنن: (كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان "مجتمعا"، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منه شيء). إلى آخر كلام المحاسبي.
سبب ترك جمع المصحف في عهد النبوة:
قال المحاسبي: (فإن قيل: كيف لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قيل: لأن الله تعالى قد أمنه من النسيان بقوله: (سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله) أن يرفع حكمه بالنسخ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن، فأحدث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك). وقال الزركشي: (وإنما ترك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يرد على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدون).
[502]
وقال الزركشي أيضا: (وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضي إلى تغييره كل الوقت، فلهذا تأخرت في كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم، فكتب أبو بكر والصحابة بعده، ثم نسخ عثمان المصاحف التي بعث بها إلى الأمصار).
أول من جمع المصحف:
أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن قال: (حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن السدي عن عبد خير عن علي قال: " رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن").
وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا أحمد بن الحسين بن حفص قال: حدثنا خلاد قال: حدثنا سفيان عن السدي عن عبد خير عن علي قال: "رحمة الله على أبي بكر، كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف وهو أول من جمع بين اللوحين"). وأخرجه من طرق خمس عن السدي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه.
قال ابن كثير في الفضائل: (هذا إسناد صحيح). وحسنه الحافظ بن حجر في الفتح.وأخرج أبو عبيد في الفضائل أيضا، وابن أبي داود في المصاحف، واللفظ لأبي عبيد قال: (حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير قال: "أول من جمع القرآن بين اللوحين أبو بكر").
وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل بسنده عن ابن شهاب قال: (لما أصيب المسلمون باليمامة خاف أبو بكر أن يهلك طائفة من أهل القرآن، وإنما كان في العسب والرقاع، فأمر الناس فأتوه بما كان عندهم، فأمر به فكتب في الورق). إلى أن
[503]
قال: (فأبو بكر أول من جمع القرآن). وأخرج ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه: أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يقول ختمه).
وأخرج ابن أبي داود أيضا في المصاحف قال: (حدثنا أبو الطاهر قال: أخبرنا
ابن وهب، وأخبرني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: (لما استحر القتل؟ بالقراء يومئذ فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: "اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه").
الجمع المنسوب إلى علي وعمر رضي الله عنهما:
فإن قيل قد أخرج البلاذري في أنساب الأشراف، وابن أبي داود في المصاحف، وابن كثير في فضائل القرآن، والحافظ في الفتح: أن عمر رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن. أجيب بأن الروايات الواردة في أولية أبي بكر أصح، لما في الروايات المخالفة من انقطاع على ما صرح به غير واحد من أهل العلم.
قال الحافظ في الفتح بعد رواية موسى بن عقبة في المغازي، وأن أبا بكر أول من جمع القرآن في الصحف، قال الحافظ: (وهذا كله أصح مما وقع في رواية عمارة
[504]
ابن غزية: أن زيد بن ثابت قال: "فأمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده"، وإنما كان في الأديم والعسب أولا قبل أن يجمع في عهد أبي بكر، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة).
وقال ابن كثير في فضائل القرآن: (حدثنا يزيد بن مبارك، عن فضالة عن الحسن: أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: "إنا لله" ، ثم أمر بالقرآن فجمع، فكان أول من جمعه في المصحف.
وهذا منقطع فإن الحسن لم يدرك عمر، ومعناه أنه أشار بجمعه فجمع، ولهذا كان مهيمنا على حفظه وجمعه).
وهكذا يجاب بنحو مما مر عن الروايات التي تنسب الجمع الأول إلى علي رضي الله عنه، فقد قال الحافظ في الفتح: (وأما ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال: قال علي: " لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن" فجمعه...فإسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فمراده بجمعه حفظه في صدره.
قال: والذي وقع في بعض طرقه: "حتى جمعته بين اللوحين" وهم من راويه.
قلت: وما تقدم من رواية عبد خير عن علي أصح فهو المعتمد)".
[505]
تاريخ جمع المصحف الأول والباعث عليه:
مضت الإشارة في غير موضع من هذا البحث إلى التاريخ الذي تم فيه جمع المصحف الأول، وأن ذلك كان في عهد الصديق رضي الله عنه إثر مقتل عدد كبير من القراء في موقعة اليمامة، والتي جرت بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وبين المرتدين بزعامة مسيلمة الكذاب وأصحابه من بني حنيفة في أرض اليمامة، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 12 ه، وقد قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة رضي الله عنهم، فشعر أبو بكر وعمر وبقية الصحابة رضي الله عنهم بالخوف على القرآن أن يضيع منه شيء بموت حفاظه، فعزموا على جمع مدونا في صحف بين لوحين ليظاهر المسطور ما هو محفوظ في الصدور.
فقد أخرج أئمة المحدثين وكتاب السير جملة من الآثار التي تروي قصة الجمع هذا، والبواعث عليه، وتسمي الأشخاص الذين أشاروا أو أمروا به، والأشخاص
[506]
الذين وكلت إليهم مهمة تنفيذه، والتدابير التي اتخذت لضبطه وإتقانه، منها ما أخرجه أبو عبيد والإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن أبي داود في المصاحف وغيرهم من طريق الزهري عن عبيد بن السباق: أن زيد بن ثابت الأنصاري حدثه قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عنده عمر، فقال أبو بكر: "إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن"
قال: فقلت له: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لي: "هو- والله – خير". فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال: قال زيد: وقال أبو بكر:"إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه". قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: "هو- والله – خير". فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر وعمر حتى شرح الله صدري للذي شرح صدورهما، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب ومن اللخاف، ومن صدور الرجال، فوجدت
[507]
آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...)إلى آخره حتى ختم السورة). وهذا لفظ أبي عبيد، وقد مضى لفظ البخاري في غير موضع من هذا البحث.
قال أبو عبد الله المحاسبي: (فأما قوله: "وجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت ولم أجدها مع غيره" يعني ممن كانوا في طبقة خزيمة ممن لم يجمع القرآن. وأما أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل فبغير شك جمعوا القرآن والدلائل عليه متظاهرة). قال: (ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب إذا لم يكن ضبطها كما ضبط القرآن).حكى ذلك عنه الزركشي في البرهان، ولا يخفى ما في عبارته من غموض ولا سيما تعليله مما أحسبه خطأ من ناسخ أو طابع.
حكم جمع المصحف والدليل عليه:
تكررت الإشارة في غير موضع من هذا البحث إلى حكم جمع المصحف، بيد أني أوثر أن أذكر هنا كلاما للحافظ ابن حجر ذكره في الفتح وضمنه أكثر النقول عن أهل في هذا الشأن حيث قال: (وقد تسول لبعض الروافض أنه يتوجه الاعتراض على أب بكر بما فعله من جمع القرآن في المصحف، فقال: كيف جاز أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟ الجواب: أنه لم يفعل ذلك إلا بطريق
[508]
الاجتهاد السائغ الناشيء عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوبا، ولذلك توقف عن كتابة الآية من آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة، مع أنه كان يستحضرها هو ومن ذكر معه، وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله، وينوه بعظيم مناقبه لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، فما جمع القرآن أحد بعده إلا كان له مثل أجره إلى يوم القيامة.
وقد كان لأبي بكر من الاعتناء بقراءة القرآن ما اختار معه أن يرد على ابن الدغنة جواره ويرضى بجوار الله ورسوله، وقد تقدمت القصة مبسوطة في فضائله. وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله: (يتلوا صحفا مطهرة)، وكان القرآن مكتوبا في الصحف، لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها، فنسخ منها عدة مصاحف، وأرسل بها إلى الأمصار كما سيأتي بيان ذلك).
قال الحافظ: (وفي رواية عمارة بن غزية: فقال لي أبو بكر: "إن هذا دعاني
[509]
إلى أمر، وأنت كاتب الوحي، فإن تك معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل" فاقتضى قول عمر فنفرت من ذلك، فقال عمر: " كلمه وما عليكما لو فعلتما". قال: فنظرنا فقلنا: لا شيء والله، ما علينا..
قال ابن بطال: إنما نفر أبو بكر أولا ثم زيد بن ثابت ثانيا لأنهما لم يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول، فلما نبههما عمر على فائدة ذلك، وأنه خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمع القرآن فيصير إلى حالة الخفاء بعد الشهرة، رجعا إليه. قال: ودل ذلك على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تجرد عن القرآن- وكذا تركه- لا يدل على وجوب ولا تحريم انتهى. وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول؛بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الباقلاني: كان الذي فعله أبو بكر من ذلك فرض كفاية بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئا من القرآن"، مع قوله تعالى: (إنا علينا جمعه وقرآنه)، وقوله: (إن هذا لفي الصحف الأولى)، وقوله: (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة). قال فكل أمر يرجع لإحصائه وحفظه فهو واجب على الكفاية، وكان ذلك من النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم. قال: وقد فهم عمر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع إليه أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك، وأنه ليس في المنقول ولا في المعقول ما ينافيه، وما يترتب على ترك جمعه من ضياع بعضه، ثم تابعهما زيد بن ثابت وسائر الصحابة على تصويب ذلك). وقد مضى النقل عن علي رضي الله عنه في تصويب صنيع أبي
[510]
بكر هذا، وترحمه عليه أن كان أول من جمع القرآن بين لوحين. كما وقد مر عند الكلام على ماهية الجمع على قول أبي عبد الله الحارث المحاسبي في هذا الشأن على ما نقله عنه الزركشي وغيره.
كيفية الجمع المذكور والاحتياطات المتبعة لهذه الغاية:
قد مضى في غير موضع من هذا البحث ذكر قصة جمع القرآن الذي قام به زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه بأمر من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تضمنت تلك القصة، المروي عن زيد من طريق كل من ابنه خارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله، وعبيد بن السباق، وفيها أن زيدا رضي الله عنه قام بتتبع القرآن من أوعيته المختلفة، ومن صدور الرجال؛ بل كان التعويل على الحفظ أعظم، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد أوصى باتخاذ كافة التدابير الكفيلة بالتوثق في مسألة الجمع، وقد مضى طرف من ذلك في الحاشية الرابعة عشرة من هذا البحث، وقد فصل الحافظ بن حجر في الفتح في بيان تلك التدابير عند شرحه لأثر زيد في قصة الجمع حيث قال ما نصه: (قوله "فتتبعت القرآن أجمعه" أي من الأشياء التي عندي وعند غيري).
قال الحافظ: (وعند ابن أبي داود أيضا في المصاحف من طريق يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قام عمر فقال: من تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به. وكانوا يكتبون ذلك في المصحف والألواح والعسب". قال: "وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان" وهذا يدل على أن زيدا لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا، مع كون زيد كان يحفظه، وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط، وعند ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن
[511]
أبيه: " أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدوا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه" ، ورجاله ثقات مع انقطاعه، وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن. وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ.
قوله "وصدور الرجال"أي حيث لا أجد ذلك مكتوبا، أو الواو بمعنى مع، أي أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدر). ثم مضى الحافظ بن حجر في ذكر الخلاف في اسم الذي وجدت معه خواتيم التوبة، وهل كان أبا خزيمة أم خزيمة الأنصاري على ما مر تفصيله عند ذكر نص قصة الجمع بتمامه، إلى أن قال في معرض شرحه للأثر المذكور، ووجدان خاتمة التوبة مع أبي خزيمة، قال: ("لم أجدها مع أحد غيره" أي مكتوبة لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا يكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد). وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم . قال الخطابي: هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وأبو خزيمة وعمر. وحكى ابن التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة؛ بل شاركه زيد بن ثابت، فعلى هذا تثبت برجلين أ.ه. وكأنه ظن أن قولهم لا يثبت القرآن بخبر الواحد أي الشخص الواحد، وليس كما ظن؛ بل المراد بخبر الواحد خلاف الخبر المتواتر، فلو بلغت رواة الخبر عددا كثيرا وفقد شيئا من شروط المتواتر لم يخرج عن كونه خبر الواحد، والحق أن المراد بالنفي نفي وجودها مكتوبة لا نفي كونها محفوظة. وقد وقع عند ابن أبي داود من رواية يحي بن عبد الرحمن بن حاطب:" فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم) إلى آخر السورة. فقال عثمان: وأنا أشهد،
[512]
فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن". ومن طريق أبي العالية: "أنهم لما جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر كان الذي يملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا من براءة إلى قوله: (لا يفقهون) ظنوا أن هذا آخر ما نزل منها، فقال أبي بن كعب: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيتين بعدهن: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة").
تسمية المصحف وكيف تمت:
مضى في مسألة اسم المصحف من هذا البحث أن بعض الأحاديث قد وردت فيها تسمية القرآن باسم " المصحف"، كقوله عليه السلام: "لا تسافروا بالمصحف إلى أرض العدو"، وكقوله: "لا تمس المصحف إلا وانت طاهر"، وقد مضى تخريجهما.
وذكر الكاتبون في تاريخ المصحف: (أنه لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه. فقال بعضهم: سموه إنجيلا، فكرهوه. وقال بعضهم: سموه السفر، فكرهوه من يهود.فقال ابن مسعود: رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف،فسموه به). وقد مر ذلك كله مفصلا في اسم المصحف، فليراجعه من رامه.
مآل مصحف أبي بكر:
ذكرت الروايات المتعلقة بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق أن القرآن لما جمع في الصحف بقيت تلك الصحف عند أبي بكر مدة حياته، ثم عند عمر بن الخطاب مدة حياته، ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها، وإنما كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد وفاة أبيها لأنه أوصى بذلك إليها لمكانتها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونها كاتبة قارئة يمكنها أن تصون تلك الصحف وتحافظ عليها، حتى طلب منها الصحف الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لما شرع في كتابة المصحف الإمام، فأعطته إياها لعلمها بأن له طلب ذلك منها، ولكونه رضي الله عنه قد تعهد لها
[513]
برد تلك الصحف إليها بعد أن يفرغ من نقل مضامينها في المصحف الإمام، وقد وفى رضي الله عنه بتعهده هذا فرد الصحف إلى حفصة رضي الله عنها، حتى إذا كان مروان بن الحكم أميرا للمدينة في عهد معاوية، أرسل إلى أم المؤمنين رضي الله عنها يسألها الصحف ليمزقها، وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضا، فمنعته إياها، حتى إذا توفيت حفصة رضي الله عنها، أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة: ليرسلنها. فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف لما نسخ عثمان. ذكر نحوا من ذلك أو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن، ثم قال: (قال أبو عبيد: لم يسمع في شيء من الحديث أن مروان هو الذي مزق الصحف إلا في هذا الحديث) يعني حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر، وقد مر في مسألتي إحراق المصحف وتمزيقه بأبسط من هذا.
جمع المصحف في عهد عثمان، والفرق بينه وبين الجمع الأول:
تعددت مصاحف الصحابة، ولا سيما بعد الجمع الأول، واشتملت تلك المصاحف على ضروب من الرسم واختلاف في الترتيب وعدد السور، بالإضافة إلى تضمن بعض المصاحف لزيادات تفسيرية ربما سببت شيئا من اللبس عندما يقرأ فيها غير أصحابها، الأمر الذي يفضي إلى قدر من الاختلاف بين الناس ولو بعد حين، لذا بات من الضروري توحيد تلك المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد يحصل الاتفاق بينهم على رسمه وترتيبه وعدة سوره وآياته، ويتم تجريده عما ليس بقرآن ليكون للناس إماما يعتمدون عليه ويعولون في مصاحفهم المستقبلية عليه، وهذا هو الذي تم في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وأجمع عليه الصحابة في عصره، وقد مرت الإشارة إليه في غير موضع من هذا البحث..
[514]
ويمكن استجلاء الفرق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وبين جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنهما بأن يقال إن جمع أبي بكر كان هو الجمع الحقيقي، حيث ضم ما كان في أوعية متفرقة متفاوتة الحجم في وعاء واحد أو في صحف متماثلة يجمعهما لوحان وتضمهما دفتان، في حين كان الجمع في عهد عثمان بمثابة الترتيب للمصحف الأول وفقا لما جرت عليه العرضة الأخيرة، ثم تم إتلاف ما سواه، فهو إذا توحيد للمصاحف التي كانت متباينة، وجمع للناس على إمام لا تختلف نسخه ولا يحصل بعده تباين في المصاحف، فتتحقق بذلك وحدة المسلمين، وتنسد كل ثغرة قد يلج الاختلاف على الأمة منها وقد حكى الزركشي وغيره كلاما لأبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي حول جمع كل من أبي بكر وعثمان للقرآن، والفرق بين هذين الجمعين، أورده هنا بنصه إتماما للفائدة.. قال الزركشي: (قال الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتابه "فهم السنن" : "كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء.
فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه.
فإن قيل: كيف لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قيل: لأن الله تعالى كان قد أمنه من
[515]
النسيان بقوله: (سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله) أن يرفع حكمه بالنسخ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن، فأحدث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك.
وفي قول زيد بن ثابت: [فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال]ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من قال أنه جمع القرآن أبي بن كعب وزيد ليس بمحفوظ. وليس الأمر على ما أوهم، وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكو في أنه جمع عن ملإ منهم.
فأما قوله: [وجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت، ولم أجدها]يعني ممن كانوا في طبقة خزيمة ممن لم يجمع القرآن. وأما أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل فبغير شك جمعوا القرآن، والدلائل عليه متظاهرة- قال- ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب إذا لم يكن ضبطها كما ضبط القرآن – قال- ومن الدليل على ذلك أن تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عند الصديق لتكون إماما، ولم تفارق الصديق في حياته، ولا عمر أيامه، ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها. ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة، وقع الاختيار عليها في أيام عثمان ، فأخذ ذلك الإمام ونسخ في المصاحف التي بعث بها إلى الكوفة، وكان الناس متروكين على قراءة ما يحفظون من قراءتهم المختلفة، حتى خيف الفساد، فجمعوا على القراءة التي نحن عليها. قال: والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان رضي الله عنه وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن، وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن،
[516]
فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق. روي عن علي أنه قال: [رحم الله أبا بكر الصديق هو أول من جمع بين اللوحين]، ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان، لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان، ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة).
تاريخ جمع المصحف الإمام والتوفيق بين الروايات المتعارضة في ذلك:
ذكر أهل العلم في تاريخ كتابة المصحف الإمام ثلاثة أقوال:
أحدها: أن كتابته كانت سنة ثلاث وعشرين للهجرة.
والقول الثاني: أن ذلك كان سنة خمس وعشرين.
والقول الثالث: أن كتابة المصحف الإمام كانت سنة ثلاثين للهجرة، وقد عده بعض أهل العلم غفلة من قائله.
فقد أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف قال: (حدثنا عمي "يعني يعقوب بن سفيان" قال: حدثنا أبو رجاء قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: "أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة، وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبي، وقراءة عبد الله. يقول الرجل: والله ما نقيتم قراءتك. فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله لما جاء به". وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا، فناشدهم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: "من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب
[517]
رسول الله زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟قالوا سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد" فكتب زيد وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد يقول: قد أحسن).
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أيضا قال: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا يحي –يعني ابن يعلي بن الحارث- قال: حدثنا أبي قال: حدثنا غيلان عن أبي اسحاق عن مصعب بن سعد قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: "إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن، عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاني به"، فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسب فيه الكتاب، فمن أتاه بشيء قال: "أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟". ثم قال: "أي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد ابن العاص. ثم قال: أي الناس أكتب؟ قالوا: زيد بن ثابت. قال: فليكتب زيد، وليمل سعيد". قال: وكتب مصاحف فقسمها في الأمصار، فما رأيت أحدا عاب ذلك عليه).
التوفيق بين الروايات:
قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق روايتي ابن أبي داود السالفتين: ( وكانت هذه القصة سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان).ثم ذكر قول عثمان في أحدى الروايتين: ("إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة"، وقوله في الرواية الثانية: "منذ ثلاث عشرة سنة" فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى، فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته، فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين، وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قبل عثمان، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر لذلك مستندا). أ.ه كلام الحافظ بن حجر.
[518]
الأسباب الحاملة على جمع المصاحف الإمام:
تعددت الروايات في البواعث على جمع المصحف الإمام، فقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن، والبخاري في صحيحه، وابن أبي داود في المصاحف، واللفظ لأبي عبيد قال: (قال عبد الرحمن"يعني ابن مهدي" حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك، فأرسلت حفصة بالصحف إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف، ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: " ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم". قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يمزق أو يحرق. وقد ذكر ابن أبي داود في المصاحف في سبب فزع حذيفة جملة آثار.، ومنها اختلاف أهل الكوفة والبصرة في القراءة، فمنهم من يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري، ومنهم من يقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود؛ بل قد يشتد الخلاف بين الناس في البلد الواحد، فمن هذه الآثار ما أخرجه ابن أبي داود بسنده عن يزيد بن معاوية وأبي الشعثاء المحاربي، ومرة في كراهية حذيفة رضي الله عنه : " كره أن يقال قراءة أبي موسى
[519]
وقراءة ابن مسعود".
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أيضا قال: (حدثنا زياد بن أيوب قال: حدثنا إسماعيل قال: أيوب عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين. قال أيوب: لا أعلمه إلا قال حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافا، وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماما".
قال أبو قلابة: فحدثني مالك بن أنس[قال أبو بكر: هذا مالك بن أنس جد مالك بن أنس] قال: كنت فيمن أملي عليهم، فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار أني قد صنعت كذا، محوت ما عندي فامحوا ما عندكم).
وقد مر ذكر روايتي مصعب بن سعد في هذا الشأن عند الكلام عن تاريخ الجمع.
الكيفية التي تم بها الجمع، وذكر الهيئة المكلفة بذلك:
تضمن الآثار السالف ذكرها وصفا للكيفية التي تمت بها كتابة المصحف الإمام والتدابير المتخذة لهذه الغاية كالرجوع إلى الصحف التي جمعت في عهد الصديق والتعويل في الكتابة على صحابي جليل كتب الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بل لعله كان الكاتب الأول للوحي، ووقع عليه الاختيار في الجمع الأول في عهد الصديق رضي الله عنه، ثم وقع عليه الاختيار ثانية في عهد عثمان، ذلك زيد بن ثابت إمعانا منهم رضي الله عنهم في الاحتياط لكتاب الله عزوجل،ولما كان للإملاء أثر بالغ في دقة المكتوب أختير لهذه المهمة أفصح الناس في تلك الآونة، وأشبههم لهجة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد أدرك سعيد بن العاص هذا
[520]
من حياة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين. قال ابن سعد: (وعدوه لذلك في الصحابة). وذكر ذلك الحافظ في الفتح، وقد ضم إلى هذين الصحابيين الجليلين طائفة من الكتاب فيهم عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن هشام على ما في رواية أنس في الصحيح، وفيهم أيضا أبي بن كعب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس، ومنهم مالك بن أبي عامر جد الإمام مالك بن أنس، وكثير بن أفلح على ما ذكره ابن أبي داود في المصاحف، وعنه الحافظ في الفتح، فهؤلاء تسعة ما بين كاتب ومملي، وذكر ابن أبي داود في بعض الروايات أن عدة الذين تولوا كتابة المصحف اثنا عشر رجلا.
وذكر أبو عمرو الداني في المقنع أسماء ثلاثة آخرين تتم بهم العدة هم عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك القشيري، وصعصعة بن صوحان. وقد استشكل البعض هذا الاختلاف بين الروايات في عدة هيئة الكتبة للمصحف الإمام فيجاب عنه بأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق، فأضافوا إلى زيد من ذكر، ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء. ذكر ذلك الحافظ بن حجر في الفتح.
[521]
الحرف الذي كتب به المصحف الإمام:
وقد بين الحافظ بن حجر في موضع من الفتح الراجح من الأقوال في الحرف الذي كتب به المصحف الإمام من بين الحروف السبعة فقال: (قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أوليس فيه إلا حرف واحد منها؟ مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني وهو المعتمد.
وقد أخرج أبي داود في المصاحف عن أبي الطاهر بن أبي السرح قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل هلم وتعال وأقبل، أي ذلك أجزأك. قال: وقال لي ابن وهب مثله).
والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها كما وقع في المصحف المكي: (تجري من تحتها الأنهار)في آخر سورة براءة، وفي غيره بحذف "من"، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات ونحو ذلك... وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصا واحدا وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلا، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا، اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي.
[522]
قال الطبري: (وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة، لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب؛ بل على سبيل الرخصة. قلت ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرءوا ما تيسر منه").
وقد قرر الطبري ذلك تقريرا وأطنب فيه،ووهى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة منهم أبو العباس ابن عمار في "شرح الهداية"، وقال: (أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها، وضابطه ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه مثل: "أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج"، ومثل إذا جاء فتح الله والنصر"، فهو من تلك القرآت التي تركت إن صح السند بها، ولا يكفي حة سندها في إثبات كونها قرآنا، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن بالتنزيل فصار يظن أنه منه.
وقال البغوي في "شرح السنة": المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.
[523]
وقال أبو شامة: ظن قوم أن القرآت السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل). انتهى المقصود من كلام الحافظ بن حجر. وقد بسط الزركشي في البرهان القول في هذه المسألة فليراجعه من رامه.
موقف الصحابة من جمع المصحف الإمام وجمع الناس عليه وإتلاف ما سواه:
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم كابن كثير أن كتابة المصحف الإمام معدودة في مناقب عثمان رضي الله عنه، ومدعومة بموافقة الصحابة على ذلك واستحسانهم إياه.. قال ابن كثير: (وهذا أيضا من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء،وهو جمع الناس على قراءة واحدة لئلا يختلفوا في القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة، وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف، وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرق ما عدا المصحف الإمام، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب: "لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا". فاتفق الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على أن ذلك من مصالح الدين، وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي".
[524]
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح وهو بصدد الكلام عن سبب ما قيل عن كراهة ابن مسعود لأمر عثمان بإتلاف المصاحف المخالفة للمصحف الإمام، وعن عدم إشراك ابن مسعود في مسألة الجمع هذا، قال: (والعذر لعثمان في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر، وأيضا فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفا واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم،لكونه كاتب الوحي ، فكانت له أولية ليست لغيره).
وقد مضى في إتلاف المصاحف وحرقها وجه إتلاف عثمان رضي الله عنه ما خالف المصحف الإمام، وإقرار الصحابة رضي الله عنهم له في ذلك، لذا يحسن الاكتفاء هنا بما ذكره الحافظ في الفتح بهذا الصدد حيث قال: (قوله"وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق" في رواية "أن يخرق" بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة، ورواه الأصيلي بالوجهين والمعجمة أثبت. وفي رواية الإسماعيلي أن تمحى أو تحرق، وقد وقع في رواية شعيب عند أبي داود والطبراني وغيرهما: "وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به". قال: فذلك زمان حرقت المصاحف بالعراق بالنار.
وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال: " لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا". وفي رواية بكير بن الأشج: " فأمر بجمع المصاحف فأحرقها، ثم بث في الأجناد التي كتب". ومن طريق مصعب بن سعد قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك- أو قال- لم ينكر ذلك منهم أحد". وفي رواية أبي قلابة: "فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم". والمحو أعم من أن يكون بالغسل أو التحريق، وأكثر الروايات صريح في التحريق فهو الذي وقع، ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك، وقد جزم
[525]
عياض بأنهم غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها).
عدد نسخ المصحف الإمام، وذكر الأقطار التي وجه بتلك النسخ إليها:
إختلفت الروايات في عدة نسخ المصحف الإمام، فمن قائل بأنها أربع، ومن قائل بأنها خمس، ومن قائل بأنها سبع، والأكثر على أنها أربع..
فقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا علي بن محمد الثقفي، حدثنا المنجاب بن الحارث قال: حدثني قبيصة بن عقبة قال: سمعت حمزة الزيات يقول: كتب عثمان أربعة مصاحف، فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوضع عند رجل من مراد فبقي حتى كتبت مصحفي عليه. وحمزة القائل كتبت مصحفي عليه).
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أيضا قال: (سمعت أبا حاتم السجستاني قال: لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا).
وقال أبو عمرو الداني في المقنع: (أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه
[526]
لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة. وقد قيل إنه جعله سبع نسخ، ووجه من ذلك أيضا نسخة إلى مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأول أصح وعليه الأئمة).
وذكر الحافظ في الفتح أن النسخ كانت خمسا، نسخة مكة، ونسخة المدينة، ونسخة البصرة،و نسخة الكوفة، ونسخة الشام. قال: (ويقال أنه وجه بسبعة هذه الخمسة، ومصحفا إلى اليمن، ومصحفا إلى البحرين، لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرا). ومع أكثر الروايات قد ذكرت أن عثمان رضي الله عنه قد أرسل إلى كل أفق بنسخة إلا أنه لم يقع لي فيها أنه وجه إلى القطر المصري بشيء منها مع أن فتح مصر قد سبق جمع الناس على المصحف الإمام بزمن.
مصير نسخ المصحف الإمام
أخرج ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: "سألت مالكا عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: ذهب").
وذكر ابن قتيبة في غير موضع من كتبه أن المصحف الإمام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وهو في حجره- ورثه عنه ابنه خالد، وعن خالد أبناؤه، وقد درجوا. قال: وقد قال لي بعض المشايخ من أهل الشام إن ذلك المصحف الآن في أرض طوس.
[527]
وقال ابن كثير في الفضائل إثر حكايته لرواية ابن وهب عن مالك: (يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده، ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف الذي تركه في المدينة، والله أعلم).
وقال ابن كثير أيضا عن مصير نسخ المصحف الإمام: (وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل، والله أعلم.....زاده الله تشريفا وتعظيما وتكريما).
وقال الشاطبي في قصيدته الرائية الموسومة بعقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد في علم الرسم والمطبوعة بمطبعة الحجر الكستلية بمصر ضمن مجموع قصائد في علوم القرآن:
وقال مصحف عثمان تغيب لم......نجد له بين أشياخ الهدى خبرا
أبو عبيد أولوا بعض الخزائن لي.....استخرجوه فأبصرت الدما أثرا
[528]
ورده ولد النحاس معتمدا.....ما قبله وأباه منصف نظرا
إذ لم يقل مالك لاحت مهالكه....ما لا يفوت فيرجى طال أو قصرا
وفي كلام السمهودي الذي كان نزيل دار الهجرة في أواخر القرن التاسع وأوائل العاشر نوع جمع بين الروايات المتضاربة في شأن مآل المصحف الإمام، أسوقه هنا بتمامه ليطلع عليه القاريء اطلاع المتأمل، ثم يقارنه بما قبله وبما بعده ليخرج بأقرب النتائج وأحراها بالصواب...قال السمهودي وهو بصدد الكلام عن القراءة في المصحف بالمسجد: قال: وقد روى ابن شبة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: إن أول من جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ةضعه في المسجد فأمر به يقرأ كل غداة . وعن محرز بن ثابت مولى سلمة بن عبد الملك عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يقرأ. فقالوا: أصيب المصحف يوم قتل عثمان. قال محرز: وبلغني أن مصحف عثمان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان، قال فلما استخلف المهدي بعث بمصحف إلى المدينة، فهو الذي يقرأ في اليوم، وعزل مصحف الحجاج فهو في الصندوق الذي دون المنبر..انتهى.
بعث المصاحف إلى المساجد:
وقال ابن زبالة: (حدثني مالك بن أنس قال: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وهو
[529]
أول من أرسل بالمصاحف إلى القرى، وكان هذا المصحف في صندوق عن يمين الاسطوانة التي عملت علما لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفتح في يوم الجمعة والخميس ويقرأ فيه إذا صليت الصبح، فبعث المهدي بمصاحف لها أثمان فجعلت في صندوق، ونحى عنها مصحف الحجاج ، فوضعت عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت اقرأ عليه، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه عند الاسطوانة التي عن يمين المنبر). انتهى.
قلت" والقائل هو السمهودي"، ولا ذكر لهذا المصحف الموجود اليوم بالقبة التي بوسط المسجد المنسوب لعثمان رضي الله عنه في كلام أحد من متقدمي المؤرخين؛بل فيما قدمناه ما يقتضي أنه لم يكن بالمسجد حينئذ؛ بل ولا ذكر له في كلام ابن النجار وهو أول من أرخ من المتأخرين، وقد ترجم لذكر المصاحف التي كانت في المسجد، ثم ذكر ما قدمناه عن ابن زبالة ثم قال: (وأكثر ذلك دثر على طول الزمان وتفرقت أوراقه. قال: وهو مجموع في يومنا هذا في جلال في المقصورة- أي المحترقة- إلى جانب باب مروان). ثم ذكر أن بالمسجد عدة مصاحف بخطوط ملاح موقوفة مخزونة في خزائن ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وهناك كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه نفذ به من مصر، وهو عند الاسطوانة التي في صف مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى جانبه مصحفان على كرسيين يقرأ الناس فيهما، وليس في المسجد ظاهر سواهما). ولم أر نسبة المصحف الموجود اليوم لعثمان رضي الله عنه إلا في كلام المطري ومن بعده عنده ذكر سلامة القبة التي بوسط المسجد من الحريق كما قدمناه، نعم ذكر ابن جبير في رحلته ما حاصله أن أمام مقام النبي صلى الله عليه وسلم- وقد عبر عنه بالروضة الصغيرة- صندوقا، وأن بين المقام
[530]
وبين الحجرة – أي بجانب المقام من جهة المشرق- محمل كبير عليه المصحف كبير في غشاء مقفل عليه، وهو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى البلاد . انتهى.
وهذا المصحف الذي أشارؤ إليه ينطبق في الوصف على المصحف الذي ذكر ابن النجار أنه نفذ به من مصر، ولم يصفه بما ذكره ابن جبير من نسبته لعثمان، مع أن ابن جبير مصرح بأنه من المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق، لا أنه الذي قتل وهو في حجره. وقد قال ابن قتيبة: (كان مصحف عثمان الذي قتل وهو في حجره عند ابنه خالد، ثم صار مع أولاده وقد درجوا). قال: (وقال لي بعض مشايخ أهل الشام: إنه بأرض طوس).
وقال الشاطبي ما حاصله: (إن مالكا رحمه الله قال: إنما يكتب المصحف على الكتابة الأولى لا على ما استحدثه الناس). قال: (وقال: إن مصحف عثمان رضي الله عنه تغيب فلم يجد له خبرا بين الأشياخ).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في القراءات: (رأيت المصحف الذي يقال له الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، استخرج أي من بعض خزائن الأمراء، وهو المصحف الذي كان في حجره حين أصيب، ورأيت آثار دمه في مواضع منه). ورده أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك. قال الشاطبي: ( وأباه المنصفون، لأنه ليس في قول مالك " تغيب" ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد، لأن ما تغيب يرجى ظهوره.
قلت" والقائل هو السمهودي" : فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة وجعل في المسجد النبوي، لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله) الآية، كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحد، والذي يظهر أن بعضهم وضع خلوقا
[531]
على تلك الآية تشبيها بالمصحف الإمام، ولعل هذه المصاحف التي قدمنا ذكرها مما بعث به عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق كما هو مقتضى كلام ابن جبير في المصحف الموجود بالمدينة، وفي الصحيح من حديث أنس في قصة كتابة عثمان رضي الله عنه للقرآن من الصحف التي كانت عند حفصة: "وأنه أمر بذلك زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وأنه أرسل إلى كل أفق بمصحف كما نسخوا"... ثم ذكر السمهودي عدة المصاحف التي أرل بها عثمان إلى الآفاق نقلا عن ابن أبي داود في كتاب المصاحف، وابن حجر في الفتح على ما مضى بيانه في غير موضع من هذا البحث.
ثم قال السمهودي: وليس معنا في أمر المصحف الموجود اليوم سوى مجرد احتمال، والله أعلم أ.ه كلام السمهودي.
[532]
وقال الدكتور صبحي الصالح بعد أن ساق نص ابن كثير المتقدم آنفا: (ويميل بعض الباحثين إلى أن هذا المصحف أمسى زمنا ما في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينجراد، ثم نقل إلى انجلترة، بينما يرى آخرون أن هذا المصحف بقي في مسجد دمشق حتى احترق فيه سنة 1310 ه). وأحال على خطط الشام لمحمد كرد علي.
وحكى الدكتور الصالح رحمه الله أن الدكتور يوسف العشي ذكر له أن القاضي عبد المحسن الأسطواني أخبره بِأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا بالمقصورة وله بيت خشب.
وفي مقال للدكتور خالد محمد نعيم نشرته جريدة المدينة المنورة حول مصحف عثمان رضي الله عنه، والذي كان موجودا في أوائل القرن العشرين الميلادي في مكتبة بطرسبورج "لينجراد" وكيف وصل إليها ثم كيف نقلت هذه النسخة من (بطرسبورج) إلى (أوفا) ثم إلى (طشقند). وأن هذا المصحف لم يكن ضمن محفوظات مكتبة بطرسبورج إبان الحريق الذي حل بها في منتصف فبراير 1988، وأن النسخة الأصلية لمصحف عثمان قد تم نقلها عام 1923م، أم 1924م من مكتبة بطرسبورج- لينجراد سابقا- إلى "طشقند" عاصمة أوزبكستان الإسلامية، وأن هناك نسخة أخرى قد أخذت عن النسخة الأصلية المذكورة بواسطة رجال" جمعة الآثار" في سان بطرسبورج- لينجراد- في 26 مايو 1904م 1322ه، وهذه النسخة الفريدة كتب عليها مدير الجمعية إمضاءه لا عتمادها وأن هناك أيضا خمسين نسخة طبق الأصل " مصورة" عن المخطوطة الأصلية لمصحف عثمان محفوظة عند أنا يعيشون الآن في قلب عالمنا العربي في المغرب، وفي ليبيا وغيرهم في العالم الإسلامي في الهند
[533]
وباكستان. وقد فصل الكاتب في المقال المذكور تفصيلا يحسن الرجوع إليه، ويجدر بالقاريء الأريب الوقوف عليه، ولإن كان الرحالة ابن بطوطة المتوفي سنة 777ه قد ذكر أنه رأى في مسجد علي بن أبي طالب بالبصرة المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل، وأن هذا المصحف قد سلب من المسجد المذكور ونقل إلى سمرقند، ومنها إلى الروسيا وأودع في مكتبة بطرسبورج على ما ذكره محمد أمين الخانجي، أو أن المصحف المذكور قد وجد في مدينة طوس في القرن الثالث الهجري، أي قبل وجود ابن بطوطة بثلاثة قرون ونيف حسب رواية ابن قتيبة، إلا أن لفيفا من المؤرخين كالنويري وابن تغري بردي قد ذكروا أن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري من سلاطين المماليك المتوفي سنة 676ه كان على علاقة طيبة مع الملك "بركة خان" الذي كان أبوه "جوجي" ابن "جنكيز خان"، وكان بركة خانا يميل إلى المسلمين ميلا زائدا ويعظم أهل العلم، وكان يود السلطان الملك الظاهر، ويعظم رسله، ومما يذكر أن السلطان الملك الظاهر بيبرس رسم بتجهيز الهدايا إلى الملك " بركة خان" بعد تحريره رسالة قرئت عليه، وكانت الهدايا عبارة عن ختمة- أي مصحف كامل- ذكر أنها من خط عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذكر أنها من المصاحف العثمانية، وأن الروس حين استولوا على مدينة سمرقند في عام 1285 ه قد حملوا هذا المصحف إلى مدينة بطرسبورج.
وقد قال الشيخ صبحي الصالح في كتابه علوم القرآن: (وإن الباحث ليتسائل أين أصبحت المصاحف العثمانية الآن؟ ولن يظفر بجواب شاف على هذا السؤال، فإن الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور أو المبينة لأعشار القرآن تنفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية، لأن المصاحف العثمانية كانت مجردة من كل هذا).
[534]
وقد مر في الحاشية الخامسة والعشرين من هذا البحث ذكر التاريخ الذي بقيت عليه المصاحف مجردة، وفي عهد من بدأ بتنقيط المصاحف وتشكيلها..)
[535] (م)

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:31 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة