العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > توجيه القراءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:44 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (58) إلى الآية (59) ]

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (نغفر لكم خطاياكم)
قرأ نافع: (يغفر لكم خطاياكم) - بالياء -.
وقرأ ابن عامر (تغفر لكم) بالتاء مضمومة -.
وقرأ الباقون (نغفر لكم خطاياكم) بالنون -.
قال أبو منصور: من قرأ (يغفر لكم خطاياكم) - بالياء - فلتقدم فعل الجماعة، ومن قرأ (تغفر) - بالتاء - فلتأنيث الخطايا، وهي جمع خطيئة وخطايا، ومن قرأ (نغفر لكم خطاياكم) فالفعل لله جلّ وعزّ، نغفر نحن، وخطاياكم على هذه القراءة في موضع النصب؛ لوقوع الفعل عليها.
ومن قرأ بالتاء والياء فخطاياكم في موضع الرفع، لأنه لم يسم فاعلها، والإعراب لا يتميز فيها؛ لأنها مقصورة.
والخطايا هي: الآثام التي تعمدها كاسبها). [معاني القراءات وعللها: 1/152]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] في النون والتاء والياء.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: نغفر لكم بالنون. وقرأ نافع: يغفر لكم بالياء مضمومة على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ ابن عامر تغفر لكم مضمومة التاء.
ولم يختلفوا في: خطاياكم في هذه السورة، غير أن الكسائي كان يميلها وحده، والباقون لا يميلون.
قال أبو علي: حجة من قال: نغفر لكم بالنون أنه أشكل بما قبله. ألا ترى أنّ قبله: وإذ قلنا ادخلوا هذه [البقرة/ 58] فكأنه قال: قلنا ادخلوا، نغفر.
وحجة من قال: يغفر أنه يؤول إلى هذا المعنى، فيعلم من الفحوى أن ذنوب المكلفين وخطاياهم لا يغفرها إلا الله، وكذلك القول في من قرأ: تغفر. إلا أنّ من قال: يغفر لم يثبت علامة التأنيث في الفعل لتقدّمه، كما لم يثبت لذلك في نحو قوله: وقال نسوةٌ في المدينة [يوسف/ 30].
ومن قال: تغفر فلأن علامة التأنيث قد ثبتت في هذا النحو نحو قوله: قالت الأعراب [الحجرات/ 14] وكلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/85]
الأمرين قد جاء به التنزيل قال: وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67] وفي موضع فأخذتهم الصّيحة [الحجر/ 83] والأمران جميعا كثيران.
فأما إمالة الكسائي الألف في: خطاياكم فجوازها حسن، وحسنها: أن الألف إذا كانت رابعة فصاعدا اطّردت فيها الإمالة، والألف في خطايا خامسة، ومما يبين جواز الإمالة في ذلك، أنك لو سمّيت بخطايا ثم ثنّيته، لأبدلت الياء من الألف، كما تبدل من ألف قرقرى وجحجبى، وألف مرامى، ونحو ذلك. ويقوي ذلك أن غزا ونحوها قد جازت إمالة ألفها، وإن كانت الواو تثبت فيها وهي على هذه العدّة، فإذا جاز في باب غزا مع ما ذكرناه، فجوازها في خطايا أولى، لأنها بمنزلة ما أصله الياء، ألا ترى أن الهمزة لا تستعمل هنا في قول الجمهور والأمر الكثير الشائع.
ومما يبين ذلك أن الألف قد أبدلت من الهمزة في العدّة التي يجوز معها تحقيق الهمزة. وذلك إذا كانت ردفا في نحو:
ولم أورا بها
[الحجة للقراء السبعة: 2/86]
ونحو:
... على رال فلو لم تنزّل منزلة الألف التي لا تناسب الهمزة، لم يجز وقوعها في هذا الموضع، فإذا جاز ذلك فيها، مع أن الهمزة قد يجوز أن تخفف في نحو: أورا، إذا لم يكن ردفا، فأن تجوز الإمالة في خطايا أولى). [الحجة للقراء السبعة: 2/87]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}
قرأ نافع يغفر لكم بالياء وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله خطاياكم في موضع رفع لأنّه مفعول ما لم يسم فاعله وحجته في الياء أن الفعل متقدم وقد حيل بينه وبين الخطايا ب لكم فصار الحائل كالعوض من التّأنيث وحجّة أخرى وهي أن الخطايا جمع وجمع ما لا يعقل يشبه بجمع ما يعقل من النّساء كما قال وقال
[حجة القراءات: 97]
نسوة في المدينة فلمّا ذكر فعل جميع النّساء ذكر فعل الخطايا ونحوه أم هل يستوي الظّلمات
وقرأ ابن عامر تغفر بالتّاء وقد ذكرنا إعرابها وحجته في التّاء أنه فعل متقدم نحو قوله قالت الأعراب
وقرأ الباقون نغفر بالنّون وحجتهم في ذلك أن نغفر بين خبرين من أخبار الله عن نفسه قد أخرجا بالنّون وذلك قوله {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} فخرج ذلك بالنّون ولم يقل وإذ قيل فيقال تغفر ويغفر والآخر قوله {وسنزيد المحسنين} ولم يقل وسيزاد المحسنون
واعلم أن من قرأ يغفر فهو يؤول أيضا إلى هذا المعنى فيعلم من الفحوى أن ذنب الخلائق وخطاياهم لا يغفره إلّا الله ويقوّي هذا قوله {قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} ). [حجة القراءات: 98]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (32- قوله: {يغفر لكم} قرأه نافع بالياء، وقرأه ابن عامر بالتاء، وقرأه الباقون بالنون، وأدغم أبو عمرو في رواية الرقيين عنه، الراء في اللام، وأظهرها الباقون.
33- ووجه القراءة بالنون أنه مردود على ما قبله، وهو قوله: {وإذ قلنا}، فجرى «نغفر» على الإخبار عن الله جل ذكره، كما أتى «قلنا» على الإخبار، فالتقدير: وقلنا ادخلوا الباب سجدًا نغر لكم.
34- ووجه القراءة بالتاء أنه أنث، لتأنيث لفظ «الخطايا» لأنها جمع «خطية» على التكسير.
35- ووجه القراءة بالياء أنه ذَكَّرَ لما حال بين المؤنث وفعله، والعلل المذكورة في ولا «يقبل» تحسن في هذا على قراءة من قرأ بالياء، وحسن فيه الياء والتاء، وإن كان قبله إخبار عن الله، جل ذكره، في قوله: {وإذ قلنا} لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله، فاستغنى عن النون، ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة، فأما من أدغم الراء في اللام فقد ذكرنا أنه قبيح لزوال تكرير الراء، ولأن الحرف ينتقل في الإدغام إلى أضعف من حاله قبل الإدغام، وذلك مرفوض قبيح والإظهار هو الأصل، وعليه الجماعة، فهو أبقى لقوة الحذف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/243]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (22- {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [آية/ 58]:-
بالياء مضمومةً، قرأها نافع وحده.
وهذا على إسناد الفعل إلى المفعول به؛ لأنه معلوم أن خطايا العباد لا يغفرها إلا الله سبحانه، وتذكير الفعل إنما هو على حد تذكيره في قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} إذ كان جمعًا وقد تقدم فعله، وزاده الفصل ههنا جوازًا وحسنًا.
وقرأ ابن عامر {تُغْفَرْ لَكُمْ} بالتاء مضمومة، فأثبت علامة التأنيث؛ لأن العلامة قد ثبتت في نحو ذلك وهو {قَالَت الأعْرَابُ} وهذا لأنه إذا جاز ترك
[الموضح: 277]
العلامة في ذلك فإثبات العلامة أجوز؛ لأن معنى التأنيث حاصل فيه بكونه جماعة.
وقرأ الباقون {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون مفتوحةً.
لأنه أليق بما تقدمه، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} كأنه قال: قلنا ادخلوا نغفر.
وأمال الكسائي {خَطَايَاكُمْ} و{خَطَايَاهُمْ} و{خَطَايَانَا} في جميع القرآن، وقد تقدمت علة هذا النحو؛ وذلك أن الألف إذا وقعت رابعةً فصاعدًا حسنت فيها الإمالة، وهذه الألف وقعت خامسة فلا نظر في حسن الإمالة فيها). [الموضح: 278]

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:45 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

تفسير سورة البقرة
[من الآية (60) إلى الآية (61) ]

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }

قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا)
اتفق القراء على تسكين الشين من "عشرة" ها هنا، وهي لغة العالية
الفصيحة، وفيها لغة أخرى "عشرة) بكسر الشين، وقد قرأ بها
[معاني القراءات وعللها: 1/152]
بعض القراء،: هي قليلة.
وأما (عشرة) في مثل هذا الموضع فإن أهل اللغة لا يعرفونها، وقد قرأ بها الأعمش، والعرب لا تعرفها. والقراءة المختارة (عشرة) بسكون الشين.
وانتصب قوله: (عيناً) على التمييز، وجاء في التفسير: أن الله تبارك وتعالى فجّر لهم من حجر واحد اثنتا عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق عين يشربون منها، تنفجر إذا نزلوا، وتغور إذا ارتحنوا). [معاني القراءات وعللها: 1/153]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [اثْنَتَا عَشَرَةَ] بفتح الشين.
قال أبو الفتح: القراءة في ذلك: {عَشْرة} و[عَشِرة]، فأما [عَشَرة] فشاذ، وهي قراءة الأعمش.
وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات والتخليطات، ونُقضت في كثير منها العادات؛ وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير عشْرة: عشِرة، وأهل الحجاز يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنونه، فيقول الحجازيون: نَبِقة وفَخِذ، وبنو تميم تقول: نبْقة وفخذ، فلما ركب الاسمان استحال الوضع فقال بنو تميم: إحدى عشِرة وثنتا عشِرة إلى تسع عشِرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز: عشْرة بسكونها، ومنه قولهم في الواحد: واحد وأَحد، فلما صاروا إلى العدد قالوا: إحدى عشرة، فبنوه على فِعْلَى، ومنه قولهم: عشْر وعَشرة، فلما صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة ثلاثون وأربعون قالوا: عشرون، فكسروا أوله، ومنه قولهم: ثلاثون وأربعون إلى التسعون، فجمعوا فيه بين لفظين ضدين؛ أحدهما يختص بالتذكير والآخر بالتأنيث.
أما المختص بالتذكير فهو الواو والنون، وأما المختص بالتأنيث فهو قولهم: ثلاث وأربع وتسع في صدر ثلاثون وأربعون وتسعون. وكل واحد من ثلاث وأربع وخمس وست إلى تسع هكذا بغير هاء مختص بالتأنيث. ولما جمعوا في هذه الأعداد -من عشرين إلى تسعين- بين لفظي التذكير والتأنيث صلحت لهما جميعًا، فقيل: ثلاثون رجلًا، وثلاثون امرأة، وخمسون جارية وخمسون غلامًا، وكذلك إلى التسعين.
ومنه أيضًا اختصارهم من ثلثمائة إلى تسعمائة على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا: ثلاث مئين،
[المحتسب: 1/85]
ولا أربع مئات إلا مستكرهًا وشاذًّا، فكما ساغ هذا وغيره في أسماء العدد قالوا أيضًا: [اثنتا عَشَرَة] في قراءة الأعمش هذه، وينبغي أن يكون قد روى ذلك رواية، ولم يره رأيًا لنفسه.
وعلى ذلك ما يُروى: من أن أبا عمرو حضر عند الأعمش فروى الأعمش: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة، فقال أبو عمرو: إنما هو يتخوننا بالنون، فأقام الأعمش على اللام، فقال له أبو عمرو: إن شئت أعلمتك أن الله لم يعلمك من هذا الشأن حرفًا فعلت، فسأل عنه الأعمش، فلما عرف أبا عمرو وكبر عنده وأصغى إليه، وعلى أن هذا الذي أنكره أبو عمرو صحيح عندنا؛ وذلك أن معنى يتخولنا: يتعهدنا، فهو من قوله:
يساقِطُ عنه ورقُه ضارياتِها ... سِقاط حديد القَين أَخول أَخولا
أي: شيئًا بعد شيء، ومنه قولهم: فلان يَخُولُ على أهله: أي يتفقدهم، ويتعهد أحوالهم، ومنه قولهم: خالُ مالٍ، وخائل مال: إذا كان حسن الرِّعْيَة والتفقد للمال. والتركيب مما تُغير فيه أوضاع الكلم عن حالها في موضع الإفراد؛ من ذلك حكاية أبي عمرو الشيباني من قول بعضهم في حضَرَمَوْت: حضْرَمُوت بضم الميم؛ ليصير على وزن المفردات نحو عَضْر فُوط ويَسْتَعُور.
ومن تحريف ألفاظ العدد ما أنشده أبو زيد في نوادره:
علام قتل مسلم تعمُّدا ... مذ سنة وخَمِسُون عددا
بكسر الميم من خمسون، وعذره وعلته عندي أنه احتاج إلى حركة الميم لإقامة الوزن، فلم ير أن يفتحها فيقول: خَمَسون؛ لأنه كان يكون بين أمرين: إما أن يُظن أنه كان الأصل فتحها ثم أُسكنت، وهذا غير مألوف؛ لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة، وإما أن يقال: إن الأصل السكون فاضظر ففتحها، وهذا ضرورة إنما جاء في الشعر، نحو قوله:
مُشْتَبِهِ الأَعلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَق
[المحتسب: 1/86]
أي: الْخَفْق. ومنه قول زهير:
ثم استمروا وقالوا إن مشرَبكم ... ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ
قال أبو عثمان: قال الأصمعي: سألت أعرابيًّا -ونحن في الموضع الذي ذكره زهير- يعني هذا البيت؛ فقلت له: هل تعرف رككًا؟ فقال: قد كان هاهنا ماء يسمى رَكًّا.
قال الأصمعي: فعلمت أن زهيرًا احتاج إليه فحركه، فعدل عن الفتح؛ لئلا يُعرف بأثر الضرورة، فعدله إلى موضع آخر فكسر الميم، فكأنه راجَع بذلك أصلًا حتى كأنه كان خمِسون ثم أسكن تخفيفًا، فلما اضطر إلى الحركة كسر، فكان بذلك كمراجع أصلًا لا مستَكرَهًا على أن يُرى مضطرًّا.
وأنَّسه أيضًا بذلك: ما جاء عنهم من قولهم: إحدى عشْرة وعشِرة، فصار خَمِس من خَمِسون بمنزلة عَشِرة، وصار خَمْسون بمنزلة عَشْر). [المحتسب: 1/87]

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (النّبيّين)، و(الأنبياء)
قرأ نافع وحده: (النّبيّئين) و(الأنبئاء)، و: (النبيئون)، و(النبيء) بالهمز في كل القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: (إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ)، وقوله: (لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا أن يؤذن لكم).
وسائر القراء لم يهمزوا (النبي).
[معاني القراءات وعللها: 1/153]
قال أبو منصور: من همز (النبيء) و(الأنبئاء) و(النبيئين) فهو من النبأ، ومن أنبأ عن الله، أي: أخبر، وكأنه على هذا (فعيل) بمعنى (مفعل)، مثل (نذير) بمعنى (منذر)، ولها نظائر في القرآن.
ومن لم يهمز (النبي) ذهب به إلى: نبا الشيء ينبو إذا ارتفع، ويقال للمكان المرتفع: نبى.
وكذلك النبوة والنباوة، وأكثر العرب على ترك الهمز في (النبي)، وهو اختيار أهل اللغة؛ لأنه لو كان مهموزا لجمع على النبئاء، وقد جمعه الله على (الأنبياء). مثل (تقي) و(أتقياء) و(غني) و(أغنياء).
وحجة من همز وإن كان مجموعا على الأنبياء، أنه مثل: نصيب وأنصباء، وجمع ربيع: النهر على أربعاء.
والقراءة المختارة ترك الهمز). [معاني القراءات وعللها: 1/154]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله: النّبيّين [البقرة/ 61] والنّبيّون [البقرة/ 136] والنّبوّة [آل عمران/ 79] والأنبياء [آل عمران/ 112] والنّبيّ [آل عمران/ 68] في الهمز، وتركه.
فكان نافع يهمز ذلك كلّه في كلّ القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: قوله: وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد [الآية/ 50] بلا مدّ ولا همز. وقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/87]
لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا [الآية/ 53] وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، هذا قول المسيبي وقالون، وقال ورش عن نافع: إنه كان يهمزها جميعا، إلا أنه كان يروي عن نافع: أنه كان يترك الهمزة الثانية في المتّفقتين والمختلفتين، وتخلف الأولى الثانية، فيقول فيه للنبيء ان اراد، مثل: النّبيعن راد و: بيوت النبيء يلا، وكان الباقون لا يهمزون من ذلك شيئا.
قال أبو زيد: نبأت من أرض إلى أخرى، فأنا أنبأ نبأ ونبوءا: إذا خرجت منها إلى أخرى، وليس اشتقاق النبيء من هذا وإن كان من لفظه، ولكن من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه. فإن قلت: لم لا يكون من النباوة، ومما أنشده أبو عثمان قال: أنشدني كيسان:
محض الضّريبة في البيت الذي وضعت... فيه النّباوة حلوا غير ممذوق
أو يجوّز فيه الأمرين، فتقول: إنه يجوز أن يكون من النباوة، ومن النبأ، كما أجزت في عضة أن تكون من الواو، لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/88]
وعضوات تقطع اللهازما ومن الهاء لقوله:
.. لها بعضاه الأرض تهزيز فالقول: إن ذلك ليس كالعضة، لأن سيبويه زعم: أنهم يقولون في تحقير النّبوّة: كان مسيلمة نبوّته نبيّئة سوء، وكلّهم يقول: تنبّأ مسيلمة، فلو كان يحتمل الأمرين جميعا ما أجمعوا على تنبّأ، ولا على النّبيّئة، بل جاء فيه الأمران: الهمز وحرف اللين، فأن اتفقوا على تنبّأ والنّبيّئة دلالة على أن اللام همزة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/89]
ومما يقوّي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة، فكأنه قال: في البيت الذي وضعت فيه الرّفعة. وليس كلّ رفعة نبوءة، وقد تكون في البيت رفعة ليست بنبوءة. والمخبر عن الله بوحي إليه المبلّغ عنه نبيء ورسول، فهذا الاسم أخصّ به وأشدّ مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النّبأ. فإن قلت: فلم لا تستدلّ بقولهم: أنبياء، على جواز الأمرين في اللام من النبي، لأنهم قالوا: أنبياء ونباء، قال:
يا خاتم النّباء إنّك مرسل بالحقّ......
قيل: ما ذكرته لا يدلّ على تجويز الأمرين فيه، لأن أنبياء إنما جاء لأن البدل لما لزم في نبيّ صار في لزوم البدل له، كقولهم: عيد وأعياد، فكما أن أعيادا لا تدل على أن عيدا من الياء، لكونه من عود الشيء، كذلك لا يدل أنبياء على أنه من النباوة، ولكن لمّا لزم البدل جعل بمنزلة تقيّ وأتقياء، وصفيّ وأصفياء ونحو ذلك، فلما لزم صار كالبريّة والخابية، ونحو ذلك مما لزم الهمز فيه حرف اللين بدلا من الهمزة. فما دل على أنه من الهمز قائم لم يعترض فيه شيء، فصار قول من حقّق الهمزة في النبيّ، كردّ الشيء إلى الأصل المرفوض استعماله
[الحجة للقراء السبعة: 2/90]
نحو: وذر، وودع، فمن ثمّ كان الأكثر فيه التخفيف. فإن قلت فقد قال سيبويه: بلغنا أن قوما من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون: نبيئا وبريئة. قال: وذلك رديء، وإنما استردأه لأن الغالب في استعماله التخفيف على وجه البدل من الهمز، وذلك الأصل كالمرفوض، فردؤ عنده ذلك لاستعمالهم فيه الأصل الذي قد تركه سائرهم، لا لأن النبيء الهمز فيه غير الأصل، ولا لأنه يحتمل وجهين كما احتمل عضة وسنة.
ومن زعم أن البريّة من البرا الذي هو التراب كان غالطا، ألا ترى أنه لو كان كذلك لم يحقّق همزه من حقق من أهل الحجاز، فتحقيقهم لها يدل على أنها من برأ الله الخلق، كما أن تحقيق النبيء يدل على أنه من النبأ، وكما كان اتفاقهم على تنبأ يدل على أن اللام في الأصل همزة.
فالحجة لمن همز النبيء [حيث همز] أن يقول: هو أصل الكلمة، وليس مثل عيد، الذي قد ألزم البدل، ألا ترى أن ناسا من أهل الحجاز قد حققوا الهمزة في الكلام، ولم يبدلوها. كما فعل أكثرهم، فإذا كان الهمز أصل الكلمة وأتى به قوم في كلامهم على أصله لم يكن كماضي يدع، ونحوه مما رفض استعماله واطّرح.
فأما ما
روي في الحديث: «من أن بعضهم. قال: يا
[الحجة للقراء السبعة: 2/91]
نبيء الله! فقال: «لست بنبيء الله، ولكني نبيّ الله»
فأظنّ أن من أهل النقل من ضعّف إسناد الحديث. ومما يقوي تضعيفه أنّ من مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا خاتم النبآء لم يؤثر فيه إنكار عليه فيما علمنا، ولو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد، وأيضا فلم نعلم أنه عليه السّلام أنكر على الناس أن يتكلموا بلغاتهم.
ولمن أبدل ولم يحقّق أن يقول: مجيء الجمع في التنزيل على أنبياء يدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل، وإذا ألزم فيه البدل ضعف التحقيق. وقال الفرّاء في قراءة عبد الله النبية إلى (ال ن ب ي ي). قال الفراء: لا يخلو من أن يكون النبيّة مصدرا للنبإ، أو يكون النبيّة مصدرا نسبه إلى النبي عليه السلام.
[قال أبو علي]: والقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون من النباوة التي في قول ابن همام، أو يكون من النّبأ وقلبت الهمزة. أو يكون نسبا، فلا يكون من النباوة، فيكون
[الحجة للقراء السبعة: 2/92]
مثل مطيّة، لأنّ فيما حكاه سيبويه من أنهم كلّهم يقولون: تنبّأ مسيلمة، دلالة على أنه من الهمزة [فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه من الهمز] وجاز أن يكون ياء ألزمت البدل من الهمزة، وعلى ذلك قالوا: أنبياء، وجاز أن يكون من قول من حقّق، إلا أنه خفف فوافق لفظ التخفيف عن التحقيق لفظ من يرى القلب. وقد حكى سيبويه كما رأيت أن بعضهم يحقق النبيء، فإذا كان نسبا أمكن أن يكون إلى قول من حقق، وإلى قول من خفّف، وأمكن أن يكون إلى قول من أبدل. فلا يجوز أن يكون على قول من حقّق ثم خفّف لأنه لو كان كذلك لكان:
النبئيّة، لأنه نسب إلى فعيلة، فرددت الهمزة لمّا حذفت الياء التي كنت قلبت الهمزة في التخفيف من أجلها، فلما لم يردّ، وقال النبيّة، علمت أن النسب إليه على قول من قلب الهمزة ياء، وهم الذين قالوا: أنبياء، فحذفت الياءين لياءي النسب، فبقيت الكلمة على فعيّة. هذا على قياس قولهم: عبد بيّن العبديّة، وقد حكاه الفرّاء.
وأما تخفيف نافع: النبيّ في الموضعين اللذين خفف فيهما في رواية المسيّبي وقالون، فالقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون ممن يحقّق الهمزتين أو يخفّف إحداهما، فإن حقّق الهمزتين جاز أن يجعل الثانية بين بين، لأن الهمزة إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/93]
كانت بين بين كانت في حكم التحقيق، فتقول: (للنّبيء إن)، وإن لم يحقّق الهمزتين قلب الثانية منهما ياء قلبا فقال: (للنّبيء ين) كما قلبوا في: (أيمّة)، وكما قلبوا في: جاء وشاء ويجعل المنفصل بمنزلة المتصل في أيمّة وجاء.
ووجه رواية قالون، والمسيّبيّ: أنه إذا خفّف الهمزة من النبيء لم يجتمع همزتان، فإن شاء حقق الهمزة المكسورة من (إلّا) ومن (إن) وإن آثر التخفيف جعلهما بين
الياء والهمزة). [الحجة للقراء السبعة: 2/94]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن وثاب والأشهب: [وَقُثَّائِهَا].
قال أبو الفتح: بالضم في القُثاء حسن الطريقة؛ وذلك أنه من النوابت، وقد كثر عنهم في هذه النوابت الفُعَّال كالزُّبَّاد والقُلَّام والعُلَّام والثُّقاء، ومن هاهنا كان أبو الحسن يقول في رمان: أنه فُعَّال؛ لأنه من النبات، وقد كثر فيه الفعال على ما مضى، وأما قياس مذهب سيبيويه: فأن يكون فُعلان بزيادة النون؛ لغلبة زيادة النون في هذه المواضع بعد الألف.
وله أيضًا وجه من القياس: أنه من معنى رَمَتْتُ الشيء: غذا جمعت أجزاءَه، وهذه حال الرمان، وقد جاء بهذا الموضع نفسه بعض المولدين فقال:
ما يُحسِن الرُّمان يجمع نفسه ... في قِشِره إلا كما نحن
[المحتسب: 1/87]
ويدل على أنه من معنى الاجتماع والتضام تسميتهم لرمان البر: الْمَظَّ؛ وذلك لقوة اجتماعه، واتصال أجزائه، فهو من معنى المماظَّة المعازَّة، وهو إلى الشدة، ويدل على صحة مذهب سيبويه في أن الألف والنون إذا جاءتا بعد المضاعف كانتا بحالهما وهما بعد غير المضاعف، ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا وردوا عليه فقال لهم: "مَن أنتم؟ " فقالوا: بنو غيَّان، فقال عليه السلام: "بل أنتم بنو رَشْدان"، أفلا تراه كيف اشتق الاسم من الغي والغَوَاية حتى حكم بزيادة النون؛ لأنه قابله بضده وهو قوله: "رشدان"، وترك أن يشتقه من الغَيْن، وهو إلباس الغيم؟ ألا ترى إلى قوله:
كأني بَيْنَ خافِيتى عُقاب ... أصاب حَمامة في يوم غَيْن
فصار "غَيَّان" عنده مع التضعيف الذي فيه بمنزلة ما لا تضعيف فيه من نحو: مَرْجان وسَعْدان، فكما يحكم بزيادة النون في مثل هذا من غير التضعيف، كذلك حكم بزيادتها مع التضعيف). [المحتسب: 1/88]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس: [وثُومِها] بالثاء.
قال أبو الفتح: يقال: الثُّوم والفُوم بمعنى واحد؛ كقولهم: جدث وجدف، وقام زيد ثم عمرو، ويقال أيضًا: فم عمرو؛ فالفاء بدل فيهما جميعًا؛ ألا ترى إلى سَعَة تصرف الثاء في جدث، لقولهم: أجداث، ولم يقولوا: أجداف، وإلى كثرة ثُمَّ وقلة فُمَّ؟ ويقال: الفوم: الحنطة، قال:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... وَرَد المدينة عن زراعة فُوم
أي: حنطة). [المحتسب: 1/88]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة زهير الفُرقُبي: [الذي هو أَدْنَأ] بالهمز.
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد
[المحتسب: 1/88]
عن الرياشي عن أبي زيد قال: تقول: دَنُؤ الرجل يَدْنُؤ دناءَة، وقد دَنأ يدنأ إذا كان دنيئًا لا خير فيه، غير أن القراءة بترك الهمز: {أدنى}، وينبغي أن يكون من دنا يدنو؛ أي: قريب.
ومنه قولهم في المعنى: هذا شيء مقارب للشيء ليس بفاخر ولا موصوف في معناه، ومن هذه المادة قولهم: هذا شيء دونٌ؛ أي: ليس بذاك، وقولهم: هذا دونك، فينتصب هذا على الظرف؛ أي: هو في المحل الأقرب، وينبغي أن يكون "دون" من قولك: هذا رجل دون، وصفًا على فُعْل كحُلْو ومُر، ورجل جُدٍّ؛ أي: ذي جَدٍّ.
وقد يجوز أن يكون في الأصل ظرفًا ثم وصف به، ويُؤنِّسُ هذا المذهب الثاني أنَّا لا نعرف فعلًا تصرف من هذا اللفظ كدان يدون ولا نحوه، ولو كان في الأصل وصفًا لكان حرى أن يستعملوا منه فِعلا؛ كقولهم: قد حلا يحلو، ومن يَمَرُّ وأَمَرَّ يُمِرُّ، وقد جَدِدْتَ يا رجل. قال الكميت:
وجدت الناس غير ابني نزار ... ولم أذمهم شرطًا ودُونَا). [المحتسب: 1/89]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: [ما سِأَلْتم] بكسر السين.
قال أبو الفتح: فيه نظر؛ وذلك أن هذه الكسرة إنما تكون في أول ما عينه معتلة كبِعت وخِفت، أو في أول فُعِل إذا كانت عينه معتلة أيضًا كقِيل وبِيع وحِلَّ وبِلَّ؛ أي: حُلَّ وبُلَّ، وصِعْق الرجل نحوه، إلا أنه لا تكسر الفاء في هذا الباب إلا والعين ساكنة أو مكسورة كنعم وبئس وصِعْق، فأما أن تكسر الفاء والعين مفتوحة في الفعل فلا.
فإذا كان كذلك فقراءتهما [سِأَلْتم] مكسورة السين مهموزة غريب، والصنعة في ذلك: أن في سأل لغتين: سِلْتَ تَسَال كخِفْتَ تَخَاف، وسأَلْتَ تَسْأَل كسَبَحَتَ تَسْبَح، فإذا أَسندت الفعل إلى نفسك قلت على لغة الواو: سِلْتُ كخِفْتُ، وهي من الواو؛ لما حكاه أصحابنا من قولهم: هما يتساولان.
ومن همز قال: سألت، فأما قراءته: [سِأَلْتم]، فعلى أنه كسر الفاء على قول مَن قال: [سِلْتُم] كخِفْتُم، ثم تنبه بعد ذلك للهمزة، فهمز العين بعدما سبق الكسر في الفاء فقال: [سِأَلْتم]؛ فصار ذلك من تركيب اللغة.
[المحتسب: 1/89]
ومثله ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قول بلال بن جرير:
إذا جِئْتَهم أو سآيلْتَهُم ... وجدتَ بِهِمْ علَّة حاضِرَه
وذلك أنه أراد فاعلتهم ساءلتهم.
ومن العادة أيضًا أن تُقلب الهمزة في هذا الثاني، فيقال: سايلت زيدًا، ثم إنه أراد الجمع بين العوض والمعوض منه، فلم يمكنه أن يجمع بينهما في موضع واحد كالعرف في ذلك؛ لأنه لا يكون حرفان واقعين في موضع واحد عينين كان أو غيرهما، فأجاءه الوزن إلى تقديم الهمزة التي هي العين قبل ألف فاعلت، ثم جاء بالياء التي هي بدل منها بعدها؛ فصار سآيلتهم.
فإن قيل ما مثال: سآيلتهم؟
قلت: هو فعاعلتهم؛ وذلك لأن الياء بدل من الهمزة التي هي عين، والبدل من الشيء يوزن بميزانه، ألا ترى أن من اعتقد في ياء أَيْنُق أنها عين أبدلت قال هي أَعْفُل؛ لأن الياء بدل من الواو التي هي عين نُوق، فالياء إذن عين في موضع العين، كما كانت الواو لو ظهرت في موضع العين، كما أن ياء ريح وعيد في المثال عين فِعْل، كما كانت الواو التي الياء بدل منها عين فعل في رِوْح وعِوْد، وهذا واضح.
وكذلك قوله أيضًا: [سِأَلْتم] بكسر الفاء على حد كسرها في سِلتم، ثم استذكر الهمزة في اللغة الأخرى فقال: سِأَلْتم، ويجوز أيضًا أن يكون أراد سَأَلْتم، فأبدل العين ياء كما أبدلها الآخر في قوله:
سالَتْ هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصِبِ
فصار تقديره على هذا إلى سِلْتُم من الوجه؛ أي: من طريق البدل، لا على لغة مَن قال: هما يتساولان، فلما كسر السين استذكر الهمزة فراجعه هنا، كما راجعه في القول الأول.
[المحتسب: 1/90]
وقد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا في أن صاحب اللغة قد يعتبر لغة غيره ويراعيها؛ فأغنى عن إعادته هنا). [المحتسب: 1/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ويقتلون النّبيين بغير الحق}
قرأ نافع (ويقتلون النبيئين) بالهمز من أنبأ أي أخبر عن الله كما قال جلّ وعز من أنبأك هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبئ أي يخبر عن الله وهو فعيل من أنبأ وإنّما كان الاسم منه منئ ولكنه صرف عن مفعل إلى فعيل
[حجة القراءات: 98]
وحجته في أن النبئ مهموز قول عبّاس بن مرداس في مدحه نبي الله صلى الله عليه وسلم:
يا خاتم النباء إنّك مرسل ... بالحقّ خير هدى السّبيل هداكا
فقال يا خاتم النباء فجمعه على فعلاء لأن الواحد مهموز فقد صحّ على أن أصله الهمز وأنه من باب الصّحيح لا من باب المعتل لأن الصّحيح كذا يجمع كما تجمع النعوت الّتي على فعيل من غير ذوات الياء والواو مثل الشّريك والشركاء والحكيم والحكماء والعليم والعلماء ولو كان النّبي غير مهموز لم يجمع على فعلاء لأن النعوت الّتي تكون على فعيل من ذوات الياء والواو إنّما تجمع على أفعلاء كفعلهم ذلك في ولي ووصي ودعي إذا جمع يجمع أولياء وأوصياء وأدعياء ولا يجمع على فعلاء
وقرأ الباقون النّبيين بغير همز من نبانبو إذا ارتفع فيكون فعيلا من الرّفعة والنبوة الارتفاع وإنّما قيل للنّبي نبي لارتفاع منزلته وشرفه تشبيها له بالمكان المرتفع على ما حوله وحجتهم في ذلك أن كل ما في القرآن من جميع ذلك على أفعلاء نحو أنبياء الله وفي ذلك الحجّة الواضحة على أن الواحد منه بغير همز كما جمع ولي وأولياء ووصي وأوصياء ولو كان في التّوحيد مهموزا لكان الجمع منه فعلاء وحجّة أخرى روي أن رجلا قال للنّبي صلى الله عليه وسلم يا نبيء الله قال
لست بنيء الله ولكنّي
[حجة القراءات: 99]
نبي الله قال أبو عبيد كأنّه كره الهمز). [حجة القراءات: 100]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (36- قوله: «النبي، والنبوة، والأنبياء، والنبيين» قرأه نافع وحده
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/243]
بالهمز، وقرأ الباقون بغير همز إلا في موضعين في سورة الأحزاب، فإن قالون لا يهمزهما ويشدد الياء على أصله في الهمزتين المكسورتين، وتسهيله للأولى منها، فهذه همزة قبلها ياء زائدة، زيدت للم، فحكمها أن تبدل منها ياء، وتدغم فيها الياء الزائدة التي قبلها، على الأصول المتقدمة في تخفيف الهمزة.
37- وحجة من همز أنه أتى به على الأصل، لأنه من النبأ الذي هو الخبر؛ لأن النبي مخير عن الله جل ذكره، فهي تبنى على «فعيل» بمعنى «فاعل» أي: منبئ عن الله، أي مخبر عنه بالوحي الذي يأتيه من الله، فأصله بالهمز، فأتى به على أصله، ومعناه من الله، قال سيبويه: وكلٌ يقول تنبأ مسيلمة فيهمزون، وأجمعوا على الهمزة في «النبآء» جمع «نبيء»، فدل ذلك على أنه من «النباء»، وليس من النباوة، التي هي الرفعة، وأيضًا فإن وقوع اسم الأخبار عن الرسول أولى من وقوع اسم الرفعة؛ لأنه للإخبار عن الله أرسل، فأما من ترك همزة فإنه أجراه على التخفيف، لكثرة دوره واستعماله، فأبدل من الهمزة حرفًا من جنس ما قبلها، وأدغم ما قبلها في البدل، فقال: «النبي، والنبوة» ولما أتى الجمع المكسر، ولم يكن قبل الهمزة حرف زائد، وجب أن يجري على الأصول في التخفيف، فأبدل منها ياء مفتوحة؛ لانكسار ما قبلها، وذلك «الأنبياء» فهو مثل قوله: «من الشهادايِن تضل» في قراءة الحرميين
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/244]
وأبي عمرو، فأما الهمزة الثانية التي بعد الألف فهي همزة ثابتة، بدل من ياء «فعيل» كـ «صديق وأصدقاء» فلا اختلاف في همزة إلا لحمزة وهشام فإنها إذا وقفا يبدلان من الهمزة ألفًا، لأنهما يقفان بالسكون، ثم يحذفان إحدى الألفين لاجتماعهما، على ما قدمنا من الاختلاف في ذلك، وتمد إن قدرت الألف الثانية هي المحذوفة، ولا تمد إن قدرت الأولى هي المحذوفة، وكان الأصل أن يجعلاها في التخفيف بين الهمزة والواو، في حال روم الحركة، إذا كانت الهمزة مضمومة، وبين الهمزة والياء إذا كانت الهمزة مكسورة، لكن يؤدي ذلك إلى مخالفة الخط، فيرجع إلى السكون والبدل، وقد بينا هذا فيما تقدم، وزدناه بيانًا في هذا الموضع، فأما إذا كانت الهمزة مفتوحة فبالإسكان تقفن ثم تبدل من الهمزة ألفًا، على ما ذكرنا، لأن الفتح خفيف، فترك الروم فيه القراء. ترك الهمز، في هذا الباب كله، أحب إلي لأنه أخف، ولإجماع القراء عليه، ولما روي عن النبي عليه السلام من كراهة همز «النبي»، وهو اختيار أبي عبيد، ويجوز أن يكون من لم يهمز جعله من «النباوة» وهي الارتفاع فيون لا أصل له في الهمز). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (23- {النَّبِيِّينَ} [آية/ 61]:-
بالمد والهمز، قرأها نافع وحده، وكذلك همز: الأنبياء، والنبوة، والنبي، إلا في موضعين من الأحزاب: {للنَبِيِّ إِنْ} و{بُيُوتَ النَبِيِّ إِلاّ} في رواية ن- و- يل-.
[الموضح: 278]
ووجه الهمز هو أن {النبيء} فعيل من النبأ وهو الخبر، ومعناه: المخبر عن الله تعالى، فهو فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، فالهمز إذن أصل الكلمة، وليست هذه الكلمة مما ألزم فيه البدل كعيد وأعياد، إلا أن بعض العرب قد خفف فيها الهمزة، والمخفف في حكم المحقق.
وقد جاء جمع نبي على نبئاء على وزن فعلاء، قال:-
9- يا خاتم النبئاء إنك مرسل = بالخير كل هدى السبيل هداكا
فمجيء جمعه على فعلاء يدل على أن الكلمة مهموزة؛ لأن ما كان من الصحيح على فعيل فجمعه في الأغلب على فعلاء، وهمز النبئاء ظاهر.
وقد جاء فعيل في الصحيح على أفعلاء وإن كان قليلاً نحو نصيب وأنصباء.
وقرأ الباقون {النبِيِّينَ} ونحوه بغير همز.
لأن جمع النبي قد جاء في القرآن على أنبياء، كصفي وأصفياء وتقي وأتقياء، فمجيء جمعه على هذا المثال يدل على أنه قد ألزم فيه البدل، حتى صار كأن آخره ياء؛ لأن هذا المثال إنما يأتي غالبًا في جمع المعتل.
وقد قيل في النبي بغير همز أنه مشتق من النباوة وهي المرتفع من الأرض.
وأما رواية ن- و- يل- عن نافع في الأحزاب من ترك همز {للنّبِيِّ إِنْ}
[الموضح: 279]
و {بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا} فلأنهما ذهبا في الهمزتين المكسورتين إذا التقيا إلى تخفيف الأولى منهما وتحقيق الثانية. وتخفيف الهمزة ههنا هو أن تقلب حرفًا من جنس الذي قبلها وهو الياء، ثم يدغم الياء في الياء، ولا تجعل الهمزة بين بين؛ لأن في ذلك تقريبًا لها من الساكن ولا يجوز ذلك؛ لأن ما قبلها ساكن، ولا يجوز أيضًا حذفها بعد نقل حركتها إلى ما قبلها؛ لأن ما قبلها مدة زائدة، ولا يجوز نقل حركة الهمزة إلى حرف زائدٍ). [الموضح: 280]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:28 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (62) إلى الآية (64) ]

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (الصّابئين)
قرأ نافع وحده (الصابين " و(الصابون) - بغير همز - في كل القرآن.
وهمز الباقون (الصّابئين).
والهمز فيها هي اللغة الجيدة، ومن قولك: صبأ فلان يصبأ: إذا خرج من دين إلى دين.
وصبأ نابه، أي: خرجت، وصبأت النجوم: إذا طلعت كل ذلك مهموز.
ومن قرأ بغير الهمز ففيه قولان:
أحدهما: أنه من صبا يصبو؟ إذا مال إلى هواه.
والقول الآخر: أنه على تخفيف الهمز على لغة من يخففها.
والقراءة المختارة أن يهمز الباب لاتفاق أكثر القراء). [معاني القراءات وعللها: 1/155]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الصّابئين [البقرة/ 62]، والصّابئون [المائدة/ 69]. في الهمز وتركه فقرأ نافع: الصابين والصابون في كلّ القرآن بغير همز، ولا خلف للهمز، وهمز ذلك كلّه الباقون.
[قال أبو علي]: قال أبو زيد: صبأ الرجل في دينه، يصبأ صبوءا: إذا كان صابئا. وصبأ ناب الصبي يصبأ صبأ: إذا طلع.
وقال أبو زيد: صبأت عليهم، تصبأ، صبأ، وصبوءا: إذا طلعت عليهم، وطرأت على القوم أطرأ طرءا وطروءا مثله.
فكأنّ معنى الصابئ: التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه، ومنتقل إلى سواها والدّين الذي فارقوه، هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها، ومن ثمّ خوطب المسلمون بقوله:... ولا تكونوا من المشركين من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/94]
[الروم/ 31 - 32] فالدّين الذي فارقه المشركون هو: التوحيد الذي نصب لهم عليه أدلّته، لأنّ المشركين لم يكونوا أهل كتاب، ولا متمسكين بشريعة، فهم في تركهم ما نصب لهم الدليل عليه، كالصابئين في صبوئهم إلى ما صبئوا إليه. ومثل قوله: فارقوا دينهم قوله كذلك زيّنّا لكلّ أمّةٍ عملهم [الأنعام/ 108] أي: عملهم الذي فرض عليهم ودعوا إليه، وكذلك قوله: وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم [الأنعام/ 137] أي:
دينهم الذي دعوا إليه، وشرع لهم، ألا ترى أنهم لا يلبسون عليهم التّديّن بالإشراك، وإنما سمّي شريعة الإسلام دينهم، وإن لم يجيبوا إليه ولم يأخذوا به، لأنهم قد شرع لهم ذلك ودعوا إليه، فلهذا الالتباس الذي لهم به جاز أن يضاف إليهم، كما أضاف الشاعر الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن لم يكن ملكا له في قوله:
إذا قال قدني قلت بالله حلفة... لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا
وهذا النحو من الإضافة كثير، فالمعنى: على أن لام الكلمة همزة، فالقراءة بالهمز هو الوجه الذي عليه المعنى.
فأما من قال: الصابون فلم يهمز، فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يجعله من صبا، يصبو، وقول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/95]
صبوت أبا ذيب وأنت كبير أو تجعله على قلب الهمزة فلا يسهل أن تأخذ، من صبا إلى كذا، لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين فلا يكون منه تديّن به مع صبوّه إليه، فإذا بعد هذا، وكان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه، ومتدينين به، لم يستقم أن يكون إلّا من صبأ الذي معناه: انتقال من دينهم الذي شرع لهم إلى آخر لم يشرع لهم، فيكون الصابون إذا: على قلب الهمزة، وقلب الهمز على هذا الحدّ لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، ويجيزه غيره، فهو على قول من أجاز ذلك، وممن أجازه أبو زيد، وحكي عن أبي زيد قال: قلت لسيبويه:
سمعت: قريت، وأخطيت قال: فكيف تقول في المضارع؟
قلت: أقرأ، قال: فقال: حسبك. أو نحو هذا، يريد سيبويه: أنّ قريت مع أقرأ، لا ينبغي، لأن أقرأ على الهمز وقريت على القلب. فلا يجوز أن يغيّر بعض الأمثلة دون بعض، فدلّ ذلك على أن القائل لذلك غير فصيح، وأنه مخلّط في لغته.
الإعراب:
من حقق الهمزة فقال: الصابئون، مثل: الصابعون، ومن خفّفها جعلها في قول سيبويه، والخليل: بين بين، وزعم
[الحجة للقراء السبعة: 2/96]
سيبويه أنه قول العرب، والخليل. وفي قول أبي الحسن:
يقلبها ياء قلبا، وقد تقدم ذكر ذلك في هذا الكتاب. ومن قلب الهمزة التي هي لام ياء، فقال: الصابون. نقل الضمة التي كانت تلزم أن تكون على اللام إلى العين فسكنت الياء فحذفها لالتقاء الساكنين هي وواو الجمع، وحذف كسرة عين فاعل، فحرّكها بالضمة المنقولة إليها، كما أن من قال: خفت، وحبّ بها، وحسن ذا أدبا، فنقل الحركة من العين إلى الفاء حذف الحركة التي كانت للفاء في الأصل، وحرّكها بالحركة المنقولة كما حرّك العين من فاعل بالحركة المنقولة، وقياس نقل الحركة التي هي ضمة إلى العين أن تحذف كسرة عين فاعل، وتنقل إليها الكسرة التي كانت تكون للّام، ألا ترى أن الضمة منقولة إليها بلا إشكال، وإن شئت قلت لا أنقل حركة اللام التي هي الكسرة كما نقلت حركتها التي هي الضمة، لأني لو لم أنقل الحركة التي هي الضمة، وقررت الكسرة، لم يصحّ واو الجميع، فليس الكسرة مع الياء كالكسرة مع الواو، فإذا كان كذلك أبقيت الحركة التي كانت تستحقّها اللام فلم أنقلها، كما أبقيت حركة المدغم، ولم أنقلها في قول من قال: يهدي فحرّك الهاء بالكسر لالتقاء الساكنين، ولم ينقلها كما نقل من قال: يهدي، [يونس/ 35].
ومثل ذلك في أنّك تنقل الحركة مرة ولا تنقل أخرى قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/97]
وحبّ بها مقتولة وحبّ بها مقتولة! وحسن ذا أدبا، وحسن ذا أدبا، ونحو ذلك.
فإن قلت: فلم لا تنقل الحركة التي تستحقّها اللام إذا انقلبت ألفا نحو: المصطفى والمعلّى إلى ما قبلها، كما نقلت حركة الياء في نحو قولك: فأولئك هم العادون [المعارج/ 31] فجاء: وأنتم الأعلون [آل عمران/ 139] وهم المصطفون، مفتوحا ما قبل الواو منه، وهلّا نقلت الحركة كما نقلت في نحو: هم العادون [المعارج/ 31]، فالقول في ذلك أنّ المحذوف لالتقاء الساكنين في حكم الثابت في اللفظ، كما كان المحرّك لالتقائهما في حكم السكون، يدلك على ذلك نحو: رمت المرأة، واردد ابنك، فإذا كان كذلك، كان الألف في الأعلون، في حكم الثبات، وإذا كان في حكمه لم يصحّ تقدير نقل الحركة منها، لأنّ ثبات الألف
[الحجة للقراء السبعة: 2/98]
ألفا في تقدير الحركة فيها. وإذا كان في تقديرها، لم يجز نقلها، لأنه يلزم منه تقدير ثبات حركة واحدة في موضعين، وليس كذلك الياء لأنها قد تنفصل عن الحركة، وتحرّك بالضمة والكسرة في نحو:
ألم يأتيك والأنباء..
و: غير ماضي فإن قال: فهلّا إذا كان الأمر على ما وصفت لم يجز أن يجمع ما كان آخره ألف التأنيث، نحو: حبلى، إذا سمّيت به رجلا أن تقول في جمعه: حبلون، لأنه
يلزم من ذلك اجتماع علامة التذكير والتأنيث في اسم، فيلزم أن يمتنع كما امتنع أن يجمع طلحة بالواو والنون- اسم رجل- في قول العرب والنحويين، إذا أثبتّ التاء فيه لاجتماع علامة تأنيث وتذكير في اسم واحد.
فالقول في ذلك أن الألف في حبلى اسم رجل، إذا قلت: حبلون، إنما جاز لأنك إذا سميت به لا تريد به معنى التأنيث، كما أردت به ذلك قبل التسمية، فجاز لأنك تخلع منها علامة التأنيث، فتجعل الألف لغيره، ألا ترى أن في كلامهم ألفا ليست للتأنيث، ولا للإلحاق ولا هي منقلبة نحو: قبعثرى،
[الحجة للقراء السبعة: 2/99]
ونحو: ما حكاه سيبويه: من أن بعضهم يقول: بهماه، فإذا قدّرت خلع علامة التأنيث منها جاء جمع الكلمة بالواو والنون، كما أنك لما قلبتها ياء جاز جمعها بالألف والتاء نحو: حبليات وحباريات، فخلع علامة التأنيث منها في التسمية بما هي فيه كقلبها إلى ما قلبت إليه في حبليات، وصحراوات، وخضراوات). [الحجة للقراء السبعة: 2/100]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي السَّمَّال، رواها أبو زيد فيما رواه ابن مجاهد: [وَالَّذِينَ هَادَوْا] بفتح الدال.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون فاعَلوا من الهداية؛ أي: رامُوا أن يكون أهدى من غيرهم، كقولك: رامَوْا من رميت، وقاضَوْا من قضيت، وساعَوْا من سعيت، فيقول في مصدر هادَوا: مهاداة؛ كقاضوا مقاضاة، وساعوا مساعاة، وقد هودِي الرجل يُهَادى مهاداة، إذا كان حوله من يمسكه ويهديه الطريق، ومنه قولهم في الحديث: "مر بنا يهادى بين اثنين"، ومنه قوله:
من أن يرى تهديه فتـ ... يان المقامة بالعشيه). [المحتسب: 1/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إن الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصّابئين من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ نافع والصابين والصابون بغير همز من صبا يصبو أي مال إلى دينه وحجته قوله تعالى وإلّا تصرف عني كيدهن أصب إليهنّ أي أمل إليهنّ ومنه سمي الصّبي صبيا لأن قلبه يصبو إلى كل لعب لفراغ قلبه
وقرأ الباقون الصابئين بالهمز أي الخارجين من دين إلى دين يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه يصبأ ويقال صبأت النّجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج). [حجة القراءات: 100]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (38- قوله: «والصابئين، والصابئون» قرأه نافع بغير همز، وهمزه الباقون.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/245]
39- فمن همز جعله من «صبا الرجل في دينه» إذا خرج منه وتركه، ومنه قولهم: صبأ ناب الصبي، إذا طلع، وصبأت النجوم إذا ظهرت، والصابئ التارك لدينه الخارج منه، فلام الفعل همزة، فكذلك يجب أن تكون في الصابئين.
40- فأما من لم يهمز فهو على أحد وجهين، إما أن يكون خفف الهمزة على البدل، فأبدل منه ياء مضمومة، أو واوًا مضمومة، في الرفع، فلما انضمت الياء إلى الواو ألقى الحركة على الياء استثقالًا للضم على حرف علة، فاجتمع حرفان ساكنان، فحذف الأول لالتقاء الساكنين، وهذا الحذف والاعتلال كالحذف والاعتلال في «العاصين والعاصون» فقسه عليه، وكذلك أبدل منه ياء في النصب مكسورة، ثم حذف الكسرة لاجتماع ياءين الأولى مكسورة، فاجتمع له ياءان ساكنتان، فحذف احداهما لالتقاء الساكنين، فقال: «الصابين» والبدل في مثل هذا للهمزة في التخفيف، مذهب الأخفش وابي زيد، فأما سيبويه فلا يجيز البدل في المتحركة ألبتة، إلا إذا كانت مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة، وقد ذكرنا ذلك وبيناه، فإن وقع في شعر أجازه سيبويه.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/246]
والوجه الثاني أن يكون من «صبا، يصبو» إذا فعل ما لا يجب له فعله، كما يفعل الصبي، فيكون في الاعتلال، قد حذف لامه في الجمع، وهي واو مضمومة في الرفع، وواو مكسورة في الخفض والنصب، فجرى الاعتلال على إلقاء حركة الواو على الياء، وحذف الواو الأولى لسكونها وسكون واو الجمع أو يائه بعدها، فهي في الاعتلال مثل اعتلال قولك: رأيت الغازين، وهؤلاء الغازون، فقسه عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/247]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (24- {الصَّابِئِينَ} [آية/ 62] و{الصَابِئُون} بالهمز فيهما حيثما وقعا:-
اتفق عليه القراء كلهم إلا نافعًا وحده فإنه قرأ: {الصَابِينَ} و{الصَابُونَ} بلا همز.
ووجه قراءة الجماعة أن الكلمة من صبأ الرجل في دينه إذا ترك دينه وانتقل إلى دين آخر، وأصل ذلك من قولهم: صبأ ناب البعير إذا طلع، وصبأت على القوم إذا طلعت عليهم؛ لأن الصابئ ينتقل من عبادة الله إلى عبادة النجوم، كما أن الصابئ على القوم ينتقل من أرض إلى أرضٍ أخرى، فالوجه على هذا هو القراءة بالهمز؛ لما أريتك من كون الهمزة لام الكلمة.
ووجه قراءة نافع هو أن الكلمة وإن كانت من الهمزة على ما سبق فإنه قلب منها الهمزة قلبًا، وقلب الهمزة وإن كان لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، فإن أبا زيدٍ يجيزه، على أنه أيضًا لا يجعله لغة جيدة.
[الموضح: 280]
فإذا قلب الهمزة على مذهب أبي زيد قال في صبأت: صبيت، كما قال في قرأت: قريت، وفاعله على هذا صاب كقاضٍ، والجمع الصابون مثل القاضون، وفي الجر والنصب الصابين مثل القاضين سواء.
وإن جعل نافع الكلمة مأخوذةً من صبا إلى الشيء يصبو إذا مال إليه لم يستقم المعنى؛ لأنه ليس كل من يصبو إلى دين كان متدينًا به). [الموضح: 281]

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}

قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:29 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (65) إلى الآية (66) ]

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}

قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}



روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:31 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (67) إلى الآية (74) ]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}


قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أتتّخذنا هزوًا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (هزؤًا)، و(كفؤًا) بالهمز والتخفيف، واختلف عن نافع وعاصم، وأما
[معاني القراءات وعللها: 1/155]
حمزة فإنه قرأ (كفؤا) " و(هزؤا)، وهما لغتان جيدتان، فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/156]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: أتتخذنا هزؤا [البقرة/ 67] في الهمز وتركه، والتخفيف والتثقيل، وكذلك جزا وكفواً [الإخلاص/ 4].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ: هزواً، وكفواً بضمّ الفاء والزّاي والهمز، وجزا بإسكان الزاي والهمز.
وروى القصبيّ عن عبد الوارث عن أبي عمرو، واليزيديّ أيضا عن أبي عمرو: أنه خفّف «جزا» وثقل «هزواً، وكفواً».
وروى عليّ بن نصر وعباس بن الفضل عنه أنه خفّف «جزءا وكف ءا».
[الحجة للقراء السبعة: 2/100]
وروى محبوب عنه «كف ءا» خفيفا.
وروى أبو زيد وعبد الوارث في رواية أبي معمر أنه خيّر بين التّثقيل والتّخفيف.
وروى الأصمعيّ أنّه خفّف «هزءا وجزءا». وقرأهنّ حمزة ثلاثهنّ بالهمز أيضا. غير أنه كان يسكّن الزّاي من قوله «هزءا»، والفاء من قوله: «كف ءا» والزّاي من «جزء»، وإذا وقف قال: «هزوا» بلا همز، ويسكّن الزاي والفاء، ويثبت الواو بعد الزّاي وبعد الفاء، ولا يهمز، ووقف على قوله: «جزّا» بفتح الزّاي من غير همز، حكى ذلك أبو هشام عن سليم عن حمزة يرجع في الوقف إلى الكتاب.
واختلف عن عاصم، فروى يحيى عن أبي بكر عنه:
«جزؤا وهزؤا وكفؤا» مثقّلات مهموزات. وروى حفص:
أنه لم يهمز «هزوا ولا كفوا» ويثقّلهما، وأثبت الواو وهمز «جزءا» وخفّفها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/101]
[حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال]: حدثني وهيب بن عبد الله، عن الحسن بن المبارك، عن عمرو بن الصّباح، عن حفص، عن عاصم: «هزوا وكفوا» يثقّل ولا يهمز. ويقرأ «جزءا» مقطوعا بلا واو، يهمز ويخفّف. وكذلك قال هبيرة عن حفص عن عاصم «جزءا» خفيف مهموز. وحدّثني وهيب بن عبد الله المروذيّ قال: حدّثنا الحسن بن المبارك قال: قال أبو حفص: وحدّثني سهل أبو عمرو عن أبي عمر عن عاصم أنه كان يقرأ: «هزؤا وكفوا» يثقّل، فربما همز، وربّما لم يهمز. قال: وكان أكثر قراءته ترك الهمز.
حدّثني محمد بن سعد العوفيّ عن أبيه، عن حفص عن عاصم أنه لا ينقص، نحو «هزؤا وكفؤا» ويقول: أكره أن تذهب عني عشر حسنات بحرف أدعه إذا همزته. وذكر عاصم أن أبا عبد الرحمن السلميّ كان يقول ذلك، وروى حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم «هزوا وكفوا» بواو ولم يذكر الهمز.
[الحجة للقراء السبعة: 2/102]
وروى المفضّل عن عاصم «هزءا» مهموزا ساكنة الزاي في كل القرآن.
واختلفوا عن نافع في ذلك، فروى ابن جمّاز وورش وخلف بن هشام عن المسيّبي وأحمد بن صالح المصري عن قالون: أنه ثقّل «هزؤا وكفؤا» وهمزهما [وخفف جزءا وهمزها] وكذلك قال يعقوب بن حفص عنه.
وقال إسماعيل بن جعفر عن نافع وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع «هزءا وجزءا وكف ءا» مخففات مهموزات.
وأخبرني محمد بن الفرج، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن نافع، وحدثنا القاضي عن قالون، عن نافع: أنه ثقّل (هزؤا) وهمزها، وخفّف (جزءا وكفؤا) وهمزهما.
وقال الحلوانيّ عن قالون: أنّه ثقّل (كفؤا) أيضا.
حدثني أبو سعيد البصريّ الحارثيّ عن الأصمعيّ عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/103]
نافع أنه قرأ: «هزؤا» مثقّلة مهموزة.
وروى أبو قرّة عن نافع: هزءا خفيفة مهموزة. ولم يذكر غير هذا الحرف.
قال أبو زيد: هزئت هزءا ومهزأة. وقال: [أبو علي:
قوله تعالى] أتتّخذنا هزواً فلا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا، لأن (الهزء) حدث، والمفعول الثاني في هذا الفعل يكون الأول، قال: لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء [الممتحنة/ 1] أو يكون: جعل الهزء المهزوء به مثل: الخلق، والصيد في قوله: أحلّ لكم صيد البحر [المائدة/ 96] ونحوه.
فأما قوله: لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً [المائدة/ 57]. فلا تحتاج فيه إلى تقدير محذوف مضاف كما احتجت في الآية الأخرى، لأن الدّين ليس بعين.
وقول موسى عليه السلام: أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين [البقرة/ 67]
[الحجة للقراء السبعة: 2/104]
في جواب: أتتخذنا هزؤا يدلّ على أن الهازئ جاهل.
قال أبو الحسن: زعم عيسى أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقّله ومنهم من يخفّفه، نحو: العسر واليسر والحكم والرّحم، فممّا يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع، مثل: كتاب، وكتب، ورسول ورسل، قد استمرّ فيه الوجهان، فقالوا: رسل، ورسل، حتى جاء ذلك في العين إذا كانت واوا نحو:
...... سوك الإسحل ونحو قوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور
[الحجة للقراء السبعة: 2/105]
وحكى أبو زيد: قوم قول. فأما فعل في جمع أفعل نحو: أحمر وحمر: فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين. وقد جاء فيه التحريك في الشعر، وإذا كان الأمر على هذا يجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو: الجزء، والكفء، والهزء. إلّا أنّ من ثقّل فقال: رأيت جزؤا، وكفؤا، فجاء به مثقّل العين محقّق الهمزة، فله أن يخفّف الهمزة، فإذا خفّفها وقد ضمّ العين لزم أن يقلبها واوا فيقول: رأيت جزوا، ولم يكن له كفواً أحدٌ [الإخلاص/ 4]. فإن خفّف كما يخفف الرحم فأسكن العين، قال: هزواً وجزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها، وإن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى، كما قالوا: لقضو الرجل، فأبقوا الواو ولم يردّوا اللام التي هي ياء من قضيت، لأن الضمة وإن كانت محذوفة من اللفظ مرادة في المعنى.
وكذلك قالوا: رضي زيد، فيمن قال: علم ذاك، فلم يردّوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة، لأنها مقدّرة مرادة، وإن كانت محذوفة من اللفظ. ومما يقوي أنّ هذه الحركة، وإن كانت محذوفة في اللفظ، مرادة في التقدير- رفضهم جمع كساء، وغطاء، ونحوه من المعتل اللام على فعل. ألا ترى أنّهم رفضوا جمعه على فعل لمّا كان في تقدير فعل، واقتصروا على أدنى العدد، نحو: أغطية وأكسية، وخباء وأخبية، فكذلك تقول: رأيت كفوا، فتثبت الواو وإن كنت قد حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/106]
فأما من أسكن فقال: (الجزء والكفء)، كما تقول:
اليسر، فتكلّم به مسكّن العين، وخفّف الهمزة على هذا، فإنّ تخفيف الهمزة في قوله: أن يحذفها ويلقي حركتها على الساكن الذي قبلها. فيقول: رأيت جزا، كما يقول: يخرج الخب في السماوات [النمل/ 25] فإذا وقف على هذا في القول الشائع، أبدل من التنوين الألف كما تقول: رأيت زيدا، فإذا وقف في الرفع والجرّ، حذف الألف كما يحذف من يد، وغد، فيهما. وعلى ما وصفنا تقول: لبؤة، فإذا خففت الهمزة قلت: لبوة، فإن أسكنت العين في من قال: عضد، وسبع، قلت: لبوة فلم تردّ الهمزة لتقدير الحركة،
وزعموا أنّ بعضهم قال: لباة، فهذا كأنّه كان: لبأة، ساكن العين ولم يقدّر فيها الحركة التي في لبؤة فخفّفها على قول من قال: «المراة والكماة» وليس هذا مما يقدح فيما حكاه عيسى. ألا ترى أنّهم قد قالوا: رضيوا، فجعلوا السكون الذي في تقدير الحركة بمنزلة السكون الذي لا تقدّر فيه الحركة، ولولا ذلك للزم حذف الياء التي هي لام كما لزم حذفها في قول من حرّك العين ولم يسكن.
فإذا كان الأمر في هذه الحروف على ما ذكرنا، فقراءة من قرأ بالضم وتحقيق الهمز في الجواز والحسن، كقراءة من
[الحجة للقراء السبعة: 2/107]
قرأ بالإسكان وقلب الهمزة واوا، لأنه تخفيف قياسيّ. ويجوز أن يأخذ الآخذ باللغتين جميعا كما روى أبو زيد عن أبي عمرو، أنه خيّر بين التخفيف والتثقيل. فأمّا قراءة حمزة للحروف الثلاثة بالإسكان والهمز فعلى قول من قال: اليسر والرّحم.
فأما اختياره في الوقف: هزواً بإسكان الزاي، وإثبات الواو بعدها، وبعد الفاء من كفو ورفضه الهمز في الوقف، فإنه ترك الهمز في الوقف هنا كما تركه في غير هذا الموضع ووجه تركه الهمز في الوقف أن الهمزة حرف قد غيّر في الوقف كثيرا. ألا ترى أنها لا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة، فإذا كانت ساكنة، لزمها بدل الألف إذا انفتح ما قبلها. وبدل الياء إذا انكسر ما قبلها، وبدل الواو إذا انضمّ ما قبلها في لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: لم أقرأ، تبدلها ألفا، ولم أهني تبدلها ياء، وهذه أكمو، تبدلها واوا.
فإذا كانت متحركة لزمها القلب في نحو: هذا الكلو، وبالكلي، ورأيت الكلا. فلما رأى هذه التغييرات تعتقب عليها في الوقف، غيّرها فيه. ألا ترى أن الهمزة الموقوف عليها لا تخلو من أن تكون في الوصل ساكنة أو متحركة، وقد تعاورها ما ذكرنا من التغيير في حال حركتها وسكونها، ألزمها التغيير في الوقف ولم يحقّقها فيه، لأن الوقف موضع يغيّر فيه الحروف التي لم تتغيّر تغيّر الهمزة فألزمها في الوقف التغيير، ولم يستعمل فيه التحقيق، لما رأى من حال الهمز في الوقف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/108]
فإن قلت: فإنه قد غيّر ذلك في الوقف وإن لم يكن الهمز آخر الحرف الموقوف عليه: نحو يستهزؤن [النحل/ 34].
قيل: إن الوقف قد يغيّر فيه الحرف الذي قبل الحرف الموقوف عليه نحو: النقر والرّحل، فصار لذلك بمنزلة الموقوف عليه في التغيير.
فإن قلت: إن الهمزة في يستهزؤن ليس على حدّ النّقر.
قيل: يجوز أن تكون النون لما كانت تسقط للجزم والنصب عنده لم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بأشياء كثيرة لا تلزم.
ويؤكد ذلك، أن النون إعراب وأنها بمنزلة الحركة من حيث كان إعرابا مثلها، فلم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بالحركة.
فاختياره في الدّرج التحقيق، وفي الوقف التخفيف، مذهب حسن متجه في القياس. فأمّا وقفه على قوله: جزا بفتح الزاي من غير همز، فعلى قياس قوله: كفوا وهزوا.
ألا ترى أن (الجزء)، من أسكن العين منه فقياسه في الوقف في النصب جزا إذا وقف على قوله: وجعلوا له من عباده جزا [الزخرف/ 15] فإن وقف في الجرّ والرّفع، أسكن الزّاي في اللغة الشائعة فقال: هذا جز، ومررت بجز، وإن كان ممّن يقول: هذا فرجّ، فثقّل، لزمه أن يثقّل الحرف
[الحجة للقراء السبعة: 2/109]
الذي ألقى عليه حركة الهمزة. فإذا عضد هذا القياس أن يكون الكتاب عليه، جمع إليه موافقة الكتاب، وإنما جاء الكتاب فيما نرى على هذا القياس. وكذلك قراءة عاصم، وما روي عنه في ذلك، ليس يخرج من حكم التحقيق والتخفيف، والتخيير فيهما. وكذلك قول نافع ليس يخرج عما ذكرنا من حكم التحقيق والتخفيف). [الحجة للقراء السبعة: 2/110]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتوبوا إلى بارئكم} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
[حجة القراءات: 96]
قرأ أبو عمرو إلى بارئكم ويأمركم وينصركم بالاختلاس وحجته في ذلك أنه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة وروي عنه إسكان الهمزة قال الشّاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
والكلام الصّحيح يا صاحب أقبل أو يا صاحب اقبل
وقرأ الباقون بارئكم ويأمركم بالإشباع على أصل الكلمة وهو الصّواب ليوفى كل حرف حقه من الإعراب). [حجة القراءات: 97] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قالوا أتتخذنا هزوا}
قرأ حمزة وإسماعيل عن نافع هزءا ساكنة الزّاي وقرأ
[حجة القراءات: 100]
الباقون هزؤا بضم الزّاي وهما لغتان التّخفيف لغة تميم والتثقيل لغة أهل الحجاز
قال الأخفش وزعم عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو اليسر واليسر والعسر والعسر فمن خفف طلب التّخفيف لأنّه استثقل ضمتين في كلمة واحدة
وقرأ حفص هزوا بغير همز لأنّه كره الهمز بعد ضمتين في كلمة واحدة فلينها). [حجة القراءات: 101]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (41- قوله: «هزوا، وكفوا، وجزءا» قرأه حمزة بإسكان الزاي والفاء، وضمها الباقون، وكلهم همز إلا حفصًا، فإنه أبدل من الهمزة واوًا مفتوحة، على أصل التخفيف؛ لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة، فهي تجري على البدل كقوله: «السفهاء لا» في قراءة الحرميين وأبي عمرو، كذلك يفعل حمزة إذا وقف كأنه يعمل الضمة التي كانت على الزاي والفاء في الأصل، وكان يجب عليه على أصل التخفيف لو تابع لفظه، أن يُلقي حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها، كما يفعل في «جزءا» فقال في الوقف «جُزا» فكان يجب أن يقول: «كفا، وهزا» لكنه رفض ذلك لئلا يخالف الخط، فأعمل الضمة الأصلية التي كانت على الزاي والفاء في الهمزة، فأبدل منها واوًا مفتوحة، ليوافق الخط، ثم يأتي بالألف التي هي عوض من التنوين، بعد ذلك. وكل القراء أسكن الزاي من «جزءا» إلا أبا بكر فإنه ضمها، فأما «جزء» المرفوع فأبو بكر يضم الزاي وحده، وكلهم همزه إلا حمزة وهشامًا إذا وقفا،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/247]
فإنهما يُلقيان حركة الهمزة على الزاي، ويقفان بالروم لتلك الحركة، أو بالإشمام، فمن ضم الزاي والفاء أتى بهما على الأصل، ومن أسكنهما فعلى الاستخفاف، وهي لغة للعرب، حكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، ففيه لغتان: التثقيل والتخفيف نحو: «اليسر، والعسر، والهزؤ» ومثله ما كان من المجموع على «فعل» لك فيه التخفيف والتثقيل أيضًا، وقد تقدم ذكر علل تخفيف الهمزة وأحكامه، لكن لتخفيف الهمزة في: «هزوا وكفوا» مزية على ما تقدم، وذلك لما فيه من الثقل، لهمزة وضمتان في الأصل). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/248]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (25- {هُزُوًا} [آية/ 67] و{جُزْؤًا} و{كُفْؤًا}:-
قرأها حمزة و- يل- عن نافع مخففات مهموزات.
وقرأ ياش- عن عاصم بالهمز والتثقيل في الأحرف الثلاثة.
و- ص- عن عاصم بالواو والتثقيل في {هُزُوًا} و{كُفُوًا} فقط، وهَمَزَ {جُزْءًا} وخففها.
وقرأ يعقوب {هُزُؤًا} بالتثقيل والهمز، وخفف {جُزْءًا} و{كُفْؤًا} وهمزهما.
و- ش- و- ن- عن نافع {كُفُؤًا} و{هُزُؤًا} بالتثقيل والهمز، و{جزْءًا} بالتخفيف والهمز.
وكذلك قراءة الباقين.
وكان حمزة يترك الهمز في الوقف، فيقف في {هزوًا} و{كفوًا} على التثقيل والواو، وفي {جُزَا} على فتح الزاي من غير همز.
[الموضح: 281]
الباقون يقفون كما يصلون إلا في المنون يبدلون من التنوين ألفًا كسائر الأسماء.
اعلم أن كل ما كان على فعل مضموم الفاء، فإن للعرب فيه وجهين:
أحدهما: تسكين عينه، والآخر: تحريكها بالضم، وذلك كاليسر واليسر ونحوه.
وقد استمرت هذه الطريقة في الجمع أيضًا فقالوا: كتب وكتب ونحوه، فإذا صح ذلك فإن تسكين العين في هزو وجزو وكفو وتحريكها معًا جائزان، ثم إن آخر الكلمة همزة، وتحقيق الهمزة وتخفيفها معًا فيها جائزان، وقد تمسك بكل واحد من هذه الأوجه الجائزة قوم، ومن ذلك حصل الاختلاف، فاذا حركت العين بالضم وأريد تخفيف الهمزة وجب قلبها واوًا لضمة ما قبلها، فيقال: رأيت كفوًا، فإن سكنت العين بعد تخفيف الهمزة أبقيت الواو المنقلبة عن الهمزة بحالها فيقال: كفوًا؛ لأن الضمة وإن زالت في اللفظ فهي في حكم الثبات؛ لأنها مرادة في المعنى، فأما إذا سكنت العين من أول الأمر على لغة من قال: اليسر بالإسكان، فأريد تخفيف الهمزة من الهزء، فإن تخفيفها إنما هو بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، وذلك أن تقول: رأيت جزًا وكفًا بغير همز، وهذا جز وكف، ومررت بجز وكفٍ كيد ودم.
وأما ترك حمزة الهمزة في حال الوقف؛ فلأن الهمزة كثيرًا ما تغير في الوقف، ألا ترى أنك تبدل منها في حال الوقف حروف العلة على حسب حركات ما قبلها إن كانت ساكنةً، وعلى حسب حركات أنفسها إن كانت متحركةً.
فالساكنة نحو: لم أقرا ولم أهني وهذه أكمو، والمتحركة: هذا الكلو
[الموضح: 282]
ومررت بالكلي ورأيت الكلا، فإنما ذلك لأن الوقف موضع تغييرٍ، والهمزة قد تغير في غير حال الوقف فلأن تغير في حال الوقف أولى.
فلما كان كذلك اختار حمزة ترك الهمزة في حال الوقف). [الموضح: 283]

قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}

قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}

قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}


قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}

قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}

قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (74)
قرأ ابن كثير ها هنا: (عمّا يعملون) - بالياء -.
وقوله: (إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (85) ) - بالياء - وقوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)) - بالياء - في هذه الثلاثة المواضع، وقرأ الباقي - بالتاء - وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء، قوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)، وقوله: (للحقّ من ربّك وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (149). والباقي بالتاء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية
[معاني القراءات وعللها: 1/156]
أبي بكر ويعقوب في موضعين بالياء، وهو قوله: (إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (85)، و: (الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون).
وروى حفص عن عاصم موضعا بالياء، قوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144).
هذه وحدها بالياء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (وما الله بغافل عما تعملون) بالتاء وهي ستة مواضع: خمسة في البقرة، وواحدة في آل عمران، رأس تسع وتسعين منها.
قال أبو منصور: من قرأ (يعملون) فعلى الإخبار عنهم، ومن قرأ بالتاء فهو مخاطبة لهم). [معاني القراءات وعللها: 1/157]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء في قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون [البقرة/ 74]. فقرأ ابن كثير كلّ ما في القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء، إلا ثلاثة أحرف: قوله: لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما يعملون [البقرة/ 74] بالياء وقوله: يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون [البقرة/ 85] بالياء.
وقوله: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون [البقرة/ 144]، بالياء. وقرأ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء [الأنعام/ 132 والنمل/ 93].
وقرأ نافع من هذه الثلاثة الأحرف حرفين بالياء: قوله:
إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون بالياء، وكذلك:
ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/110]
وكذلك قرأ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون. بالتاء، وهما حرفان في آخر سورة هود، [الآية/ 123]، وآخر سورة النّمل [الآية/ 93] فهما عنده بالتاء.
وقرأ في سورة الأنعام: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء [الآية/ 132].
وقرأ ابن عامر كلّ ما جاء في القرآن من قوله: وما الله بغافل عما تعملون بالتاء. وقرأ في سورة الأنعام وآخر سورة هود وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء، وقرأ في آخر سورة النّمل، وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء فهذه حروف كذلك في كتابي عن أحمد بن يوسف عن ابن ذكوان. ورأيت في كتاب موسى بن موسى الختّلي عن ابن ذكوان: بالتاء.
وفي آخر النمل: بالتاء أيضا.
وقال الحلوانيّ عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر ذلك كلّه بالتاء وما ربّك بغافلٍ، وما اللّه بغافلٍ.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء في موضعين، قوله: يردّون إلى أشدّ العذاب، وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء. وقوله: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/111]
وكلّ ما في القرآن من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون فهو بالياء، وهذا قول أبي بكر بن عيّاش عن عاصم. وقال حفص عن عاصم في رأس الأربع والأربعين والمائة: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون [البقرة] بالياء، هذه وحدها، وسائر القرآن بالتاء.
وقال حفص: قرأ عاصم في سورة الأنعام: ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون [الآية/ 132] بالياء، وقرأ في آخر هود وآخر النّمل: وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء مثل قراءة نافع.
وقرأ أبو عمرو رأس الأربع والأربعين والمائة، والتسع والأربعين والمائة: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء.
وما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون فهو بالياء.
وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء.
وكلّ ما في القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ فهو ستّة مواضع. خمسة منها في سورة البقرة، وحرف في آل عمران عند المائة. وما ربّك بغافلٍ ثلاثة مواضع: في الأنعام وآخر هود وآخر النّمل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/112]
قال أبو عليّ: القول في جملة ذلك أنّ ما كان قبله خطاب جعل بالتاء، ليكون الخطاب معطوفا على خطاب مثله- كقوله: ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة [البقرة/ 74] وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون، فالتاء هنا حسن، لأنّ المتقدّم خطاب. ولو كان: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون على لفظ الغيبة. أي: وما الله بغافل عما يفعل هؤلاء الذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون، لكان حسنا.
وإن كان الذي قبله غيبة، حسن أن يجعل على لفظ الغيبة، ليعطف ما للغيبة على مثله، كما عطفت ما للخطاب على مثله.
ويجوز فيما كان قبله لفظ غيبة الخطاب. ووجه ذلك أن تجمع بين الغيبة والخطاب، فتغلّب الخطاب على الغيبة، لأنّ الغيبة يغلب عليها الخطاب فيصير كتغليب المذكّر على المؤنّث، ألا ترى أنّهم قد بدءوا بالخطاب على الغيبة في باب الضمير، وهو موضع يردّ فيه كثير من الأشياء إلى أصولها؟
نحو: لك، ونحو قوله:
فلا بك ما أسال ولا أغاما فلمّا قدّموا المخاطب على الغائب فقالوا: أعطاكه ولم
[الحجة للقراء السبعة: 2/113]
يقولوا: أعطاهوك. علمت أنه أقدم في الرّتبة. كما أن المذكّر مع المؤنث كذلك. فإذا كان الأمر على هذا، أمكن في الخطاب في هذا النحو أن يعنى به الغيب والمخاطبون، فيغلّب الخطاب على الغيبة ويكون المعنى: ما الله بغافل عمّا تعملون.
أي فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
ويجوز في الخطاب بعد الغيبة وجه آخر، وهو أن يراد به: قل لهم أيها النبيّ: ما الله بغافل عمّا تعملون، فعلى هذا النحو تحمل هذه الفصول). [الحجة للقراء السبعة: 2/114]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة: [وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ]، وكذلك قراءته: [وَإِنْ مِنْهَا] مخففة.
قال ابن مجاهد: أحسبه أراد بقوله مخففة الميم؛ لأني لا أعرف لتخفيف النون معنى.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد صحيح؛ وذلك أن التخفيف في إِنَّ المكسورة شائع عنهم؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي: إنهم على هذه الحال. وهذه اللام لازمة مع تخفيف النون
[المحتسب: 1/91]
فرقًا بين إِنْ مخففة من الثقيلة، وبين إِنْ التي للنفي بمنزلة "ما" في قوله سبحانه: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، وقوله:
فما إنْ طبنا جُبْنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
وهذا واضح). [المحتسب: 1/92]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [لما يَهْبُطُ] بضم الباء.
قال أبو الفتح: قد بينا في كتابنا "المنصف" -وهو تفسير تصريف أبي عثمان- أن باب فَعَل المتعدي أن يجيء على يفعِل مكسور العين؛ كضرب يضرب وحبس يحبس، وباب فَعَل غير المتعدي أن يكون على يفعُل مضموم العين؛ كعقد يقعد وخرج يخرج، وأنهما قد يتداخلان فيجيء هذا في هذا، وهذا في هذا؛ كقتل يقتُل، وجليس يجلِس، إلا أن الباب ومجرى القياس على ما قدمناه، فهبط يهبُط على هذا بضم العين أقوى قياسًا من يهبِط، فهو كسقط يسقط؛ لأن هبط غير متعدٍّ في غالب الأمر كسقط.
وقد ذُهب في هذا الموضع إلى أن هبط هنا متعد، قالوا ومعناه: لما يهبُطُ غيره في طاعة الله عز وجل؛ أي: إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه، إلا أنه حُذف هنا المفعول تخفيفًا، ولدلالة المكان عليه، ونسب الفعل إلى الحجر؛ لأن طاعة رائيه لخالقه إنما كانت مسببة عن النظر إليه؛ أي: منها ما يهبُط الناظر إليه؛ أي: يُخْضِعه ويُخْشِعه، وقد جاء هبطته متعديًا كما ترى، قال:
ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قَوطَهُ العلابِطَا
وأعمله في القوط، فعلى هذا تقول: هبط الشيء وهبطته، وهلك الشيء وهلكته، قالوا في قول العجاج:
ومهمهٍ هالِك من تَعرَّجا
[المحتسب: 1/92]
قولين؛ أحدهما: أنه كأنه قال: هالكِ المتعرجين، والآخر: هالكِ مَن تعرجا؛ أي: مهلك من تعرج، فتقول على هذا: أصبحت ذا مال مهلوك، وهلكه الله يهلِكه هُلكًا. وإذا كانت كذلك، وكانت هبط هنا قد تكون متعدية، فقراءة الجماعة: {لما يَهْبِطُ} بكسر الباء أقوى قياسًا من يهبُط؛ لأن معناه لما يهبِط مبصرَه ويحطه من خشية الله.
ومن ذهب فيه إلى أن يهبط هنا غير متعد فكأنه قال: وإن منها لما لو هبط شيء غير ناطق من خشية الله لهبط هو، لا أن غير الناطق تصح منه الخشية؛ ألا ترى أن قوله:
لها حافِرٌ مثل قُعب الوليـ ... ـد تتخذُ الفار فيه مَغَارا
أي: لو اتخذت فيه مغارًا لغوره وتقعبه لوسعها وصلح لها، لا أنها هي تتخذ ألبتة.
ومثله مسألة الكتاب: أَخَذَتْنَا بالْجَودِ وفوقَه؛ أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر لكانت قد أخذتْنا به.
وكلام العرب لمن عرفه، ومَن الذي يعرفه؟ ألطف من السحر، وأنقى ساحة من مشوف الفكر، وأشد تساقطًا بعضًا على بعض، وأمس تساندًا نفلًا إلى فرض). [المحتسب: 1/93]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما الله بغافل عمّا تعملون * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم}
قرأ ابن كثير {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء أي وما الله بغافل عمّا يعمل هؤلاء الّذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون
وقرأ الباقون بالتّاء على الخطاب وحجتهم قوله قبلها {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة} {وما الله بغافل عمّا تعملون} ). [حجة القراءات: 101] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (42- قوله: {وما الله بغافل عما تعملون} قرأه ابن كثير بالياء رده على قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} «71» ورده أيضًا على ما بعده من قوله: {وقد كان فريقٌ منهم}، وقوله: {يحرفون}، وقوله: {وهم يعملون} «75» فلما أتى ما قبله وما بعده على لفظ الغيبة، أجراه على ذلك، ولم يجره على قوله: {أفتطمعون}؛ لأنه خطاب للمؤمنين، و«يعلمون» يُراد به اليهود، وقرأه الباقون بالتاء، ردوه على الخطاب الذي قبله في قوله: {ويريكم آياته} «73» وقوله: {ثم قست قلوبكم} «74» فجرى آخر الكلام على أوله بالخطاب كله لليهود، وهو الاختيار؛ لأن عليه الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/248]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (26- {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آية/ 74]:-
بالياء، قرأ ابن كثير في ثلاثة مواضع بالياء ههنا وهو بعد قوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله}، وقوله {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}، وقوله {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والباقي بالتاء. وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء بعد {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والباقي بالتاء. وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء بعد {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و{لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، والباقي بالتاء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء في جميع القرآن.
[الموضح: 283]
أما القراءة بالياء فمحمولة على لفظ الغيبة، كأنه قال: وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء الذين أخبرناكم عن حالهم وقصصنا عليكم قصتهم أيها المؤمنون.
وأما القراءة بالتاء فإنها على الخطاب؛ لأن ما قبله خطاب، فيكون معطوفًا على مثله، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}). [الموضح: 284]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:32 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة

[من الآية (75) إلى الآية (77) ]

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}


قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [يَسْمَعُونَ كَلِمَ اللَّهِ].
الكلام كل ما استقل برأسه؛ أعني: الجمل المركبة، نحو: قام محمد، وأبوك منطلق. وقد فَصَلْنَا في أول باب من الخصائص بين الكلام والقول، وأن كل كلام قول، وليس كل قول كلامًا.
فأما الكلم فلا يكون أقل من ثلاث، وذلك أنه جمع كلمة كثَفِنَة وثَفِن، ونَبِقَة ونَبِق، وسَلِمَة وسَلِم؛ ولذلك ما اختاره صاحب الكتاب على الكلام، فقال: هذا باب علم ما الكلم من العربية، ولم يقلك: ما الكلام؛ وذلك لأن الكلام كما قد يكون فوق الاثنين فكذلك أيضًا قد يكون اثنين، وسيبويه إنما أراد هنا ثلاثة أشياء:
[المحتسب: 1/93]
الاسم والفعل والحرف، فترك اللفظ الذي قد يكون أقل من الجماعة إلى اللفظ الذي لا يكون إلا جماعة). [المحتسب: 1/94]

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}

قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:34 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (78) إلى الآية (82) ]

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (إلّا أمانيّ)
روى هارون عن أبي عمرو (إلّا أماني) مخففة الياء، وسائر القراء قرأوا بتشديد الياء، لأن الواحدة منها أمنية.
قال أبو منصور: سمعت المنذري عن أبي العباس، أحمد بن يحيى أنه قال: من شدد الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقير، ومن خفف الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقر، غير أن القراءة بالتشديد لاجتماع القراء عليه.
ومعنى الأماني: الأكاذيب، يقال: أنت تمنيت هذا القول، أي: اختلقته.
[معاني القراءات وعللها: 1/158]
وقال غيره: تكون الأماني أيضًا جمع الأمنية، وهي التلاوة، ومنه قول الله جلّ وعزّ (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته) أي: في تلاوته). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف والحكم بن الأعرج: [إِلَّا أَمَانِيْ وَإِنْ هُمْ]، و[لَيْسَ بِأَمَانِيْكُمْ وَلا أَمَانِيْ أَهْلِ الْكِتَابِ] الياء فيه كله خفيفة ساكنة.
قال أبو الفتح: أصل هذا كله التثقيل -أَمَانِيُّ جمع أُمْنِيَّة- والتخفيف في هذا النحو كثير وفاشٍ عندهم.
قال أبو الحسن في قولهم أثاف: لم يسمع من العرب بالتثقيل ألبتة.
وقال الكسائي: قد سمع فيها التثقيل، وأنشد:
أثافي سُفعًا في مُعَرَّسِ مِرجل
والمحذوف من نحو هذا هو الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام، نحو ياء قراطيس، وجراميق، وأراجيح، وأعاجيب، جمع أرجوحة وأعجوبة، ألا تراها قد حذفت في قوله:
والبكراتِ الفُسَّجَ العطامسا
[المحتسب: 1/94]
وقوله:
وغير سُفْع مثل يحامِم
يريد: يحاميم وعطاميس.
وروينا لعبيد الله بن الحر قوله:
وبُدِّلْتُ بعد الزَّعْفَران وطيبه ... صَدا الدِّرع من مستحكِماتِ الْمَسامِر
وعلى أن حذف الياء مع الإدغام أسهل شيئًا من حذفه ولا إدغام معه؛ وذلك أن هذه الياء لما أُدغمت خفيت وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئًا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. نعم، وقد يحذف هذا الحرف ويؤتى بالعوض منه حرفًا في حال وجوده في حكم ما ليس موجودًا، وهو تاء التأنيث في نحو قولهم: فرازنة وزنادقة وجحاجحة، فالتاء عوض من ياء فرازين وجحاجيح وزناديق، وكذلك قالوا مع الإدغام، وذلك قولهم في أثاني وأناسي: أثانية وأناسية، رواها أبو زيد. وإذا كانوا قد رضوا بالكسرة قبلها دليلًا عليها، وعوضًا منها فهم بأن يقنعوا بالتاء عوضًا منها أجدر). [المحتسب: 1/95]

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}

قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأحاطت به خطيئته)
قرأ نافع وحده: (وأحاطت به خطيئاته).
وقرأ سائر القراء: (خطيئته).
قال أبو منصور: والخطيئة تنوب عن الخطيئات، وقد تجمع الخطيئة خطايا وخطيئات). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81]، فقرأ نافع وحده: خطيئاته، وقرأ الباقون:
خطيئته واحدة.
قال أبو علي: قوله: وأحاطت به خطيئته لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون المعنى أحاطت بحسنته خطيئته أي:
أحيطتها من حيث كان المحيط أكبر من المحاط به فيكون بمنزلة قوله: وإنّ جهنّم لمحيطةٌ بالكافرين [العنكبوت/ 54]، وقوله أحاط بهم سرادقها [الكهف/ 29]، أو يكون المعنى في: أحاطت به خطيئته:
أهلكته، من قوله: لتأتنّني به إلّا أن يحاط بكم [يوسف/ 66] وقوله: وظنّوا أنّهم أحيط بهم [يونس/ 22] وأحيط بثمره [الكهف/ 42] فهذا كلّه في معنى البوار والهلكة.
ويكون للإحاطة معنى ثالث وهو: العلم. كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/114]
كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً [الكهف/ 91] و: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم [الجن/ 28].
وقال: واللّه بما يعملون محيطٌ [الأنفال/ 47] أي: عالم.
وأما الخطيئة: فقال أبو زيد: خطئت، من الخطيئة.
أخطأ خطئا والاسم الخطء، وأخطأت إخطاء، والاسم الخطاء.
وقال أبو الحسن: الخطء: الإثم، وهو ما أصابه متعمّدا والخطأ: غير التعمّد. ويقال من هذا: أخطأ يخطئ وقال:
وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم [الأحزاب/ 5] واسم الفاعل من هذا مخطئ.
فأمّا خطئت: فاسم الفاعل فيه: خاطئ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل: لا يأكله إلّا الخاطؤن [الحاقة/ 37] وقد قالوا: خطئ في معنى أخطأ، قال:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا المعنى: أخطأتهم، ويدلّك على هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/115]
فأصبن ذا كرم ومن أخطأنه... جزأ المقيظة خشية أمثالها
يصف أيضا خيلا.
ومما جاء فيه: خطئ في معنى أخطأ قول الشاعر:
والناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد
فأما الخطيئة فتقع على الصغير وعلى الكبير، فمن وقوعها على الصغير قوله: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] ومن وقوعها على الكبير قوله: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81].
فأمّا قولهم: خطيئة يوم لا أصيد فيه، فالمعنى فيه:
قلّ يوم لا أصيد فيه.
وأما قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فالمعنى أن يكون أخطأنا في معنى: خطئنا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/116]
ونسينا في معنى تركنا. لأن الخطأ والنسيان موضوعان عن الإنسان وغير مؤاخذ بهما. فيكون أخطأنا بمنزلة خطئنا كما جاء خطئنا في معنى أخطأنا.
ويجوز أن تكون أخطأنا في قوله: أو أخطأنا على غير التعمّد. والنّسيان: خلاف الذّكر، وليس التّرك، ولكن تعبّدنا بأن ندعو لذلك، كما جاء في الدعاء: قال ربّ احكم بالحقّ [الأنبياء/ 112] والله سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ.
وكما قال: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [آل عمران/ 194] وما وعدوا به على ألسنة الرّسل يؤتونه. وكذلك قول الملائكة في دعائهم للمسلمين: ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم [غافر/ 7] وكذلك قوله: ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به [البقرة/ 286] يكون على ما يكرثهم ويثقل على طباعهم، وتكون الطاقة: الاستطاعة.
وقد يكون: أخطأنا: أتينا بخطإ. كقولك: أبدعت: أتيت ببدعة. ونحو هذا مما يراد به هذا النّحو.
وتقول: خطّأته فأخطأ. فيكون هذا كقولهم: فطّرته فأفطر.
فأمّا ما روي عن ابن عباس من قوله: خطّ الله نوءها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/117]
فقال أبو عبد الله اليزيديّ وغيره. ليس ذلك من الخطأ، وإنّما هو خطّ مثل ردّ، من الخطيطة قال: وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين.
السيئة في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81] يجوز أن يكون. الكفر. ويجوز أن يكون: كبيرا يوتغ ويهلك، ويجوز أن يكون: من للجزاء الجازم، ويجوز أن يكون للجزاء غير الجازم، فتكون: السيّئة. وإن كانت مفردة، تراد بها الكثرة فكذلك تكون خطيئة مفردة... وإنما حسن أن تفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد، وإن كان يراد به الكثرة كما قال: من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112] فأفرد الوجه والأجر، وإن كان في المعنى جمعا في الموضعين. فكذلك المضاف إليه: الخطيئة، لما لم يكن جمعا لم تجمع كما جمعت في قوله: نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58]
[الحجة للقراء السبعة: 2/118]
لأنه مضاف إلى جماعة لكل واحد منهم خطيئة. وكذلك قوله: إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا [الشعراء/ 51] وقوله: إنّا آمنّا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السّحر [طه/ 73] وكذلك قوله: وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] لأن كل لفظة من ذلك مضافة إلى جمع. فجمعت كجمع ما أضيف إليه.
فأمّا قوله: وأحاطت به خطيئته. فمضاف إلى مفرد.
فكما أفردت السيئة ولم تجمع، وإن كانت في المعنى جمعا، فكذلك ينبغي أن تفرد الخطيئة، وأنت إذا أفردته لم يمتنع وقوعه على الكثرة وإن كان مضافا. ألا ترى أنّ في التنزيل:
وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها [إبراهيم/ 34] فالإحصاء إنما يقع على الجموع والكثرة، وكذلك ما أثر في الحديث من قوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها. ومصر إردبّها» فهذه أسماء مفردة مضافة، والمراد بها الكثرة فكذلك الخطيئة. ومما يرجّح به قول من أفرد ولم يجمع لأنه مضاف إلى مفرد، فأفرد لذلك وكان الوجه: قوله: بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112]
[الحجة للقراء السبعة: 2/119]
فأفرد الأجر لما كان مضافا إلى مفرد، ولم يجمع كما جمع قوله: وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف [النساء/ 25] فكما لم يجمع الأجر في الإضافة إلى الضمير المفرد، كما جمع لمّا أضيف إلى الضمير المجموع، كذلك ينبغي أن تكون الخطيئة مفردة إذا أضيفت إلى الضمير المفرد، وإن كان المراد به الجميع. ومن قال «خطيئاته» فجمع، حمله على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة. فكما جمع ما كان مضافا إلى جمع كذلك جمع ما كان مضافا إلى مفرد، يراد به الجمع من حيث اجتمعا في أنهما كثرة، ويدلّك على أنّ المراد به الكثرة. فيجوز من أجل ذلك أن تجمع خطيئة على المعنى لأن الضمير المضاف إليه جمع في المعنى.
قوله: فأولئك أصحاب النّار [البقرة/ 81] فأولئك خبر المبتدأ الذي هو: من في قول من جعله جزاء غير مجزوم كقوله: وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] أو مبتدأ في قول من جعله جزاء مجزوما. وفي كلا الوجهين يراد به: من في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81].
ومما يدلّ على أن من يراد به الكثرة فيجوز لذلك أن تجمع خطيئة لأنها مضافة إلى جمع في المعنى. قوله بعد هذه: والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون [البقرة/ 82]، ألا ترى أن الّذين جمع، وهو معادل به من. فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل به.
[الحجة للقراء السبعة: 2/120]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته}
قرأ نافع وأحاطت به خطيئاته بالألف وحجته أن الإحاطة لا تكون للشّيء المنفرد إنّما تكون لأشياء كقولك أحاط به الرّجال وأحاط النّاس بفلان إذا داروا به ولا يقال أحاط زيد بعمرو وحجّة أخرى جاء في التّفسير قوله بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئاته أي الكبائر أي أحاطت به كبائر ذنوبه
وقرأ الباقون خطيئته على التّوحيد وحجتهم أن الخطيئة ليست بشخص فإذا لم تكن شخصا واشتملت على الإنسان جاز أن يقال أحاطت به خطيئته وحجّة أخرى جاء في التّفسير من كسب سيّئة أي الشّرك وأحاطت به خطيئته أي الشّرك الّذي هو سيّئة). [حجة القراءات: 102]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (43- قوله: «خطيئته» قرأه نافع بالجمع، حمله على معنى الإحاطة، والإحاطة إنما تكون بكثرة المحيط، فحمله على معنى الكبائر، والسيئة الشرك، فالمعنى: بلى من كسب شركًا وأحاطت بن كبائره فأحبطت أعماله، فأولئك أصحاب النار، والهاء في «خطيآته» بمعنى الجمع، تعود على «من»، و«من» للجماعة، يدل على ذلك قوله: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقرأ الباقون بالتوحيد على أن تأويل الخطيئة الشرك، فوحَّدوه على هذا المعنى، وتكون السيئة الذنوب، وهي بمعنى السيئات، ويجوز أن تكون الخطيئة في معنى الجمع، لكن وُحِّدت، كما وُحِّدت السيئة، وهي بمعنى الجمع، فتكون كالقراءة بالجمع في المعنى، وحسن انفراد لفظ الخطيئة، وهي بمعنى الجمع؛ لإضافتها إلى مفرد في اللفظ بمعنى الجمع، وقد يجوز أن يكون لفظ الخطيئة مفردًا، يُراد به الكثرة، كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} «إبراهيم 34» أي: نعم الله؛ لأن المعدود لا يكون إلا كثيرًا، فتكون «الخطيئة» الكبائر و«السيئة» الذنوب). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (27- {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [آية/ 81]:-
بالجمع، قرأها نافع وحده.
وذلك لأنه حمله على المعنى، ومعناه على الكثرة؛ لأن المخبر عنهم جماعة وإن عبر عنهم بلفظ المفرد، ألا ترى أن قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ليس يريد به واحدًا، وإنما يدخل تحته كل كاسب للسيئة محيط به خطاياه لما يتضمنه من معنى الشرط، فالمعنى على الكثرة والعموم، والدليل على أن المراد به الكثرة قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}؛ لأن هؤلاء هم كاسبو السيئة الذين تقدم ذكرهم، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا} وهم جماعة عودل بهم من تقدمهم، والمعادل ينبغي أن يكون مثل من عودل به.
ويقوي هذه القراءة أنه وصف الخطيئة بالإحاطة، والإحاطة بالشيء شمول
[الموضح: 284]
له فهي تقتضي الكثرة في حقيقة الأصل؛ لأن الجسم لا يحيط بالجسم حتى يكون كثير الأجزاء.
وقرأ الباقون {خَطِيئتُهُ} على الإفراد.
ووجه ذلك أنها لما كانت مضافة إلى مفردٍ في اللفظ كان الإفراد فيها أولى، لا سيما وقد أفردت السيئة في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} لما كان مسندًا إلى لفظ {مَنْ}، ولفظه واحد وإن كان المراد به الجمع والكثرة ولا يمتنع في المفرد أن يقع للكثرة والجمع نحو قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} فإن الإحصاء يقتضي الكثرة، فإن لم يمتنع نحو هذا لا يمتنع أيضًا أن يراد بالخطيئة وإن كانت واحدةً معنى الجمع، وكذلك السيئة). [الموضح: 285]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:35 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (83) إلى الآية (86) ]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (لا تعبدون إلّا اللّه)
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون إلّا اللّه) - بالياء - وقرأ الباقون (لا تعبدون) بالتاء.
من قرأ: (لا يعبدون) فعلى أنهم غيّب، وعلامة الغائب الياء.
[معاني القراءات وعللها: 1/159]
وكان في الأصل (أن لا يعبدوا)، فلما حذف (أن) رفعه، مثل قول طرفة:
ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد: أن أحضر، فلما حذف (أن) رفعه.
ومن قرأ بالتاء فهو خطاب، ومثله في الكلام: تقدمت إلى فلان لا تشرب الخمر ولا يشرب الخمر.
قوله جلّ وعزّ: (وقولوا للنّاس حسنًا).
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حسنًا) بفتح الحاء والسين.
وقرأ الباقون: (حسنًا).
[معاني القراءات وعللها: 1/160]
قال أبو منصور: (حسنًا) فالمعنى: قولوا للناس قولاً ذا حسن.
والخطاب لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن قرأ (حسنًا) فالمعنى: قولوا لهم قولاً حسنًا.
واتفق القراء على قوله في العنكبوت: (حسنًا)
وافترقوا في الأحقاف.
فقرأ حمزة وعاصم والكسائي (إحسانًا) بالألف، وقرأ الباقون (حسنًا) بغير ألف، مضمومة الحاء، ومعنى إحسانا، أي: أحسنوا بالوالدين إحسانًا، فإحسانًا بدل من اللفظ بـ (أحسنوا).
[معاني القراءات وعللها: 1/161]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: قال بعض أصحابنا: اخترنا (حسنًا) لأنه يريد: قولا حسنًا.
قال: ومن قرأ (حسنًا) فهو مصدر حسن يحسن حسنًا، قال: وهو جائز، ونحن نذهب إلى أن الحسن شيء من الحسن، وبجوز هذا وهذا). [معاني القراءات وعللها: 1/162]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء من قوله تعالى: لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ: لا يعبدون بالياء.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر لا تعبدون بالتاء.
قال أبو علي: الألفاظ التي جرت في كلامهم مجرى القسم، حتى أجيبت بجوابه. تستعمل على ضربين: أحدهما:
أن يكون كسائر الأخبار التي ليست بقسم، فلا يجاب كما لا يجاب.
والآخر: أن يجري مجرى القسم فيجاب كما يجاب القسم. فممّا لم يجب بأجوبة القسم قوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8].
ومنه قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] وقال: فيحلفون له كما يحلفون لكم، ويحسبون.
فما جاء بعد من ذلك فيه ذكر الأوّل ممّا يجوز أن يكون حالا احتمل ضربين: أحدهما: أن يكون حالا، والآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/121]
أن يكون قسما، وإنما جاز أن تحمله على الحال دون جواب القسم، لأنه قد جاز أن يكون معرّى من الجواب، وإذا جعلت ما يجوز أن يكون حالا، فقد عرّيتها من الجواب. فمما يجوز أن يكون حالا قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا... [البقرة/ 63] فقوله: ورفعنا يجوز أن يكون حالا وتريد فيه قد. وإن شئت لم تقدّر فيه الحال.
ومما يجوز أن يكون ما بعده فيه حالا غير جواب، قوله:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فهذا يكون حالا كأنه أخذ ميثاقهم موحّدين، وكذلك: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] أي: غير سافكين، فيكون حالا من المخاطبين المضاف إليهم. وإنما جاز كونهما لما ذكرنا من أجل أن هذا النحو قد تعرّى من أن يجاب بجواب القسم. ألا ترى أن قوله (خذوا) في الآية ليس بجواب قسم، ولا يجوز أن يكون جوابا له؛ وكذلك من قرأ:
«لا تعبدوا» فجعل لا للنهي كما كان: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه [آل عمران/ 187] قسما- وكذلك:
وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه [النحل/ 38] فكما أن لتبيّننّه لا يكون إلا جوابا، كذلك يكون قوله: لا تعبدون ولا تسفكون. يجوز أن يكون جوابا للقسم. ويجوز أن يكون «لا تسفكون» ونحوه في تقدير: أن لا تسفكوا كأنّ تقديره: أخذنا ميثاقهم بأن لا يسفكوا. ولا يكون ذلك جواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/122]
قسم كما كان فيمن قدّره حالا غير جواب قسم. إلا أنه لما حذف (أن) ارتفع الفعل.
واعلم أن ما يتصل بهذه الأشياء الجارية مجرى القسم في أنّها أجيبت بما يجاب به القسم. لا يخلو من أن يكون لمخاطب أو لمتكلم، أو لغائب جاز أن يكون على لفظ الغيبة من حيث كان اللفظ لها. وجاز أن يكون على لفظ المخاطب.
وإنما جاز كونه على لفظه، لأنّك تحكي حال الخطاب، وقت ما يخاطب به، ألا ترى أنهم قد قرءوا: قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم [آل عمران/ 12] على لفظ الغيبة، وبالتاء على لفظ الخطاب على حكاية حال الخطاب في وقت الخطاب، فإذا كان هذا النحو جائزا، جاز أن تجيء القراءة بالوجهين جميعا، وجاز أن تجيء بأحدهما، كما جاء قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] بالوجهين كما جاء سيغلبون، ويحشرون بالوجهين، ويجوز في قياس العربية في قوله: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] على الوجهين اللذين قرئ بهما في «سيغلبون، وستغلبون».
وإن كان الكلام على الخطاب لم يجز فيما يكون في تقدير ما يتلقّى به القسم إلا الخطاب، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/123]
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] فهذا لا يجوز أن يكون إلا على الخطاب، لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون ولأنّك إن حكيت الحال التي يكون الخطاب فيها فيما يأتي لم يجز أن تجعل المخاطبين كالغيب، كما جاز في الغيب الخطاب من حيث قدّرت الحال التي يكون فيها الخطاب فيما تستقبل، ألا ترى أنّه لا يجوز أن تجعل المخاطبين غيبا، فتقول:" أخذنا ميثاقكم لا يسفكون" لأنك إذا قدّرت الحكاية، كان التقدير:
أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم: لا تسفكون، كان بالتاء ولم يجز الياء، كما لا يجوز أن تقول للمخاطبين: هم يفعلون، وأنت تخاطبهم. وإن لم تقدّر الحكاية فهو بالتاء، فلا مذهب إذن في ذلك غير الخطاب.
فقوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] لا يخلو قوله: تعبدون من أن يكون حالا، أو يكون تلقّي قسم، أو يكون على لفظ الخبر. والمعنى معنى الأمر، أو تقدّر الجارّ في (أن) فتحذفه ثم تحذف أن فإن جعلته حالا جعلته على قول من قرأ بالياء فقال: لا يعبدون ليكون في الحال ذكر من ذي الحال.
فإن قلت: وإذا قرئ بالياء فالمراد به هو بنو إسرائيل، والحال مثل الصفة، وقد حملت الصفة في هذا النحو على المعنى. فإن هذا قول، والأول البيّن.
وإن جعلته تلقّي قسم، فإنّ هذا اللفظ الذي هو: أخذنا ميثاقكم
[الحجة للقراء السبعة: 2/124]
مجاز ما يقع بعده على ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يتبع شيئا مما يجري مجرى الجواب كقوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8] والآخر: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم. نحو: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس [آل عمران/ 187] والثالث: أن يكون أمرا نحو: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا. ولم يجيء شيء من هذا النحو فيما علمنا تلقّي بجواب قسم، ووقع بعده أمر فإن جعلت: لا تعبدون جواب قسم وعطفت عليه الأمر جمعت بين أمرين لم يجمع بينهما.
فإن قلت: لا أحمل الأمر على القسم، ولكن أضمر القول كأنّه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا يعبدون إلّا الله... وقلنا لهم: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
فالقول: إن إضمار القول في هذا النحو لا يضيق، وقلنا على هذا معطوف على: أخذنا، وأخذ الميثاق قول، وكأنّه: قلنا لهم كذا، وقلنا لهم كذا.
فإن جعلته على أنّ اللفظ في: لا تعبدون لفظ خبر.
والمعنى معنى الأمر، فإن ذلك يقويه ما زعموا من أنّ في إحدى القراءتين: ولا تعبدوا ومثل ذلك قوله: تؤمنون باللّه ورسوله [الصف/ 11] يدلّك على ذلك قوله يغفر
لكم
[الصف/ 12] وزعموا أن في بعض المصاحف آمنوا، ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: وبالوالدين إحساناً، [البقرة/ 83]
[الحجة للقراء السبعة: 2/125]
وأقيموا الصّلاة [البقرة/ 43] وإن حملته على أن المعنى:
أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فإن هذا قول، إن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف. وزعم سيبويه أن حذف (أن) من هذا النحو قليل.
وحجة من قرأ: «لا تعبدون» بالخطاب، قوله: وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ. ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم [آل عمران/ 81].
فجاء على الخطاب وقولوا. قال: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه [آل عمران/ 187].
ومما يقوّيه قوله: ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون [البقرة/ 83] فإذا كان خطابا لا يحتمل غيره، وهو عطف على ما تقدّم، وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه.
ومن قرأ: لا يعبدون بالياء فإنه يدل عليه قوله: قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] فحمله على لفظ الغيبة فكلّ واحد من المذهبين قد جاء التنزيل به.
اختلفوا في ضم الحاء والتخفيف وفتحها والتثقيل من قوله: وقولوا للنّاس حسناً [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، حسناً بضم الحاء والتخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ حسناً بفتح الحاء والتثقيل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/126]
وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائيّ في سورة الأحقاف إحساناً [الآية/ 15] بألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر حسناً خفيفة بغير ألف.
قال أبو علي: من قرأ حسناً احتمل قوله وجهين: يجوز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبخل والبخل والرّشد والرّشد، والثّكل والثّكل، وجاء ذلك في الصفة، كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العرب والعرب، وهو صفة يدلّك على ذلك: مررت بقوم عرب أجمعون. فيكون الحسن على هذا صفة، كالحسن ويكون: كالحلو والمرّ، ويجوز أن يكون الحسن مصدرا كالكفر والشّكر والشّغل، وحذف المضاف معه كأنّه: قولا ذا حسن.
ويجوز أن تجعل القول نفسه الحسن في الاتّساع، وعلى هذا: زورة وعدلة، فأنّثوا كما يؤنّثون الصفة التي تكون إياها، نحو: ظريفة وشريفة وحسنة، والدّليل على أن زورا مصدر، وليس كراكب وركب ما أنشده أحمد بن يحيى:
ومشيهنّ بالخبيب مور... كأنهنّ الفتيات الزور
[الحجة للقراء السبعة: 2/127]
يسألن عن غور وأين الغور والغور منهنّ بعيد جور ومن قال: حسنا جعله صفة، وكان التقدير عنده: وقولوا للنّاس قولا حسنا. فحذف الموصوف وحسن ذلك في حسن لأنها ضارعت الصفات التي تقوم مقام الأسماء.
نحو الأبرق، والأبطح، وعبد، ألا تراهم يقولون: هذا حسن، ومررت بحسن، ولا يكادون يذكرون معه الموصوف.
ومثل ذلك في حذف الموصوف قوله: قال ومن كفر فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126] أي متاعا قليلا. يدلك على ذلك قوله:
قل متاع الدّنيا قليلٌ [النساء/ 77] وقوله: لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد. متاعٌ قليلٌ [آل عمران/ 197] فحسن هذا وإن كان قد جرى على الموصوف في قوله: إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] فكذلك يحسن في قوله:
وقولوا للنّاس حسناً. فأمّا قوله: ثمّ بدّل حسناً بعد سوءٍ [النمل/ 11] فينبغي أن يكون اسما، لأنه قد عودل به ما لا يكون إلا اسما وهو «السّوء».
وأمّا قوله: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] فيمكن أن يكون أمرا ذا حسن، ويمكن أن يكون الحسن مثل الحلو.
وأما قراءة الكوفيين في الأحقاف إحساناً وهو قوله: ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً [الآية/ 15] فيدل عليه قوله: وبالوالدين إحساناً [البقرة/ 83] والتقدير:
[الحجة للقراء السبعة: 2/128]
وأحسنوا بالوالدين إحسانا. كأنّه لما قال: أخذنا ميثاقهم قال:
وقلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قال: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] فالجارّ متعلق بالفعل المضمر، ولا يجوز أن يتعلّق بالمصدر، لأن ما يتعلّق بالمصدر لا يتقدّم عليه، وأحسن: يصل بالباء كما يصل بإلى، يدلّك على ذلك قوله:
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السّجن [يوسف/ 100] كما تعدّى بإلى في قوله: وأحسن كما أحسن اللّه إليك [القصص/ 77] والتقدير أنه لمّا قال: ووصّينا الإنسان، فكان هذا الكلام قولا صار كأنّه قال: وقلنا أحسن أيّها الإنسان بالوالدين إحسانا. وممّا يؤكّد ذلك ويحسّنه قوله في الأخرى:
واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً...
[النساء/ 36].
ووجه من قرأ في الأحقاف: بوالديه حسناً [الآية/ 15] أن يكون أراد بالحسن الإحسان، فحذف المصدر وردّه إلى الأصل كما قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه... وإن يهلك فذلك كان قدري
أي: تقديري.
[الحجة للقراء السبعة: 2/129]
ويجوز أن يكون وضع الاسم موضع المصدر كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا والباء في هذين الوجهين متعلق بالفعل المضمر كما تعلّقت به في قول الكوفيين في قراءتهم إحسانا، ويدلّك على ذلك قولهم: عمرك الله. فنصب المصدر محذوفا كما ينصبه غير محذوف.
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب وصّينا ويكون حسناً محمولا على فعل كأنه «وصيناه» فقلنا: اتّخذ فيهم حسنا، واصطنع حسنا. كما قال: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] وحكى أبو الحسن: حسنى ولا أدري أهي قراءة أم لغة غير قراءة. إلا أنّه يحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون فعلى الأفعل، إلا أنّه استعمل استعمال الأسماء، فأخرج منها لام المعرفة حيث صارت بمنزلة الأسماء نحو قوله:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت والآخر: أن يكون بمنزلة: الرّجعى والشّورى والبشرى). [الحجة للقراء السبعة: 2/130]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا}
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ {وما يعبدون إلّا الله} بالياء
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم قوله {وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة} {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فحكى ما خاطبهم به فجرى الكلام على لفظ المواجهة
واحتج من قرأ بالياء أن قال أول الآية إخبار عن غيب يعنون
[حجة القراءات: 102]
بذلك قوله {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قالوا فإجراء الكلام على ما ابتدئ به أول الآية وافتتح به الكلام أولى وأشبه من الإنصراف عنه إلى الخطاب
قرأ حمزة والكسائيّ {وقولوا للنّاس حسنا} بفتح الحاء والسّين وحجتهم أن حسنا وصف للقول الّذي كف عن ذكره لدلالة وصفه عليه كأن تأويله وقولوا للنّاس قولا حسنا فترك القول واقتصر على نعته وقد نزل القرآن بنظير ذلك فقال جلّ وعز وجعل فيها رواسي ولم يذكر الجبال وقال {أن اعمل سابغات} ولم يذكر الدروع إذ دلّ وصفها على موصوفها
وقرأ الباقون حسنا بضم الحاء وحجتهم أن الحسن يجمع والحسن يتبعّض أي قولا للنّاس الحسن في الأشياء كلها فما يجمع أولى ممّا يتبعّض قال الزّجاج وفي قوله {حسنا} قولان المعنى قولا للنّاس قولا ذا حسن وزعم الأخفش أنه يجوز أن يكون حسنا في معنى حسن كما قيل البخل والبخل والسقم والسقم وفي التّنزيل {إلّا من ظلم ثمّ بدل حسنا} {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} ). [حجة القراءات: 103]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (44- قوله: {لا تعبدون إلا الله} قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء، وردوه إلى لفظ الغيبة الذي قبله، في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون}، وقرأه الباقون بالتاء حملوه على الخطاب، وعلى ما بعده من الخطاب في قوله: {ثم توليتم}، وقوله: {وأنتم معرضون}، وقوله: {ومن يفعل ذلك منكم} «85» ووقوع الأمر بعده يدل على قوة الخطاب، وذلك قوله: {وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فجرى صدر الكلام في ذلك على حكم آخره، وأيضًا فإن نظائر هذا المعنى أتى على لفظ المخاطبة في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
القرآن، قال الله جل ذكره: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} «آل عمران 81»، وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} «آل عمران 187» والقراءة بالتاء أحب إلي لما ذكرنا، وقد ذكرنا وجه رفع هذا الفعل في كتاب «مشكل الإعراب»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (45- قوله: {حُسنا} قرأه حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، جعلاه صفة لمصدر محذوف تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، وقرأه الباقون بضم الحاء وإسكان السين على أنها لغة في «الحسن»، يقال: الحُسن والحَسن، والبُخل والبَخل، والرُشد والرَشد، فهو كالأول، وتقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، ويجوز أن يكون «الحسن» مصدرًا كالكفر والشكر، فيلزم تقدير حذف مضاف، تقديره: وقولوا للناس قولًا ذا حسن، ويؤول في المعنى إلى حسن). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (28- {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله} [آية/ 83]:-
بالتاء، قرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أن أخذ أن أخذ الميثاق لما يتضمنه من معنى القول يحسن بعده وقوع الخطاب كالأمر، تقول: أخذت على فلانٍ العهد لا يضرب زيدًا ولا تضرب زيدًا، وأمرته لا يشرب الخمر ولا تشرب الخمر، وأكد حسن الخطاب في هذا الموضع قوله في آخر الآية {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على الخطاب، وهو معطوف على الأول فوجب كون الأول أيضًا خطابًا.
[الموضح: 285]
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يَعْبُدُونَ} بالياء.
لأن مبنى الكلام على الغيبة، وهو قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقد جاء على الغيبة ما وقع بعد القول في نحو قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فلأن يجيء سواه على الغيبة أولى). [الموضح: 286]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (29- {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [آية/ 83]:-
بفتح (الحاء) والسين، قرأها حمزة والكسائي ويعقوب.
ووجه ذلك أنه صفة حذف موصوفها، وتقدير الكلام: قولوا للناس قولاً حسنًا فحذف الموصوف، وهذه الصفة أعني {حَسَنًا} يكثر حذف موصوفها نحو قولهم: هذا حسن ومررت بحسن ورأيت حسنًا، وقلما يذكر معه الموصوف.
وقرأ الباقون {حُسْنًا} بضم الحاء وإسكان السين.
وفي علته وجهان:
أحدهما: أن الحسن مصدر كالشكر والكفر، فيكون على حذف المضاف، والتقدير: قولوا للناس قولاً ذا حسن، أو يكون على أن القول جعل الحسن نفسه على الاتساع، كما قالت الخنساء:
10- فإنما هي إقبال وإدبار
[الموضح: 286]
جعلها إقبالاً وإدبارًا لكثرة وقوعهما منها.
والثاني: أن الحسن صفة كالحسن، وذلك نحو: الحلو والمر، وقد جاء الحسن والحسن بمعنى، كقولك عرب وعرب، وكثيرًا ما يقع ف عل وفعل بمعنى واحد كالبخل والبخل والرشد والرشد). [الموضح: 287]

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (تظاهرون عليهم)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: (تظّاهرون) مشددة، وقرأ الكوفيون: (تظاهرون) بتخفيف الظاء.
من قرأ (تظّاهرون) بالتشديد فالأصل فيه تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب المخرجين، وشددت الظاء، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل فيه (تتظاهرون) بتاءين أيضًا، فحذفت التاء الثانية لاجتماعهما.
وتفسير تظاهرون: تتعاونون، يقال: ظاهر فلان فلانا: إذا عاونه.
وقال الله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) معناه: وإن تعاونا.
والظهير: المعين، وقال الله تعالى: (وكان الكافر على ربه ظهير)، أي: معينا.
[معاني القراءات وعللها: 1/162]
قوله جلّ وعزّ: (أسارى تفادوهم)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أسارى) بألف "تفدوهم، بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم والكسائي ويعقوب (أسارى تفادوهم)، بألفين فيهما. وقرأ حمزة "أسرى تقدوهم" بغير ألف فيهما.
ولم يقرأ أحد (أسارى) بفتح الألف.
فمن قرأ (أسارى) جمع الأسير على أسارى، على (فعالى).
ومن قرأ (أسرى) جمعه على (فعلى).
وقال نصير الرازي: أسارى جمع أسرى، والأصل: أسارى، فضمت الألف، كما قالوا: سكارى وسكارى، وكسالى وكسالى.
قال: ومثل أسير وأسرى: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى.
وأما قوله: (تفدوهم) و(تفادوهم) فمن قرأ (تفادوهم) فإن العرب تقول: فاديت الأسير، وكان أخي أسيراً ففاديته بأسير
وقال نصيب:
ولكنّني فاديت أمّي بعدما... علا الرأس كبرةٌ ومشيب
بعبدين مرضيّين لم يك فيهما... لئن عرضا للناظرين معيب
ومن قرأ (تفدوهم) فهو على وجهين:
أحدهما: تفدوهم بالمال، كقوله: (وفديناه بذبحٍ عظيمٍ).
والوجه الثاني: أن يكون معنى فديته: خلصته مما
[معاني القراءات وعللها: 1/163]
كان فيه.
وقال أبو معاذ النحوي: من قرأ (تفدوهم) فمعناه: تشترونهم من العدو وتنقذونهم، ومن قرأ (تفادوهم) فمعناه تماكسون من هم في أيديهم بالثمن ويماكسونكم). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الظّاء وتخفيفها من قوله تعالى: تظاهرون عليهم [البقرة/ 85]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر تظاهرون عليهم مشددة الظاء بألف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/130]
وكذلك في سورة الأحزاب والتحريم.
وروى عليّ بن نصر عن أبي عمرو تظاهرون بفتح التاء والظاء خفيفة.
[وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ تظاهرون خفيفا].
وفي التحريم تظاهرا عليه [الآية/ 4] خفيفة أيضا. وفارقهما عاصم في التي في سورة الأحزاب فقرأ: تظاهرون منهنّ [الآية/ 4] بضم التاء مع التخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ تظاهرون بفتح التاء مع التخفيف مثل سورة البقرة.
قال أبو علي: تظّاهرون: تعاونون. وإن تظّاهرا عليه:
إن تتعاونا عليه.
وقال الأصمعي: اتخذ معك بعيرا، أو بعيرين ظهريّين.
يقول: عدّة وقال: والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ [التحريم/ 4] أي معين، فالتقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد من التنزيل: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69].
وقال رؤبة:
دعها فما النّحويّ من صديقها
[الحجة للقراء السبعة: 2/131]
أي: من أصدقائها. وقال: قالوا ساحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاونا على سحرهما، وسحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاون أصحابهما، لأنه إنما يتعاون السّاحران لا السّحران.
وأما قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55]. فإنه يحتمل تأويلين:
أحدهما: وكان الكافر على أولياء ربه معينا. أي يعادونهم ولا يوالونهم. كما قال: تعرف في وجوه الّذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالّذين يتلون عليهم آياتنا [الحج/ 72] وقال: وإن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر [القلم/ 51].
والآخر: أن يكون هينا عليه لا وزن له ولا منزلة.
وكأنه من قولهم: ظهرت بحاجتي: إذا لم تعن بها قال الشاعر:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي... بظهر ولا يعيا عليّ جوابها
المعنى: لا يعيا عليّ جواب ردّها، فحذف المضاف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/132]
ويمكن أن يكون من هذا قوله:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: تلك شكاة هي عنك بظهر فلا يعبأ بها.
والكافر في قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55] كقولهم: كثر الشاه والبعير، في أنه يراد به الكثرة، وقد جاء ذلك في اسم الفاعل، كما جاء في سائر أسماء الأجناس. أنشد أبو زيد:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي... أو تصبحي في الظاعن المولّي
وقال: فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين [الصف/ 14] أي غالبين لهم. قاهرين. ومنه ظهر المسلمون على دور الحرب.
فأما قول الشاعر:
مظاهرة نيّا عتيقا وعوططا... فقد أحكما خلقا لها متباينا
[الحجة للقراء السبعة: 2/133]
فمن قولهم: ظاهر بين درعين. إذا لبس إحداهما فوق الأخرى. وكذلك مظاهرة نيّا. أي: كأنّها قد لبست الجديد على العتيق، وقال:
هل هاجك الليل كليل على... أسماء من ذي صبر مخيل
ظاهر نجدا فترامى به... منه توالي ليلة مطفل
ظاهر نجدا، أي: علا نجدا، وتوالي السحاب: أواخره، ومطفل، أي: مطر لنتاج ليلته، أي: نشأ الغيم فيها ومطر.
فقراءة الفريقين من ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ومن عاصم وحمزة والكسائي، في البقرة وفي التحريم في المعنى سواء. ألا ترى أن الكلمة: تتفاعلون في المعنى، فأما في اللفظ، فمن قال: تظاهرون أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، ومن قال: تظاهرون حذف التاء التي أدغمها الآخرون من اللفظ فكلّ واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال والمقاربة. فمن قال: تظاهرون خفّف بالإدغام. ومن قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/134]
تظاهرون خفّف بالحذف. فالتاء التي أدغمها ابن كثير، ومن قرأ كقراءته، حذفها عاصم وصاحباه، والدليل على أنها هي المحذوفة: أنها كما اعتلّت بالإدغام اعتلّت بالحذف. قال سيبويه: الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في نحو: فادّارأتم [البقرة/ 72]، وازّيّنت [يونس/ 24] وممّا يقوّي ذلك أن الأولى لمعنى، فإذا حذفت لم يبق شيء يدلّ على المعنى. والثانية من جملة كلمة إذا حذفت دلّ ما بقي من الكلمة عليها.
وتفاعل مطاوع فاعل، كما أنّ تفعّل مطاوع فعّل. فتفاعل نحو: تضارب، وتمادى. وفعّل نحو: قطّعته فتقطّع، وملّأته فتملّأ.
وقد جاء (ظاهر) متعديا. قال: وأنزل الّذين ظاهروهم [الأحزاب/ 26] والتي في البقرة والتحريم في المعنى واحد، وإنّما هما من المعاونة. فأما التي في الأحزاب فليس من المعاونة لكنّها من الظّهار.
قال أبو الحسن: قالوا: ظاهر من امرأته. ومعنى الظّهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. أو يشبهها بعضو منها غير الظّهر مما يحرم على الرجل من أمّه.
وخالف عاصم الفريقين في ما معناه الظّهار. فقرأ الذي معناه: الظّهار على فاعل. وزعموا أنه قراءة الحسن، وكذلك قرأ هذا المعنى في المجادلة على فاعل فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/135]
الّذين يظاهرون بضم الياء وبالألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو في المجادلة: الذين يظهرون [الآية/ 2] بغير ألف.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظاهرون بفتح الياء بألف مشدّدة الظّاء.
فمن قرأ يظهرون جعله مطاوع ظهّر.
ومن قال يظاهرون جعله مطاوع ظاهر.
فإن قلت: فإن (ظهّر) لم يتعدّ، فكيف يكون له مطاوع؟. فإنّه قد يجيء على لفظ المطاوع ما لا يكون منه فعل متعد نحو: انطلق وفعّل وفاعل قد يستعملان بمعنى كقولهم:
ضاعف وضعّف. فكذلك ظاهر وظهّر.
فأمّا من ذهب من المتأخّرين إلى أنّ الظهار لا يقع في أول مرّة حتى يعيد لفظ الظّهار مرة أخرى، فيقول: «أنت عليّ كظهر أمّي»، لأن ذلك عنده هو الظاهر لقوله: والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ [المجادلة/ 3] فليس في ذلك ظاهر كما ادّعاه، وذلك أنّ قوله: يعودون العود على ضربين: أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل- فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل. وكأن هذا الوجه غمض على هذا القائل. وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الوجه
[الحجة للقراء السبعة: 2/136]
الأول في الظّهور، وفي أنّهم يعرفونه كما يعرفون ذاك. فمن ذلك ما أنشده أبو عثمان أو الرّياشيّ:
إذا التّسعون أقصدني سراها... وسارت في المفاصل والعظام
وصرت كأنني أقتاد عيرا... وعاد الرأس مني كالثّغام
ومنه قول الهذلي:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل
المعنى: وصار لون الرأس كلون الثّغام، ولم يكن ثمّ لون ثغام عاد إليه. وإنما المعنى صار لون الرأس كلون الثّغام. فكذلك قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] أي: يصيرون إليه، ومن ذلك قول العجّاج:
[الحجة للقراء السبعة: 2/137]
وقصب حنّي حتى كادا يعود بعد أعظم أعوادا وسمّيت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها ثمّ صار إليها.
فالمعاد كقوله: وإليك المصير [البقرة/ 285] في المعنى.
وقال ساعدة أو غيره:
فقام ترعد كفّاه بمحجنه... قد عاد رهبا رذيّا طائش العدم
وقال امرؤ القيس:
وماء كلون البول قد عاد آجنا... قليل بها الأصوات ذي كلأ مخلي
وقال آخر:
فإن تكن الأيام أحسنّ مرّة... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
وهذا إذا تتبّع وجد كثيرا. وفي بعض ما ذكر منه كفاية تدلّ على غلط من ذهب إلى: أنّ العود لا يكون إلا أن يفارق
[الحجة للقراء السبعة: 2/138]
شيئا كان عليه ثم يصير إليه بعد.
وقد قيل في الآية قولان: يجوز أن يكون في كلّ واحد منهما على غير ما قاله هذا القائل.
قال أبو الحسن: تقديرها: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم. وقال عبيد الله بن الحسين. تأويلها: الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا المعنى: ثم يعودون إلى المقول فيه. والمقول فيه هو النساء. فتحرير رقبةٍ أي: فتحرير رقبة لكفّارة التحريم الواقع من الزوج.
فتقدير قول أبي الحسن الأخفش: والذين يظّاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما قالوا أي: لما نطقوا به من لفظ التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلّا بعد التكفير، فيكون قوله: لما قالوا الجارّ فيه متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ- والجارّ قد يتعلق بالمعنى. وإن تقدم عليه لكونه بذلك مثل الظرف في نحو: أكلّ يوم لك ثوب. ومعنى: يعودون إلى نسائهم، أي: إلى وطئهنّ الذي كانوا حرّموه على أنفسهم بالظّهار منهنّ.
فأمّا التقديم والتأخير الذي قدّره في الآية فهو كثير جدا.
فمثل الآية قوله: اذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون [النمل/ 28]
[الحجة للقراء السبعة: 2/139]
فالمعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم فكما قدم قوله: ثمّ تولّ عنهم والتقدير به التأخير، كذلك في آية الظّهار، التقدير بثمّ وما تعلّق به التأخير.
وقال أبو الحسن عبيد الله بن الحسين: التأويل: والذين يظّاهرون ثمّ يعودون [لما قالوا] أي: يعودون إلى المقول فيه، والمقول فيه: هو القول. فما قالوا والمقالة والقول بمعنى، والمراد بقوله: لما قالوا هو المقول فيه. كما أنّ قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، يراد به مضروبه. وهذا الثوب نسج اليمن. يراد به منسوج اليمن. وهذا النحو كثير في كلامهم، كأنّهم وصفوا المفعول في هذا النحو بالمصدر كما وصفوا الفاعل به في قولهم: «رجل عدل» يراد به عادل. وماء غور أي غائر، فسوّوا بين الفاعل والمفعول في هذا كما سوّوا بينهما في إضافة المصدر إليهما. وفي بناء الفعل لكل واحد منهما.
ومما جاء فيه- المقالة يراد به القول قول كثير:
وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة... ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها
فالمقالة هنا يراد بها: المقول فيه. ألا ترى أنّ المعنى ولو سرت في طلبها، كنت ممن ينيله إيّاها. فإنما يسأل ويطلب
[الحجة للقراء السبعة: 2/140]
ما تعد به الملوك من صلاتها وجوائزها لا ما تلفظ به. وكان أبو الحسن يقول: إنّ ذلك بمنزلة قوله: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» أي: العائد في موهوبه. قال: ألا ترى أن العود لا يكون إلى الهبة التي هي نطق بلفظ يوجب التمليك مع القبض. فإذا لم يجز ذلك، كان المراد الموهوب.
قال: ومن ثمّ لم يوجب أبو حنيفة الكفّارة على من حلف بعلم الله ثم حنث، لأن العلم صار في تعارف الناس:
المعلوم، ألا تراهم يقولون: غفر الله لك علمه فيك، وإنما يراد معلومه. فكذلك قوله: لما قالوا يراد به المقول فيه. ومن ذلك قوله: وهو الّذي يبدؤا الخلق ثمّ يعيده
[الروم/ 27] والخلق هنا المخلوق، فهذا في المعنى كقوله: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29] ألا ترى أن الذي يعاد هو الأجسام المنشرة.
فاللّام في قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] على قول أبي الحسن عبيد الله بن الحسين بمعنى إلى. وإلى واللام يتعاقبان في هذا النحو. ويقع كلّ واحد منها موقع الآخر. قال: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43] وقال فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23] وقال:
قل اللّه يهدي للحقّ، أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع
[الحجة للقراء السبعة: 2/141]
[يونس/ 35] فوصل الفعل مرة باللام ومرة بإلى كما قال:
بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: وأوحي إلى نوحٍ [هود/ 26].
فأمّا قوله: يعودون في الآية، فهو في القولين يجوز على كلّ واحد من المذهبين اللّذين ذكرناهما في العود، من أنّه يكون للحال التي يكون عليها الشيء، ثم ينتقل عنها، ثم يصير إليها.
ويكون للمصير إلى الشيء، وإن لم يكن فيه قبا.
فقول أبي الحسن الأخفش تقديره: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوه من لفظ الظهار الموجب للتحريم، ثم يعودون إلى نسائهم على ما كانوا عليه من قبل من وطئهنّ، ويجوز أن يكون: فتحرير رقبة لما قالوا، ثمّ يصيرون إلى استباحة وطئهنّ الذي كان قد حرم عليهم. وكذلك قول أبي الحسن: أي يصيرون إلى الحالة التي كانوا عليها من فعل الوطء. كما كانوا من قبل أن يحدثوا التحريم بالظّهار.
ويجوز أن يكون المعنى: ثمّ يصيرون إلى استباحة الوطء برفع الكفّارة التحريم الحادث ويخرجون عنه.
فإذا أمكن في الآية كلّ واحد من التأويلين اللذين تحتملهما الكلمة، لم يجز أن يدّعى: أنّ أحدهما هو الظاهر دون الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/142]
اختلفوا في: أسارى تفدوهم [البقرة/ 85] في إثبات الألف في الحرفين وإسقاطها وفي فتح الراء وإمالتها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: أسارى تفدوهم.
وقرأ نافع وعاصم والكسائيّ: أسارى تفادوهم بألف فيهما.
وقرأ حمزة: أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما. وكان أبو عمرو وحمزة والكسائيّ يكسرون الراء، وكان ابن كثير وعاصم يفتحان الراء. وكان نافع يقرأ بين الفتح والكسر.
قال أبو علي: أسير، فعيل، بمعنى مفعول. ألا ترى أنّك تقول: أسرته، كما تقول: قتلته، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول، لم يجمع بالواو والنون كما لم يجمع فعول بهما، ولكن يكسّر على فعلى، نحو لديغ ولدغى. وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وعقير وعقرى. فإذا كان كذلك، فالأقيس:
الأسرى وهو أقيس من أسارى، كما كان أقيس من قولهم:
أسراء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: أسراء، فشبّهوه بظرفاء، كما قالوا في جمع قتيل: قتلاء، فكما أن أسراء وقتلا في جمع قتيل، وأسير، ليس بالقياس، كذلك أسارى ليس بالقياس.
ووجه قول من قال: أسارى أنّه شبّهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرّفه للأسر، كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيّئة شبّه به، فقيل في جمعه:
أسارى كما قيل: كسالى، وأجري عليه هذا الجمع للحمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/143]
على المعنى، كما قيل: مرضى وموتى وهلكى ووجيا. لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء ومدخلين فيها مكرهين عليها مصابين بها، فأشبه في المعنى فعيلا الذي بمعنى مفعول. فلما أشبهه في المعنى أجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول، كما قالوا: امرأة حميدة فألحقوها الهاء، وإن كان بمعنى مفعول لمّا كان بمعنى رشيدة ورشيد- فهذه الأشياء مما تحمل على المعنى. وإن لم يكن حملها على المعنى الأصل. عند سيبويه، قال: ولو كان أصلا قبح: هالكون وزمنون، وكذلك أسارى ليس بالأصل في هذا الباب، ولكنه قد استعمل كثيرا في هذا النحو، وإن لم يكن مستمرا كاستمرار فعلى في جمع فعيل الذي بمعنى مفعول. قال سيبويه: وقالوا كسلى، فشبّهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى، فشبّهوه بكسالى.
فهذا يعلم منه أنّ الأصل في فعيل الذي يراد به مفعول أن يجمع على فعلى، وأنّ فعلان نحو: سكران، وكسلان، يجمع على فعالى أو فعالى. وقالوا: كسالى. وكسالى، فكأنّهم جمعوه على فعالى، وإن كانت من أبنية الآحاد نحو: حبارى ورخامى، لما كان فعال قد جاء في بعض أبنية الجموع نحو:
رخال وظؤار وثناء، وقد لحقته تاء التأنيث فقالوا في جمع نقوة نقاوة، كما قالوا: الحجارة والذّكارة، فكما لحق التاء في هذا النحو الّذي يراد به الجمع، كذلك لحق علامة التأنيث في
[الحجة للقراء السبعة: 2/144]
سكارى وكسالى. فجعلت الألف بمنزلة التاء. كما جعلت بمنزلتها في نحو قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ فصار بمنزلة: حاوية وحوايا، وجابية وجوابي، كما صارت، الدّني والقصا بمنزلة الظّلم والثّقب، وقلّ مغالى في الجمع كما قلّ فعالة فيه.
الرّبيع عن أبي العالية في قوله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم الآية [البقرة/ 85] قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم وقد أخذ عليهم الميثاق. أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض: آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم. ومرّ عبد الله بن سلّام على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب فقال ابن سلام:
أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ.
قتادة: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ [البقرة/ 85] كان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
غيره: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم الآية [البقرة/ 85] كانت قريظة والنضير
[الحجة للقراء السبعة: 2/145]
أخوين، وكانوا من اليهود، وكان الكتاب بأيديهم، وكان الأوس والخزرج أخوين، فافترقا وافترقت قريظة والنّضير، فكانت النّضير مع الخزرج، وكانت قريظة. مع الأوس فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا. قال الله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم [البقرة/ 85] قال أبو علي: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم: أي:
يقتل بعضكم بعضا. كقوله: فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم [النور/ 61] أي ليسلّم [بعضكم على بعض].
فديت: فعل يتعدّى إلى مفعولين، ويتعدّى إلى الثاني بالجارّ كقوله: وفديناه بذبحٍ عظيمٍ [الصافات/ 107] وكقوله:
يودّون لو يفدونني بنفوسهم... ومثنى الأواقي والقيان النواهد
فإذا ثقّلت العين زدت على المفعولين ثالثا، كقوله:
لو يستطعن إذا نابتك مجحفة... فدّينك الموت بالأبناء والولد
وقالوا: فادى الأسير: إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا.
قال الأعشى:
عند ذي تاج إذا قيل له... فاد بالمال تراخى ومزح
[الحجة للقراء السبعة: 2/146]
المفعول الأول محذوف. التقدير: فاد الأسرى بالمال.
ومما يؤكّد فاعل في هذا الباب ويثبته أنّه، قد جاء تفادى، وتفاعل إنما هو مطاوع فاعل، كما أن تفعّل مطاوع فعّل. قال:
تفادى إذا استذكى عليها وتتّقي... كما يتّقي الفحل المخاض الجوامز
فأمّا الفداء: فيجوز أن يكون مثل الكتاب، ويجوز أن يكون مصدر فاعل، وقد قالوا: فديته، وافتديته، وأنشد أبو زيد:
ولو أنّ ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
فافتدى يجوز أن يكون بمعنى تفاعل، مثل: ازدوجوا وتزاوجوا، واعتونوا وتعاونوا، ودلّ على ذلك تصحيح العين في افتعلوا، ويجوز أن يكون: فدى وافتدى، مثل: حفر واحتفر، وقلع واقتلع، والأخلق في البيت أن يكون بمنزلة فعلت، على تقدير: ولو أنّ ميتا يفدى لفديته. فمن قرأ: تفادوهم فلأنّ من كلّ واحد من الفريقين فعلا، فمن الآسر دفع الأسير، ومن
[الحجة للقراء السبعة: 2/147]
المأسور منهم دفع لفدائه، فإذا كان كذلك فوجه. تفادوهم ظاهر.
والمفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف، كما كان المفعول الأوّل الذي يصل إليه الفعل بلا حرف محذوفا في قوله: فاد بالمال.
ومن قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل معنى من قرأ:
تفادوهم إلا أنّه جاء بالفعل على يفعل، ألا ترى أنّ في هذا الوجه أيضا دفعا من كلّ واحد من الآسرين والمأسور منهم على وجه الفدية للأسير، والاستنقاذ له من الأسر.
فأمّا الإمالة في الرّاء من أسارى، والتفخيم، فكلاهما حسن، فالإمالة لأن هذه الألف إذا كانت الكلمة على هذه العدّة، لم تكن الألف إلا مثل الألف المنقلبة عن الياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/148]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم
[حجة القراءات: 103]
إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون} 85
- قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {تظاهرون عليهم} بالتّخفيف وقرأ الباقون {تظاهرون} بالتّشديد الأصل فيه تتظاهرون فمن قرأ بالتّشديد أدغم التّاء في الظّاء لقرب المخرجين وأتى بالكلمة على أصلها من غير حذف ومن قرأ {تظاهرون} بالتّخفيف والأصل أيضا فيه تتظاهرون حرف التّاء الثّانية لاجتماع تاءين إحداهما تاء الاستقبال والثّانية تاء تزاد في الفعل فأسقط الثّانية وحجته قوله {ولقد كنتم تمنون الموت} فطرح الثّانية منها
قرأ حمزة {وإن يأتوكم أسارى} بغير ألف جمع أسير وحجته أن كل فعيل من نعوت ذوي العاهات إذا جمع فإنّما يجمع على فعلى وذلك كجمعهم المريض مرضى والجريح جرحى والقتيل قتلى والصريع صرعى وكذلك اسير وأسرى لأنّه قد ناله المكروه والأذى
وقرأ الباقون {أسارى} قال بعض علمائنا هما لغتان كما يقال سكران وسكارى وقال أبو عمرو إذا أخذوا فهم عند الأخذ أسارى وما لم يؤسر بعد منهم أسرى كقوله {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى}
قرأ نافع وعاصم والكسائيّ {تفادوهم} بالألف وحجتهم
[حجة القراءات: 104]
أن هذا فعل من فريقين أي يفدي هؤلاء أساراهم من هؤلاء وهؤلاء أساراهم من هؤلاء وكان أبو عمرو يقول تعطوهم ويعطوكم وتفدوهم تعطوهم فقط
وقرأ الباقون (تفدوهم) أي تشتروهم من العدو وحجتهم في ذلك أن في دين اليهود ألا يكون أسير من أهل ملتهم في إسار غيرهم وأن عليهم أن يفدوهم بكل حال وإن لم يفدهم القوم الآخرون كا قال ابن عبّاس
قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء وحجتهم قوله {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} فيكون قوله {عمّا يعملون} إخبارًا عنهم
وقرأ الباقون {عمّا تعملون} بالتّاء وحجتهم قوله {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ). [حجة القراءات: 105]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (46- قوله: {تظاهرون} قرأه الكوفيون مخففًا، ومثله في التحريم: {وإن تظاهرا عليه} «التحريم 4»، وشددهما الباقون.
47- وعلة ذلك لمن خفف أن الأصل «تتظاهرون» بتاءين، فاستثقل التكرير في فعل، والفعل ثقيل في الجمع، والجمع ثقيل، فحذف إحدى التاءين استخفافًا، وكأنه استثقل الإدغام، لأن الحرف باق بدله مع الإدغام، والمحذوف هي التاء الثانية عند سيبويه، لأن بها يقع التكرير والاستثقال؛ لأن التاء الأولى تدل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
على الاستثقال، ولو حذفت لذهبت الدلالة، والتاء الأولى هي المحذوفة عند الكوفيين لزيادتها.
48- وعلة من شدد أنه كره الحذف، فأدغم التاء الثانية في الظاء، فزال لفظ التكرير، وحسن الإدغام؛ لأنك تبدل من التاء في الإدغام حرفًا أقوى من التاء، وهو الظاء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
85
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (49- قوله: {أسارى تفادوهم} قرأ حمزة «أسرى» على وزن «فعلى» وقرأ الباقون «أسارى» على وزن «فعالى» وقرأ نافع وعاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وبالألف، وقرأ الباقون «تفدوهم» بفتح التاء وإسكان الفاء من غير ألف.
50- وعلة من قرأ «أسرى» على «فعلى» أنه جمع أسير كـ «جريح، وقتيل» بمعنى مأسور ومجروح ومقتول، فلما كان «جريح وقتيل» يُجمعان على «فعلى»، ولا يجمعان على «فعالى» فعل بـ «أسير» ذلك فهو أصله، وبه قرأ الحسن وابن وثاب وابن أبي إسحاق والنخعي وطلحة وعيسى والأعمش.
51- وحجة من قرأ «أسارى» على وزن «فعالى» أنه شبهه بـ «كسالى» وذلك أن الأسير لما كان محبوسًا عن كثير من تصرفاته، صار كالكسلان، الذي حبسه الكسل عن كثير من تصرفه، فلما اشتبها في هذا المعنى حملا في الجمع على بناء واحد، فجمع «كسلان» على «كسلى» وهو باب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
أسير، وجمع «أسير» على «أسارى» وهو باب «كسلان»، فكل واحد محمول على الآخر.
52- وعلة من قرأ «تفادوهم» بألف وضمه التاء أنه ناه على أصل المفاعلة من اثنين لأن كل واحد من الفريقين يدفع من عنده من الأسارى ويأخذ من عند من الآخرين من الأسرى فكل واحد مفادٍ فاعل، والفاعلان بابهما المفاعلة، وأيضًا فإن المفاعلة قد تكون من واحد، فيكون معناه معنى قراءة من قرأ بغير ألف، فيتفق معنى القراءتين، فأما من قرأه بفتح التاء من غير ألف فإنه بناه على أن أحد الفريقين يفدي أصحابه من الفريق الآخر، بمال أو غيره، من عرض، وكذلك العادة في المغلوب، هو يفدي ما أخذ له الغالب، فالفعل من واحد؛ إذ لا يكون كل واحد من الفريقين غالبًا، وإنما تحمل المفاعلة على القراءة بالألف أن لكل واحد من الفريقين أسيرًا فيفادي كل واحد منهما ويدفع ما عنده من الأسرى بما عند الفريق الآخر من الأسرى، ويجوز أن يكون تقاتلا فغلب أحدهما الآخر، وأسرى الغالب، ثم تقاتلا فغلب المغلوب وأسر، ثم تفادوا، وإنما أسروا أسرى هؤلاء وأسرى هؤلاء، والاختيار «أسارى» على «فعالى» وتفدوهم بغير ألف لما ذكرنا من العلة، ولأن القراءتين قد ترجعان إلى معنى، ولأن أكثر القراء على ذلك، وبذلك قرأ مجاهد وابن محيصن والأعرج وشبل، وبه قرأ قتادة وأبو عبد الرحمن وغيرهم، وكان أبو عمرو يقول: الأسرى الذين جاؤوا مستأمنين، والأسارى الذين في الوثاق والسجون أُخذوا قسرا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (53- قوله: {تعملون أولئك} قرأه الحرميان وأبو بكر بالياء،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
ردوه على قوله: {يردون} وعلى قوله: {أولئك الذين}، وقوله: {عنهم}، {ولاهم} فلما أتى كله بلفظ الغائب، حمل صدر الكلام عليه، وقرأ الباقون بالتاء، حملوه على ما تقدم من الخطاب في قوله: {يأتوكم أسارى}، و{محرم عليكم}، وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، وقوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم}، فلما تكرر الخطاب حُمل عليه، وهو الاختيار لكثرة ما قبله من الخطاب؛ ولأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (30- {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [آية/ 85]:-
بتخفيف الظاء، قرأها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي، وكذلك {تَظَاهَرَا} في المتحرم.
ووجه ذلك أن الأصل تتظاهرون، فاستثقلوا اجتماع التاءين سيما مع حرف مقارب لهما في المخرج وهو الظاء، فحذفوا التاء الثانية كراهة اجتماع المثلين مع المقارب. وإنما حذفوا الثانية دون الأولى؛ لأن هذه الثانية هي التي يلحقها الإعلال بالإسكان والإدغام في الماضي نحو: {ادّارَأْتُمْ}
[الموضح: 287]
و {ازَّيَّنَتْ} في تدارأتم وتزينت، ثم إن الأولى جاءت لمعنى المضارعة، فلو حذفت لزال ذاك المعنى.
وقرأ الباقون (تَظَّاهَرُون) بتشديد الظاء، والأصل: تتظاهرون كما سبق، فأدغموا التاء الثانية في الظاء للمقاربة التي بينهما كراهة ما كرهه الآخرون من اجتماع المثلين والمقارب، فخفف هؤلاء بالإدغام ما خفف أولئك بالحذف). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (31- (أسْرى) [آية/ 85]:
قرأ حمزة وحده (أسْرى) بغير ألف.
وذلك لأن أسرى أقيس من الأسارى؛ لأن فعيلاً إنما جاء جمعه على فعلى نحو: قتيل وقتلى وجريح وجرحى، وأصل ذلك إنما يكون لما كان بمعنى مفعول، وقد حمل عليه أشياء وقعت مقاربة له في المعنى نحو مرضى وموتى وهلكى، لما كان هؤلاء مبتلين بهذه الأشياء التي وقعت على غير اختيارهم شبهوا بالجرحى والقتلى إذ كانوا أيضًا كذلك.
وقرأ الباقون {أُسارى} بالألف وضم الهمزة.
ووجه ذلك أن أسيرًا جمع ههنا على أُسارى تشبيهًا بكُسالى، لما كان الأسير ممنوعًا عن الكثير من تصرفه شبه بالكسلان الذي يمتنع عن ذلك بما فيه من العادة المذمومة التي هي الكسل، فلما أشبهه في المعنى شاركه في الجمع على فعالى). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (32- (تفدُوهُمْ) [آية/ 85]:-
بغير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر.
وذلك لأنه يقال: فديت الأسير بالمال، قال الله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ}، وجاء في ذلك أيضًا: فاديته، وقد قيل: إن فديت يكون بالمال، وفاديت بالأسير يقال فاديت أسيري بأسيرٍ آخر، وقيل فديته اشتريته من العدو وفاديته ما كسبت به العدو في الثمن.
وقرأ الباقون، تُفَادوُهُمْ} بالألف.
ووجهه عند من لم يفرق في المعنى بينهما، أن هذا من باب المفاعلة؛ لأنه يكون من كل واحدٍ من الآسر والمستنقذ فعل، فأحدهما يدفع الفداء والآخر يدفع الأسير، فلفظ المفاعلة به أليق). [الموضح: 289]

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:37 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (87) إلى الآية (88) ]


{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ (بروح القدس)
قرأ ابن كثير وحده، (بروح القدس) ساكنة الدال في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: (القدس) مثقلا حيث وقع.
قال أبو منصور: والقدس: الطهارة، وقيل: البركة.
وفيه لغتان:
قدس وقدس، والتخفيف والتثقيل جائزان، وأنشدني أعرابي:
لا نوم حتى تهبطي أرض القدس
وتشربي من خير ماءٍ بقدس
فثقّل كما ترى). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تحريك الدّال وتسكينها من قوله: بروح القدس.
فقرأ ابن كثير وحده: وأيّدناه بروح القدس [البقرة/ 87، 253] مسكّنة الدّال وكذلك في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: القدس مضمومة القاف والدّال.
[قال أبو عليّ]: قوله: وأيّدناه بروح القدس أيّدناه: فعّلناه، من الأيد والآد، وهو القوة، ومثل الأيد والآد في
[الحجة للقراء السبعة: 2/148]
بنائهما على فعل وفعل: العيب والعاب، والذّيم والذام، وجاء في أكثر الاستعمال على فعّلناه لتصحّ العين الثانية لسكون الأولى، وعلى هذا قوله: إذ أيّدتك بروح القدس [المائدة/ 110] ومن قال آيدناه صحّح العين، لأنه إذا صحّت في مثل: أجود، وأطيب، لزم تصحيحها في آيدناه لما كان يلزم من توالي الإعلالين. فمن التصحيح قوله:
ناو كرأس الفدن المؤيد ونظير هذا في كراهتهم توالي الإعلالين، ورفضهم ما يؤدي إليه قولهم: يودّ وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة [الأنفال/ 7] فبنوا الماضي على فعل، ليلزمه في المضارعة يفعل. ولو كان الماضي فعل لكان المضارع مثل: يعد. فيلزم اجتماع إعلالين.
فأمّا روح القدس، فقال قتادة والسّدّيّ، والرّبيع والضّحّاك في روح القدس أنّه جبريل- وقال بعض المفسرين:
روح القدس: الإنجيل، أيّد الله عيسى به روحا، كما جعل القرآن روحا في قوله: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا
[الحجة للقراء السبعة: 2/149]
[الشورى/ 52] والقدس والقدس التخفيف والتّثقيل فيه حسنان... وكذلك ما كان مثله نحو: العنق والعنق والطنب والطنب. والحلم والحلم.
وحكى أبو الحسن عن عيسى اطّراد الأمرين فيهما. ومما يدلّ على حسن التثقيل جمعهم ما كان على فعلة على فعلات.
نحو غرفة وغرفات- وركبة وركبات وهذا الأكثر في الاستعمال.
ومنهم من كره الضمّتين- فأسكن العين أو أبدل منها الفتحة نحو: ركبات. وكذلك من أسكن العين منه، والضمّ أكثر كما كان ظلمات أكثر. وأسكن أبو عمرو خطوات وحرّك القدس لأن الحركات في الجمع أكثر منها في الفعل، فأسكن لتوالي الحركات واجتماع الأمثال، ولا يلزمه على هذا الإسكان في الظلمات.
وأما القدس في اللغة فإن أبا عبيدة وغيره قالوا في قوله: ونقدّس لك [البقرة/ 30] التّقديس: التطهير. وقال غيره: إن ابن عباس كان يقول: المقدس: الطاهر، وقال الرّاجز:
الحمد لله العليّ القادس قال: وقالوا: قدّس عليه الأنبياء، أي: برّكوا.
وقال رؤبة:
دعوت ربّ القوّة القدّوسا
[الحجة للقراء السبعة: 2/150]
قال: والمقدّس: المعظّم. وقال: قدّس عليه، أي:
برّك.
قال أبو عليّ: فكأنّ معنى نقدّس لك. ننزّهك عن السوء. فلا ننسبه إليك. ولا ما لا يليق بالعدل. وهذا الوصف في المعنى كقول أمية:
سلامك ربّنا في كلّ فجر... بريئا ما تغنّثك الذّموم
قال أبو عمر: سألت أبا مالك عن قوله: ما تغنّثك.
قال لا تعلّق بك. فاللام فيها على حدها في قوله:
ردف لكم [النمل/ 72] ألا ترى أن المعنى تعظيمه وتنزيهه.
وليس المعنى أنه ينزّه شيء من أجله. ومثل ذلك في المعنى قولهم: سبحان الله، إنما هو براءة الله من السوء وتطهيره منه، ثم صار علما لهذا المعنى، فلم يصرف في قوله:
سبحان من علقمة الفاخر
[الحجة للقراء السبعة: 2/151]
وروح القدس: جبريل كأنّه منسوب إلى الطّهارة، وذلك أنّه ممّن لا يقترف ذنبا، ولا يأتي مأثما، كما قد يكون ذلك من غيره.
وقولنا في صفة الله تعالى: القدّوس: أي: الطاهر المنزّه عن أن يكون له ولد، أو يكون في حكمه وفعله ما ليس بعدل.
فأمّا قولهم: بيت المقدس وقول الراجز:
الحمد لله العليّ القادس فيدلّ على أنّ الفعل قد استعمل من التقديس بحذف الزيادة، أو قدّر ذلك التقدير. فإذا كان كذلك لم يخل المقدس من أن يكون مصدرا أو مكانا. فإن كان مصدرا كان كقوله:
إليّ مرجعكم [لقمان/ 15] ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال. وإن كان مكانا فالمعنى فيه: بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء: أن طهّرا بيتي للطّائفين [البقرة/ 125] وتطهيره على إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وكما جاء: فاجتنبوا الرّجس من الأوثان [الحج/ 30] كذلك وصف بخلاف الرّجس إذا أخلي منها، ومما لا يليق بمواضع النّسك، وإن قدّرت «المقدس» المكان لا المصدر كان المعنى: بيت مكان الطّهارة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/152]
فأمّا ما حكاه قطرب: من أنّهم يقولون قدّس عليه الأنبياء. أي: برّكوا عليه فليس يخلو هذا المقدّس عليه من أن يكون موضع منسك، أو يكون إنسانا. فإن كان موضع نسك، فهو كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم ربّ اجعل هذا البلد آمناً [إبراهيم/ 35]، فكذلك يجوز أن يكون تبريك الأنبياء دعاء منهم له بالتّطهير. وإن كان إنسيّا فهو كقوله:
واجعله ربّ رضيًّا [مريم/ 6] وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعائه للحسن والحسين، وهذا يؤول إلى ذلك المعنى، وكذلك من قال: المقدّس: المعظّم، إنما هو تفسير على المعنى، وكثيرا ما يفعل المفسّرون من غير أهل اللغة، ذلك لمّا رأوا ذلك لا يفعلون إلا بشيء يراد تعظيمه وتبرئته من غير الطّهارة. فسّروه بالمعظّم على هذا المعنى. والأصل: كأنّه التطهير الذي فسّره أبو عبيدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/153] (م)
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو [وَآيَدْنَاه].
قال ابن مجاهد -على ما علمناه: ممدوة الألف خفيفة الياء. وقد رُوى عن مجاهد في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُك} آيدتك، قال ابن مجاهد: على فاعلتك.
قال أبو الفتح: هذا الذي توهمه ابن مجاهد، وأن آيدتك فاعلتك لا وجه له، وإنما آيدتك أفعلتك من الأَيْد؛ وهو القوة.
وقال أبو علي: إنما كثر فيه أيَّدتك فعَّلتك؛ لما يعرض في آيدتُك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في آيدتك. وأنشدنا قوله:
يُنْبي تجاليدي وأَقتادَها ... ناوٍ كرأس الفدَنِ الْمُويَد
[المحتسب: 1/95]
فهذا من آيدته؛ أي: قويته؛ لأنه مُفعَل كمُكْرَم ومُقتَل ومُؤدَم، ولو كان آيدتك -كما ظن ابن مجاهد فاعلتك- لكان اسم المفعول منه مُؤايَد كمقاتَل ومضارَب؛ ولكن قراءة من قرأ: [آتَيْنَا بِهَا] فاعلنا، ولو كان أفعلنا لما احتاج إلى حرف الجر؛ لأنه إنما يقال: أتيت زيدًا بكذا وآتيته؛ كقولك: أعطيته كذا، فكذاك لو كان آتينا أفعلنا لكان آتيناها كقولك: أعطيناها، أنت لا تقول: آتيته بكذا، كما لا تقول: أعطيته بكذا، فقوله في تلك القراءة: [آتيناها] كقولك: حاضرنا بها، وشاهدنا بها، وهذا واضح.
ومعنى قول أبي علي: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت إذا كانت حرف علة فأقمت زيدًا وأشرته وأبعته -أي: عرضته للبيع- لتتابع فيه إعلالان؛ لأن أصل آيدت: أَأْيدت، كما أن أصل آمن: أَأْمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفًا لاجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، والأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآلف، وفي الأسماء نحو: آدم وآدر.
فكان يجب أيضًا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوًا؛ لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها، ولَا بُدَّ من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها، كما قلبت في تكسير آدم أوادم، فكان يلزم على هذا أن تقول: أَوَدتُه كأَقَمْتُه وأدرته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوًا فتعتل الفاء والعين جميعًا، وإذا أدى القياس إلى هذا رُفض، وكثر فيه فعَّلْتُ أيدت ليؤمن ذانك الاعتلالان، فلما استُعمل شيء منه جاء قليلا شاذًّا؛ أعني: آيدت.
وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت، وهي حرف علة على الصحة نحو قوله:
صددت فأَطولتِ الصدود
وقولهم: أغيلت المرأة، وأغيمت السماء، وأَخْوصَ الرِّمثُ، وأعوز القوم،
[المحتسب: 1/96]
وأليث الشجر، وأسوأَ الرجل. ولو خرج على منهج إعلال مثله لم يُخَفْ فيه توالي إعلالين كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها أولى وأجدر؛ فقد ثبت أن قراءة مجاهد: [إذ آيدتك] إنما هو أفعلتك لا فاعلتك، كما ظن ابن مجاهد). [المحتسب: 1/97]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس}
قرأ ابن كثير {وأيدناه بروح القدس} بإسكان الدّال في جميع القرآن كأنّه استثقل الضمتين وحجته قول الشّاعر
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
[حجة القراءات: 105]
وقرأ الباقون بضم الدّال وهو الأصل). [حجة القراءات: 106]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (54- قوله: {القدس} هذا الكلام وقع بعد قصة «يعملون» قرأه ابن كثير بالإسكان حيث وقع على الاستخفاف لتوالي ضمتين، وهي لغة، تقول العرب، الحُلْم والحُلُم، والطُنْب والطُنُب، والقُدْس والقُدُس، وقرأه الباقون بالضم على الأصل، وهو الاختيار؛ لإجماع القراء عليه، ولقلة حروف الكلمة وخفتها، وبذلك قرأ الحسن ومجاهد وابن أبي إسحاق ويحيى وطلحة والأعمش، وهو اختيار أبي حاتم وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (33- (الْقُدْسِ) [آية/ 87]:-
ساكنة الدال، قرأها ابن كثير وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 289]
ووجهه أن القدس والقدس لغتان، وهو الطهارة، والقدس بإسكان الدال مخففة من القدس بضم الدال.
وقرأ الباقون {القُدُسِ} مضمومة الدال، وقد ذكرنا أن التخفيف والتثقيل في هذه الكلمة لغتان، والتثقيل هو الأصل، فأجراها هؤلاء على الأصل). [الموضح: 290]

قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ (قلوبنا غلفٌ)
قرأ أبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه (غلفٌ) بضم اللام.
وأسكنها الباقون.
قال أبو منصور: من قرأ (غلفٌ) فهو جمع غلاف، المعنى: قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك (قالها اليهود).
ومن قرأ (غلفٌ) بسكون اللام فهو جمع أغلف وغلفا، المعنى: قلوبنا في أوعية، كما قال آخرون: (قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه)، وهذا أعجب إليّ أن يقرأ به الشاهد الذي ذكرت من الكتاب، مع أن غلف إذا كان جمع غلاف جاز تسكين اللام معه، كما يقال: مثالٌ ومثلٌ). [معاني القراءات وعللها: 1/165]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد: وكلّهم قرأ (غلف) مخففة [البقرة/ 88].
وروى أحمد بن موسى اللؤلؤيّ، عن أبي عمرو أنه
[الحجة للقراء السبعة: 2/153]
قرأ: غلفٌ بضم اللام والمعروف عنه التخفيف.
قال أبو علي: ما يدرك به المعلومات من الحواسّ وغيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنّه لا يعلم به، وصف بأنّ عليه مانعا من ذلك، ودونه حائلا. فمن ذلك قوله: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] كأنّ القفل لما كان حاجزا من المقفل عليه، وحائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا، جعل مثلا للقلوب في أنّها لا تعي ولا تفقه. وكذلك قوله: لقالوا إنّما سكّرت أبصارنا [الحجر/ 15] أي: قد حارت وحسرت، فلا تدرك ما تدركه على حقيقة. فكأنّ شدة عنادهم يحملهم على الشكّ في المشاهدات. وكذلك قوله:
الّذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذكري [الكهف/ 101] فهذا كقوله: بل هم منها عمون [النمل/ 66] وكقوله: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] لأن العين إذا كانت في غطاء لم ينفذ شعاعها، فلم يقع بها إدراك، كما أن الثّقل إذا كان في الأذن لم يسمع بها. فقوله: وفي آذاننا وقرٌ [فصلت/ 5] المعنى فيه: أنها لا تسمع للوقر فيها، كما لا تبصر العين في الغطاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/154]
فقوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] فيمن أسكن اللام التي هي عين جمع أغلف، كما أن حمرا جمع أحمر.
فإذا كان جمع أفعل لم يجز تثقيله إلا في الشّعر.
قال أبو عبيدة: كلّ شيء في غلاف فهو أغلف. قالوا:
سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف: لم يختن.
فقوله: (أغلف): إذا كان في غلاف في المعنى، كقوله:
وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ [فصلت/ 5] كأنها إذا كانت في أكنّة لم ينتفع بها فيما [ينتفع فيه] بالقلب. كما أن العين إذا كانت عليها غشاوة أو كانت في غطاء، لم تبصر. فإذا كان كذلك، كان الوجه الإسكان في اللام التي هي عين، كما اتفقوا عليه، إلا ما رواه اللّؤلؤيّ عن أبي عمرو من تحريك العين.
ومجازه على وجهين: أحدهما أن يكون قوله: قلوبنا غلفٌ أي ذوات غلف فيكون في المعنى كقوله: غلفٌ، وأنت تريد به جمع أغلف. لأنها إذا كانت ذوات غلفٌ فهي في المعنى غلفٌ فتكون كلتا القراءتين تؤول إلى معنى واحد، إلا أن الإسكان أولى، لأن الكلام يحمل على ظاهره من غير حذف مضاف إليه فيه.
والوجه الآخر ما روي عن ابن عباس: من أنّهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم ما أتيت به ممّا تدعونا إليه» أو نحو ذلك- فغلف في المعنى مثل الأوعية،
[الحجة للقراء السبعة: 2/155]
ألا ترى أنّ وعاء الشيء غلاف له). [الحجة للقراء السبعة: 2/156]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 37 ( الأعضاء 0 والزوار 37)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:54 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة