العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > التفسير اللغوي > جمهرة التفسير اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 10:55 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي الآيات من 1 إلى 5]

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

تفسير قوله تعالى: {الم (1)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {الم * ذلك الكتاب...} الهجاء موقوف في كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزماً، إنما هو كلام جزمه نّية الوقوف على كل حرف منه؛ فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر، وإنما قرأت القرّاء :{الم * الله} في "آل عمران" ففتحوا الميم؛ لأن الميم كانت مجزومة لنيّة الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة "ا ل م الله " فتركت العرب همزة الألف من "الله" فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزماً مستحقّاً للجزم لكسرت، كما في {قيل ادخل الجنة}، وقد قرأها رجل من النحويين، وهو: أبو جعفر الرؤاسيّ -وكان رجلاً صالحاً- : {الم الله} بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة، قال الفراء: وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف.
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفاً واحداً؛ مثل قوله "ص" و"ن" و"ق" كان فيه وجهان في العربية؛ إن نويت به الهجاء: تركته جزماً وكتبته حرفاً واحداً، وإن جعلته اسماً للسورة أو في مذهب قسم: كتبته على هجائه "نون" و"صاد" و"وقاف" وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من "نون"، فقلت: "نون والقلم" و"صاد والقرآن" و"قاف"؛ لأنه قد صار كأنه أداة؛ كما قالوا "رجلان"، فخفضوا النون من رجلان؛ لأن قبلها ألفاً، ونصبوا النون في "المسلمون والمسلمين" ؛ لأن قبلها ياء وواواً، وكذلك فافعل بـ "ياسين والقرآن"، فتنصب النون من "ياسين" وتجزمها، وكذلك "حم" و"طس"، ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم"؛ لأنها لا تشبه الأسماء، و"طس" تشبه قابيل، ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل : "الم" و"المر" ونحوهما). [معاني القرآن: 1/9-10]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الم} سكّنت الألف واللام والميم؛ لأنه هجاء، ولا يدخل في حروف الهجاء إعراب، قال أبو النّجم العجليّ:


أقبلت من عند زياد كالخرف
=
أجرّ رجليّ بخٍطّ مخٌتلف
=
كأنمّا تكتّبان لام ألف
فجزمه؛ لأنه هجاء، ومعنى {الم}: افتتاح مبتدأ كلامٍ، شعار للسورة). [مجاز القرآن: 1/28]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الم} أما قوله: {الم} فإن هذه الحروف أسكنت؛ لأن الكلام ليس بمدرج، وإنما يكون مدرجاً لو عطف بحرف العطف، وذلك إن العرب تقول في حروف المعجم كلها بالوقف إذا لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "ألف باء تاء ثاء" ويقولون: "ألفٌ وباءٌ وتاءٌ وثاءٌ"، وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "واحد اثنان ثلاثه"، وبذلك على أنه ليس بمدرج قطع ألف "اثنين" وهي من الوصل، فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت ولكن هذا من العدد، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله، ومثل ذلك: {المص} و{الر} و{المر} و{كهيعص} و{طسم} و{يس} و{طه} و{حم} و{ق} و{ص} إلا أن قوماً قد نصبوا {يس} و{طه} و{حم} وهو كثير في كلام العرب، وذلك أنهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية "هابيل" و"قابيل"، فإما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنه قال: "اذكر حم وطس ويس"، أو جعلوها كالأسماء التي هي غير متمكنة فحرّكوا آخرها حركة واحدة كفتح "أين"، وكقول بعض الناس {الحمد للّه}، وقرأ بعضهم {ص} و{ن} و{ق} بالفتح وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماء للسورة، فصارت أسماء مؤنثة، ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكناً نحو "هند" و"جمل" و"دعد"، قال الشاعر:

وإني لأهوى بيت هندٍ وأهلها = على هنواتٍ قد ذكرن على هند
وهو يجوز في هذه اللغة، أو يكون سماها بالحرف، والحرف مذكر وإذا سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف، فجعل {ص} وما أشبهها اسماً للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.
وقال بعضهم "صاد والقرآن" فجعلها من "صاديت" ثم أمر كما تقول "رام"، كأنه قال: "صاد الحقّ بعملك" أي: تعمده، ثم قال: {والقرآن} فأقسم، ثم قال: {بل الّذين كفروا في عزّةٍ وشقاقٍ} فعلى هذا وقع القسم، وذلك أنهم زعموا أن "بل" هاهنا إنما هي "أن" ؛ فلذلك صار القسم عليها.
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: "إنما هي حروف يستفتح بها"، فإن قيل "هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى؟" فإن معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:

...... = بل وبلدةٍ ما الإنس من أهّالها
أو يقول

....... = بل ما هاج أحزاناً وشجواً قد شجا
فـ"بل" ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر، وقال قوم: إنها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتى بعض الناس علم ذلك؛ وذلك أن بعضهم كان يقول: "الر" و"حم" و"ن" هذا هو اسم "الرحمن" جل وعزّ، وما بقي منها فنحو هذا.
وقالوا أن قوله: {كهيعص} كاف هاد عالم صادق، فاظهر من كل اسم منها حرفًا ليستدل به عليها، فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى؛ لأنه يريد معنى الحروف، ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لأن {الم} و{طسم} و{كهيعص} ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطعة.
وقال: {الم * اللّه لا إله إلاّ هو} فالميم مفتوحة؛ لأنها لقيها حرف ساكن، فلم يكن من حركتها بد، فإن قيل: "فهلا حركت بالجر؟" فإن هذا لا يلزم فيها و إنما أرادوا الحركة، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز، ولا أعلمها إلا لغة.
وقال بعضهم: فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها، وقالوا: منَ الرجل؟، ففتحوا لاجتماع الساكنين، ويقولون: "هل الرجل" و"بل الرجل"، وليس بين هذين وبين "من الرجل" فرق إلا أنهم قد فتحوا "من الرجل" لئلا تجتمع كسرتان، وكسروا {إذ الظّالمون} وقد اجتمعت كسرتان؛ لأن من أكثر استعمالاً في كلامهم من "إذ"، فأدخلوها الفتح ليخف عليهم، وإن شئت قلت "الم" حروف منفصل بعضها من بعض؛ لأنه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضاً منفصلة مما بعدها، فالأصل فيه أن تقول:{الم ألله} فتقطع ألف {الله} إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت "واحد، اثنان" فقطعت، وكما قرأ القراء {ن والقلم} فبينوا النون لأنها منفصلة، ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة ألا ترى أنك تقول "خذه من زيد" و "خذه من عمرو"، فتبين النون في "عمرو" ولا تبين في "زيد"، فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح: جاز أن تحرك الميم بفتحة الألف، وتحذف الألف في لغة من قال: "من أبوك" فلا تقططع، وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج فقالوا {نون والقلم} فأثبتوا النون ولم يبينوها، وقالوا: {يس والقرآن} فلم يبينوا أيضاً، وليست هذه النون ههنا بمنزلة قول {كهيعص} و{طس تلك} و{حم عسق} فهذه النونات لا تبين في القراءة في قراءة أحد؛ لأن النون قريبة من الصاد؛ لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان، وكذلك التاء والسين في {طس تلك} وفي {حم عسق}، فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها، وتبينت النون في {يس} و{نون} لبعد النون من الواو؛ لأن النون بطرف اللسان والواو بالشفتين). [معاني القرآن: 1/15]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الم} فما أشبهها من " قاف" و" صاد " فواتح للسور). [غريب القرآن وتفسيره: 63]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({الم} قد ذكرت تأويله وتأويل غيره من الحروف المقطعة في كتاب: «المشكل»).
[تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله تبارك وتعالى: {الم}، زعم أبو عبيدة معمر بن المثنى أنّها -حروف الهجاء- افتتاح كلام، وكذلك: {المر} و {المص}، وزعم أبو الحسن الأخفش أنّها افتتاح كلام، ودليل ذلك أن الكلام الذي ذكر قبل السورة قد تم.
وزعم قطرب أن:{الم} و{المص} و{المر} و{كهيعص} و{ق} و{يس} و{نون} حروف المعجم ذكرت؛ لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ. ب. ت. ث، فجاء بعضها مقطعاً وجاء تمامها مؤلفاً؛ ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.
ويروى عن الشعبي أنه قال: للّه في كل كتاب سر، وسره في القرآن حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.
ويروى عن ابن عباس ثلاثة أوجه في {الم} وما أشبهها، فوجه منها أنه قال: " أقسم اللّه بهذه الحروف أن هذا الكتاب الّذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: هو الكتاب الذي عنده، عزّ وجلّ لا شك فيه" ، والقول الثاني عنه أن: "{الر} و {حم} و {نون} اسم للرحمن عزّ وجلّ مقطع في اللفظ موصول في المعنى".
والثالث عنه أنّه قال: " {الم} معناه: أنا اللّه أعلم، و{الر} معناه: أنا الله أرى، و{المص} معناه: أنا الله أعلم وأفصل، و{المر} معناه: أنا الله أعلم وأرى".
فهذا جميع ما انتهى إلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى {الم}، وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.
ونقول في إعراب {الم} و {الر} و {كهيعص} وما أشبه هذه الحروف، هذا باب حروف التهجي، وهي: الألف والباء والتاء والثاء، وسائر ما في القرآن منها.
فإجماع النحويين أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب، ومعنى قولنا "مبنية على الوقف" أنك تقدر أن تسكت على كل حرف منها، فالنطق: ألف، لام، ميم ذلك.
والدليل على أنك تقدر السكت عليها: جمعك بين ساكنين في قولك: (لام) وفي قولك (ميم).
والدّليل على أن حروف الهجاء مبنيّة على السكت كما بني العدد على السكت: أنك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين ساكنين، كما تقول إذا عددت واحد، اثنان، ثلاثه، أربعه، ولولا أنك تقدر السكت لقلت: (ثلاثة) بالتاء كما تقول: ثلاثاً يا هذا، فتصير الهاء تاء مع التنوين واتصال الكلام.
وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر، زعم سيبويه أنك أردت أن المعجم حروف يحكى بها ما في الأسماء المؤلفة من الحروف فجرى مجرى ما يحكى به نحو: «غاق» وغاق يا فتى، إنما حكى صوت الغراب.
والدليل أيضاً على أنها موقوفة قول الشاعر:

أقبلت من عند زياد كالخرف
=
تخطّ رجلاي بخط مختلف
=
تكتبان في الطريق لام ألف
كأنه قال: لام ألف، بسكون "لام" ولكنه ألقى حركة همزة " ألف" على الميم، ففتحها.
قال أبو إسحاق: وشرح هذه الحروف وتفسيرها: أنها ليست تجري مجرى الأسماء المتمكنة، والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب، وإنما هي تقطيع الاسم المؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه إلا مع كماله، فقولك "جعفر" لا يجب أن تعرب منه الجيم ولا العين ولا الفاء ولا الراء، دون تكميل الاسم، فإنما هي حكايات وضعت على هذه الحروف، فإن أجريتها مجرى الأسماء وحدثت عنها قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسن.
وكذلك سائر حروف المعجم، فمن قال: هذه كاف أنث لمعنى الكلمة، ومن ذكر فلمعنى الحرف، والإعراب وقع فيها؛ لأنك تخرجها من باب الحكاية.
قال الشاعر:

......... = كافا وميمين وسينا طاسما
وقال أيضاً:

.......... = كما بينت كاف تلوح وميمها
ذكر طاسماً؛ لأنه جعله صفة للسين، وجعل السين في معنى الحرف،
وقال: (تلوح)، فأنث الكاف، ذهب بها مذهب الكلمة، قال الشاعر -يهجو النحويين، وهو يزيد بن الحكم-:

إذا اجتمعوا على ألف وواو = وياء لاح بينهمو جدال
فأما إعراب (أبي جاد) و (هوز) و (حطي)، فزعم سيبويه أن هذه معروفات الاشتقاق في كلام العرب، وهي مصروفة، تقول: علمت أبا جاد وانتفعت بأبي جاد، وكذلك (هوز) تقول: نفعني (هوز)، وانتفعت بـ(هوز)، وكذلك (حطي)، وهن مصروفات منوّنات.
فأما (كلمون) و (سعفص) و (قريشيات)، فأعجميات، تقول: هذه كلمون يا هذا، وتعلمت كلمون، وانتفعت بكلمون، وكذلك (سعفص)، فأما قريشيات؛ فاسم للجمع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول: هذه قريشيات يا هذا، وعجبت من قريشيات يا هذا.
ولقطرب قول آخر في {الم}: زعم أنه يجوز: لما لغا القوم في القرآن، فلم يتفهموه حين قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} أنزل ذكر هذه الحروف، فسكتوا لمّا سمعوا الحروف؛ طمعاً في الظفر بما يحبون؛ ليفهموا بعد الحروف القرآن وما فيه، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.
قال أبو إسحاق: والذي أختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله عزّ وجلّ {الم}: بعض ما يروى عن ابن عباس رحمة اللّه عليه.
وهو أن المعنى: {الم}: أنا اللّه أعلم، وأن كل حرف منها له تفسيره. والدليل على ذلك : أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها. قال الشاعر:

قلنا لها قفي قالت قاف = لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف
فنطق بقاف فقط، يريد قالت: أقف.
وقال الشاعر أيضاً:

نادوهمو أن الجموا ألا تا = قالوا جميعا كلهم ألا فا
تفسيره: نادوهموا أن الجموا، ألا تركبون، قالوا جميعاً: ألا فاركبوا.
فإنما نطق بتاء وفاء كما نطق الأول بقاف.
وأنشد بعض أهل اللغة للقيم بن سعد بن مالك:

إن شئت أشرفنا كلانا فدعا = اللّه ربا جهده فاسمعا
بالخير خيرات وإن شرا فآي = ولا أريد الشر إلا أن تآء
وأنشد النحويون:

بالخير خيرات وإن شرا فا= ولا أريد الشر إلا إن تا
يريدون: إن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
أنشد جميع البصريين ذلك، فهذا الذي أختاره في هذه الحروف، واللّه أعلم بحقيقتها.
فأما {ص}؛ فقرأ الحسن: "صادِ والقرآن"، فكسر الدال، فقال أهل اللغة: معناه: صاد القرآن بعملك، أي: تعمّده، وسقطت الياء للأمر، ويجوز أن تكون كسرت الدال لالتقاء السّاكنين إذا نويت الوصل,، وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إسحاق: "صاد والقرآن"، وقرأ أيضا "قاف والقرآن المجيد".
فالكسر في مذهب بن أبي إسحاق لالتقاء السّاكنين.
وقرأ عيسى بن عمر: "صادَ والقرآن" بفتح الدّال، وكذلك قرأ "نون والقلم " و" قاف والقرآن " بالفتح أيضًا، لالتقاء السّاكنين.
قال سيبويه: إذا ناديت أسحار، والأسحارّ اسم نبت -مشدد الراء-، قلت في ترخيمه: يا أسحارَ أقبل، ففتحت لالتقاء الساكنين كما اخترت الفتح في قولك: عضَّ يا فتى، فإتباع الفتحة الفتحة كإتباع الألف الفتحة، ويجوز: يا أسحارِ أقبل، فتكسر لالتقاء الساكنين.
وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز أن يكون "صاد" و"قاف" و"نون" أسماء للسور منصوبة إلا أنها لا تصرف كما لا تصرف جملة أسماء المؤنث.
والقول الأول أعني التقاء السّاكنين، والفتح والكسر من أجل التقائها أقيس؛ لأنه يزعم أنه ينصب هذه الأشياء كأنه قال: أذكر صاد.
وكذلك يجيز في {حم} و{طس} النصب و{ياسين} أيضاً على أنها أسماء للسور، ولو كان قرئ بها؛ لكان وجهه الفتح لالتقاء السّاكنين.
فأما {كهيعص} فلا تبين فيها النون مع الصاد في القراءة، وكذلك {حم * عسق} لا تبين فيها النون مع السين.
قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبين النون؛ لقرب مخرجها من السين والصاد.
فأما {نون * والقلم} فالقراءة فيها تبيين النون مع الواو التي في {والقلم} وبترك التبيين، إن شئت بينت وإن شئت لم تبيّن، فقلت "نون والقلم"؛ لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.
وأما قوله عزّ وجلّ {الم اللّه}: ففي فتح الميم قولان:
أحدهما لجماعة من النحويين: وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف، فيجب بعدها قطع ألف الوصل، فيكون الأصل: "أ. ل. م. اللّه لا إله إلا هو"، ثم طرحت فتحة الهمزة على الميم، وسقطت الهمزة كما تقول: واحد. اثنان، وإن شئت قلت: واحدِ. اثنان فألقيت كسرة "اثنين" على الدال.
وقال قوم من النحويين: لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكن، فلا بد من فتحة الميم في: {الم اللّه} لالتقاء السّاكنين، يعني: الميم واللام والتي بعدها، وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
فأمّا من زعم أنه إنما ألقي حركة الهمزة فيجب أن يقرأ: {الم الله} وهذا لا أعلم أحداً قرأ به إلا ما ذكر عن الرؤاسي، فأما من رواه عن عاصم؛ فليس بصحيح الرواية.
وقال بعض النحويين: لو كانت محركة لالتقاء السّاكنين لكانت مكسورة، وهذا غلط، لو فعلنا في التقاء السّاكنين إذا كان الأول منهما ياء لوجب أن تقول: "كيف زيد وابن زيد" وهذا لا يجوز، وإنما وقع الفتح؛ لثقل الكسرة بعد الياء). [معاني القرآن: 1/55-66]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (من ذلك قوله تعالى: {الم} اختلف أهل التفسير وأهل اللغة في معنى {الم} وما أشبهها .
قال: فحدثنا عبد الله بن إبراهيم البغدادي بالرملة، قال: حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي أبو عمرو، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى {الم}، قال: "أنا الله أعلم، {الر} أنا الله أرى، {المص} أنا الله أفصل".
وروى أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مثله.
وشرح هذا القول: أن الألف تؤدي عن معنى "أنا"، واللام تؤدي عن اسم الله جل وعز، والميم تؤدي عن معنى "أعلم".
ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ويقول: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى .
وحدثنا بكر بن سهل، قال: حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " {المص} و{طه} و{طس} و{طسم} و{يس} و{ص} و{حم عسق} و} و{ن والقلم} وأشباه هذا هو قسم أقسم الله به وهن من أسماء الله تعالى" .
وروى ابن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة قال: "{الم} قسم".
وحدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى {الم}، قال: "اسم من أسماء القرآن".
وروي عن مجاهد قولان:
قال أبو عبيد: حدثنا أبو مهدي، عن سفيان، عن خصيف أو غيره: هكذا، قال: عن مجاهد، قال -في كله- : "هي فواتح السور" .
والقول الآخر: حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري، قال: حدثني محمد بن بحر، قال: حدثنا موسى، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: " {الم} اسم من أسماء القرآن".
قال أبو العباس: وهو اختياره، روي عن بعض أهل السلف أنه قال: هي تنبيه. وقال أبو عبيده والأخفش: هي افتتاح كلام.
وقطرب يذهب إلى أنها جيء بها؛ لأنهم كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا {الم} و{المص} استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له، أقبل عليهم بالقرآن المؤلف، ليثبت في أسماعهم وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم.
وقال الفراء: المعنى: هذه الحروف يا محمد: ذلك الكتاب.
وقال أبو إسحاق: ولو كان كما قال لوجب أن يكون بعده ابدأ ذلك الكتاب أو ما أشبهه.
وهذه الأقوال يقرب بعضها من بعض؛ لأنه يجوز أن تكون أسماء للسورة، وفيها معنى التنبيه.
فأما القسم فلا يجوز؛ لعلة أوجبت ذلك من العربية.
وأبين هذه الأقوال: قول مجاهد الأول: "أنها فواتح السور"، وكذلك قول من قال: "هي تنبيه"، وقول من قال: "هي افتتاح كلام"، ولم يشرحوا ذلك بأكثر من هذا؛ لأنه ليس من مذهب الأوائل، وإنما باقي الكلام عنهم مجملاً، ثم تأوله أهل النظر على ما يوجبه المعنى.
ومعنى "افتتاح كلام" و"تنبيه": أنها بمنزلة "ها" في التنبيه و"يا" في النداء، والله تعالى أعلم بما أراد.
وقد توقف بعض العلماء عن الكلام فيها وأشكالها، حتى قال الشعبي: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح السور.
وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله تعالى بها). [معاني القرآن: 1/73-78]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الم}: وفواتح السور قد كثر الاختلاف في ذلك، فقيل: هي فواتح، وقيل: هي أحرف مأخوذة من أسماء الله تعالى، كالصاد من صادق، والعين من عليم ونحوه، وقيل: هي أقسام، وقيل: هي أسماء للسور، وقيل: هي مما لا يعلم تأويله إلا الله، وقيل: تنبيه، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "{الم} الألف الله، واللام جبريل، والميم محمد". روي ذلك عن عطاء والضحاك. وكل ما ذكرنا في تفسير أوائل السور عن ابن عباس؛ فهو مما رواه عنه عطاء والضحاك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 23-24]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الم}: أنا الله أعلم). [العمدة في غريب القرآن: 69]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله تعالى: {ذلك الكتاب...} يصلح فيه "ذلك" من جهتين، وتصلح فيه "هذا" من جهة؛ فأما أحد الوجهين من "ذلك" فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، والآخر أن يكون "ذلك" على معنى يصلح فيه "هذا"؛ لأن قوله "هذا" و"ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه، ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان؛ فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا ذلك الخبر، فصلحت فيه "هذا"؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه "ذلك" لانقضائه، والمنقضي كالغائب، ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان "ذلك": "هذا"، و لا مكان "هذا": "ذلك"، وقد قال الله جل وعز: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق} إلى قوله: {وكلّ من الأخيار}، ثم قال: {هذا ذكرٌ}.
وقال جلّ وعزّ في موضع آخر: {وعندهم قاصرات الطّرف أترابٌ}، ثم قال: {هذا ما توعدون ليوم الحساب}،
وقال جلّ ذكره: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ}، ثم قال: {ذلك ما كنت منه تحيد}،
ولو قيل في مثله من الكلام في موضع "ذلك": "هذا"، أو في موضع "هذا": "ذلك" لكان صواباً، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: (هذا فذوقوه)، وفي قراءتنا: {ذلكم فذوقوه}.
فأما مالا يجوز فيه "هذا" في موضع "ذلك"، ولا "ذلك" في موضع "هذا" فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: من هذا الذي معك؟، ولا يجوز هاهنا: "من ذلك؟" ؛ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: {هدىً لّلمتّقين...}: فإنه رفع من وجهين، ونصب من وجهين:-
إذا أردت بـ "الكتاب" أن يكون نعتًا لـ "ذلك" كان الهدى في موضع رفع؛ لأنه خبر لـ "ذلك"؛ كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه.
وإن جعلت {لا ريب فيه} خبره، رفعت أيضاً {هدىً} تجعله تابعاً لموضع: {لا ريب فيه} كما قال الله عزّ وجلّ: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا.
وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء: {الم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدًى ورحمةٌ للمحسنين} بالرفع والنصب، وكقوله في حرف عبد الله: (ءألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخٌ) وهي في قراءتنا: {شيخاً}.
فأما النصب في أحد الوجهين: فأن تجعل "الكتاب" خبرًا لـ"ذلك" فتنصب "هدًى" على القطع؛ لأن "هدًى" نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة.
وإن شئت نصبت "هدىً" على القطع من الهاء التي في "فيه"؛ كأنك قلت: لا شك فيه هادياً.
واعلم أن "هذا" إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان:
أحدها: أن ترى الاسم الذي بعد "هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع؛ كقولك: هذا الحمار فاره جعلت الحمار نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب.
والوجه الآخر: أن يكون ما بعد "هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفاً؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأُسْد كلّها بالخوف.
والمعنى الثالث: أن يكون ما بعد "هذا" واحداً لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضاً منصوب، وإنما نصبت الفعل؛ لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريباً، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛ ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين.
وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّاً من أن يرفعوا "هذا" بـ"الأسد"، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته، ومثله:{والله غفور رحيم}، فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها، والخبر منتظر يتم به الكلام، فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضاً عن قولك "هذا" مستغنياً، ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب، فتحتاج أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتاً، ونصبت خبره للحاجة إليه). [معاني القرآن: 1/11-13]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ذلك الكتاب} معناه: هذا القرآن؛ وقد تخاطب العرب الشاهد فتظهر له مخاطبة الغائب.
قال خفاف بن ندبة السلمىّ، وهي أمه، كانت سوداء، حبشية، وكان من غربان العرب في الجاهلية:

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها= فعمداً على عين تيممّت مالكا
أقول له والرّمح يأطر متنه= تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا
يعني: مالك بن حمّاد الشمخيّ، وصميم خيله: معاوية أخو خنساء، قتله دريد وهاشم ابنا حرمله المريّان.
{لا ريب فيه}: لا شكّ فيه، وأنشدني أبو عمرو الهذليّ لساعدة بن جؤيّة الهذليّ:

فقالوا تركنا الحيّ قد حصروا به = فلا ريب أن قد كان ثمّ لحيم
أي: قتيل، يقال: فلان قد لحم، أي: قتل، وحصروا به: أي: أطافوا به، لا ريب: لا شكّ.
{هدىً للمّتقين} أي: بياناً للمتقين). [مجاز القرآن: 1/29]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى لّلمتّقين}
قال: {لا ريب فيه هدًى لّلمتّقين}، وقال: {فلا إثم عليه} فنصبهما بغير تنوين، وذلك أن كل اسم منكور نفيته بـ"لا" وجعلت "لا" إلى جنب الاسم فهو مفتوح بغير تنوين، لأن "لا" مشبهة بالفعل، كما شبهت "أن" و"ما" بالفعل.
و{فيه} في موضع خبرها وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، و(لا) بمنزلة الفعل. وإنما حذفت التنوين منه؛ لأنك جعلته و"لا" اسما واحدا، وكل شيئين جعلا اسماً لم يصرفا، والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها، وجعل غير متمكن. والاسم الذي بعد "لا" في موضع نصب عملت فيه "لا".
وأما قوله: {لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} فالوجه فيه الرفع؛ لأن المعطوف عليه لا يكون إلا رفعاً، ورفعته لتعطف الآخر عليه، وقد قرأها قوم نصباً، وجعلوا الآخر رفعاً على الابتداء.
وقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ} فالوجه النصب؛ لأن هذا نفي؛ ولأنه كله نكرة؛ وقد قال قوم: {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحجّ} فرفعوه كله، وذلك أنه قد يكون هذا المنصوب كله مرفوعاً في بعض كلام العرب، قال الشاعر:
وما صرمتك حتى قلت معلنةً = لا ناقةٌ لي في هذا ولا جمل
وهذا جواب لقوله: «هل فيه رفثٌ أو فسوقٌ؟» فقد رفع الأسماء بالابتداء وجعل لها خبراً، فلذلك يكون جوابه رفعاً، وإذا قال: "لا شيء" فإنما هو جواب: «هل من شيءٍ أولى؟»؛ لأن «هل من شيء» قد أعمل فيه "من" بالجر، وأضمر الخبر، والموضع مرفوع، مثل : "بحسبك أن تشتمني" فإنما هو "حسبك أن تشتمني" فالموضع مرفوع، والباء قد عملت.
وقد قال قوم (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال في الحجّ) فرفعوا الأول على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كأنه قال "فلا يكونن فيه رفثٌ ولا فسوقٌ" كما تقول: "سمعك إليّ" تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل: "حسبك" و"كفاك"، وجعل الجدال نصباً على النفي. وقال الشاعر:

ذاكم وجدّكم الصّغار بأسره = لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
فرفع أحدهما، ونصب الآخر.
وأما قوله: {لا فيها غولٌ} فرفع؛ لأن "لا" لا تقوى أن تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها بـ"فيها" فرفع على الابتداء، ولم تعمل "لا".
وقوله: {فيه هدًى لّلمتّقين} فـ"فيه" و"عليه" و"إليه"، وأشباه ذلك في القرآن كثير، وذلك أن العرب إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو؛ لأن الهاء حرف خفي وقع بين حرفين متشابهين فثقل ذلك؛
فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء: ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة،
ومن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء: ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة،
ومن كان من لغته إلحاق الياء: ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة، وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو: فإنه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلا مضمومة نحو {فألقى موسى عصاه}، وقوله: {فكذّبوه}، وقوله: {فأنجيناه} وأشباه هذا في القرآن كثير.
ومن العرب من يتم؛ لأن ذلك من الأصل فيقول: (فكذّبوهو) (فأنجيناهو) (وألقى موسى عصاهو) و(لا ريب فيهو هدىً للمتقين)، وهي قراءة أهل المدينة، وقد قال قوم: {إني لكم مّنه نذيرٌ مّبينٌ} فألقوا الواو، وشبهوا الساكن بالياء والواو والألف، وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده (منهو نذير) تلحق الواو وإن كانت لا تكتب، وكل هذا إذا سكت عليه لم تزد على الهاء شيئاً.
ولا تكسر هذه الهاء إلا أن تكون قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور، وإنما يكسر بنو تميم، فأما أهل الحجاز؛ فإنهم يضمون بعد الكسر وبعد الياء أيضاً، قال: {ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} وأهل الحجاز يقولون: (من بعدهو) فيثبتون الواو في كل موضع.
ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضاً، وذلك قليل قبيح يقول: "مررت بِهِ قَبْلُ" و"بِهُ قَبْلُ" يكسرون ويضمون، ولا يلحقون واواً ولا ياء، فيقولون "رَأَيْتُهُ قَبْلُ" فلا يلحقون واواً، وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.
قد قرأ بعض القراء {فيه هدى} فأدغم الهاء الأولى في هاء {هدى}؛ لأنهما التقتا وهما مثلان، وزعموا أن من العرب من يؤنث "الهدى"، ومنهم من يسكن هاء الإضمار للمذكر، قال الشاعر:

فظلت لدى البيت العتيق أخيله = ومطواي مشتاقان له أرقان
وهذه في لغة أسد السراة، زعمواكثير). [معاني القرآن: 1/15-18]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لا ريب فيه}: لا شكّ فيه، {هدىً للمتّقين} أي: رشداً لهم إلى الحق).
[تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين (2)}
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه: هذا الكتاب، قال الشاعر:

أقول له والرمح يأطر متنه= تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا
قال: المعنى: إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين: إن معناه: القرآن، ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}، وكذلك قوله: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون (146)}
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله: {الم * ذلك الكتاب}، فيقال " ذلك " للشيء الذي قد جرى ذكره، فإن شئت قلت فيه: "هذا" وإن شئت قلت فيه: "ذلك"، كقولك: "أنفقت ثلاثة وثلاثة، فذلك ستة" وإن شئت قلت: "هذا ستة".
أو كقوله عزّ وجلّ في قصة فرعون: {فحشر فنادى (23) فقال أنا ربّكم الأعلى (24) فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى (25)}، ثم قال بعد ذلك: {إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى (26)}، وقال في موضع آخر: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون (105)}، ثم قال:{إنّ في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106)}، وقال عزّ وجلّ: {المر تلك آيات الكتاب والّذي أنزل إليك من ربّك الحقّ}، فقال {ذلك}.
فجائز أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي: القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها -على ما وصفنا في شرح حروف الهجاء-.
وموضع {ذلك} رفع؛ لأنه خبر ابتداء على قول من قال: هذا القرآن، ذلك الكتاب.
و{الكتاب} رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك: هذا الرجل أخوك، فـ(الرجل) عطف البيان، أي: يبين من الذي أشرت إليه.
والاسم من ذلك "ذا" والكاف زيدت للمخاطبة ولا حظ لها في الإعراب، قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب؛ لقلت: " ذاك نفسه زيد"، وهذا خطأ لا يجوز إلا هذاك نفسه زيد.
ولذلك "ذانك" يشهد أن الكاف لا موضع لها؛ لو كان لها موضع لكان جراً بالإضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة.
واللام تزاد مع "ذلك" للتوكيد، أعني: توكيد الاسم؛ لأنها إذا زيدت أسقطت معها "ها" تقول: "ذلك الحق" و"ذاك الحق" و"ها ذاك الحق".
ويقبح "هذلك الحق"؛ لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة، وكسرت اللام للالتقاء السّاكنين، أعني الألف من "ذا" واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة، ولكنها كسرت لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن {الم}.
وقوله عزّ وجلّ: {لا ريب فيه}
معناه : لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبة فيه، وأرابني إذا أوهمني الريبة، قال الشاعر:
أخوك الذي إن ربته قال إنما = أربت وإن عاتبته لان جانبه
وموضع {لا ريب} نصب، قال سيبويه: "لا" تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب "إن" لما بعدها إلا أنها تنصبه بغير تنوين؛ وزعم أنها مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فـ(من) غير منفصلة من (رجل)، فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكلون جواب: هل رجل في الدار؟
قيل: معنى "لا رجل في الدار" عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: "لا رجل في الدار".
فكذلك "هل من رجل في الدار؟" استفهام عن الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: "هل رجل في الدار؟" أو "لا رجل في الدار".
جاز أن يكون في الدار رجلان؛ لأنك إنما أخبرت أنه ليس فيها واحد، فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجل في الدار؛ فهو نفي عام، وكذلك {لا ريب فيه}.
وفي قوله {فيه} أربعة أوجه: القراءة منها على وجه واحد ولا ينبغي أن يتجاوز إلى غيره، وهو {فيه هدى} بكسر الهاء، ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان قرئ به: (فيهي هدى) بإثبات الواو، و (فيهي هدي) بإثبات الياء، وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.
فأما قراءة {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، فهو ثقيل في اللفظ، وهو جائز في القياس؛ لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ؛ لأن حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين، وحكى الأخفش أنها قراءة.
وموضع {هدى} نصب، ومعناه: بيان، ونصبه من وجهين:
أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال من قولك: القرآن، ذلك الكتاب هدى، ويجوز أن يكون انتصب بقولك: {لا ريب فيه} في حال هدايته، فيكون حالًا من قولك: لا شك فيه هادياً.
ويجوز أن يكون موضعه رفعاً من جهات:
إحداها أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي: قد جمع أنه الكتاب الذي وعدوا به وأنه هدى، كما تقول: هذا حلو حامض، تريد: أنه قد جمع الطعمين،
ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار "هو"، كأنه لما تم الكلام فقيل: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه}، قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} كأنك قلت: ذلك الكتاب حقّاً؛ لأن لا شك فيه بمعنى حق، ثم قال: بعد ذلك:{فيه هدى للمتقين}). [معاني القرآن: 1/67-70]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ذلك الكتاب لا ريب فيه}
روى خالد الحذاء، عن عكرمة قال: "{ذلك الكتاب}: هذا الكتاب"، وكذا قول أبي عبيدة، وأنكره أبو العباس قال: لأن "ذلك" لما بعُد و"ذا" لما قرُب؛ فإن دخل واحد منهما على الآخر انقلب المعنى، قال: ولكن المعنى: هذا القرآن، ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
وقال الكسائي: كأن الإشارة إلى القرآن الذي في السماء، والقول من السماء، والكتاب والرسول في الأرض، فقال: ذلك الكتاب يا محمد. قال ابن كيسان: وهذا حسن .
قال الفراء: يكون كقولك للرجل وهو يحدثك "ذلك -والله- الحق"، فهو في اللفظ بمنزلة الغائب وليس بغائب، والمعنى عنده: ذلك الكتاب الذي سمعت به.
وقيل: كتاب لما جمع فيه، يقال: كتبت الشيء، أي: جمعته، والكتب: الخرز، وكتبت البغلة منه أيضاً، والكتيبة: لفرقة المجتمع بعضها إلى بعض.
ثم قال تعالى: {لا ريب فيه}، قال قتادة: "لا شك فيه"، وكذا هو عند أهل اللغة .
قال أبو العباس يقال: رابني الشيء: إذا تبينت فيه الريبة، وأرابني: إذا لم أتبينها منه .
وقال غيره: أراب في نفسه، وراب غيره، كما قال الشاعر:

وقد رابني قولها يا هنا = ه ويحك ألحقت شرا بشر
ومنه ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، ومنه: {ريب المنون} أي: حوادث الدهر، وما يستراب به .
وأخبر تعالى أنه لا ريب فيه، ثم قال بعد: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}
فالقول في هذا المعنى: وإن كنتم في قولكم في ريب وعلى زعمكم وإن كنا قد أتيناكم بما لا ريب فيه؛ لأنهم قالوا كما قال الذين من قبلهم {وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}). [معاني القرآن: 1/79-81]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {هدى للمتقين}، والهدى: البيان والبصيرة .
ثم قال تعالى: {للمتقين} أي: الذين يتقون ما نهوا عنه، والتقوى أصلها من التوقي وهو: التستر من أن يصيبه ما يهلك به). [معاني القرآن: 1/81]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت: 345هـ): (قال: الريب: الشك). [ياقوتة الصراط: 169]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لا ريب}: لا شك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه، {هُدًى}: بيان). [العمدة في غريب القرآن: 69]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون}
قوله: {وممّا رزقناهم ينفقون} ففيها لغتان، منهم من يقولها بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو، وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام إلاّ أن يكون ما قبلها مكسوراً أو ياء ساكنة.
فإن كانت ياء ساكنة أو حرف مكسور نحو "عليهم" و"بهم" و"من بعدهم": فمن العرب من يقول: "عليهِمِي" فيلحق الياء ويكسر الميم والهاء، ومنهم من يقول: "عليهُمُو" فيلحق الواو ويضم الميم والهاء، ومنهم من يقول: "عليهُم" و"عليهِم"، فيرفعون الهاء ويكسرونها ويقفون الميم، ومنهم من يقول: "عليهِمُو" فيكسرون الهاء ويضمون الميم ويلحقون الواو، ومنهم من يقول: "عليهُمِي" فيضمون الهاء ويكسرون الميم ويلحقون الياء. وكل هذا إذا وقفت عليه: فآخره ساكن والذي قبله مكسور هو بمنزلة ما قبله ياء، وهذا في القرآن كثير.
ومنهم من يجعل "كم" في "عليكم" و"بكم" إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور بمنزلة "هم"، وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر بن وائل سمعناها من بعضهم يقولون: "عليكمي" و"بكمي"، وأنشد الأخفش قال سمعته من بكر بن وائل:

وإن قال مولاهم على جلّ حاجةٍ = من الأمر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا
وكل هذا إذا لقيه حرف ساكن: حركت الميم بالضم إن كان بعدها واو، فإن كان بعدها واو حذفت الواو، وإن كان ياء حذفت الياء وحركت الميم بالكسر، وكذلك الهاء التي للواحد المذكر من نحو: "مررت به اليوم" و"رأيته اليوم".
وزعموا أن بعض العرب يحرك الميم ولا يلحق ياء ولا واواً في الشعر، وذا لا يكاد يعرف، وقال الشاعر:
تالله لولا شعبتي من الكرم = وشعبتي فيهم من خالٍ وعم).
[معاني القرآن: 1/18-19]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين يؤمنون بالغيب} أي: يصدقون بإخبار اللّه عز وجل عن الجنة والنار، والحساب والقيامة، وأشباه ذلك.
{وممّا رزقناهم ينفقون} أي: يزكّون ويتصدقون). [تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}
معناه: يصدقون، وكل مؤمن بشيء فهو مصدق به، فإذا ذكرت مؤمناً ولم تقل هو مؤمن بكذا وكذا: فهو الذي لا يصلح إلا في اللّه عزّ وجلّ، وموضع {الذين} جر تبعاً للمتقين، ويجوز أن يكون موضعهم رفعاً على المدح كأنّه لما قيل هدى للمتقين، قيل: من هم؟ فقيل: {الّذين يؤمنون بالغيب}. ويجوز أن يكون موضع {الذين} نصباً على المدح أيضاً، كأنه قيل: اذكر الذين.
{والذين} لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر: أتاني الذين في الدار، ورأيت الذين في الدار، ومررت بالذين في الدار، وكذلك: الذي في الدار، وإنما منع الإعراب؛ لأن الإعراب إنما يكون في آخر الأسماء، و"الذي" و"الذين" مبهمان لا تتمان إلا بصلاتهما، فلذلك منعت الإعراب.
وأصل "الذي":لَذٍ على وزن عَمٍ فاعلم، كذلك قال الخليل وسيبويه والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.
فإن قال قائل: فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار، ورأيت اللذَيْن في الدار، فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو "هذان" و"هذين"، وأنت لا تعرب "هذا" ولا "هؤلاء"؟
فالجواب في ذلك: أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى، فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاء لمعنى؛ لأن حروف المعاني لا تثنى.
فإن قال قائل: فلم منعته الإعراب في الجمع؟
قلت: لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا "هؤلاء يا فتى" فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك: "الذين" إنما هو اسم للجمع، كما أن قولك: "سنين يا فتى" اسم للجمع، فبنيته كما بنيت الواحد، ومن جمع "الذين" على حد التثنية قال: جاءني الذونَ في الدار، ورأيت الذين في الدار، وهذا لا ينبغي أن يقع؛ لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية، والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.
ومعنى قوله {بالغيب}: ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب والنشور والقيامة، وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.
وقوله عزّ وجلّ {ويقيمون الصّلاة} معناه: يتمّون الصلاة كما قال: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}.
وضمت الياء من {يؤمنون} و{يقيمون}؛ لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو: أكرم وأحسن وأقام وآمن، فمستقبله: يكرم، ويحسن، ويؤمن، ويقيم، وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بين ذوات الثلاثة نحو: ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو: دحرج. فما كان على ثلاثة: فهو ضرب يضرب أو تضرب أو نضرب، ففصل بالضمة بينهما.
فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟
قيل: الكسرة قد تدخل في نحو تعلم وتبيض؛ ولأن الضمة مع الياء مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياء. فمن قال: أنت تعلم، لم يقل: هو يعلم، فوجب أن يكون الفرق بينهما بالضمة لا غير.
والأصل في (يقيم): يؤقيم، والأصل في يكرم: يؤكرم، ولكن الهمزة حذفت؛ لأن الضم دليل على ذوات الأربعة، ولو ثبت لوجب أن تقول إذا أنبأت عن نفسك: أنا أؤقوم، وأنا أؤكرم، فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاء الفعل، وتبع سائر الفعل باب الهمزة، فقلت: أنت تكرم، ونحن نكرم، وهي تكرم، كما أنّ باب "يعد" حذفت منه الواو؛ لوقوعها بين ياء وكسرة، الأصل فيه "يوعد" ثم حذفت في "تعد" و"نعد" و"أعد".
وقوله عزّ وجلّ: {وممّا رزقناهم ينفقون} معناه: يصدّقون، قال عزّ وجلّ: {وأنفقوا من ما رزقناكم} إلى قوله: {قريب فأصّدّق}). [معاني القرآن: 1/70-73]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}، أصل الإيمان: التصديق، ومنه قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا}، يقال: آمنت بكذا، أي: صدقت به. فإذا قلت "مؤمن" فمعناه: مصدق بالله تعالى لا غير .
ويجوز: أن يكون مأخوذاً من الأمان، أي: يؤمن نفسه بتصديقه وعمله، و"الله المؤمن" أي: يؤمن مطيعه من عذابه .
وروى شيبان، عن قتادة: "{الذين يؤمنون بالغيب} أي: آمنوا بالبعث والحساب والجنة والنار، فصدقوا بموعد الله تعالى".
قال أبو رزين في قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} يعني: القرآن .
قال ابن كيسان: وقيل: {يؤمنون بالغيب } أي: القدر .
والغيب في اللغة: ما اطمأن من الأرض ونزل عما حوله، يستتر فيه من دخله.
وقيل: كل شيء مستتر: غيب، وكذلك المصدر). [معاني القرآن: 1/81-83]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ويقيمون الصلاة} أي: يؤدون الصلاة المفروضة، تقول العرب: قامت السوق وأقمتها، أي: أدمتها ولم أعطلها، و"فلان يقوم بعمله" منه.
ومعنى إقامة الصلاة: إدامتها في أوقاتها، وترك التفريط في أداء ما فيها من الركوع والسجود.
وقيل: الصلاة: مشتقة من "الصلوين" وهما عرقان في الردف ينحيان في الصلاة .
وقيل: الصلاة: الدعاء فيها معروف قال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا = يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فا اغتمضي = نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
والصلاة من الله تعالى: الرحمة، ومن الملائكة: الدعاء، ومن الناس تكون: الدعاء والصلاة المعروفة). [معاني القرآن: 1/83-84]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: يتصدقون ويزكون، كما قال تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}
قال الضحاك: كانت النفقة قرباناً يتقربون بها إلى الله تعالى على قدر جدتهم، حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في "براءة").
[معاني القرآن: 1/84-85]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الغيب": الله جل وعز، ومنه قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب}، قال: بالله جل اسمه، و"الغيب": ما غاب عن العين، وكان محصلاً في القلوب، و"الغيب": المطمئن من الأرض، و"الغيب": شحم ثرب الشاة). [ياقوتة الصراط: 170]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ومما رزقناهم ينفقون} أي: يزكون ويتصدقون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُؤْمِنُونَ}: يصدقون.{بِالْغَيْبِ}: ما غاب عنهم. {يُنفِقُونَ}: يزكون). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}
وقوله عزّ وجلّ: {بما أنزل إليك} إن شئت خففت الهمزة في "أنزل" وكذلك في قوله "أُلئِك"، وهذه لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز: فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.
قال سيبويه: إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف؛ لأنها بعد مخرجها، ولأنها نبرة في الصدر، وهي أبعد الحروف مخرجاً.
وأمّا "إليك" و"إليهم" و"عليك" و"عليهم"، فالأصل في هذا "إلاك" و"علاك" و"إلاهم" و"علاهم"، كما تقول: "إلى زيد" و"على إخوتك"، إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء؛ ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنة وبين الألف التي في أواخر غير المتمكنة التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن "إلى" و"على" و"لدى" لا تنفرد من الإضافة، ولذلك قالت العرب في "كلا" في حال النصب والجر: "رأيت كليهما" و"كليكما" و"مررت بكليهما" و"كليكما"، ففصلت بين الإضافة إلى المظهر والمضمر، لما كان "كلا" لا ينفرد، ولا يكون "كلامًا إلا بالإضافة). [معاني القرآن: 1/73-74]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي: لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، كما فعله اليهود والنصارى). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} سميت "آخرة" لأنها بعد "أولى"، وقيل: لتأخرها من الناس، وجمعها "أواخر").[معاني القرآن: 1/85]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({المفلحون}: كل من أصاب شيئا من الخير فهو مفلح، ومصدره: الفلاح وهو: البقاء، وكل خير، قال لبيد بن ربيعة:

نحلّ بلاداً كلها حلّ قبلنا= ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير
الفلاح أي البقاء، وقال عبيد بن الأبرص:

أفلح بما شئت فقد يدرك= بالضعف وقد يخدع الأريب
والفلاح في موضع آخر: السّحور أيضاً، وفي الأذان: "حيّ على الفلاح" و"حيّ على الفلح" جميعاً، والفلاّح: الأكار، وإنما اشتّق من: يفلح الأرض أي: يشقّها ويثيرها، ومن ذلك قولهم:

.......... = إنّ الحديد بالحديد يفلح
أي: يفلق، والفلاح هو: المكاري في قول ابن أحمر أيضاً:

لها رطل تكيل الزيت فيه= وفلاّحٌ يسوق لها حمارا
فلاّح: مكارٍ، وقال لبيد:

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي= ولقد أفلح من كان عقل
أي: ظفر وأصاب خيراً). [مجاز القرآن: 1/29-31]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({المفلحون}: كل من أصاب شيئا من الخير فقد أفلح، والفعل الفلاح هو أيضا من البقاء).[غريب القرآن وتفسيره: 64]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأولئك هم المفلحون}: من الفلاح، وأصله البقاء ومنه قول عبيد:

أفلح بما شئت فقد يبلغ = بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: ابق بما شئت من كيس أو غفلة.
فكأنه قيل للمؤمنين "مفلحون" لفوزهم بالبقاء في النعيم المقيم، هذا هو الأصل.
ثم قيل ذلك لكل من عقل وحزم، وتكاملت فيه خلال الخير). [تفسير غريب القرآن: 39-40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
موضع {أولئك} رفع بالابتداء، والخبر: {على هدى من ربّهم} إلا أن {أولئك} لا يعرب؛ لأنه اسم للإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاء السّاكنين.
وكذلك قوله: {وأولئك هم المفلحون} إلا أنّ (هم) دخلت فصلاً، وإن شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول: "زيد هو العالم"، فترفع "زيداًَ" بالابتداء، وترفع "هو" ابتداء ثانياً، وترفع "العالم" خبراً لـ"هو"، و"العالم" خبراً لـ"زيد".
فكذلك قوله: {أولئك هم المفلحون} وإن شئت جعلت (هو) فصلاً ، وترفع "زيداً" و"العالم" على الابتداء وخبره، والفصل: هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
وسيبويه يقول: إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم نحو: "كان زيد هو العالم"، و"ظننت زيدا هو العالم".
وقال سيبويه: دخل الفصل في قوله عزّ وجلّ: {.. تجدوه عند اللّه هو خيراً} وفي قوله: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم} وفي قوله: {ويرى الّذين أوتوا العلم الّذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ} وفي قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} وما أشبه هذا مما ذكر الله عزّ وجلّ.
وكذلك لك في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك: كان زيد هو العالم، ذكر "هو" و"أنت" و"أنا" و"نحن"، دخلت إعلاماً بأن الخبر مضمون وأن الكلام لم يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن "هو" بمنزلة "ما" اللغو في قوله عزّ وجلّ: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} فإنما دخولها مؤكدة.
وقوله عزّ وجلّ: {المفلحون} يقال: لكل من أصاب خيراً مفلح، وقال عزّ وجل: {قد أفلح المؤمنون}، وقال: {قد أفلح من زكاها}، والفلاح: البقاء.
قال لبيد بن ربيعة:

نحل بلادا كلها حل قبلنا= ونرجو الفلاح بعد عاد وتبّعا
أي : نرجو البقاء.
وقال عبيد:

أفلح بما شئت فقد يدرك = بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: أصب خيراً بما شئت.
والفلاح: الأكار، والفلاحة صناعته، وإنما قيل له: الفلاح؛ لأنه يشق الأرض، ويقال: فلحت الحديد: إذا قطعته.
قال الشاعر:

قد علمت خيلك أني الصّحصح= إن الحديد بالحديد يفلح
ويقال للمكاري: الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيها بالأكار.
قال الشاعر:
لها رطل تكيل الزيت فيه= وفلاح يسوق لها حماراً).
[معاني القرآن: 1/75-76]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {أولئك على هدى من ربهم}
روى إبراهيم بن سعيد، عن محمد بن إسحاق، قال: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم من عند الله). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
قال ابن إسحاق: أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا .
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء، وقيل للمؤمن: مفلح؛ لبقائه في الجنة .
وقال عبيد:

أفلح بما شئت فقد يدرك = بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: ابق بما شئت من كيس وحمق.
ثم اتسع في ذلك، حتى قيل لكل من نال شيئاً من الخير: مفلح). [معاني القرآن: 1/86]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : (و"الهدى": البيان، و"الهدى": إخراج شيء إلى شيء، و"الهدى": الورع والطاعة، و"الهدى": الهادي، قال: ومنه قوله تعالى: {أو أجد على النار هدى} أي: هادياً). [ياقوتة الصراط: 169-170]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("المفلح": الباقي، و"المفلح": السعيد، من السعادة، والفلاح: البقاء.
والخداع وإظهار خلاف ما في النفس: مرض ونفاق). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون). [العمدة في غريب القرآن: 70]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:16 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 6 إلى 12]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أآنذرتهم أم لم تنذرهم}: هذا كلام هو إخبارٌ، خرج مخرج الاستفهام؛ وليس هذا إلا في ثلاثة مواضع، هذا أحدها، والثاني: ما أبالي أقبلت أم أدبرت، والثالث: ما أدري أولّيت أم جاء فلان).
[مجاز القرآن: 1/31]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إن الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
فأما قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فإنما دخله حرف الاستفهام وليس باستفهام لذكره "السواء"؛ لأنه إذا قال في الاستفهام: "أزيد عندك أم عمرو؟" -وهو يسأل أيهما عندك- فهما مستويان عليه، وليس واحد منهما أحق بالاستفهام من الآخر، فلما جاءت التسوية في قوله: {أأنذرتهم} أشبه بذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية، ومثلها: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} ولكن {أستغفرت} ليست بممدودة؛ لأن الألف التي فيها ألف وصل؛ لأنها من (استغفر يَستغفر) فالياء مفتوحة من "يفعل"، وأما {أأنذرتهم} ففيها ألفان: ألف (أنذرت) وهي مقطوعة؛ لأنه يقول "يُنذر" فالياء مضمومة، ثم جعلت معها ألف الاستفهام، فلذلك مددت وخففت الآخرة منهما؛ لأنه لا يلتقي همزتان، وقال: {أفلا تبصرون}، {أم أنا خيرٌ مّن هذا الّذي هو مهينٌ}، وقال بعضهم إنه على قوله: {أفلا تبصرون}، وجعل قوله: {أم أنا خيرٌ مّن هذا الّذي هو مهينٌ} بدلاً من {تبصرون}؛ لأن ذلك عنده بصراً منهم أن يكون عندهم هكذا، وهذه "أم" التي تكون في معنى "أيهما"، وقد قال قوم: "إنها يمانية"، وذلك أن أهل اليمن يزيدون "أم" في جميع الكلام. وأما ما سمعنا من اليمن فيجعلون "أم" مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون "رأيت امرجل" و"قام امرجل" يريدون "الرجل"، ولا يشبه أن تكون (أم أنا خيرٌ) على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد أنه سمع أعرابياً فصيحاً ينشدهم:


يا دهر أم كان مشيي رقصا = بل قد تكون مشيتي ترقّصا
فسأله فقال: معناه: ما كان مشيي رقصا، فـ"أم" ههنا زائدة، وهذا لا يعرف، وقال علقمة بن عبدة:

وما القلب أم ما ذكره ربعيّةً = يخطّ لها من ثرمداء قليب
يريد "ما ذكره ربيعةً " يجعله بدلاً من "القلب".
وقال بعض الفقهاء: "إن معناه: أنه قال فرعون: {أفلا تبصرون} أم أنتم بصراء"، وقال الشاعر:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم
يريد: "أأنت أحسن أم أمّ سالم" فأضمر "أحسن".
يريد: "أليس أنا خيراً من هذا الذي هو مهين"، ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام؛ كأنك تميل إلى أوله، قال: {لاريب فيه من رّبّ العالمين}، {أم يقولون افتراه} وهذا لم يكن قبله استفهام، وهذا قول العرب: "إنها لإبل"، ثم يقولون "أم شاءٌ"، وقولهم"لقد كان كذا وكذا أم حدّثت نفسي"، ومثل قول الشاعر:

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ = غلس الظلام من الرّباب خيالا
وليس قوله: {أم يقولون افتراه}؛ لأنه شك، ولكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم كما تقول: "ألست الفاعل كذا وكذا" ليس تستفهم إنما توبخّه، ثم قال: {بل هو الحقّ من رّبّك}، ومثل هذا في القرآن كثير، قال: {فذكّر فما أنت بنعمة ربّك بكاهنٍ ولا مجنونٍ}، ثم قال: {أم يقولون شاعرٌ نّتربّص به} و {أم عندهم خزائن ربّك} كل هذا على استفهام الاستئناف، وليس لـ"أم" غير هذين الموضعين؛ لأنه أراد أن ينبه، ثم ذكر ما قالوا عليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ليقبح ما قالوا عليه، نحو قولك للرجل "ألخير أحبّ إليك أم الشرّ"؟، وأنت تعلم أنه يقول "الخير"، ولكن أردت أن تقبح عنده ما صنع، وأما قوله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}، فقد نهاه عن الآثم والكفور جميعاً، وقد قال بعض الفقهاء: إن "أو" تكون بمنزلة الواو، وقال:

يهينون من حقروا شأيه = وإن كان فيهم يفي أو يبرّ
يقول: "يفي ويبرّ"، وكذلك هي عندهم ههنا، وإنما هي بمنزلة "كل اللحم أو التمر" إذا رخصت له في هذا النحو، فلو أكل كله أو واحداً منه لم يعص، فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى، فيكون إن ركب الكل أو واحداً قد عصى، كما كان في الأمر إن صنع واحداً أطاع، وقال: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}، ومعناه "ويزيدون"، ومخرجها في العربية إنك تقول: "لا تجالس زيداً أو عمراً أو خالداً"، فإن أتى واحداً منهم أو كلّهم كان عاصياً، كما أنك إذا قلت: "اجلس إلى فلان أو فلان أو فلان" فجلس إلى واحد منهم أو كلهّم كان مطيعاً، فهذا مخرجه من العربية.
وأرى الذين قالوا: إنما "أو" بمنزلة (الواو) إنما قالوها؛ لأنهم رأوها في معناها، وأما {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}، فإنما يقول {أرسلناه إلى مائة ألفٍ} عند الناس، ثم قال: {أو يزيدون} عند الناس؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ، وقد قال قوم: إنما "أو" ههنا بمنزلة "بل"، وقد يقول الرجل "لأذهبنّ إلى كذا وكذا"، ثم يبدو له بعد فيقول "أو أقعد"، فقال ههنا: {أرسلناه إلى مائة ألفٍ} عند الناس، ثم قال: {أو يزيدون} عند الناس، أي: أن الناس لا يشكون أنهم قد زادوا، والوجه الآخر "هكذا" أي: "فكذا حال الناس فيهم " أي: أن الناس يشكون فيهم، وكذا حال "أم" المنقطعة إن شئت جعلتها على "بل" فهو مذهب حسن، وقال متمّم بن نويرة:

فلو كان البكاء يردّ شيئاً = بكيت على جبيرٍ أو عفاقٍ
على المرأين إذ هلكا جميعا = بشأنهما وحزنٍ واشتياق
وقال ابن أحمر:

فقلت البثي شهرين أو نصف ثالثٍ = إلى ذاك ما قد غيّبتني غيابيا
وأما قوله: {أإنا لمبعوثون}، {أو آباؤنا الأوّلون} فإن هذه الواو واو عطف؛ كأنهم قالوا: {أأنا لمبعوثون} فقيل لهم: "نعم وآباؤكم الأوّلون"، فقالوا: {أو آباؤنا}، وقوله: {أولم ير الإنسان}، {أولم يهد لهم}، وأشباه هذا في القرآن كثير، فالواو مثل الفاء في قوله: {أفلم يهد لهم}، وقوله: {أفلم يدّبّروا القول}، وإن شئت جعلت هذه الفاءات زائدة، وإن شئت جعلتها جواباً لشيء، كنحو ما يقولون: "قد جاءني فلان" فيقول: "أفلم أقض حاجته؟" فجعل هذه الفاء معلقة بما قبلها). [معاني القرآن: 1/20-24]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)}
(إنّ) تنصب (الذين)، وهي تنصب الأسماء وترفع الأخبار، ومعناها في الكلام التوكيد، وهي آلة من آلات القسم، وإنّما نصبت ورفعت؛ لأنها تشبه بالفعل، وشبهها به أنها لا تلي الأفعال ولا تعمل فيها، وإنما يذكر بعدها الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل: الفاعل والمفعول، إلا أنه قدم المفعول به فيها؛ ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظ الفعل، وبين ما يشبه به وليس لفظه لفظ الفعل، وخبرها ههنا جملة الكلام، أعني قوله:{سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}.
وترفع {سواء} بالابتداء، وتقوم {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مقام الخبر، كأنه بمنزلة قولك "سواء عليهم الإنذار وتركه".
و{سواء} موضوع موضع (مستو) لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماء الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم.
فأما دخول ألف الاستفهام، ودخول "أم" التي للاستفهام والكلام خبر؛ فإنّما وقع ذلك لمعنى التسوية، والتسوية آلتها ألف الاستفهام و"أم"، تقول: أزيد في الدار أم عمرو؟، فإنما دخلت الألف وأم؛ لأن علمك قد استوى في زيد وعمرو.
وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي علمت ويخلص لك علمه من غيره، فلهذا تقول: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو؟، وإنما تريد أن تسوّي عند من تخبره العلم الذي قد خلص عندك. وكذلك {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} دخلت الألف و"أم" للتسوية.
فأما {أأنذرتهم} فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة، ولا يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين، فأما أهل الحجاز فلا يحققون واحدة منهما، وأما بعض القراء - ابن أبي إسحاق وغيره - فيجمعون في القراءة بينهما، فيقرؤون (أأنذرتهم) وكثير من القراء يخفّف إحداهما.
وزعم سيبويه أن الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول: (أانذرتهم) فيجعل الثانية بين الهمزة والألف، ولا يجعلها ألفا خالصة، ومن جعلها ألفاً خالصة فقد أخطأ من جهتين:
إحداهما: أنه جمع بين ساكنين، والأخرى: إنّه أبدل من همزة متحركة قبلها حركة ألفاً والحركة الفتح، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما قبلها: أن تجعل بين بين، أعني: بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فتقول في سأل: "سال"، وفي رؤوف: "رووف"، وفي بئس: "بيس"، بين بين، وهذا في الحكم واحد وإنما تحكمه المشافهة.
وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى: {فقد جاء أشراطها} تخفيف الأولى.
وزعم سيبويه: أن جماعة من العرب يقرؤون: {فقد جاء أشراطها} يحققون الثانية ويخففون الأولى، وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول: {فقد جاء أشراطها}.
قال الخليل: وإنّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك: آدم، وآخر؛ لأن الأصل في آدم: "أادم"، وفي آخر: "أاخر"، وقول الخليل أقيس، وقول أبى عمرو جيد أيضاً.
قال أبو إسحاق: الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة، ولا يمكن تخفيف الهمزة المبتدأة، ولكن إن ألقي همزة ألف الاستفهام على سكون الميم من عليهم فقلت: "عليهم أنذرتهم" جاز. ولكن لم يقرأ به أحد، والهمزتان في قوله: {فقد جاء أشراطها} همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف الأولى.
فأما من خفف الهمزة الأولى قوله: {أأنذرتهم} فإنه طرحها ألبتّة وألقى حركتها على الميم، ولا أعلم أحداً قرأ بها، والواجب على لغة أهل الحجاز أن يكون "عليهمَ أنذرتهم" فيفتح الميم، ويجعل الهمزة الثانيةبين بين، وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز.
ويجوز أن يكون {لا يؤمنون} خبر "إنّ"، كأنه قيل: "إنّ الذين كفروا لا يؤمنون، سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم".
هؤلاء قوم أنبأ اللّه -تبارك وتعالى- النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يؤمنون كما قال عزّ وجلّ: {ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد}.
فأما الهمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزّ وجلّ: {على البغاء إن أردن تحصّناً} وإذا كانتا مضمومتين نحو قوله: {أولياء أولئك} فإن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول: "على البغا إن أردن" ، "وأوليا أولئك " فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء ويكسرها، ويجعل الهمزة في قولك "أولياء أولئك" الأولى بين الواو والهمزة ويضمها.
وحكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في "البغاء إن" وضمة في "أولياء أولئك".
أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع؛ لأنه الثقة المأمون عند العلماء، إلا إنّه لا يضبط مثل هذا الموضع؛ لأن الذي قاله محال، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة -على ما وصف-: بقيت الحركتان في غير حرف، وهذا محال؛ لأن الحركة لا تكون في غير محرّك.
قال أبو إسحاق: والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه، عن أبي عمرو، وهو اضبط لهذا.
وأما قوله: {السفهاء ألا}، وقوله: {وإليه النشور * أأمنتم من في السماء أن} فإن الهمزتين إذا اختلفتا: حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من الثانية فتحة، وهذا خلاف ما حكاه سيبويه، والقول فيه أيضاً محال؛ لأن الفتحة لا تقوم بذاتها، إنما تقوم على حرف.
وجملة ما يقول النحويون في المسالة الأولى في مثل قوله: {على البغاء إن} أو {أولياء أولئك} ثلاثة أقوال على لغة غير أهل الحجاز:-
فأحد هذه الثلاثة: وهو مذهب سيبويه والخليل: أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بين، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة، فقال: "أولياء أولئك"، وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياء والهمزة، فقال: "على البغاءين"، وأمّا أبو عمرو فقرأ على ما ذكرناه، وأمّا ابن أبي إسحاق ومذهبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين، فيقرأ (أولياء أولئك) و (على البغاء إن أردن) بتحقيق الهمزتين.
وأمّا اختلاف الهمزتين نحو (السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن أبي إسحاق، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه، ويخفف
الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة، فيقول: (السفهاء ألا) بين بين.
ويقول: (من في السماي أن) فيحقق الثانية، وأما سيبويه والخليل فيقولان: (السفهاء ولا) فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة، وفي قوله: (من السماءين) ياء خالصة مفتوحة فهذا جميع ما في هذا الباب.
وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت همزتان طرحت إحداهما، وهذا ليس بثبت؛ لأن القياس لا يوجبه.
وأبو عبيد لم يحقق في روايته؛ لأنه قال: رواه بعضهم، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه.
فإن كان هذا صحيحاً عنه فهو يجوّزه في نحو: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}، وفي مثل قوله: {آلذّكرين حرّم أم الأنثيين} فيطرح همزة الاستفهام؛ لأن "أم" تدل عليها.
قال الشاعر:

لعمرك ما أدري إن كنت داريا= شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
وقال عمر بن أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا= بسبع رمين الجمر أم بثمان
البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه، والبيت الثاني صحيح أيضًا). [معاني القرآن: 1/78-82]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
هم الكفار الذين ثبت في علم الله تعالى أنهم كفار، وهو لفظ عام يراد به الخاص، كما قال تعالى: {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون}، ثم قال جل وعز: {ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد}.
وقال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}). [معاني القرآن: 1/86-87]


تفسير قوله تعالى:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ...}
انقطع معنى "الختم" عند قوله: {وعلى سمعهم} ورفعت "الغشاوة" بـ"على"، ولو نصبتها بإضمار "وجعل" لكان صواباً، وزعم المفضّل أن عاصم بن أبى النّجود كان ينصبها، على مثل قوله في الجاثية: {أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً} ومعناهما واحد؛ والله أعلم.
وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع ويدلّ أوّله على آخره؛ كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن؛ فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليسار؛ فحسن الإضمار لمّا عرف، ومثله في سورة الواقعة: {يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون * بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ}، ثم قال: {وفاكهةٍ ممّا يتخيّرون * ولحم طيرٍ ممّا يشتهون * وحورٍ عينٍ}، فخفض بعض القراء ورفع بعضهم الحور العين، قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهنّ؛ فرفعوا على معنى قولهم: "وعندهم حورٌ عينٌ"، أو "مع ذلك حور عينٌ"؛ فقيل: الفاكهة واللحم لا يطاف بهما، إنما يطاف بالخمر وحدها -والله أعلم- ثم أتبع آخر الكلام أوّله، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، وأنشدني بعض بني أسد يصف فرسه:

علفتها تبناً وماءً بارداً = حتى شتت همّالةً عيناها
والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر.
وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير لقلّة اجتمّاعه، فقولك: قد أعتقت مباركاً أمس وآخر اليوم يا هذا؛ وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم؛ لأن هذا مختلف، لا يعرف أنك أردت ابتعت، ولا يجوز أن تقول: ضربت فلاناً وفلانًا؛ وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلاناً؛ لأنه ليس هاهنا دليل، ففي هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله). [معاني القرآن: 1/12-14]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم}: ثم انقطع النصب، فصار خبراً فارتفعت فصار {غشاوة}؛ كأنها في التمثيل، قال: {وعلى أبصارهم غشاوة} أي: غطاء، قال الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة:

تبعتك إذ عينى عليها غشاوة= فلما انجلت قطّعت نفسي ألومها
). [مجاز القرآن: 1/31]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ}
أما قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ} فإن الختم ليس يقع على الأبصار، إنما قال: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} ثم قال: {وعلى أبصارهم غشاوةٌ} مستأنفاً.
وقوله: {ختم اللّه}؛ لأن ذلك كان لعصيانهم الله فجاز ذلك اللفظ، كما تقول: "أهلكته فلانة" إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا؛ لأنه هلك في اتباعها، أو يكون "ختم" حكم بها أنها مختوم عليها). [معاني القرآن: 1/24]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({غشاوة}: غطاء).[غريب القرآن وتفسيره: 64]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (والخاتم بمنزلة الطّابع، وإنما أراد: أنه أقفل عليها وأغلقها، فليست تعي خيراً ولا تسمعه، وأصل هذا: أن كلّ شيء ختمته، فقد سددته وربطته.
ثم قال عز وجل: وعلى {أبصارهم غشاوةٌ} ابتداء، وتمام الكلام الأول عند قوله: {وعلى سمعهم}.
والغشاوة: الغطاء، ومنه يقال: غشّه بثوب، أي: غطّه. ومنه قيل: غاشية السّرج، لأنها غطاء له، ومثله قوله: {لهم من جهنّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ}). [تفسير غريب القرآن: 40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)}
معنى ختم في اللغة وطبع معنى واحد، وهو: التغطية على الشيء، والاستيثاق من ألا يدخله شيء، كما قال عزّ وجلّ: {أم على قلوب أقفالها}
وقال جلّ ذكره: {كلا بل ران على قلوبهم} معناه : غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون. وكذلك: {طبع عليها بكفرهم} وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون، ولكنهم لم يستعملوا هذه الحواس استعمالاً يجزي عنهم، فصاروا كمن لا يسمع ولا يبصر. قال الشاعر:

....... = أصم عما ساءه سميع
وكذلك قوله جلّ وعزّ {وعلى أبصارهم غشاوة}: هي الغطاء، فأما قوله: {وعلى سمعهم} وهو يريد: "وعلى أسماعهم"، ففيه ثلاثة أوجه:
فوجه منها: أن السمع في معنى المصدر فوحّد، كما تقول: يعجبني حديثكم ويعجبني ضربكم فوحّد؛ لأنه مصدر.
ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى "أسماعهم". قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها= فبيض وأمّا جلدها فصليب
وقال الشاعر أيضاً:

لا تنكري القتل وقد سبينا= في حلقكم عظم وقد شجينا
معناه : في حلوقكم، وقال:

كأنه وجه تركيين قد غضبا= مستهدف لطعان غير تذييب
أما {غشاوة} فكل ما كان مشتملاً على الشيء: فهو في كلام العرب مبني على "فعالة "، نحو: الغشاوة والعمامة والقلادة والعصابة، وكذلك أسماء الصناعات؛ لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها، نحو: الخياطة والقصارة، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفعالة، نحو: الحلاقة والإمارة.
والرفع في {غشاوة} هو الباب، وعليه مذهب القرّاء.
والنصب جائز في النحو على أن المعنى: {وجعل على أبصارهم غشاوة} كما قال اللّه عز وجل في موضع آخر: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} ومثيله من الشعر مما حمل على معناه، قوله:

يا ليت بعلك قد غدا= متقلدا سيفا ورمحا
معناه : متقلداً سيفاً، وحاملاً رمحاً.
ويروي: "غشوة"، والوجه ما ذكرناه. وإنما "غشوة" رد إلى الأصل؛ لأن المصادر كلها ترد إلى "فعلة"، والرفع والنصب في "غشوة" مثله في "غشاوة"). [معاني القرآن: 1/83-84]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}
أي: طبع الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وغطى عليها، على جهة الجزاء بكفرهم وصدهم الناس عن دين الله.
وهؤلاء الكفار: هم الذين سبق في علمه من أنهم لا يؤمنون، ويكون مثل قولهم "أهلكه المال"، "وهب المال بعقله" أي: هلك فيه وبسبه، فهو كقوله: {فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى} فإن ذلك من الله عن فعلهم في أمره). [معاني القرآن: 1/87-88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}
قال سيبويه: غشاوة أي: غطاء). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والختم: منع القلب من الإيمان). [ياقوتة الصراط: 170]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ختم الله}: طبع الله). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({غِشَاوَةٌ}: غطاء). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}
ثم قال: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر} فجعل اللفظ واحداً، ثم قال: {وما هم بمؤمنين} فجعل اللفظ جميعاً، وذلك أن (من)اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعاً في المعنى، ويكون اثنين، فإن لفظت بفعله على معناه: فهو صحيح، وإن جعلت فعله على لفظه واحداً: فهو صحيح، و مما جاء من ذلك قوله: {بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربه و لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} وقال: {ومنهم مّن يستمعون إليك} وقال: {ومنهم مّن ينظر إليك} وقال: {ومن يقنت منكنّ للّه ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرّتين} فقال: {يقنت} فجعله على اللفظ؛ لأن اللفظ في {من} مذكر، وجعل {تعمل} و{نؤتها} على المعنى،
وقد قال بعضهم: (ويعمل) فجعله على اللفظ؛ لأن لفظ (من) مذكر، وقد قال بعضهم: (ومن تقنت) فجعله على المعنى؛ لأنه يعني: امرأة.
وهي حجة على من قال: لا يكون اللفظ في (من) على المعنى إلا أن تكون (من) في معنى (الذي)، فأما في المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في (من) على المعنى.
وقولهم هذا خطأ؛ لأن هذا الموضع الذي فيه (ومن تقنت) مجازاة، وقد قالت العرب: "ما جاءت حاجتك" فأنثوا "جاءت"؛ لأنها لـ"ما"، وإنما أنثوا؛ لأن معنى "ما" هو الحاجة، وقد قالت العرب أو بعضهم: "من كانت أمّك" فنصب، وقال الشاعر:

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني = نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
ويروى "تعال فإن" وقد جعل "من" بمنزلة رجل، قال الشاعر:

ربّ من انضجت غيظاً صدره = قد تمنّى لي شرّاً لم يطع
فلولا أنها نكرة بمنزلة "رجل" لم تقع عليها "ربّ"، وكذلك (ما) نكرة إلا أنها بمنزلة "شيء"، ويقال: أن قوله: {هذا ما لديّ عتيدٌ} على هذا، جعل (ما) بمنزلة "شيء" ولم يجعلها بمنزلة "الذي"، فقال: "ذا شيءٌ لديّ عتيد"، وقال الشاعر:

ربّ ما تكره النفوس من الأمر = له فرجةٌ كحل العقال
فلولا إنها نكرة بمنزلة "من" لم تقع عليها "ربّ"، وقد يكون {هذا ما لديّ عتيدٌ} على وجه آخر، أخبر عنهما خبراً واحداً كما تقول: "هذا أحمر أخضر"، وذلك أن قوماً من العرب يقولون: "هذا عبد اللّه مقبلٌ"، وفي قراءة ابن مسعود: {وهذا بعلي شيخٌ} كأنه أخبر عنهما خبراً واحداً، أو يكون كأنه رفعه على التفسير كأنه إذا قال: {هذا ما لديّ}، قيل: ما هو؟، أو علم أنه يراد ذلك منه فقال: {عتيد} أي: ما عندي عتيد، وكذلك {وهذا بعلي شيخٌ}، وقال الراجز:

من يك ذا بتٍّ فهذا بتّى = مقيّظٌ مصيّف مشتّى
وقال: {إن اللّه نعمّا يعظكم به}، فـ"ما" ههنا اسم ليست له صلة؛ لأنك إن جعلت {يعظكم به} صلة لـ(ما) صار كقولك: "إن الله نعم الشيء" أو "نعم شيئاً " فهذا ليس بكلام، ولكن تجعل (ما) اسماً وحدها كما تقول: "غسلته غسلاً نعمّا"، تريد به: "نعم غسلاً"، فإن قيل: كيف تكون (ما) اسما وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها؟
قلت: "هي بمنزلة "يا أيّها الرجل"؛ لأن "أيّا" ههنا اسم، ولا يتكلم به وحده حتى يوصف فصار (ما) مثل الموصوف ههنا، لأنك إذا قلت "غسلته غسلاً نعمّا" فإنما تريد المبالغة والجودة، فاستغني بهذا حتى تكلم به وحده، ومثل "ما أحسن زيدا" (ما) ههنا وحدها اسم، وقوله "إني مما أن أصنع كذا وكذا" (ما) ههنا وحدها اسم كأنه قال: "إني من الأمر" أو "من أمري صنيعي كذا وكذا"،
ومما جاء على المعنى قوله: {كمثل الذي استوقد ناراً أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} لأن "الذي" يكون للجميع، كما قال: {والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون}). [معاني القرآن: 1/25-27]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)}
عنى بذلك: المنافقين، وإعراب (من) الوقف إلا أنها فتحت لالتقاء السّاكنين: سكون النون من قولك (من)، وسكون النون الأولى من (الناس)، وكان الأصل أن يكسر لالتقاء السّاكنين، ولكنها فتحت لثقل اجتماع كسرتين لو كان: (مِنِ النّاسِ) لثقل ذلك.
فأما عن (الناس) فلا يجوز فيه إلا الكسر؛ لأن أول "عن" مفتوح، و(من) إعرابها الوقف؛ لأنها لا تكون اسما تاما في الخبر إلا بصلة، فلا يكون الإعراب في بعض الاسم.
فأما الإدغام في الياء في (من يقول) فلا يكون غيره، تقول: "من يقوّم" فتدغم بغنة وبغير غنة.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هم بمؤمنين} دخلت الباء مؤكدة لمعنى النفي؛ لأنك إذا قلت: "ما زيد أخوك" فلم يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإذا قلت: "ما زيد بأخيك" و{ما هم بمؤمنين} علم السامع أنك تنفي، وكذلك جميع ما في كتاب الله عزّ وجلّ). [معاني القرآن: 1/83-85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر}
روى إسماعيل السدي، عن ابن عباس قال: "هم المنافقون".
قال أهل اللغة: النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جُحْرٌ يخرج منه اليربوع إذا أخذ عليه الجُحْر الذي يدخل فيه، فقيل: منافق؛ لأنه يدخل الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وما هم بمؤمنين} فنفى عنهم الإيمان؛ لأنهم لا اعتقاد لهم ولا عمل). [معاني القرآن: 1/89]

تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يخادعون} في معنى: يخدعون، ومعناها: يظهرون غير ما في أنفسهم، ولا يكاد يجئ يفاعل إلاّ من اثنين، إلا في حروف هذا أحدهما؛ قوله: {قاتلهم الله} معناها: قتلهم الله). [مجاز القرآن: 1/31]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون}
أما قوله: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا} ولا تكون المفاعلة إلا من شيئين، فإنه إنمّا يقول: {يخادعون اللّه} عند أنفسهم يمنونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم، ذلك لحجة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.
{وما يخدعون إلاّ أنفسهم} وقال بعضهم: (يخادعون)، يقول: يخدعون أنفسهم بالمخادعة لها، وبها نقرأ.
وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول: "باعدته مباعدةً" و"جاوزته مجاوزةً" في أشياء كثيرة، وقد قال: {وهو خادعهم} فذا على الجواب، يقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به "أنا الذي خدعتك" ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، وكذلك {ومكروا ومكر اللّه} و{اللّه يستهزئ بهم} على الجواب، والله لا يكون منه المكر والهزء، والمعنى: أن المكر حاق بهم والهزء صار بهم).
[معاني القرآن: 1/26-28]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم} يريد: إنهم يخادعون المؤمنين باللّه فإذا خادعوا المؤمنين: فكأنهم خادعوا الله، وخداعهم إيّاهم: قولهم لهم إذا لقولهم: {قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم} أي: مردتهم، قالوا: {إنّا معكم، إنّما نحن مستهزؤن}.
وما يُخَادِعون إلّا أنفسهم لأن وبال هذه الخديعة وعاقبتها راجعة عليهم، وهم لا يشعرون). [تفسير غريب القرآن: 40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم وما يشعرون (9)}
يعني به: المنافقين أيضاً.
ومعنى {يخادعون}: يظهرون غير ما في نفوسهم، والتقية تسمّى -أيضاً- خداعاً، فكأنهم لمّا أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعاً، وجاء بـ"فاعل" لغير اثنين؛ لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو "عاقبت اللص" و"طارقت النعل".
وقوله عزّ وجلّ: {وما يخدعون إلّا أنفسهم} تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعذاب والعقاب، {وما يشعرون} أي: وما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب، يقال: "ما شعرت به" أي: ما علمت به، و"ليت شعري ما صنعت" معناه: ليت علمي). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا}
المخادعة في اللغة: إظهار خلاف الاعتقاد، وتسمى التقية خداعاً، وهو يكون من واحد.
قال ابن كيسان: لأن فيه معنى راوغت كأنه قابل شيئاً بشيء). [معاني القرآن: 1/89]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم} أي أن عقوبة ذلك ترجع عليهم،
وفرق أهل اللغة بين "خادع" و"خدع"، فقالوا: "خادع" أي: قصد الخدع وإن لم يكن خدع، و"خدع" معناه: بلغ مراده.
والاختيار عندهم "يخادعون" في الأولى؛ لأنه غير واقع، والاختيار في الثاني "يخدعون"؛ لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم لما يطلع عليه من أخبارهم، فعاد ما ستروه وأظهروا غيره وبالاً عليهم .
وقال محمد بن يزيد: يجوز في الثاني: (وما يخادعون) أي: بتلك المخادعة بعينها إنما يخادعون أنفسهم بها؛ لأن وبالها يرجع عليهم.
ثم قال تعالى: {وما يشعرون} أي: وما يشعرون بذلك، والمعنى: ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم). [معاني القرآن: 1/89-90]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والخدع: منع الحق). [ياقوتة الصراط: 170]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُخَادِعُونَ}: ينافقون). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في قلوبهم مرضٌ} أي: شكّ ونفاق.
{عذابٌ أليمٌ} أي: موجع من الألم، وهو في موضع "مفعل"، قال ذو الرمة:

ونرفع في صدور شمردلاتٍ= يصكّ وجوهها وهجٌ أليم
الشّمردلة: الطويلة من كل شيء). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({في قلوبهم مّرضٌ فزادهم اللّه مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون}
أما قوله: {فزادهم اللّه مرضاً}؛ فمن فخم: نصب الزاي، فقال: (زَادَهم)، ومن أمال: كسر الزاي، فقال: (زِادَهم)؛ لأنها من "زِدْت" أولها مكسور.
فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو -وهم بعض أهل الحجاز- ويقولون أيضاً: {ولمن خاف مقام ربّه} و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء} و{وقد خاب} ولا يقولون (قِالَ) ولا (زِار)؛ لأنه يقول (قُلت) و(زُرت) فأوله مضموم، فإنما يفعلون هذا في ما كان أوله من "فعلت" مكسوراً، إلاّ أنهم ينحون الكسرة كما ينحون الياء في قوله: {وسقاهم ربّهم} و {قد أفلح من زكّاها} ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم.
وما كان من نحو هذا من بنات الواو وكان ثالثاً نحو: {والقمر إذا تلاها} ونحو: {والأرض وما طحاها} فإن كثيراً من العرب يفخمه ولا يميله؛ لأنها ليست بياء فتميل إليها؛ لأنها من "طحوت" و"تلوت".
فإذا كانت رابعة فصاعداً؛ أمالوا وكانت الإمالة هي الوجه؛ لأنها حينئذ قد انقلبت إلى الياء، ألا ترى أنك تقول: "غزوت" و"أغزيت"، ومثل ذلك: {واللّيل إذا يغشاها} و{قد أفلح من تزكّى} و{والنّهار إذا تجلّى} أمالها؛ لأنها رابعة، و"تجلّى" فعلت منها بالواو؛ لأنها من "جلوت"، و"زكا" من "زكوت يزكو" و{واللّيل إذا يغشاها} من "الغشاوة".
وقد يميل ما كان منه بالواو نحو: {تلاها} و{طحاها} ناسٌ كثير؛ لأن الواو تنقلب إلى الياء كثيراً مثل قولهم في حور:حير، وفي مشوب: مشيب، وقالوا "أرضٌ مسنيّة" إذا كان يسنوها المطر، فأمالوها إلى الياء؛ لأنها تنقلب إليها، وأمالوا كل ما كان نحو: "فَعْلَى" و"فُعْلَى"، نحو: بشرى ومرضى وسكرى؛ لأن هذا لو ثنّي كان بالياء، فمالوا إليها.
وأما قوله: {بما كانوا يكذبون} فـ{يكذّبون}: يجحدون، وهو الكفر، وقال بعضهم: {يكذّبون} خفيفة، وبها نقرأ، يعني "يكذبون على الله وعلى الرسل" جعل "ما" والفعل اسماً للمصدر، كما جعل "أن" والفعل اسما للمصدر في قوله "أحبّ أن تأتيني".
وأما المعنى فإنما هو "بكذبهم" و"تكذيبهم", وأدخل "كان"؛ ليخبر أنه كان فيما مضى، كما تقول: "ما أحسن ما كان عبد الله" فأنت تَعْجَبُ من" عبد الله لا من "كونه"، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه، وقال: {فاصدع بما تؤمر} وليس هذا في معنى "فاصدع بالذي تؤمر به"، لو كان هذا المعنى: لم يكن كلاماً حتى تجيء بـ"به"، ولكن "اصدع بالأمر" جعل "ما تؤمر" اسماً واحداً، وقال: {ولا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا} يقول: بالإتيان، يجعل "ما" و"أتوا" اسماً للمصدر، وإن شئت قلت: "أتوا" ههنا "جاءوا" كأنه يقول: "بما جاءوا" يريد "جاءوه" كما تقول "يفرحون بما صنعوا" أي: "بما صنعوه"، ومثل هذا في القرآن كثير، وتقديره "بكونهم يكذبون" فـ"يكذبون" مفعول لـ"كان" كما تقول: "سرني زيد بكونه يعقل" أي: بكونه عاقلاً). [معاني القرآن: 1/28-30]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يخادعون} يظهرون خلاف ما في نفوسهم.
{في قلوبهم مرض}: أي شك ونفاق.
{أليم}: موجع، في معنى "مؤلم"). [غريب القرآن وتفسيره: 65]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({في قلوبهم مرضٌ} أي: شك ونفاق، ومنه يقال: فلان يمرّض في الوعد وفي القول، إذا كان لا يصححه ولا يؤكده). [تفسير غريب القرآن: 41]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {في قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)} معناه: نفاق، وقد يقال: السّقم والمرض في البدن وفي الدّين جميعاً، كما يقال: الصحة في البدن والدّين جميعاً.
فمعنى قوله: {مرض} قال أبو عبيدة: معناه: شك ونفاق، والمرض في القلب: يصلح لكل ما خرج به الإنسان عن الصحة في الدين.
وقوله: {فزادهم اللّه مرضاً} فيه جوابان:
قال بعضهم: زادهم الله بكفرهم. كما قال عزّ وجلّ: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم}.
وقال بعض أهل اللغة: فزادهم اللّه بما أنزل عليهم من القرآن، فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله. قال: والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذا ما أنزلت سورة} إلى قوله: {فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} وهذا قول بين واضح، واللّه أعلم.
وقوله عزّ وجلّ: {ولهم عذاب أليم} معناه موجع يصل وجعه إلى قلوبهم. وتأويل {أليم} في اللغة: مؤلم.
قال الشاعر- وهو عمرو بن معد يكرب الزبيدي- :

أمن ريحانة الداعي السميع= يؤرقني وأصحابي هجوع
معنى {السميع}: المسمع.
وقوله عزّ وجلّ: {بما كانوا يكذبون} ويقرأ: (يكذّبون).
فمن قرأ (يكذبون) بالتخفيف: فإن كذبهم قولهم: أنهم مؤمنون، قال الله عزّ وجلّ: {وما هم بمؤمنين}. وأما (يكذّبون) بالتثقيل، فمعناه: بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم). [معاني القرآن: 1/86-87]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}
روى السدي، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس قال: "يقول: في قلوبهم شك".
وقال غيره: المرض: النفاق والرياء، والمرض: في الجسد، كما أن العمى: في القلب، ويقال: مرض فلان: أصابته علة في بدنه .
فإن قيل: بم أصابهم المرض؟
قيل: فعل هذا بهم عقوبة. وقيل: بإنزال القرآن أصابهم المرض كما قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}.
ثم قال تعالى: {ولهم عذاب أليم} يقال: آلم إذا أوجع، وهو مؤلم وأليم، والألم: الوجع، وجمع أليم: آلام كأشراف، والأليم: الشديد الوجع.
ثم قال تعالى: {بما كانوا يكذبون}
قال أبو حاتم: أي: بتكذيبهم الرسل، وردهم على الله، وتكذيبهم بآياته، قال: ومن خفف فالمعنى عنده: بكذبهم وقولهم آمنا ولم يؤمنوا فذلك كذب). [معاني القرآن: 1/90-92]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والمرض: الكفر، ومنه قوله عز وجل: {في قلوبهم مرض}). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والأليم: المؤلم). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَّرَضٌ}: نفاق. {أَلِيمٌ}: مؤلم). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}
أما قوله: {وإذا قيل لهم} فمنهم من يضم أوله؛ لأنه في معنى "فعل" فيريد أن يترك أوله مضموماً ليدل على معناه.
ومنهم من يكسره؛ لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم، والكسر القياس.
ومنهم من يقول في الكلام: "قد قُولَ لَهُ" و"قد بوع المتاع" إذا أراد "قد بيع" و"قيل"، جعلها واواً حين ضم ما قبلها، لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم.
ومنهم من يروم الضم في "قيل" مثل رومهم الكسر في "ردّ"، لغةٌ لبعض العرب أن يقولوا "ردّ" فيكسرون الراء ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين.
وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمها الكسر كما يروم في "قيل" الضم، وقال الفرزدق:

وما حلّ من جهل حبا حلمائنا = ولا قائل المعروف فينا يعنّف
سمعناه ممن ينشده من العرب هكذا). [معاني القرآن: 1/30-31]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون (11)} معناه: لا تصدوا عن دين اللّه، فيحتمل {إنّما نحن مصلحون} ضربين من الجواب:
أحدهما: أنهم يظنون أنهم مصلحون.
والثاني: أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عندنا إصلاح.
فأما إعراب {قيل}: فآخره مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماضٍ مبني على الفتح، والأصل في قيل: "قول" ولكن الكسرة نقلت إلى القاف؛ لأن العين من الفعل في قولك: "قال" نقلت من حركة إلى سكون، فيجب أن تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.
وبعضهم يروم الضمة في "قيل"، وقد يجوز في غير القرآن: "قد قول ذاك "، وأفصح اللغات "قيل" و"غيض".
{وسيق الّذين اتقوا ربّهم}: إن شئت قلت: "قيل"، و"غيض"، و"سيق" تروم في سائر أوائل ما لم يسم فاعله الضم في هذا الباب).
[معاني القرآن: 1/87]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} فيه قولان:
أحدهما: أنهم قالوا: نحن مصلحون، فليس من عادتنا الإفساد.
والآخر: أنهم قالوا هذا الذي تسمونه فسادا ًهو عندنا صلاح). [معاني القرآن: 1/92]

تفسير قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} معنى ذلك:
"ألا" التنبيه، كما قال الشاعر:

ألا إن الدهر يوم وليلة = وليس على شيء قويم بمستمر
وقوله تعالى: {ولكن لا يشعرون}
قال ابن كيسان: يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم.
قال: ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم كانوا يعملون الفساد ويظهرون الصلاح، وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثاني: أن يكون فسادهم عندهم صلاحاً وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه).
[معاني القرآن: 1/93]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:22 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 13 إلى 20]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنهم هم السّفهاء ولكن لاّ يعلمون}
أما قوله: {أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنهّم هم السّفهاء} فقد قرأهما قوم مهموزتين جميعاً، وقالوا: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم} و {ولا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله} وقالوا (أئذا) ، (أئنا) كل هذا يهمزون فيه همزتين، وكل هذا ليس من كلام العرب إلا شاذاً، ولكن إذا اجتمعت همزتان شتى ليس بينهما شيء: فإن إحداهما تخفف في جميع كلام العرب إلا في هذه اللغة الشاذة القليلة، وذلك أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة منهما أبداً، فجعلوها:
إن كان ما قبلها مفتوحاً: ألفاً ساكنة نحو: "آدم" و"آخر" و"آمن".
وإن كان ما قبلها مضموماً: جعلت واواً نحو: "أوزُزْ" إذا أمرته أن يؤز.
وإن كان ما قبلها مكسوراً: جعلت ياء نحو: "إيت".
وكذلك إن كانت الآخرة متحركة -بأي حركة كانت- والأولى مضمومة أو مكسورة؛ فالآخرة تتبع الأولى نحو: "أنا أُفْعِلُ" من "آب"، فتقول "أووب"، ونحو: "جاء" في الرفع والنصب والجر.
فأما المفتوحة فلا تتبعها الآخرة إذا كانت متحركة؛ لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها، ولكن تكون على موضعها، فإن كانت مكسورة جعلت ياء، وإن كانت مضمومة جعلت واواً، وإن كانت مفتوحة جعلت أيضاً واواً؛ لأن الفتحة تشبه الألف، وأنت إذا احتجت إلى حركتها جعلتها واواً ما لم يكن لها أصل في الياء معروف، فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء، فجعلت الغالب عليها الواو نحو: "آدم" و"أوادم"، فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا وكانتا من كلمتين شتى مخففة إحداهما، ولم يبلغ من استثقالهما ما أن تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة؛ ولأن اللتين في كلمة واحدة لا تفارق إحداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كل واحدة منها على حيالها أثقل منهما في كلمتين؛ لأن ما في الكلمتين كلّ واحدة على حيالها، فتخفيف الآخرة أقيس، كما أبدلوا الآخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الأولى.
فمن خفف الآخرة في قوله: {كما آمن السّفهاء ألا} قال: (السفهاء ولا) فجعل الألف في (ألا) واواً، ومن خفف الأولى جعل الألف التي في (السفهاء) كالواو وهمز ألف (ألاّ).
وأما {أأنذرتهم} فإن الأولى لا تخفف؛ لأنها أول الكلام، والهمزة إذا كانت أول الكلام لم تخفف؛ لأن المخففة ضعفت حتى صارت كالساكن فلا يبتدأ بها، وقد قال بعض العرب (آإذا) و(آانذرتهم) و(آانا قلت لك كذا وكذا) فجعل ألف الاستفهام إذا ضمت إلى همزة يفصل بينها وبينها بألف لئلا تجتمع الهمزتان، كل ذا قد قيل، وكل ذا قد قرأه الناس.
وإذا كانت الهمزة ساكنة؛ فهي في لغة هؤلاء الذين يخففون إن كان ما قبلها مكسوراً: ياء، نحو: (أنبيهم بأسمايهم) ونحو: (نبّينا)، وإن كان مضموماً: جعلوها واواً نحو: "جونه"، وإن كان ما قبلها مفتوحاً: جعلوه ألفاً نحو: "راس" و"فاس"، وإن كانت همزة متحركة بعد حرف ساكن حرّكوا الساكن بحركة ما بعده وأذهبوا الهمزة، يقولون في: {في الأرض}: (فلرض)، وفي: {ما لكم مّن إله}: (منلاهٍ)، يحركون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة -أي حركة كانت- ويحذفون الهمزة.
وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتى والأولى مكسورة والآخرة مكسورة؛ فأردت أن تخفف الآخرة جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة؛ لأن الياء الساكنة تكون بعد المكسورة نحو "هؤلاء يماء الله"، تجعل الآخرة بين بين والأولى محققة.
وإن كانت الآخرة مفتوحة نحو: "هؤلاء أخواتك"، أو مضمومة نحو: "هؤلاء أمّهاتك" لم تجعل بين بين، وجعلت ياء خالصة لانكسار ما قبلها؛ لأنك إنما تجعل المفتوح بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة إذا أردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وإن كان الأول مهموزاً أو غير مهموز فهو سواء إذا أردت تخفيف الآخرة، من ذلك قولهم : "مئين" و"مئير" في قول من خفف.
وإن كان الحرف مفتوحاً بعده همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة جعلت بين بين؛ لأن المفتوح تكون بعده الألف الساكنة والياء الساكنة، نحو : "البيع"، والواو الساكنة نحو: "القول"، وهذا مثل {يتفيّؤ ظلاله} و{ويمسك السّماء أن تقع على الأرض} و(آاذا) و(آانا) إذا خففت الآخرة في كل هذا جعلتها بين بين، والذي نختار تخفيف الآخرة إذا اجتمعت همزتان، إلا أنا نحققهما في التعليم كلتيهما نريد بذلك الاستقصاء. وتخفيف الآخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعاً قراءة أهل الكوفة، وبعض أهل البصرة.
ومن زعم أن الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنما تجعل في موضعها دخل عليه أن يقول: "هذا قاروٌ" و"هؤلاء قاروون" و(يستهزوون)، وليس هذا كلام من خفف من العرب، إنما يقولون: (يستهزئون) و(قارئون).
وإذا كان ما قبل الهمزة مضموماً وهي: جعلتها بين بين، وإن كانت مكسورة أو مفتوحة: لم تكن بين بين وما قبلها مضموم؛ لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة، والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة، وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واواً خالصة؛ لأنهما يتبعان ما قبلهما، نحو: "مررت بأكموٍ" و"رأيت أكمواً" و"هذا غلاموبيك" تجعلها واواً إذا أردت التخفيف، إلا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.
والواو قد تقلب إلى الياء مع "هذا" و"ذلك"، نحو: "هذا غلاميخوانك" و"ولا يحيق المكر السّيّئ يلا".
وإذا كانتا في معنى "فعل" والهمزة في موضع العين: جعلت بين بين؛ لأن الياء الساكنة تكون بعد الضمة، ففي "قيل" يقولون: "قيل"، ومثل ذلك "سيل" و"ريس" فيجعلها بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموماً.
وأما "روس" فليست "فعل"، وإنما هي "فعل" فصارت واوا ً؛ لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة). [معاني القرآن: 1/32-35]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس} يعني: المسلمين، {قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء}؟! أي: الجهلة، ومنه يقال: سفه فلان رأيه؛ إذا جهله، ومنه قيل للبذاء سفه؛ لأنه جهل). [تفسير غريب القرآن: 41]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لا يعلمون (13)}
أصل السفه في اللغة: خفة الحلم، وكذلك يقال : ثوب سفيه إذا كان رقيقاً باليا.
وقوله عزّ وجلّ: {ألا إنّهم هم السّفهاء} معنى (ألا) استفتاح وتنبيه، وقوله: {هم السفهاء} يجوز أن يكون خبر "إنّ" و "هم" فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون: العماد. ويجوز أن يكون "هم" ابتداء، و"السفهاء" خبر الابتداء، و"هم السفهاء" خبر إن). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}
قال ابن عباس: "(الناس) ههنا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".
{قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} قال أبو إسحاق: أصل السفه في اللغة: رقة الحلم، يقال ثوب سفيه، أي: بال رقيق). [معاني القرآن: 1/93-94]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} أي: لا يعلمون أن وبال ذلك يرجع عليهم، ويقال: إذا وصفوا بالسفه فلم لا يكون ذلك عذراً لهم؟
فالجواب: أنه إنما لحقهم ذلك إذ عابوا الحق فأنزلوا أنفسهم تلك المنزلة، كما قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام} لصدهم وإعراضهم، إذ بعده {بل هم أضل سبيلاً}؛ لأن الأنعام قد يصرفها راعيها كيف شاء وهؤلاء لا يهتدون بالإنذار والعظة، وأيضاً؛ فإذا سفهوا المؤمنين فهم في تلك الحال مستحقون لهذا الاسم .
وقوله تعالى: {ولكن لا يعلمون} الجواب عنه كالجواب عن: {ولكن لا يشعرون}). [معاني القرآن: 1/94-95]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({آمَنَ النَّاسُ}: المسلمون. {السُّفَهَاء}: الجهال). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الشّياطين}: كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب فهو شيطان). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}
قوله: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا} فأذهب الواو؛ لأنه كان حرفاً ساكناً لقي اللام وهي ساكنة، فذهبت لسكونه ولم تحتج إلى حركته؛ لأن فيما بقي دليلاً على الجمع، وكذلك كل «واو» كان ما قبلها مضموماً من هذا النحو.
فإذا كان ما قبلها مفتوحاً لم يكن بد من حركة الواو؛ لأنك لو ألقيتها لم تستدل على المعنى، نحو: {اشتروا الضّلالة} وحركت الواو بالضم؛ لأنك لو قلت "اشترا الضلالة" فألقيت الواو لم تعرف إنه جمع، وإنما حركتها بالضم؛ لأن الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه، وقد قرأ قوم -وهي لغة لبعض العرب- : (اشْتَرَوِا الضّلالة) لما وجدوا حرفاً ساكناً قد لقي ساكناً كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة.
وأما قوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} فإنك تقول "خلوت إلى فلان في حاجة" كما تقول: "خلوت بفلان"، إلاّ إن "خلوت بفلان" له معنيان: أحدهما هذا، والآخر سخرت به.
وتكون "إلى" في موضع "مع"؛ نحو: {من أنصاري إلى اللّه}، كما كانت "من" في معنى "على" في قوله: {ونصرناه من القوم} أي: على القوم، وكما كانت الباء في معنى "على" في قوله: "مررت به" و"مررت عليه" وفي كتاب الله عز وجل: {مّن أن تأمنه بدينارٍ} يقول: "على دينار"، وكما كانت "في" في معنى "على" نحو: {في جذوع النّخل} يقول "على جذوع النخل".
وزعم يونس أن العرب تقول: "نزلت في أبيك" تريد "عليه"، وتقول: "ظفرت عليه" أي: "به"، و"رضيت عليه" أي: "عنه"، قال الشاعر:


إذا رضيت عليّ بنو قشير = لعمر اللّه أعجبني رضاها
). [معاني القرآن: 1/35-36]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون (14)} أنبأ الله المؤمنين بما يسره المنافقون من الكفر، ومعنى "شياطينهم" في اللغة: مردتهم، وعتاتهم في الكفر.
ويقال: "خلوت إليه" و"معه"، ويقال: "خلوت به"، وهو على ضربين:
أحدهما: جعلت خلوتي معه، كما قال: "خلوت إليه"، أي: جعلت خلوتي معه، وكذلك يقال: خلوت إليه.
ويصلح أن يكون: "خلوت به": سخرت منه.
ونصب {معكم} كنصب الظروف، تقول: "إنا معكم" و"إنا خلفكم" معناه: إنا مستقرون معكم، ومستقرون خلفكم، والقراءة المجمع عليها فتح العين، وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها. ويجوز "إنّا معكم" للشاعر إذا اضطر، قال الشاعر:

قريشي منكمو وهواي معكم= وإن كانت زيارتكم لماما
وفي قوله عزّ وجلّ: {خلوا إلى} وجهان:
إن شئت أسكنت الواو وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوا إلى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: (خلو لي) وكذلك يقرأ أهل الحجاز، وهو جيد بالغ.
و"إنا" الأصل فيه "إننا"، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّني معكما}، ولكن النون حذفت؛ لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إن؛ لأن في "إن" نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
وقوله عزّ وجلّ: {إنما نحن مستهزئون}: "نحن" مبنية على الضم؛ لأن "نحن" يدل على الجماعة، وجماعة المضمرين يدل عليهم إذا ثنيت الواحد من لفظه الميم والواو، نحو: "فعلوا" و"أنتم"، فالواو من جنس الضمة، فلم يكن بد من حركة "نحن" فحركت بالضم؛ لأن الضم من الواو؛ ألا ترى أن واو الجماعة إذا حركت؛ لالتقاء السّاكنين ضمت، نحو: {اشتروُا الضلالة}، وقد حركها بعضهم إلى الكسر، فقال: (اشتروِا الضلالة)؛ لأن اجتماع السّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: {اشتروُا الضلالة} بالضم، وقد رويت: (اشتروَا الضلالة) بالفتح، وهو شاذ جدّاً.
و{مستهزئون}: القراءة الجيدة فيه: تحقيق الهمزة، فإذا خففت الهمزة جعلت الهمزة بين الواو والهمزة، فقلت: (مستهزؤون). فهذا الاختيار بعد التحقيق.
ويجوز أن تبدل من الهمزة ياء، فتقول: (مستهزيون)، فأما (مستهزون) فضعيف لا وجه له إلا شاذّاً، على لغة من أبدل الهمزة ياء، فقال في استهزأت: (استهزيت)، فيجب على لغة (استهزيت) أن يقال: (مستهزون) ). [معاني القرآن: 89/-90]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم}
روى أسباط، عن السدي: أما شياطينهم: فهم رؤساؤهم في الكفر.
ويبين ما قاله قوله جل وعز: {شياطين الإنس والجن}، و"شيطان" مشتق من الشطن: وهو الحبل. أي: هو ممدود في الشر، ومنه بئر شطون).
[معاني القرآن: 1/95-96]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} فأخبر سبحانه بما يكتمون). [معاني القرآن: 1/96]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مُسْتَهْزِؤُونَ}: نسخر منهم). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في طغيانهم يعمهون} أي: بغيهم وكفرهم، يقال: رجل عمهٌ وعامه، أي: جائر عن الحق، قال رؤبة:

ومهمهٍ أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
أما قوله: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} فهو في معنى "ويمدّ لهم"، كما قالت العرب: "الغلام يلعب الكعاب" تريد: "يلعب بالكعاب"، وذلك أنهم يقولون "قد مددت له"، و"أمددته" في غير هذا المعنى، وهو قوله جل ثناؤه: {وأمددناهم بفاكهةٍ} وقال: {ولو جئنا بمثله مدداً} وقال بعضهم:(مداداً) و (مدّاً) من "أمددناهم"، وتقول "مدّ النهر فهو مادّ" و"أمدّ الجرح فهو ممدّ"، وقال يونس: ما كان من الشرّ فهو: "مددت"، وما كان من الخير فهو: "أمددت"، فتقول كما فسرت له فإذا أردت أنك تركته قلت: "مددت له" وإذا أردت أنك أعطيته قلت: "أمددته").
[معاني القرآن: 1/36-37]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يمدهم}: يتركهم ويملى لهم.
{في طغيانهم}: في عتوهم وكفرهم.
{يعمهون}: يتحيرون ويترددون. يقال رجل عمة وعامة). [غريب القرآن وتفسيره: 65]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({اللّه يستهزئ بهم} أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء جزاء النسيان، وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب «المشكل». ومثله قوله: {نسوا اللّه فنسيهم} أي: جازاهم جزاء النسيان، وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب «المشكل».
{ويمدّهم} أي: يتمادى بهم، ويطيل لهم.
{في طغيانهم} أي: في عتوّهم وتكبّرهم، ومنه قوله: {إنّا لمّا طغى الماء} أي: علا.
{يعمهون}: يركبون رؤوسهم فلا يبصرون، ومثله قوله: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ}، يقال: رجل عمه وعامه، أي: جائر عن الطريق، وأنشد أبو عبيدة:

ومهمه أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [تفسير غريب القرآن: 41-42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون (15)} فيه أوجه من الجواب: فمعنى استهزاء اللّه بهم: أن أظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا من الإسلام خلاف ما أسرّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤه بهم: أخذه إياهم من حيث لا يعلمون، كما قال عزّ وجلّ: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
ويجوز - واللّه أعلم، وهو الوجه المختار عند أهل اللغة- أن يكون معنى (يستهزئ بهم): يجازيهم على هزئهم بالعذاب، فسمّى جزاء الذنب باسمه كما قال عزّ وجلّ: {وجزاء سيّئة سيّئة مثلها}، فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام. وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه جيء في اللغة باسم الذنب؛ ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، فهذه ثلاثة أوجه واللّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه وهو خادعهم}، {ويمكرون ويمكر الله}.
وقوله عزّ وجلّ: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
معنى {ويمدّهم}: يمهلهم، وهو يدل على الجواب الأول.
و{في طغيانهم} معناه: في غلوّهم وكفرهم، ومعنى {يعمهون} في اللغة: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير، قال الراجز:

ومهمه أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [معاني القرآن: 1/90-91]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {الله يستهزئ بهم} فيه أجوبه:
أصحها: أن معناه: يجازيهم على استهزائهم، فسمي جزاء الذنب باسمه لازدواج الكلام، وليعلم أنه عقاب عليه وجزاء به، كما قال عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.
وقيل: هو ما روي في الحديث أن المؤمنين يعطون نوراً فيحال بينهم وبينه.
وقيل: هو أن الله أظهر لهم من أحكامه خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا للمسلمين خلاف ما أسروا. واستشهد صاحب هذا القول بأن بعده: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
وقيل: هو مثل {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} وهذه الأقوال ترجع إلى الأول؛ لأنها مجازة أيضاً.
ومن أحسن ما قيل فيه: أن معنى {يستهزئ بهم}: يصيبهم، كما قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم}). [معاني القرآن: 1/96-97]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} أي: يمدهم في تجاوزهم متحيرين، قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}.
وقال مجاهد: "{يعمهون}: يترددون"، والمعنى على قوله: يترددون في ضلالتهم.
وحكى أهل اللغة: عمه يعمه عموها وعمها وعمهاناً فهو عمه وعامه، إذا حار). [معاني القرآن: 1/98]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يستهزئ بهم}: أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء. {ويمدهم}: يملي لهم. و{طغيانهم}: بغيهم.
و{يعمهون}: يتحيرون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}: يجازيهم بأعمالهم. {يَعْمَهُونَ}: يتحيرون). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فما ربحت تّجارتهم...}
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟
وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم، ومثله من كتاب الله: {فإذا عزم الأمر} وإنما العزيمة للرجال.
ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا، فلو قال قائل: قد خسر عبدك؛ لم يجز ذلك، إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارةً يربح فيه أو يوضع؛ لأنه قد يكون العبد تاجراً فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوراً فيه، فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزّك ورقيقك؛ كان جائزاً؛ لدلالة بعضه على بعض). [معاني القرآن: 1/14-15]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تّجارتهم وما كانوا مهتدين}
قوله: {فما ربحت تّجارتهم} فهذا على قول العرب: "خاب سعيك" وإنما هو الذي خاب، وإنما يريد "فما ربحوا في تجارتهم"، ومثله {بل مكر اللّيل والنّهار} و{ولكنّ البرّ من آمن باللّه} إنما هو "ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله"، وقال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
وقال الشاعر:

وشرّ المنايا ميّتٌ وسط أهله = كهلك الفتاة أسلم الحيّ حاضره
إنما يريد: "وشر المنايا منية ميّت وسط أهله"، ومثله: "أكثر شربي الماء" و"أكثر أكلي الخبر" وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء، ولكن تريد: أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء، قال: {وسأل القرية} يريد: "أهل القرية". {والعير} أي: "واسأل أصحاب العير"، وقال: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق} فإنما هو - والله أعلم - "مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به" فحذف هذا الكلام، ودل ما بقي على معناه، ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد قال بعضهم: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق} يقول "مثلهم في دعائهم الآلهة كمثل الذي ينعق بالغنم" ؛ لأن آلهتهم لا تسمع ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل). [معاني القرآن: 1/38]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} أي: استبدلوا. وأصل هذا: أن من اشترى شيئاً بشيء، فقد استبدل منه.
{فما ربحت تجارتهم} والتجارة لا تربح وإنما يربح فيها، وهذا على المجاز. ومثله: {فإذا عزم الأمر} وإنما يعزم عليه، وقد ذكرت هذا وأشباهه في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)}
{أولئك} موضعه رفع بالابتداء، وخبره {الّذين اشتروا الضّلالة}، وقد فسّرنا واو (اشتروا) وكسرتها؛ فأمّا من يبدل من الضمة همزة فيقول: (اشترؤ الضلالة) فغالط؛ لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إنّما يفعل بها ذلك إذا لزمت صفتها نحو قوله عزّ وجلّ: {وإذا الرّسل أقتت} إنّما الأصل: وقتت، وكذلك: "أدؤر"، إنما أصلها: أَدور.
وضمة الواو في قوله: {اشتروا الضلالة} إنما هي لالتقاء السّاكنين، ومثله: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم} لا ينبغي أن تهمز الواو فيه.
ومعنى الكلام: أن كل من ترك شيئاً وتمسك بغيره، فالعرب تقول للذي تمسك به قد اشتراه، وليس ثم شراء ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه. قال الشاعر:

أخذت بالجمّة رأسا أزعرا= وبالثنايا الواضحات الدّردرا
وبالطويل العمر عمرا أقصرا= كما اشترى الكافر إذ تنصّرا
وقوله عزّ وجلّ: {فما ربحت تجارتهم} معناه: فما ربحوا في تجارتهم؛ لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ويوضع فيها، والعرب تقول: قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك الاختصار وسعة الكلام، قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب، وقال اللّه عزّ وجلّ: {بل مكر اللّيل والنّهار} والليل والنهار لا يمكران، إنما معناه: بل مكرهم في الليل والنهار).
[معاني القرآن: 1/91-93]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}
قال مجاهد: "آمنوا ثم كفروا" .
ويقال: كيف قال {اشتروا} وإنما يقال: اشتريت كذا بكذا إذا دفعت شيئا أخذت غيره؟
والجواب عن قول مجاهد: إنهم كفروا بعد الإيمان، فصار الكفر لهم بدلاً من الإيمان، وصاروا بمنزلة من باع شيئاً بشيء.
وقيل: لما أعطوا بألسنتهم الإيمان وأبوه بقلوبهم، فباعوا هذا الذي ظهر بألسنتهم بالذي في قلوبهم، والذي في قلوبهم هو الحاصل لهم، فهو بمنزلة العوض أخرج من أيديهم.
وقيل: لما سمعوا التذكرة والهدى ردوها واختاروا الضلالة، فكانوا بمنزلة من دفع إليه شيء فاشترى به غيره.
قال ابن كيسان: قيل هو مثل قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فلما كان خلقهم للعبادة، صار ما خلفها مبدلاً عنها بصدهم عما خلقوا له.
وأصل الضلالة: الحيرة، وسمي النسيان "ضلالة": لما فيه من الحيرة، كما قال جل وعز: {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} أي: الناسين، ويسمى الهلاك "ضلالة"، كما قال عز وجل: {وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد}). [معاني القرآن: 1/98-100]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} فأنزلوا منزلة من اتجر؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة. والمعنى : فما ربحوا في تجارتهم، ومثله قول العرب: خسر بيعه؛ لأنه قد عرف المعنى).
[معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وما كانوا مهتدين} أي: بفعلهم الذي فعلوه من إيثار الضلالة على الهدى، ويجوز: وما كانوا مهتدين في علم الله عز وجل). [معاني القرآن: 1/101]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اشْتَرُوُاْ}: استبدلوا). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً...} فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق؛ فقال: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} ولم يقل: "الذين استوقدوا"، وهو كما قال الله {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} وقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعث نفس واحدة.
ولو كان التشبيه للرجال؛ لكان مجموعاً كما قال: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} أراد: القيم والأجسام، وقال: {كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} فكان مجموعاً إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا، وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّداً في شعر فأجزه، وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعاً في شعر فهو أيضاً يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب؛ فابن على هذا، ثم تلقي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذهب اللّه بنورهم}؛ لأن المعنى ذهب إلى المنافقين، فجمع لذلك، ولو وحّد لكان صواباً كقوله: {إنّ شجرة الزّقّوم * طعام الأثيم * كالمهل تغلي في البطون} و"يغلي"؛ فمن أنّث: ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر: ذهب إلى المهل، ومثله قوله عز وجل: {أمنةً نعاساً تغشى طائفةً منكم} للأمنة، "ويغشى": للنعاس). [معاني القرآن: 1/15-16]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} ثم انقطع النصب، وجاء الاستئناف: {صمّ بكمٌ}،
قال النابغة:

توهّمت آياتٍ لها فعرفها= لستّة أعوامٍ وذا العام سابع
ثم استأنف فرفع، فقال:

رمادٌ ككحل العين لأيا أبينه= ونؤىٌ كجذم الحوض أثلم خاشع
). [مجاز القرآن: 1/32-33]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قوله: {كمثل الّذي استوقد ناراً} فهو في معنى "أوقد"، مثل قوله: "فلم يستجبه" أي: "فلم يجبه"، وقال الشاعر:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: "فلم يجبه".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون} فجعل "الذي" جميعاً، فقال: {وتركهم}؛ لأن "الذي" في معنى الجميع، كما يكون "الإنسان" في معنى "الناس".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} فرفع على قوله: "هم صمٌّ بكمٌ عميٌ" رفعه على الابتداء، ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسناً.
وأما {حوله} فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب، والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر:

هذا النهار بدا لها من همّها = ما بالها بالليل زال زوالها
نصب "النهار" على الظرف، وإن شاء رفعه وأضمر فيه وأما "زوالها"، فإنه كأنه قال: "أزال اللّه الليل زوالها"). [معاني القرآن: 1/38-39]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{الّذي استوقد ناراً} أي: أوقدها). [تفسير غريب القرآن: 42]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)}
هذا المثل ضربه اللّه - جلّ وعزّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، وحقنهم دماءهم بما أظهروا، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء بها المستوقد، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} معناه -واللّه أعلم-: إطلاع اللّه المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عزّ وجلّ من كفرهم.
ويجوز أن يكون: ذهب الله بنورهم في الآخرة، أي: عذّبهم فلا نور لهم؛ لأن اللّه جلّ وعزّ قد جعل للمؤمنين نوراً في الآخرة، وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}). [معاني القرآن: 1/93]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال ابن كيسان: {استوقد} بمعنى: أوقد، ويجوز أن يكون استوقدها من غيره، أي: طلبها من غيره.
قال الأخفش: هو سعيد الذي في معنى جمع.
قال ابن كيسان: لو كان كذلك؛ لأعاد عليه ضمير الجمع كما قال الشاعر:

وإن الذي حانت يفلج دماؤهم = هم القوم كل القوم يا أم خالد
قال : ولكنه واحد شبه به جماعة؛ لأن القصد كان إلى الفعل ولم يكن إلى تشبيه العين بالعين، فصار مثل قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} فالمعنى إلا كبعث نفس واحدة، وكإيقاد الذي استوقد ناراً). [معاني القرآن: 1/101-102]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم}
ويجوز أن يكون "ما" بمعنى "الذي"، وأن تكون زائدة، وأن تكون نكرة، والمعنى: أضاءت له فأبصر الذي حوله). [معاني القرآن: 1/102-103]

تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون...} رفعن، وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صمٌّ بكمٌ عميٌ} في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز -أيضاً- الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جزاءً من ربّك عطاءً حساباً * ربّ السّموات والأرض وما بينهما الرّحمن}، "الرحمن" يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية.
فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفاً فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} إلى قوله: {وذلك هو الفوز العظيم} ثم قال -جل وجهه- : {التّائبون العابدون الحامدون} بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود: (التائبين العابدين الحامدين)، وقال: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربّكم} يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك، وفي قراءة عبد الله: (صمّاً بكماً عمياً) بالنصب، ونصبه على جهتين:
إن شئت على معنى: تركهم صمّاً بكماً عمياً، وإن شئت: اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف (صمّاً) بالذمّ لهم، والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه معنى الأسماء مثل معنى قولهم: ويلاً له، وثواباً له، وبعداً، وسقياً، ورعياً). [معاني القرآن: 1/16]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} رفع على خبر الابتداء، كأنه قيل: هؤلاء الذين قصتهم هذه القصة {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} ويجوز في الكلام (صماً بكماً عمياً) على: وتركهم صمّاً بكماً عمياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تروى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بكم): أنه بمنزلة من ولد أخرس، ويقال: الأبكم: المسلوب الفؤاد.
و"صم" و"بكم" واحدهم: أصم وأبكم، ويجوز أن يقع جمع "أصم": صمّان، وكذلك "أفعل" كله يجوز فيه "فعلان"، نحو: "أَسْود" و"سُودَان"، ومعنى "سود" و"سودان" واحد، كذلك "صمّ" و"صمّان"، و"عُرج" و"عرجان"، و"بكم" و"بكمان"). [معاني القرآن: 1/94]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أو كصيّبٍ مّن السّماء...} مردود على قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً}.
{أو كصيّبٍ}: أو كمثل صيّب، فاستغنى بذكر {الّذي استوقد ناراً} فطرح ما كان ينبغي أن يكون مع "الصيّب" من الأسماء، ودلّ عليه المعنى؛ لأن المثل ضرب للنفاق، فقال: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌٌ} فشبّه "الظلمات" بكفرهم، و"البرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه" بإيمانهم، والرعد -ما أتى في القرآن- من التخويف، وقد قيل فيه وجه آخر؛
قيل: إن الرعد إنما ذكر مثلاً لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه، ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} أي: يظنّون أنهم أبداً مغلوبون.
ثم قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم مّن الصّواعق حذر الموت} فنصب "حذر" على غير وقوعٍ من الفعل عليه؛ لم ترد (يجعلونها حذراً)، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفاً وفرقاً، فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يدعوننا رغباً ورهباً} وكقوله: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً}، والمعرفة والنكرة تفسّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "من"، وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم). [معاني القرآن: 1/17]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({كصيّبٍ من السّماء} معناه: كمطر، وتقديره تقدير سَيِّد من صاب يصوب، معناه: ينزل المطر، قال علقمة بن عبدة:

كأنهم صابت عليهم سحابة= صواعقها لطيرهن دبيب
فلا تعدلي بيني وبين مغمّرٍ= سقتك روايا المزن حيث تصوب
وقال رجل من عبد القيس -جاهليّ- يمدح بعض الملوك:

ولست لانسيّ ولكن لملأكٍ= تنزّل من جوّ السماء يصوب
). [مجاز القرآن: 1/33]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أو كصيب من السماء}: أي كمطر من السماء، من: صاب يصوب).
[غريب القرآن وتفسيره: 65]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (والصيب: المطر، «فيعل» من «صاب يصوب»: إذا نزل من السماء).
[تفسير غريب القرآن: 42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أو كصيّب من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيط بالكافرين (19)}
الصيّب في اللغة: المطر، وكل نازل من علو إلى أسفل، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:

كأنهم صابت عليهم سحابة= صواعقها لطيرهن دبيب
وهذا أيضاً مثل يضربه اللّه عزّ وجلّ للمنافقين؛ كان المعنى: أو كأصحاب صيب، فجعل "دين الإسلام" لهم مثلاًَ فيما ينالهم من الشدائد والخوف، وجعل "ما يستضيئون به من البرق" مثلاً لما يستضيئون به من الإسلام، و"ما ينالهم من الخوف في البرق" بمنزلة ما يخافونه من القتل، الدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {يحسبون كل صيحة عليهم}). [معاني القرآن: 1/94]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والصيب: المطر). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كصيب}: كمطر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصَّيِّبُ}: المطر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم...}، والقّراء تقرأ: (يخطّف أبصارهم) بنصب الياء والخاء والتشديد، وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء، فيقول: "يَخَطِّفُ"، وبعضهم يكسر الياء والخاء ويشدّد، فيقول: "يِخِطِّفُ"، وبعضٌ من قرّاء أهل المدينة يسكّن الخاء والطاء، فيجمع بين ساكنين، فيقول: "يَخْطِّف".
فأما من قال: "يَخَطِّف": فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة، وأما من كسر الخاء: فإنه طلب كسرة الألف التي في "اختطف" و"الاختطاف"؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضت الأوّل؛ كما قال: اضربِ الرجل؛ فخفضت الباء لاستقبالها اللام، وليس الذي قالوا بشيء؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا: لقالت العرب في يَمُدّ: "يَمِدّ"؛ لأن الميم كانت ساكنة وسكنت الأولى من الدالين، ولقالوا في يَعَضّ: "يَعِض".
وأما من خفض الياء والخاء: فإنه -أيضاً- من طلبه كسرة الألف؛ لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة.
وأما من جمع بين الساكنين: فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفي، وفي قوله: {أم مّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى} وفي قوله: {تأخذهم وهم يخصّمون} مثل ذلك التفسير، إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: (تأخذهم وهم يخْصمون) بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك .
وقوله: {كلّما أضاء لهم مّشوا فيه...} فيه لغتان: يقال: "أضاء القمر"، و"ضاء القمر"؛ فمن قال: "ضاء القمر" قال: "يضوء ضوءاً"،
والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
{وإذا أظلم عليهم} فيه لغتان: "أظلم الليل" و"ظلم".
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب...} المعنى -والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره؛ بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من "أذهبت"، وقد قرأ بعض القرّاء: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) بضمّ الياء والباء في الكلام، وقرأ بعضهم: {وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن} فترى - والله أعلم - أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: "خذ بالخطام"، و"خذ الخطام"، و"تعلّقت بزيدٍ"، و"تعلّقت زيداً" فهو كثير في الكلام والشعر، ولست أستحبّ ذلك لقلّته، ومنه قوله: {آتنا غداءنا} المعنى -والله أعلم-: ايتنا بغدائنا؛ فلما أسقطت الباء زادوا ألفاً في "فعلت"، ومنه قوله عزّ وجلّ: {قال آتوني أفرغ عليه قطراً} المعنى -فيما جاء-: ايتونى بقطر أفرغ عليه، ومنه قوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة} المعنى -والله أعلم-: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة). [معاني القرآن: 1/18-19]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مّشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إن اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
أما {يكاد البرق يخطف أبصارهم} فمنهم من قرأ (يَخْطِفُ) من "خَطَفَ"، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف، وقد رواها يونس (يَخِطِّفُ) بكسر الخاء لاجتماع الساكنين ومنهم من قرأ (يَخْطَفُ) على "خَطِفَ يَخْطِف"، وهي الجيدة، وهما لغتان، وقال بعضهم (يَخِطِّفُ) وهو قول يونس من "يختطف" فأدغم التاء في الطاء؛ لأن مخرجها قريب من مخرج الطاء، وقال بعضهم: (يَخَطِّفُ) فحول الفتحة على الذي كان قبلها، والذي كسر: كسر لاجتماع الساكنين فقال: (يَخِطِّف)، ومنهم من قال: (يِخِطِّف) كسر الخاء لاجتماع الساكنين، ثم كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة، وهي قبلها، كما أتبعها في كلام العرب كثيراً، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون "قِتِلُوا" و"فِتِحُوا" يريدون: "اقتلوا"و "افتحوا"، قال أبو النجم :

.......... = تدافع الشيب ولم تقتّل
وسمعناه من العرب مكسوراً كله، فهذا مثل (يِخِطِّفُ) إذا كسرت ياؤها؛ لكسرة خائها، وهي بعدها، فأتبع الآخر الأول.
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى؛ لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك، فيقول (لذهب بِسَمْعِهِم) وجعل "السمع" في لفظ واحد وهو جماعة؛ لأن "السمع" قد يكون جماعة، وقد يكون واحداً، ومثله قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم}، ومثله قوله: {لا يرتدّ إليهم طرفهم}، وقوله: {فإن طبن لكم عن شيءٍ مّنه نفساً}، ومثله: {ويولّون الدّبر}). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يخطف أبصارهم}: يذهب بها، وأصل الاختطاف: الاستلاب، يقال: اختطف الذئب الشاة من الغنم، ومنه يقال: لما يخرج به الدّلو "خطّاف"؛ لأنه يختطف ما علق به، قال النابعة:

خطاطيف حجن في حبال متينة= تمدّ بها أيد إليك نوازع
والحجن: المتعقّفة.
وهذا مثل ضربه اللّه للمنافقين، وقد ذكرته في كتاب «المشكل» وبينته). [تفسير غريب القرآن: 42-43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيء قدير (20)}
{يخطف أبصارهم} فيه لغتان: يقال: خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِفُ، واللغة العالية التي عليها القراءة: خَطِفَ يخطَفُ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى عن الحسن: (يَخَطِّف أبصارهم) بفتح الياء والخاء وكسر الطاء، ويروى أيضاً (يِخِطِّف) بكسر الياء والخاء والطاء، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ؛ لصعوبتها، وهي إسكان الخاء والطاء، وقد روى سيبويه مثل هذا، رده عليه أصحابه، وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ، وأن الشعر لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال:

.......... = ومسحه مرّ عقاب كاسر
يبدل من الهاء حاء، ويدغم الحاء الأولى في الثانية، والسين ساكنة؛ فيجمع بين ساكنين، فأما بعد (يَخْطَف) فالجيّد: "يَخَطِّف" و"يخطِّف"، فمن قال "يَخَطِّف" فالأصل (يختطف) فأدغمت التاء في الطاء وألقيت على الحاء فتحة التاء، ومن قال: (يخِطِّف) كسر الخاء؛ لسكونها وسكون الطاء، وزعم بعض النحويين أنّ الكسر لالتقاء الساكنين ههنا خطأ؛ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في يَعَضُّ: "يَعِضُّ" وفي يَمُدُّ: "يَمِدُّ". وهذا خلط غير لازم، لأنه لو كسرها ههنا؛ لالتبس ما أصله "يفعَل" و"يفعُل" بما أصله "يَفْعِل"، ويخطف ليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتَعِل) ومرة على (يفتَعَلُ) فكسر لالتقاء السّاكنين في موضع غير ملبس، وامتنع في الملبس من الكسر لالتقاء السّاكنين، وألزم حركة الحرف الذي أدغمه؛ لتدل الحركة عليه. ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته: أخذته بسرعة.
وقوله عزّ وجلّ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقال: "ضاء الشيء يضوء"، و"أضاء يضيء"، وهذه اللغة الثانية هي المختارة، ويقال: "أظلم" و"ظلم"، و"أظلم" المختار.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال: "أذهبته" و"ذهبت به". ويروى أذهبت به، وهو لغة قليلة.
فأما ذكر "أو" في قوله: {مثلهم كمثل الّذي} إلى {أو كصيب}، فـ"أو" دخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة "واو الإباحة" فتقول: جالس القراء أو الفقهاء أو أصحاب الحديث أو أصحاب النحو، فالمعنى: أن التمثيل مباح لكم في المنافقين؛ إن مثلتموهم بالذي استوقد ناراً فذاك مثلهم، وإن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعاً فهما مثلاهم -كما أنك إذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، فكلاهما أهل أن يجالس- إن جالست الحسن فأنت مطيع، وإن جمعتهما فأنت مطيع.
وقوله عزّ وجلّ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} ويروى أيضاً: (حذار الموت)، والذي عليه قرّاؤنا: {حذر الموت}، وإنما نصت: {حذر الموت}؛ لأنه مفعول له، والمعنى: يفعلون ذلك لحذر الموت، وليس نصبه لسقوط اللام، وإنما نصبه أنه في تأويل المصدر، كأنه قال: "يحذرون حذراً"؛ لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق يدل على حذرهم الموت، وقال الشاعر:

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره= وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
والمعنى: لادخاره، وقوله: "وأغفر عوراء الكريم" معناه: وأدخر الكريم). [معاني القرآن: 1/95-96]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَخْطَفُ}: يأخذ بسرعة). [العمدة في غريب القرآن: 71]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:33 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 21 إلى 33]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الّذي خلقكم والّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون (21)} معناه: أن الله احتجّ على العرب بأنه خالقهم وخالق من قبلهم؛ لأنّهم كانوا مقرين بذلك، والدليل على ذلك قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله}، قيل لهم: إن كنتم مقرين بأنه خالقكم؛ فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام.
وقوله {لعلكم تتقون} معناه: تتقون الحرمات بينكم، وتكفون عما تأتون مما حرمه اللّه، فأما "لعل" وفيها قولان ههنا، عن بعض أهل اللغة: أحدهما: معناها: كي تتقوا، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه ترج لهم، كما قال في قصة فرعون: {لعلّه يتذكّر أو يخشى} كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، واللّه عزّ وجلّ من وراء ذلك وعالم بما يؤول إليه أمر فرعون.
وأما إعراب {يا أيّها}: فـ"أي" اسم مبهم مبني على الضم؛ لأنه منادى مفرد، و"الناس" صفة لـ"أي" لازمة، تقول: (يا أيها الرجل أقبل)، ولا يجوز: (يا لرجل)؛ لأن "يا" تنبيه بمنزلة التّعريف في الرجل، فلا يجمع بين "يا" وبين الألف واللام فتصل إلى الألف واللام بـ"أي"، و"ها" لازمة لـ"أي" للتّنبيه، وهي عوض من الإضافة في "أي"؛ لأن أصل "أي": أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر.
وزعم سيبويه، عن الخليل: أن المنادى المفرد مبني، وصفته مرفوعة رفعا ًصحيحاً؛ لأن النداء يطرد في كل اسم مفرد، فلما كانت البنية مطردة في المفرد خاصة؛ شبه بالمرفوع فرفعت صفته.
والمازني يجيز في (يا أيها الرجل) النصب في "الرجل"، ولم يقل بهذا القول أحد من البصريين غيره، وهو قياس؛ لأن موضع المفرد المنادى نصب، فحملت صفته على موضعه، وهذا في غير: (يا أيها الرجل) جائز عند جميع النحويين نحو قولك: (يا زيدُ الظريفُ) و(الظريفَ)، والنحويون لا يقولون إلا (يا أيها الرجل)، (يا أيها الناس)، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره، وإنما المنادى في الحقيقة "الرجل"، ولكن "أيّ" صلة إليه، وقال أبو الحسن الأخفش: إن "الرجل" أن يكون صلة لـ"أي" أقيس، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول). [معاني القرآن: 1/96-99]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الّذي جعل لكم الأرض فراشاً} أي: مهاداً ذللّها لكم فصارت مهاداً.
{فلا تجعلوا لله أنداداً}: واحدها ندٌّ، معناها: أضداد، قال حسّان:


أتهجوه ولست له بنٍدّ= فشرّكما لخيركما الفداء).
[مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذي جعل لكم الأرض فراشاً والسّماء بناءً وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثّمرات رزقاً لّكم فلا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون}
قوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً} فقطع الألف؛ لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير، فإذا صغرت قلت: "أنيداداً".
وواحد "الأنداد": ندٌّ. و"الندّ": المثل). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أندادا}: واحدهم ند، ويقال نديد وهو شبيه). [غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({أنداداً}: أي: شركاء أمثالا. يقال: هذا ندّ هذا ونديده، {وأنتم تعلمون} أي: تعقلون). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذي جعل لكم الأرض فراشا والسّماء بناء وأنزل من السّماء ماء فأخرج به من الثّمرات رزقا لكم فلا تجعلوا للّه أندادا وأنتم تعلمون} معناه: وطاء، لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها.
وقوله: {والسماء بناء}: كل ما علا على الأرض فاسمه "بناء"، ومعناه: إنه جعلها سقفاً، كما قال عزّ وجلّ: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}.
ويجوز في قوله: {جعل لكم الأرض} وجهان: الإدغام والإظهار، تقول: "جعلَ لكم" و"جعلْ لكم الأرض"، فمن أدغم: فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات، ومن أظهر -وهو الوجه وعليه أكثر القراء-: فلأنهما منفصلان من كلمتين.
وقوله عزّ وجلّ: {فلا تجعلوا للّه أندادا وأنتم تعلمون} هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأنه الله خالقهم، فقيل لهم: لا تجعلوا لله أمثالاً، وأنتم تعلمون أنهم لا يخلقون واللّه الخالق. وفي اللغة: فلان ندّ فلان ونديد فلان، قال جرير:

أتيما تجعلون إليّ ندّا= وما تيم لذي حسب نديد
فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللّه عزّ وجلّ.
ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23)}). [معاني القرآن: 1/99-100]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الفراش": المهد). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الند": المِثْل، ومنه قوله عز وجل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} أي: أمثالاً).
[ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَندَاداً}: أشباهاً). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فأتوا بسورةٍ مّن مّثله...}: الهاء كناية عن القرآن؛ فأتوا بسورة من مثل القرآن.
{وادعوا شهداءكم} يريد: آلهتكم، يقول: استغيثوا بهم؛ وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدوّ خالياً فادع المسلمين، ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين). [معاني القرآن: 1/19]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فأتوا بسورةٍ من مثله} أي: من مثل القرآن.
وإنما سمّيت سورة؛ لأنها مقطوعة من الأخرى، وسمّى القرآن قرآناً؛ لجماعة السور). [مجاز القرآن: 1/34]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وادعوا شهداءكم} أي: ادعوهم؛ ليعاونوكم على سورة مثله.
ومعنى الدعاء هاهنا: الاستغاثة، ومنه دعاء الجاهلية ودعوى الجاهلية، وهو قولهم: يا آل فلان، إنما هو استغاثتهم.
وشهداؤهم من دون اللّه: آلهتهم، سموا بذلك؛ لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23)}
{في ريب} معناه: في شك.
وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} للعلماء فيه قولان:
أحدهما: قال بعضهم: {من مثله} من مثل القرآن، كما قال عزّ وجلّ: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.
وقال بعضهم: {من مثله} من بشر مثله.
وقوله عزّ وجلّ: {وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين} أي: ادعوا من استدعيتم طاعته، ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من مثله). [معاني القرآن: 1/100]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وادعوا شهداءكم} أي: استعينوا بهم، و"الشهداء" هنا: الآلهة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة...}
الناس وقودها، والحجارة وقودها، وزعموا أنه كبريت يُحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت، ثم قال: {أعدّت للكافرين} يعني: النار).
[معاني القرآن: 1/20]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقودها النّاس والحجارة}:حطبها الناس، و"الوُقود" مضموم الأول: التلهب).
[مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فإن لّم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين}
قوله: {الّتي وقودها النّاس والحجارة} فـ"الوَقُود": الحطب، و"الوُقُود": الاتقاد، وهو الفعل، يقرأ: (الوَقُود) و(الوُقُود) ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل.
ومثل ذلك "الوَضُوء" وهو: الماء، و"الوُضُوء" وهو الفعل، وزعموا إنهما لغتان في معنى واحد). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وقودها}: حطبها. "الوُقود" بالضم هو: اللهب). [غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس} أي: حطبها، و"الوَقود": الحطب بفتح الواو، و"الوُقود" بضمها: توقدها.
{والحجارة} قال المفسرون: حجارة الكبريت). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين (24)}
قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوا بالعذاب إن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.
وجزم {لم تفعلوا}؛ لأن "لم" أحدثت في الفعل المستقبل معنى المضي فجزمته، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى: فله فيه من الإعراب على قسط معناه: فإن كان ذلك الحرف "أن" وأخواتها نحو "لن تفعلوا" و {يريدون أن يطفئوا} فهو نصب؛ لأن "أن" وما بعده بمنزلة الاسم، فقد ضارعت "أن" الخفيفة "أنّ" المشدّدة وما بعدها؛ لأنّك إذا قلت: ظننت أنك قائم، فمعناه: ظننت قيامك، وإذا قلت: أرجو أن تقوم، فمعناه: أرجو قيامك، فمعنى "أن" وما عملت فيه كمعنى "أنّ" المشددة وما عملت فيه، فلذلك نصبت "أن" وجزمت "لم"؛ لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم.
وقوله عزّ وجلّ: {التي وقودها النّاس والحجارة} عرفوا عذاب اللّه عزّ وجلّ بأشد الأشياء التي يعرفونها؛ لأنه لا شيء في الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار، فقيل لهم: إن عذاب اللّه من أشد الأجناس التي يعرفونها، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه، ويقال: إن "الحجارة" هنا تفسيرها: حجارة الكبريت.
وقوله {وقودها} الوقود هو: الحطب، وكل ما أوقد به فهو: وقود، ويقال: هذا وقودك، ويقال: قد وقدت النار وقُوداً، فالمصدر مضموم ويجوز فيه الفتح. وقد روي: وقدت النار وَقوداً، وقبلت الشيء قَبُولاً، فقد جاء في المصدر (فَعُول) والباب الضم). [معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وقودها} بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد. {والحجارة} قيل: حجارة الكبريت).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الوَقُودُ": الحطب. "الوُقُودُ": المصدر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأتوا به متشابهاً} اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله). [معاني القرآن: 1/20]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وأتوا به متشابهاً} أي: يشبه بعضه بعضاً، وليس من الاشتباه عليك، ولا مما يشكل عليك.
{ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ}: واحدها "زوج"، الذكر والأنثى فيه سواء، {وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنّة}). [مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أن لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رّزقاً قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مّطهّرةٌ وهم فيها خالدون}
قوله: {أن لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} فجرّ "جناتٍ" وقد وقعت عليها "أن" لأن كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة تذهب في الواحد وفي تصغيره فنصبها جرّ، ألا ترى أنك تقول: "جنّه" فتذهب التاء، وقال: {خلق السّماوات والأرض} و"السماوات" جرّ، و"الأرض" نصب لأن التاء زائدة، ألا ترى أنك تقول: "سماء"، و{قالوا ربّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا}؛ لأن هذه ليست تاء، إنما هي هاء صارت تاءً بالاتصال، وإنما تكون تلك في السكوت، ألا ترى أنك تقول: "رأيت ساده" فلا يكون فيها تاء، ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) جرّ لأنك إذا قلت: "ساده" ذهبت التاء، وتكون في السكت فيها تاء، تقول: "رأيت ساداتٍ"، وإنما جرّوا هذا في النصب ليجعل جرّه ونصبه واحداً، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول: "مسلمين و"صالحين" نصبه وجره بالياء. وقوله: {بيوتاً غير بيوتكم} و{لا ترفعوا أصواتكم} فإن التاء من أصل الكلمة، تقول: "صوت" و"صويت" فلا تذهب التاء، و"بيت" و "بويت" فلا تذهب التاء، وتقول: "رأيت بويتات العرب" فتجرّ، لأن التاء الآخرة زائدة لأنك تقول: "بيوت" فتسقط التاء الآخرة، وتقول: "رأيت ذوات مال" لأن التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكت على الواحدة لقلت: "ذاه" ولكنها وصلت بالمال، فصارت تاء لا يتكلم بها إلا مع المضاف إليه.
وقوله: {هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً}؛ لأنه في معنى "جيئوا به" وليس في معنى "أعطوه".
فأما قوله: {متشابهاً} فليس أنه أشبه بعضه بعضاً، ولكنه متشابه في الفضل، أي: كل واحد له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه.
قوله: {إن اللّه لا يستحيي أن} فـ"يستحيي" لغة أهل الحجاز بياءين، وبنو تميم يقولون "يستحي" بياء واحدة، والأولى هي الأصل لأن ما كان من موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه، ألا ترى أنهم قالوا: "حييت" و"حويت" فلم تُعَلَّ العين، ويقولون: "قلت" و"بعت" فيعلّون العين لما لم تعتلّ اللام، وإنما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة كما قالوا "لم يك" و"لم يكن" و"لا أدر" و"لا أدري".
وقال: {مثلاً مّا بعوضةً} لأن "ما" زائدة في الكلام، وإنما هو: "إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضةً مثلاً". وناس من بني تميم يقولون (مثلاً مّا بعوضةً) يجعلون (ما) بمنزلة "الذي" ويضمرون "هو"، كأنهم قالوا: "لا يستحي أن يضرب مثلاً الذي هو بعوضةٌ"، يقول: "لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةٌ مثلاً".
وقوله: {فما فوقها} قال بعضهم: "أعظم منها"، وقال بعضهم: كما تقول: "فلان صغير" فيقول: "وفوق ذلك"، يريد: "وأصغر من ذلك".
وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} فيكون "ذا" بمنزلة "الذي". ويكون "ماذا" اسما واحدا إن شئت بمنزلة "ما" كما قال: {ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً} فلو كانت "ذا" بمنزلة "الذي" لقالوا "خيرٌ" ولكان الرفع وجه الكلام، وقد يجوز فيه النصب؛ لأنه لو قال "ما الذي قلت"؟ فقلت: "خيراً"، أي: "قلت خيراً" لجاز، ولو قلت: "ما قلت؟" فقلت: "خيرٌ"، أي: "الذي قلت خيرٌ" لجاز، غير أنه ليس على اللفظ الأول، كما يقول بعض العرب إذا قيل له: "كيف أصبحت؟" قال: "صالحٌ" أي: "أنا صالحٌ"، ويدلك على أن "ماذا" اسم واحد قول الشاعر:

دعي ماذا علمت سأتّقيه = ولكن بالمغيّب نبّئيني
فلو كانت "ذا" ههنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاماً). [معاني القرآن: 1/41-43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({مشابها}: يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم.
{أزواج مطهرة}: واحدها "زوج". الذكر والأنثى فيه سواء). [غريب القرآن وتفسيره: 66]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({جنّاتٍ}: بساتين.
{تجري من تحتها الأنهار} ذهب إلى شجرها، لا إلى أرضها؛ لأن الأنهار تجري تحت الشجر.
{كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل} أي: كأنّه ذلك، لشبهه به.
{وأتوا به متشابهاً} أي: يشبه بعضه بعضاً، في المناظر دون الطعوم.
{ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ}: من الحيض والغائط والبول وأقذار بني آدم). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون (25)}
ذكر ذلك للمؤمنين، وما أعد لهم جزاء لتصديقهم، بعد أن ذكر لهم جزاء الكافرين، وموضع (أنّ) نصب معناه: بشرهم بأن لهم جنات. فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى " أن " فنصبت،
وقد قال بعض النحويين: إنه يجوز أن يكون موضع مثل هذا خفضًا، وإن سقطت الباء من (أن)، و(جنات) في موضع نصب بأنّ، إلا أن التاء تاء جماعة المؤنث هي في الخفض والنصب على صورة واحدة، كما أن ياء الجمع في النصب والخفض على صورة واحدة، تقول: رأيت الزيدين، ومررت بالزيدين، ورأيت الهندات، ورغبت في الهندات.
و"الجنة" في لغة العرب: البستان، والجنات: البساتين، وهي التي وعد الله بها المتقين، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
قوله عزّ وجلّ: {كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً}
قال أهل اللغة: معنى (متشابه) يشبه بعضه بعضاً في الجودة والحسن.
وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة: {متشابهاً} يشبه بعضه بعضا في الصورة ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله: {هذا الّذي رزقنا من قبل}؛ لأن صورته الصورة الأولى، ولكن اختلاف الطعوم على اتفاق الصورة أبلغ وأعرف عند الخلق، لو رأيت تفاحا فيه طعم كل الفاكهة لكان غاية في العجب والدلالة على الحكمة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولهم فيها أزواج مطهّرة}
أي: أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساء أهل الدنيا من الأكل والشرب ولا يحضن، ولا يحتجن إلى ما يتطهر منه، وهن على هذا طاهرات طهارة الأخلاق والعفة، فـ"مطهرة" تجمع الطهارة كلها؛ لأن "مطهرة" أبلغ في الكلام من "طاهرة"، ولأن "مطهرة" إنما يكون للكثير.
وإعراب {أزواج} الرفع بـ {ولهم} وإن شئت بالابتداء.
ويجوز في {أزواج} أن يكون واحدتهن زوجاً وزوجة، قال الله تبارك وتعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنّة}، وقال الشاعر:

فبكى بناتي شجوهن وزوجتي= والطامعون إليّ ثم تصدّعوا).
[معاني القرآن: 1/101-103]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وأتوا به متشابها} أي: يشبه بعضه بعضًا في المناظر دون الطعوم، وقيل: يشبه فاكهة الدنيا في المناظر دون الطعوم، وقيل: يشبه بعضه بعضًا في الفضل والحسن، ليس فيه رذل.
{أزواج} واحدها زوج، والمذكر والأنثى سواء.
{مطهرة} أي: من البول والغائط والحيض وأقذار بني آدم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مُتَشَابِهاً}: في اللون والطعم). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها...}
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه في سورة البقرة؟
فذكر لنا أن اليهود لما قال الله: {مثل الّذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً} قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟، وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: {يأيّها النّاس ضرب مثلٌ فاستمعوا له إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً} إلى قوله {ضعف الطّالب والمطلوب} لذكر الذباب والعنكبوت؛ فأنزل الله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها}.
فالذي "فوقها" يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب، ولو جعلت في مثله من الكلام "فما فوقها" تريد أصغر منها لجاز ذلك، ولست أستحسنه؛ لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحبّ إليّ أن أجعل "ما فوقها" أكبر منها. ألا ترى أنك تقول: "يعطى من الزكاة الخمسون فما دونها، والدرهم فما فوقه" فيضيق الكلام أن تقول: "فوقه" فيهما أو "دونه" فيهما.
وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك؛ يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك؛ فكأنّك تحطّه عن غاية الشّرف أو غاية البخل. ألا ترى أنك إذا قلت: "إنه لبخيلٌ، وفوق ذاك"، تريد: فوق البخل، "وفوق ذاك": وفوق الشّرف.
وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلته قليلا عن درجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال القرّاء: وأما نصبهم "بعوضة" فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن توقع الضّرب على البعوضة، وتجعل "ما" صلةً؛ كقوله: {عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين} يريد: "عن قليل".
المعنى -والله أعلم-: إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلاً.
والوجه الآخر: أن تجعل "ما" اسماً، و"البعوضة" صلةً فتعرّبها بتعريب "ما"، وذلك جائز في "من" و"ما"؛ لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال؛ كما قال حسّان بن ثابت:

فكفى بنا فضلاً على من غَيْرِنا = حبّ النّبيء محمّدٍ إيّانا
قال الفراء: ويروى:
... على من غَيْرُنا
والرفع في "بعوضة" ها هنا جائز، لأن الصلة ترفع، واسمها منصوب ومخفوض.
وأما الوجه الثالث -وهو أحبها إليّ- : فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والعرب إذا ألقت "بين" من كلام -تصلح "إلى" في آخره- نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بين" والآخر بـ "إلى"، فيقولون: "مطرنا ما زبالة فالثّعلبية"، و"له عشرون ما ناقةً فجملاً"، و"هي أحسن الناس ما قرناً فقدما"، يراد به: "ما بين قرنها إلى قدمها"، ويجوز أن تجعل "القرن" و"القدم" معرفة، فتقول: "هي حسنةٌ ما قرنها فقدمها".
فإذا لم تصلح "إلى" في آخر الكلام لم يجز سقوط "بين"؛ من ذلك أن تقول: "دارى ما بين الكوفة والمدينة"، فلا يجوز أن تقول: "دارى ما الكوفة فالمدينة"؛ لأن "إلى" إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زبالة إلى الثّعلبية.
ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لا تصلح فيه "إلى"؛ كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة؛ محالٌ، وجلست بين عبد الله فزيد، محالٌ، إلا أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما.
وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه "إلى"؛ لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، "وإلى" تحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عينٍ، وإن قصر قدر الذي بينهما مما يوجد، فصلحت الفاء في "إلى" لأنك تقول: أخذ المطر أوّله فكذا وكذا إلى آخره، فلمّا كان الفعل كثيراً شيئاً بعد شيء في المعنى، كان فيه تأويلٌ من الجزاء، ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت محسنٌ، ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن؛ فرضوا بالفاء جوابا في الجزاء، ولم تصلح الواو.
قال الكسائيّ: سمعت أعرابيّاً ورأى الهلال، فقال: "الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك"، يريد: ما بين إهلالك إلى سرارك؛ فجعلوا النصب الذي كان يكون في "بين" فيما بعده إذا سقطت؛ ليعلم أنّ معنى "بين" مرادٌ.
وحكى الكسائيّ عن بعض العرب: "الشّنق: ما خمسًا إلى خمس وعشرين"، يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين، والشّنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل، والأوقاص في البقر.
وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً...} كأنه قال -والله أعلم-: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا ويهدى به هذا، قال الله: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين}). [معاني القرآن: 1/20-23]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً} معناها: أن يضرب مثلا ًبعوضة،
(ما) توكيد للكلام من حروف الزوائد، قال النابغة الذبياني:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا= إلى حمامتنا ونصفه فقد
أي: حسب، و(ما) هاهنا: حشو.
قال: وسأل يونس رؤبة عن قول الله تعالى {ما بعوضة} فرفعها، وبنو تميم يعملون آخر الفعلين والأداتين في الاسم، وأنشد رؤبة بيت النابغة مرفوعاً:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا= إلى حمامتنا ونصفه فقد
{فما فوقها}: فما دونها في الصغر). [مجاز القرآن: 1/35]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فما فوقها}: أي فما دونها في الصغر). [غريب القرآن وتفسيره: 66]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها} لما ضرب اللّه المثل بالعنكبوت في سورة العنكبوت، وبالذباب في سورة الحج، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق باللّه عز وجل؟! فأنزل اللّه: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها} من الذباب والعنكبوت.
وكان أبو عبيدة - رحمه اللّه- يذهب إلى أن "فوق" هاهنا بمعنى: "دون" على ما بينا في كتاب «المشكل».
فقالت اليهود: ما أراد اللّه بمثل ينكره الناس فيضلّ به فريق ويهتدي به فريق؟ قال اللّه: {وما يضلّ به إلّا الفاسقين}). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلّا الفاسقين}
إن قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهل الجنة وما أعد للكافرين؟
قيل: يتصل هذا بقوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً}؛ لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً}.
وقال: {مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً}، فقال الكافرون: إن إله محمد يضرب الأمثال بالذّباب والعنكبوت، فقال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}أي: لهؤلاء الأنداد الذين اتخذتموهم من دون اللّه، لأن هذا في الحقيقة مثل هؤلاء الأنداد.
فأما إعراب {بعوضة} فالنصب من جهتين في قولنا، وذكر بعض النحويين جهة ثالثة:
فأما أجود هذه الجهات؛ فأن تكون (ما) زائدة مؤكدة، كأنه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً، ومثلاً بعوضة، و(ما) زائدة مؤكدة نحو قوله: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} المعنى: فبرحمة من الله حقاً، فـ(ما) في التوكيد بمنزلة (حق) إلا أنه لا إعراب لها، والخافض والناصب يتخطاها إلى ما بعدها، فمعناها التوكيد، ومثلها في التوكيد (لا) في قوله: {لئلّا يعلم أهل الكتاب} معناه: لأن يعلم أهل الكتاب.
ويجوز أن يكون "ما" نكرة، فيكون المعنى: "إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب شيئا مثلا"؛ وكأن "بعوضة" في موضع وصف شيء، كأنه قال: إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً شيئاً من الأشياء، بعوضة فما فوقها.
وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والقولان الأولان قول النحويين القدماء. والاختيار عند جمع البصريين أن يكون (ما) لغواً.
والرفع في {بعوضة} جائز في الإعراب، ولا أحفظ من قرأ به، ولا أعلم هل قرأ به أحد أم لا؟ فالرفع على إضمار "هو"، كأنه قال: مثلاً الذي هو بعوضة، وهذا عند سيبويه ضعيف، وعنه مندوحة، ولكن من قرأ: {تماماً على الذي أحسن} وقد قرئ به، جاز أن يقرأ: {مثلاً ما بعوضة} ولكنه في {الذي أحسن} أقوى لأن "الذي" أطول، وليس للذي مذهب غير الأسماء.
وقالوا في معنى قوله: {فما فوقها} قالوا في ذلك قولين:
قالوا: {فما فوقها} أكبر منها، وقالوا: {فما فوقها} في الصغر.
وبعض النحويين يختارون الأول؛ لأن "البعوضة" كأنها نهاية في الصغر فيما يضرب به المثل، والقول الثاني مختار أيضاً، لأن المطلوب هنا والغرض الصغر وتقليل المثل بالأنداد.
قوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين آمنوا} يعني: صدقوا، {فيعلمون} أن هذا المثل حق، {وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} أي: ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً، فقال اللّه عزّ وجلّ: {يضل به كثيراً} أي: يدعو إلى التصديق به الخلق جميعاً، فيكذب به الكفار فيضلون، {وما يضلّ به إلّا الفاسقين} يدل على أنهم المضلون به.
{ويهدى به كثيراً} يزاد به المؤمنون هداية؛ لأن كلما ازدادوا تصديقاً فقد ازدادوا هداية، والفاء دخلت في جواب "أمّا" في قوله: {فيعلمون}؛ لأن "أما" تأتي بمعنى الشرط والجزاء، كأنّه إذا قال: "أما زيد فقد آمن، وأمّا عمرو فقد كفر" فالمعنى: مهما يكن من شيء فقد آمن زيد، ومهما يكن من شيء فقد كفر عمرو.
وقوله {ماذا}: يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما نصباً، المعنى: أي شيء أراد اللّه بهذا مثلاً؟
ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما) بمنزلة "الذي" فيكون المعنى: ما الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟، أو أي شيء الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟ ويكون (ما) هنا رفًعا بالابتداء و (ذا) في معنى الذي، وهو خبر الابتداء.
وإعراب {الفاسقين} نصب؛ كأنّ المعنى: وما يضل به أحد إلا الفاسقين). [معاني القرآن: 1/103-105]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فما فوقها} أي: دونها في الصغر، وقيل: أكبر منها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَعُوضَةً}: بقة، {فَمَا فَوْقَهَا}: دونها). [العمدة في غريب القرآن: 71-72]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
أما قوله: {عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل} فـ{أن يوصل} بدل من الهاء في "به"، كقولك "مررت بالقوم بعضهم"، وأما {ميثاقه} فصار مكان "التوثّق" كما قال: {أنبتكم مّن الأرض نباتاً} والأصل "إنباتاً"، وكما قال" العطاء" في مكان "الإعطاء"). [معاني القرآن: 1/43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} يريد أن اللّه سبحانه أمرهم بأمور فقبلوها عنه، وذلك أخذ الميثاق عليهم والعهد إليهم، ونقضهم ذلك: نبذهم إياه بعد القبول وتركهم العمل به). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
"عهد الله" هنا -واللّه أعلم-: ما أخذ اللّه على النبيين ومن اتبعهم، ألا يكفروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، دليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا} فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياء عليهم السلام: أن يؤمنوا بالرسول المصدق لما معهم، و {إصري} مثل: عهدي.
ويجوز أن يكون عهد اللّه الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حين قال: {....وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا}.
وقال قوم أن عهد الله عز وجل الاستدلال على توحيده، وأنّ كل ذي تمييز يعلم أن اللّه خالق، فعليه الإيمان به، والقولان الأولان في القرآن ما يصدق تفسيرهما.
فأمّا إعراب {الّذين} فالنصب على الصفة للفاسقين.
وموضع قوله: {أن يوصل} خفض على البدل من الهاء، والمعنى: ما أمر الله بأن يوصل.
وموضع {أولئك} رفع بالابتداء، و{الخاسرون} خبر الابتداء، و{هم} بمعنى الفصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
ويجوز أن يكون {أولئك} رفًعا بالابتداء، و{هم} ابتداء ثان، و{الخاسرون} خبر لـ{هم}، و{هم الخاسرون} خبر عن {أولئك}).
[معاني القرآن: 1/106]

تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً...} على وجه التعجّب والتوبيخ؛ لا على الاستفهام المحض؛ أي: ويحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: {فأين تذهبون}، وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً}، المعنى -والله أعلم-: وقد كنتم، ولولا إضمار "قد" لم يجز مثله في الكلام، ألا ترى أنه قد قال في سورة يوسف: {إن كان قميصه قدّ من دبرٍ فكذبت} المعنى -والله أعلم-: فقد كذبت، وقولك للرجل: أصبحت كثر مالك، لا يجوز إلاّ وأنت تريد: قد كثر مالك؛ لأنهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحال لا تكون إلا بإضمار "قد" أو بإظهارها؛ ومثله في كتاب الله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} يريد -والله أعلم-: جاءوكم قد حصرت صدورهم، وقد قرأ بعض القرّاء -وهو الحسن البصري-: (حصرةً صدورهم) كأنه لم يعرف الوجه في: "أصبح عبد الله قام" أو "أقبل أخذ شاة"، كأنّه يريد: فقد أخذ شاة.
وإذا كان الأوّل لم يمض؛ لم يجز الثاني بـ"قد"، ولا بغير "قد"، مثل قولك: "كاد قام" ولا "أراد قام"؛ لانّ الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: "عسى قام"؛ لأن "عسى" وإن كان لفظها على فعل فإنها لمستقبل، فلا يجوز "عسى قد قام"؛ ولا "عسى قام"، ولا "كاد قد قام"؛ ولا "كاد قام"؛ لأن ما بعدهما لا يكون ماضيًا؛ فإن جئت بـ"يكون" مع "عسى" و"كاد"؛ صلح ذلك، فقلت: "عسى أن يكون قد ذهب"، كما قال الله: {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون}.
وقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} يعني: نطفاً، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نطفة فهو: ميتة، والله أعلم.
يقول: {فأحياكم} من النّطف، {ثم يميتكم} بعد الحياة، {ثم يحييكم} للبعث). [معاني القرآن: 1/23-25]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}
قوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم} فإنما يقول: كنتم تراباً ونطفاً، فذلك ميّت، وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب: "قد كان هذا قطنا" و"كان هذا الرّطب بسرًا"، ومثل ذلك قولك للرجل: "اعمل هذا الثوب" وإنما معك غزل). [معاني القرآن: 1/43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً} يعني: نطفاً في الأرحام، وكلّ شيء فارق الجسد من شعر أو ظفر أو نطفة فهو: ميتة. {فأحياكم}: في الأرحام، وفي الدنيا. {ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم}: في البعث.
ومثله قوله حكاية عنهم: {ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فالميتة الأولى: إخراج النطفة وهي حية من الرجل، فإذا صارت في الرحم فهي ميتة، فتلك الإماتة الأولى. ثم يحييها في الرحم وفي الدنيا، ثم يميتها، ثم يحييها يوم القيامة). [تفسير غريب القرآن: 44-45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}
فكونهم أمواتا أولاً: أنّهم كانوا نطفاً، ثم جعلوا حيواناً، ثم أميتوا، ثم أحيوا، ثم يرجعون إلى اللّه عزّ وجلّ بعد البعث، كما قال: {مهطعين إلى الدّاع} أي: مسرعين.
وقوله عزّ وجلّ: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} والأجداث: القبور، وتأويل {كيف} أنها استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء، كيف يكفرون وقد ثبتت حجة اللّه عليهم؟!
ومعنى {وكنتم} وقد كنتم، وهذه الواو للحال، وإضمار "قد" جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، وكذلك قوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم}، {وإن كان قميصه قدّ من دبر}). [معاني القرآن: 1/107]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وكنتم أمواتا} أي: نطفاً في الأرحام، {فأحياكم} أي: أخرجكم أحياء إلى الدنيا، {ثم يميتكم}: في الدنيا، {ثم يحييكم}: يوم القيامة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَمْوَاتاً}: نطفاً، {فَأَحْيَاكُمْ}: أنشأ خلقكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}: بعد الحياة، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}: يبعثكم بعد الموت). [العمدة في غريب القرآن: 72]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ ...}
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوي الرجل و ينتهي شبابه، أو يستوي عن اعوجاج، فهذان وجهان،
ووجه ثالث أن تقول: "كان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني" و"إليّ" سواءٌ، على معنى: أقبل إلي وعليّ؛ فهذا معنى قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء} والله أعلم.
وقال ابن عباس: "{ثم استوى إلى السماء }: صعد"، وهذا كقولك للرجل: "كان قائماً فاستوى قاعداً" و"كان قاعداً فاستوى قائما"، وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} فإن "السماء" في معنى جمع، فقال {فسوّاهنّ} للمعنى المعروف أنهنّ سبع سموات، وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدةٌ- الجمع، ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: {ربّ السّموات والأرض} ثم قال: {وما بينهما} ولم يقل "بينهن"، فهذا دليل على ما قلت لك). [معاني القرآن: 1/25]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({هو الّذي خلق لكم مّا في الأرض جميعاً ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماواتٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ}: هذا باب من المجاز.
أما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأن ذكر "السماء" قد دل عليهن كلّهن، وقد زعم بعض المفسرين أن "السماء" جميع مثل "اللبن"، فما كان لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجماعة جاز أن يجمع، فقال: {سوّاهنّ} فزعم بعضهم أن قوله: {السّماء منفطرٌ به} جمع مذكر كـ"اللّبن"، ولم نسمع هذا من العرب، والتفسير الأول جيد، و قال يونس: {السّماء منفطرٌ به} ذكر كما يذكر بعض المؤنث كما قال الشاعر:

فلا مزنةٌ ودقت ودقها = ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله:

فإمّا تري لمّتى بدّلت = فإن الحوادث أودى بها
وقد تكون "السماء" يريد به الجماعة كما تقول: "هلك الشاة والبعير"، يعني: كل بعير وكل شاة، وكما قال: {خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهنّ} أي: من الأرضين.
وأما قوله: {استوى إلى السماء} فإن ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحول، ولكنه يعني: فعله، كما تقول: "كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل إلى أهل الشام"، إنما تريد تحول فعله). [معاني القرآن: 1/44]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({استوى إلى السماء}: عمد وقصد).[غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({ثمّ استوى إلى السّماء} عمد لها، وكلّ من كان يعمل عملاً فتركه بفراغ أو غير فراغ وعمد لغيره: فقد استوى له واستوى إليه.
وقوله: {فسوّاهنّ} ذهب إلى السماوات السبع). [تفسير غريب القرآن: 45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماوات وهو بكلّ شيء عليم}
موضع "ما" مفعول به، وتأويله: أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم، فهو لكم، وفيه قول آخر: أن ذلكم دليل على توحيد اللّه عزّ وجلّ.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ استوى إلى السّماء} فيه قولان:
قال بعضهم: {استوى إلى السّماء}: عمد وقصد إلى السماء. كما تقول: قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه.
وقد قيل أيضاً: "استوى" أي: صعد أمره إلى السماء، وهذا قول ابن عباس.
و"السماء" لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، والدليل على ذلك قوله: {فسوّاهنّ سبع سماوات}. ويجوز أن يكون "السماء" جمعاً كما أن السّماوات جمع؛ كأن واحده سماة وسماوة وسماء للجميع، وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماء جائز أن يكون واحداً يراد به الجمع كما تقول "كثر الدّرهم والدينار في أيدي الناس"،
و"السماء" في اللغة: السقف، ويقال لكل ما ارتفع وعلا: قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء يا فتى، ومن هذا قيل للسحاب؛ لأنها عالية).
[معاني القرآن: 1/107-108]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ثم استوى} أي: عمد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اسْتَوَى}: عمد). [العمدة في غريب القرآن: 72]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة} الهمزة فيها مجتلبة، لأن واحدها "ملك" بغير همزة، قال الشاعر فهمز:

ولست لإنسيٍّ ولكن لملأك= تنزّل من جوّ السماء يصوب
{أتجعل فيها من يفسد فيها} جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربّها، وقد قال تبارك وتعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، ولكن معناها معنى الإيجاب، أي: أنك ستفعل. وقال جرير: فأوجب، ولم يستفهم، لعبد الملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا= وأندى العالمين بطون راح
وتقول : وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير.
{نقدّس لك}: نطهّر، التقديس: التطهير.
{ونسبّح}: نصليّ، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي). [مجاز القرآن: 1/35-36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}
أما قول الملائكة:{أتجعل فيها من يفسد فيها} فلم يكن ذلك إنكاراً منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبّحون ويقدّسون، أو قالوا ذلك؛ لأنهم كرهوا أن يُعصى الله؛ لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قوله: {نسبّح بحمدك ونقدّس لك}، وقال: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم}، وقال: {فسبّح بحمد ربّك واستغفره} فذلك لأن الذكر كله تسبيح وصلاة، تقول: "قضيت سبحتي من الذكر والصلاة"، فقال: سبّح بالحمد، أي: لتكن سبحتك بالحمد لله.
و قوله {أتجعل فيها}: جاء على وجه الإقرار، كما قال الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا = وأندى العالمين بطون راح
أي: أنتم كذلك). [معاني القرآن: 1/44-45]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يسفك الدماء}: يصبها، سفك دمه أي: صبه.
{نسبح}: نصلي، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي.
{ونقدس لك}: نطهر لك. والتقديس التطهير. وقالوا: {نقدس لك} نكبرك ونعظمك). [غريب القرآن وتفسيره: 67]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (وقوله {وإذ قال ربّك للملائكة} أراد: وقال ربك للملائكة، و«إذ» تزاد، والمعنى: إلقاؤها، على ما بينت في كتاب «المشكل».
{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} يرى أهل النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: (إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا)، فقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟) ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك، فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قال أبو عبيدة: "إذ" ههنا زائدة، وهذا إقدام من أبي عبيدة؛ لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق، و(إذ) معناها الوقت، وهي اسم فكيف يكون لغواً ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنّ اللّه تعالى ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنّه قال: (ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة}).
وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب بتثبيت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ خبر آدم وما أمره اللّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا من علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزّ وجلّ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
روي: أن خلقا يقال لهم "الجان" كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث اللّه ملائكته فأجلتهم من الأرض.
وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد "الجان"، فقالوا: "يا رب، {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}".
وتأويل استخبارهم هذا: على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرّفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم: المعنى فيه غير هذا، وهو: أن الله عزّ وجلّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من الخليفة فرقة تسفك الدماء، وهي فرقة من بني آدم، وأذن اللّه عزّ وجلّ للملائكة أن يسألوه عن ذلك، وكان إعلامه إياهم هذا زيادة في التثبيت في نفوسهم أنّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفكون الدماء ويعصونك؛ وإنّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح، ويقدسوا كما نقدس، ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم، ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللّه تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون.
وقوله عزّ وجلّ {إني أعلم ما لا تعلمون}: أي: أبتلي من تظنون أنّه يطيع فيهديه الابتلاء، فالألف ههنا إنّما هي على إيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا= وأندى العالمين بطون راح
ومعنى {يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.
ومعنى {نسبح بحمدك}: نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه: فقد سبح، يقال: فرغت من تسبيحي، أي: من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء، وقال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره= سبحان من علقمة الفاخر
المعنى: البراءة منه ومن فخره، ومعنى {نقدّس لك} أي: نطهر أنفسنا لك، وكذلك من أطاعك نقدسه، أي: نطهّره، ومن هذا بيت المقدس، أي: البيت المطهر، أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب). [معاني القرآن: 1/108-110]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({ويسفك الدماء} أي: يصب الدماء بغير حق، ويسفك أيضاً: يصب الدماء بحق). [ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نسبح} أي: ننزه، وقيل: نصلي، {ونقدس} أي: نطهر، وقيل: نعظمك ونكبرك).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَيَسْفِكُ}: يصب، {نُقَدِّسُ}: نتطهّر، {نُسَبِّحُ}: نصلي). [العمدة في غريب القرآن: 72-73]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة...}
فكان {عرضهم} على مذهب شخوص العالمين وسائر العالم، ولو قصد قصد الأسماء بلا شخوص جاز فيه "عرضهنّ" و"عرضها"، وهي في حرف عبد الله: (ثم عرضهنّ)، وفي حرف أبيّ: (ثم عرضها) فإذا قلت "عرضها" جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص، وللشخوص دون الأسماء).
[معاني القرآن: 1/26]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها}: أسماء الخلق، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض الخلق).
[مجاز القرآن: 1/36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قوله {الأسماء كلّها ثمّ عرضهم} فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء، ويدلك على ذلك قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} فلم يكن ذلك أن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله، فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، كما يقول الرجل للرجل: "أنبئني بهذا إن كنت تعلم" وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد: أنه جاهل.
فأعظموه عند ذلك فقالوا: {سبحانك لا علم لنا} بالغيب على ذلك، ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب، إخباراً عن أنفسهم بنحو ما خبَّر الله عنهم، وقوله: {سبحانك لا علم لنا} فنصب "سبحانك"؛ لأنه أراد "نسبّحك" جعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: "نسبّحك بسبحانك" ولكن "سبحان" مصدر لا ينصرف.
و"سبحان" في التفسير: براءة وتنزيه، قال الشاعر:

أقول لمّا جاءني فخره = سبحان من علقمة الفاخر
يقول: براءة منه). [معاني القرآن: 1/45-46]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها} يريد: أسماء ما خلق في الأرض، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض أعيان الخلق عليهم {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء}). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قال أهل اللغة: علم آدم أسماء الأجناس، وعرض أصحاب الأسماء من الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: {ثم عرضهم}؛ لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال لجماعتهم: (هم)، و(هم) يقال للناس، ويقال للملائكة، ويقال للجن، ويقال للجان، ويقال للشياطين، فكل مميز في الإضمار (هم)، هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل النظر: إن الفائدة في الإتيان بالأسماء أبلغ منها هي الفائدة بأسماء معاني كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا عرضت، فقيل: ما اسم هذه؟ قيل: خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن تنبئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال: هذه تصلح لكذا، فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئت، والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماء واللّه أعلم). [معاني القرآن: 1/110-111]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب، وتبرؤٌ، قال الأعشى -تبرءاً وتكذيباً لفخر علقمة-:

أقول لمّا جاءني فخره= سبحان من علقمة الفاخر).
[مجاز القرآن: 1/36]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب جل ثناؤه، وتبرؤ). [غريب القرآن وتفسيره: 67]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم...}
إن همزت قلت: (أنبئهم) ولم يجز كسر الهاء والميم؛ لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل "عليهم".
وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفع "هم" وكسرها، على ما وصفت لك في "عليهم" و"عليهم"). [معاني القرآن: 1/26]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 34 إلى 43]

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذ قلنا للملائكة اسجدوا} معناه: وقلنا للملائكة، و"إذ" من حروف الزوائد، وقال الأسود بن يغفر:


فإذا وذلك لا مهاه لذكره= والدهر يعقب صالحاً بفساد
ومعناها: وذلك لا مهاه لذكره، لا طعم ولا فضل؛ وقال عبد مناف بن ربع الهذليّ وهو آخر قصيدة:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ= شلاّ كما تطرد الجمّالة الشردا
معناه: حتى أسلكوهم.
{فسجدوا إلاّ إبليس} نصب "إبليس" على استثناء قليل من كثير، ولم يصرف إبليس؛ لأنه أعجمي). [مجاز القرآن: 1/38]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} هذا باب الاستثناء.
قوله: {فسجدوا إلاّ إبليس} فانتصب؛ لأنك شغلت الفعل بهم عنه فأخرجته من الفعل من بينهم، كما تقول: "جاء القوم إلاّ زيداً"؛ لأنك لما جعلت لهم الفعل وشغلته بهم، وجاء بعدهم غيرهم شبهته بالمفعول به بعد الفاعل وقد شغلت به الفعل.
وقوله: {أبى واستكبر وكان} ففتحت {استكبر}؛ لأن كل "فعل" أو "فعل" فهو يفتح نحو: {قال رجلان}، ونحو {الّذي اؤتمن أمانته}، ونحو {ذهب اللّه بنورهم}، ونحو {وكان من الكافرين}؛ لأن هذا كله "فعل" و"فعل"). [معاني القرآن: 1/46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)}
قرأت القراء {للملائكة اسجدوا} بالكسر، وقرأ أبو جعفر المدني وحده (للملائكة اسجدوا) بالضم. وأبو جعفر من جلّة أهل المدينة وأهل الثّبت في القراءة، إلا أنه غلط في هذا الحرف؛ لأن "الملائكة" في موضع خفض، فلا يجوز أن يرفع المخفوض، ولكنه شبّه تاء التأنيث بكسر ألف الوصل، لأنك إذا ابتدأت قلت: اسجدوا، وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غير الصواب.
و{إذ} في موضع نصب عطف على {إذ} التي قبلها.
و{الملائكة} واحدهم: ملك، والأصل فيه "ملأك"، أنشد سيبويه:

فلست لأنسي ولكن لملأك= تنزّل من جوّ السّماء يصوب
ومعناه: صاحب رسالة، ويقال: مأْلُكة ومأْلَكَة، ومألك جمع مألكة، قال الشاعر:

أبلغ النعمان عني مالكًا= أنه قد طال حبسي وانتظاري
وقوله: {لآدم}؛ "آدم" في موضع جر إلا أنه لا ينصرف؛ لأنّه على وزن "أفعل"، يقول أهل اللغة: إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خلق من تراب، وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب، فإذا قلت: مررت بآدم وآدم آخر، فإن النحويين يختلفون في "أفعل" الذي يسمى به وأصله الصفة، فسيبويه والخليل ومن قال بقولهما يقولون: إنه ينصرف في النكرة؛ لأنك إذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها ينصرف.
وقال أبو الحسن الأخفش: إذا سمّيت به رجلاً، فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه، فتقول: مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر.
ومعنى "السجود لآدم": عبادة الله عزّ وجلّ لا عبادة آدم، لأن الله عزّ وجلّ إنما خلق ما يعقل؛ لعبادته.
فإذا ابتدأت قلت: اسجدوا، فضممت الألف، والألف لا حظ لها في الحركة، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها، وإنّما أدخلت للساكن الذي بعدها لأنه لا يبتدئ بساكن، فكان حقها الكسر لأن بعدها ساكناً وتقديرها السكون، فيجب أن تكسر لالتقاء السّاكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر، وكذلك كل ما كان ثالثه مضموماً في الفعل المستقبل نحو قوله: {انظر كيف يفترون على اللّه الكذب}، ونحو: {اقتلوا يوسف}؛ لأنه من "نَظَر ينظر" و"قتل يقتل"، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة؛ لأنها لا تقع في كلام العرب -لثقلها- بعدها، فليس في الكلام مثل "فعل" ولا مثل "إفعل".
وقوله عزّ وجلّ: {فسجدوا إلا إبليس أبى}
قال قوم: إن إبليس كان من الملائكة، فاستثني منهم في السجود.
وقال قوم من أهل اللغة: لم يكن إبليس من الملائكة، والدليل على ذلك قوله: {إلّا إبليس كان من الجنّ}.
فقيل لهؤلاء: فكيف جاز أن يستثنى منهم؟
فقالوا: إن الملائكة -وإياه- أمروا بالسجود، قالوا: ودليلنا على أنه أمر معهم قوله: {إلا إبليس أبى} فلم يأب إلا وهو مأمور.
وهذا القول هو الذي نختاره، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزّ وجلّ.
والقول الآخر غير ممتنع، ويكون {كان من الجن} أي: كان ضالاً كما أن الجن كانوا ضالين، فجعل منهم كما قال في قصته {وكان من الكافرين}، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضهم، كما قال عزّ وجل: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}.
وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي قبلها والتي تليها؛ لأنه إخبار بما ليس من علم العرب، ولا يعلمه إلا أهل الكتاب، أو نبي أوحي إليه.
و"إبليس" لم يصرف؛ لأنه اسم أعجمي، اجتمع فيه العجمة والمعرفة، فمنع من الصرف). [معاني القرآن: 1/113-114]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا...}
إن شئت جعلت {فتكونا} جواباً نصباً، وإن شئت عطفته على أوّل الكلام فكان جزماً، مثل قول امرئ القيس:

فقلت له صوّب ولا تجهدنّه = فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
فجزم، ومعنى الجزم كأنّه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد، ومعنى الجواب والنّصب: لا تفعل هذا فيفعل بك مجازاةً، فلمّا عطف حرف على غير ما يشاكله -وكان في أوّله حادثٌ لا يصلح في الثاني- نصب، ومثله قوله: {ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي} و{لا تفتروا على اللّه كذباً فيسحتكم بعذابٍ} و{لا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة} وما كان من نفى ففيه ما في هذا، ولا يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف؛ بخلاف المعنيين؛ كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركب إليك؛ تريد: لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين؛ لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:

ألم تسأل الّربع القديم فينطق = وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
أراد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبى سلمى المزنيّ:

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم = بلى وغيّرها الأرواح والدّيم
فأكذب نفسه.
وأمّا قوله: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي} فإنّ جوابه قوله: {فتكون من الظّالمين}، والفاء التي في قوله: {فتطردهم} جواب لقوله: {ما عليك من حسابهم من شيء}، ففي قوله: {فتكون من الظّالمين} الجزم والنصب على ما فسّرت لك، وليس في قوله: {فتطردهم} إلا النصب، لأنّ الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: {ما عليك من حسابهم}، و{عليك} لا تشاكل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلاّ مثل قوله: "عندك وعليك وخلفك"، أو كان فعلا ماضيا مثل: " قام وقعد" لم يكن في الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله:
فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
لأن الذي قبل الفاء "يفعل" والذي بعدها "يفعل"، وهذا مشاكل بعضه لبعض؛ لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع على آخره ما يقع على أوّله، وعلى أوّله ما يقع على آخره؛ لأنه فعل مستقبل). [معاني القرآن: 1/27-28]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقلنا يا آدم} هذا شيء تكلمت به العرب، تتكلم بالواحد على لفظ الجميع.
{فكلا منها رغداً} الرغد: الكثير الذي لا يعنّيك من ماء أو عيش أو كلأ أو مال، يقال: قد أرغد فلان، أي: أصاب عيشًا واسعاَ، قال الأعشى:

زبداً بمصرٍ يوم يسقى أهلها=رغداً تفجّره النبيط خلالها
). [مجاز القرآن: 1/38]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين}
باب الدعاء:
قوله: {يا آدم اسكن} و{يا آدم أنبئهم} و{يا فرعون إني رسولٌ} فكل هذا إنما ارتفع لأنه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء، وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكنة.
فإذا كان مضافا انتصب؛ لأنه الأصل، وإنما يريد "أعني فلاناً" و"أدعو"، وذلك مثل قوله: {يا أبانا ما لك لا تأمنّا} و{ربّنا ظلمنا أنفسنا} إنما يريد: "يا ربّنا ظلمنا أنفسنا"، وقوله: {ربّنا تقبّل منّا} هذا باب الفاء.
قوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين} فهذا الذي يسميه النحويون "جواب الفاء"، وهو ما كان جواباً للأمر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود، ونصب ذلك كله على ضمير "أن"، وكذلك الواو وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء.
وإنما نصب هذا؛ لأن الفاء والواو من حروف العطف، فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما ًحتى كأنه قال "لا يكن منكما قرب الشجرة"، ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم فأضمر مع الفعل "أن"؛ لأن "أن" مع الفعل تكون اسماَ فيعطف اسماً على اسم، وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء، ومثل ذلك قوله: {لا تفتروا على اللّه كذباً فيسحتكم بعذابٍ} هذا جواب النهي، و{لا يقضى عليهم فيموتوا} جواب النفي، والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز إذا حسن أن تجري الآخر على الأول أن تجعله مثله نحو قوله: {ودّوا لو تدهن فيدهنون} أي: "ودّوا لو يدهنون"، ونحو قوله: {ودّ الّذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون} جعل الأول فعلا ولم ينو به الاسم، فعطف الفعل على الفعل وهو التمني، كأنه قال: "ودّوا لو تغفلون ولو يميلون"، وقال: {لا يؤذن لهم فيعتذرون} أي: "لا يؤذن لهم ولا يعتذرون" وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو، فإن شئت أيضاً نصبته على ضمير "أن" إذا نويت بالأول أن تجعله اسماً، كما قال: {إن يشأ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظهره}، {أو يوبقهنّ بما كسبوا ويعف عن كثيرٍ * ويعلم الّذين} فنصب، ولو جزمه على العطف كان جائزاً، ولو رفعه على الابتداء جاز أيضاً، وقال: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء} فتجزم {فيغفر} إذا أردت العطف، وتنصب إذا أضمرت "إن" ونويت أن يكون الأول اسماً، وترفع على الابتداء، وكل ذلك من كلام العرب، وقال: {قاتلوهم يعذّبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} ثم قال: {ويتوب اللّه على من يشاء} فرفع {ويتوب}؛ لأنه كلام مستأنف ليس على معنى الأول، ولا يريد: قاتلوهم يتب الله عليهم، ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت، وقال الشاعر:

فإن يهلك أبو قابوس يهلك = ربيع الناس والشهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عيشٍ = أجبّ الظهر ليس له سنام
فنصب "ونمسك" على ضمير "أن"، ونرى أن يجعل الأول اسماً، ويكون فيه الجزم -أيضاً- على العطف، والرفع على الابتداء، قال الشاعر:

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى = مصارع مظلومٍ مجرّا ومسحبا
ومن يغترب عن قومه لا يجد له = على من له رهطٌ حواليه مغضبا
وتدفن منه المحسنات وإن يسئ = يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
فـ"تدفن" يجوز فيه الوجوه كلها، قال الشاعر:

فإن يرجع النعمان نفرح ونبتهج = ويأت معدّاً ملكها وربيعها
وإن يهلك النعمان تعر مطيّةٌ = وتخبأ في جوف العياب قطوعها
وقال تبارك وتعالى: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} فهذا لا يكون إلا رفعا لأنه الجواب الذي لا يستغنى عنه، والفاء إذا كانت جواب المجازاة كان ما بعدها أبداً مبتدأ، وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف، ألا ترى أنك تقول: "إن تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ"، فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد "إن" بجواب، ومثلها: {ومن كفر فأمتّعه قليلاً} وقال بعضهم: (فأمتّعه ثمّ أضطرّه) فـ(أضطرّه) إذا وصل الألف جعله أمراً، وهذا الوجه إذا أراد به الأمر يجوز فيه الضم والفتح، غير أن الألف ألف وصل وإنما قطعتها "ثمّ" في الوجه الآخر، لأنه كل ما يكون معناه "أفعل" فإنه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع، قال: {أنا آتيك به} وهو من "أتى يأتي"، وقال: {آتّخذ من دونه آلهةً} فترك الألف التي بعد ألف الاستفهام؛ لأنها ألف "أفعل"، وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكى عن الكفار: {لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن مّن الصّالحين}فقوله: {فأصّدّق} جواب للاستفهام، لأنّ {لولا} ههنا بمنزلة "هلا"، وعطف {وأكن} على موضع {فأصّدّق}؛ لأنّ جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم -وقد قرأ بعضهم (فأصّدّق وأكون)- عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب، وقد قرئ: (من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم) فجزم (يذرهم) على أنه عطف على موضع الفاء؛ لأن موضعها يجزم إذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء، فهو أجود، وهي قراءة، وقال: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لّكم ويكفّر عنكم} جزم، ورفع على ما فسرت، وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب؛ لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل: {ويعلم الّذين يجادلون في آياتنا} و{ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين} فانتصب الآخر؛ لأن الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو وإن شئت جزمت على العطف، كأنك قلت: {ولمّا يعلم الصابرين} فإن قال قائل: {ولما يعلم الله الصابرين}، {ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم} فهو لم يعلمهم؟
قلت: بل قد علم، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال: "ليعلمه الناس"، كما قال: {لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً} وهو قد علم؛ ولكن ليبين ذلك، وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن: (ليعلم أيّ الحزبين) ولا أراهم قرأوه إلاّ لجهلهم بالوجه الآخر.
ومما جاء بالواو: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ}؛ إن شئت جعلت {وتكتموا الحقّ} نصباً إذا نويت أن تجعل الأول اسماً فتضمر مع {تكتموا} "أن" حتى تكون اسماً، وإن شئت عطفتها فجعلتها جزماً على الفعل الذي قبلها، قال: {ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقل لّكما} فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه، وزعموا أنه في قراءة ابن مسعود: (وأقول لّكما) على ضمير "أن"، ونوى أن يجعل الأوّل اسماً، وقال الشاعر:

لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويته = تقضّي لباناتٍ ويسأم سائم
"ثواءٌ" و"ثواءً" أو "ثواءٍ" رفع ونصب وخفض، فنصب على ضمير "أن"؛ لأن التقضي اسم، ومن قال: "فتقضى" رفع: "ويسأم"؛ لأنه قد عطف على فعل، وهذا واجبٌ، وقال الشاعر:

فإن لم أصدّق ظنّكم بتيقّنٍ = فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد
ويعلم أكفائي من الناس أنّني = أنا الفارس الحامي الذمار المذاود
وقال الشاعر:

فإن يقدر عليك أبو قبيسٍ = نمطّ بك المنيّة في هوان
وتخضب لحيةٌ غدرت وخانت = بأحمر من نجيع الجوف آن
فنصب هذا كله؛ لأنه نوى أن يكون الأوّل اسماً، فأضمر بعد الواو "أن" حتى يكون اسماً مثل الأول فتعطفه عليه، وأما قوله: {لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم} و{فلو أنّ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين} فهذا على جواب التمني، لأنّ معناه "ليت لنّا كرّةً". وقال الشاعر:

فلست بمدركٍ ما فات مني = بـ"لهف" ولا بـ"ليت" ولا "لواني"
فأنزل "لواني" بمنزلة "ليت"؛ لأن الرجل إذا قال: "لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا "، فإنما تريد: "وددت لو كنت فعلت"، وإنّما جاز ضمير "أن" في غير الواجب، لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضاً له. فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير، والواجب يكون آخره على أوله نحو قول الله عز وجل: {ألم تر أنّ اللّه أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضرّةً} فالمعنى: "اسمعوا أنزل اللّه من السماء ماءً" فهذا خبر واجب، و{ألم تر} تنبيه، وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر:

سأترك منزلي لبني تميمٍ = وألحق بالحجاز فأستريحا
وهذا لا يكاد يعرف، وهو في الشعر جائز، وقال طرفة:

لها هضبةٌ لا يدخل الذلّ وسطها = ويأوي إليها المستجير فيعصما
واعلم أن إظهار ضمير "أن" في كل موضع أضمر فيه من الفاء لا يجوز، ألا ترى أنك إذا قلت: "لا تأته فيضربك" لم يجز أن تقول: "لا تأته فأن يضربك"، وإنما نصبته على "أن" فلا يحسن إظهاره، كما لا يجوز في قولك: "عسى أن تفعل": "عسى الفعل"، ولا في قولك: "ما كان ليفعل": "ما كان لأن يفعل"، ولا إظهار الاسم الذي في قولك "نعم رجلاً"، فرب ضمير لا يظهر؛ لأن الكلام إنما وضع على أن يضمر، فإذا ظهر كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ، فيدخله اللبس). [معاني القرآن: 1/47-53]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فكلا منها رغدا}: الرغد: الكثير الذي لا يعينك من ماء أو عيش أو كلأ. يقال: "قد ارغد فلان" أي: أصاب عيشا واسعا). [غريب القرآن وتفسيره: 68]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({وكلا منها رغداً} أي: رزقاً واسعاً كثيراً، يقال: أرغد فلان إذا صار في خصب وسعة). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35)}
الرغد: الكثير الذي لا يعنيك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين} أي: إن عملتما بأعمال الظالمين صرتما منهم، ومعنى {لا تقربا} ههنا: لا تأكلا، ودليل ذلك قوله: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولاتقربا هذه الشّجرة} أي: لا تقرباها في الأكل، {ولا تقربا} جزم بالنفي.
وقوله عزّ وجلّ: {فتكونا من الظالمين} نصب، لأن جواب النهي بالفاء نصب، ونصبه عند سيبويه والخليل بإضمار أن، والمعنى: لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين، ويجوز أن يكون {فتكونا} جزم على العطف، على قوله: ولا تقربا فتكونا). [معاني القرآن: 1/114]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({رغدًا}: واسعًا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({رَغَداً}: كثيرا). [العمدة في غريب القرآن: 73]

تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ...}
فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: "اهبطوا" يعنيه ويعني ذرّيته، فكأنه خاطبهم، وهو كقوله: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} المعنى -والله أعلم-: أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ومثله قول إبراهيم: {ربّنا واجعلنا مسلمين لك} ثم قال: {وأرنا مناسكناً} وفي قراءة عبد الله: (وأرهم مناسكهم) فجمع قبل أن تكون ذرّيته، فهذا ومثله في الكلام مما تتبيّن به المعنى، أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم وعززتم). [معاني القرآن: 1/31]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فأزلّهما الّشيطان} أي: استزلهما. {ومتاعٌ إلى حينٍ}: إلى غاية ووقت).
[مجاز القرآن: 1/38]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ}
أما قوله: {فأزلّهما الشّيطان عنها} فإنما يعني "الزلل"، تقول: "زلّ فلان" و"أزللته" و"زال فلان" و"أزاله فلان"، والتضعيف القراءة الجيدة، وبها نقرأ، وقال بعضهم: (فأزالهما) أخذها من "زال يزول"، تقول: "زال الرجل" و"أزاله فلان".
وقال: {اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ} فإنما قال: {اهبطوا} -والله أعلم- لأنّ إبليس كان ثالثهم، فلذلك جمع). [معاني القرآن: 1/53]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فأزلهما الشيطان}: أي استزلهما).[غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فأزلّهما} من "الزلل"، بمعنى استزلّهما، تقول: زلّ فلان وأزللته، ومن قرأ: (فأزالهما) أراد نحّاهما، من قولك: أزلتك عن موضع كذا، أو أزلتك عن رأيك إلى غيره.
{بعضكم لبعضٍ عدوٌّ} يعني: الإنسان وإبليس، ويقال: والحيّة.
{ولكم في الأرض مستقرٌّ}: موضع استقرار. {ومتاعٌ} أي: متعة. {إلى حينٍ} يريد إلى أجل). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين (36)} معناه: أنهما أزلّا بإغواء الشيطان إياهما، فصار كأنّه أزلّهما، كما تقول -للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها-: أنت أزللتني عن هذا، أي: قبولي منك أزلني، فصرت أنت المزيل لي.
ومعنى "الشيطان" في اللغة: الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس، والشطن في لغة العرب: الخبل، والأرض الشطون: البعيدة، وإنما الشيطان "فيعال" من هذا.
وقد قرئ: (فَأَزالهُمَا الشيطان) من زلت وأزالني غيري، و"أزلهما" من زللت وأزلني غيري، ولـ"زللت" ههنا وجهان:
يصلح أن يكون {فأزلهما الشيطان}: أكسبهما الزلة والخطيئة، ويصلح أن يكون {فأزلهما}: نحّاهما، كلا القراءتين صواب حسن.
وقوله عزّ وجلّ {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ}: جمع الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- قصة هبوطهم، وإنما كان إبليس أُهبِطَ أولاً، والدليل على ذلك قوله عزّ وجل: {اخرج منها فإنّك رجيم}، وأهبط آدم وحواء بعد، فجمع الخبر للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط، وإن كانت أوقاتهم متفرقة فيه.
وقوله {بعضكم لبعض عدوّ}: إبليس عدو للمؤمنين من ولد آدم، وعداوته لهم: كفر، والمؤمنون أعداء إبليس، وعداوتهم له: إيمان.
وقوله عزّ وجلّ {ولكم في الأرض مستقرّ} أي: مقام وثبوت.
وقوله {إلى حين} قال قوم: معنى الحين ههنا: إلى يوم القيامة، وقال قوم: إلى فناء الآجال، أي: كل مستقر إلى فناء أجله، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة، وبعض الناس يجعل الحين -في غير هذا الموضع-: ستة أشهر، دليله قوله: {تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها}، وإنما {كل حين} ههنا جعل لمدة معلومة، والحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه -في الاستعمال- في الكثير منها أكثر، يقال: ما رأيتك منذ حين، تريد منذ حين طويل، والأصل على ما أخبرنا به). [معاني القرآن: 1/115-116]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("فأزالهما" بالألف من الزوال، أي: نحاهما، وبغير ألف من الزلل، أي: استزلهما).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَأَزَلَّهُمَا}: حملهما على الخطأ. (فَأَزَلََهُمَا): عدل بهما. {مُسْتَقَرّ}: ثبات. {وَمَتَاعٌ}: منافع. {إِلَى حِينٍ}: إلى أجل ومدة). [العمدة في غريب القرآن: 73]

تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ...}
فـ {آدم} مرفوع، و"الكلمات" في موضع نصب، وقد قرأ بعض القرّاء: "فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ" فجعل الفعل للكلمات، والمعنى -والله أعلم- واحد؛ لأن ما لقيك فقد لقيتَه، وما نالك فقد نلته، وفي قراءتنا: {لا ينال عهدي الظّالمين} وفي حرف عبد الله: (لا ينال عهدي الظّالمون) ). [معاني القرآن: 1/28]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فتلقى آدم من ربّه كلماتٍ}: أي: قبلها وأخذها عنه.
قال أبو مهدي، وتلا علينا آية، فقال: تلقيتها من عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة، تلقّاها عن النبي عليه السلام.
{إنّه هو التّواب} أي: يتوب على العباد، والتوّاب من الناس: الذي يتوب من الذنب). [مجاز القرآن: 1/39]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم}
قوله: {فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ} فجعل "آدم" المتلقي، وقد قرأ بعضهم (آدمَ) نصبًا، ورفع "الكلمات" جعلهن المتلّقيات). [معاني القرآن: 1/53]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فتلقى آدم من ربه كلمات} أي: قبلها، أخذها عنه).[غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} أي: قبلها وأخذها، كأن اللّه أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده، ففعل ذلك آدم {فتاب عليه} وفي الحديث: أن رسول اللّه -صلّى اللّه عليه سلم وعلى آله- كان يتلقى الوحي من جبريل، أي: يتقبّله ويأخذه). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنه هو التّوّاب الرّحيم (37)}
"الكلمات" -واللّه أعلم-: اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب؛ لأنهما قالا: {ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين (23)} اعترفا بذنبهما وتابا، وفي هذه الآية موعظة لولدهما، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنصّل من الذنوب، وأنه لا ينفع إلا الاعتراف والتوبة، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللّه -عزّ وجلّ- حرام وكفر باللّه، فلا بد من الاعتراف مع التوبة، فينبغي أن يفهم هذا المعنى، فإنه من أعظم ما يحتاج إليه من الفوائد.
وقرأ ابن كثير: (فتلقى آدمَ من ربّه كلمات)، والاختيار ما عليه الإجماع، وهو في العربية أقوى، لأن آدم تعلم هذه الكلمات، فقيل: تلقّى هذه الكلمات، والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان، المعنى: فهمي قبله من لفظه). [معاني القرآن : 1/116-117]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فتلقى آدم من ربه كلمات} أي: قبلها وأخذ بها، ومن رفع (الكلمات) ونصب (آدم) فمعناه: أنقذته والحيّة من الخطيئة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَتَلَقَّى}: قبل). [العمدة في غريب القرآن: 73]

تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم مّنّي هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}
قال: {فإمّا يأتينّكم مّنّي هدًى فمن تبع هداي}، وذلك أن "إمّا" في موضع المجازاة، وهي "إما" لا تكون "أما"، وهي "إن" زيدت معها "ما" وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون.
وإنّما حسنت فيه النون لما دخلته "ما"؛ لأنّ "ما" نفي وهو ما ليس بواجب، وهي من الحروف التي تنفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: "بعينٍ مّا أرينّك" حين أدخلت فيها "ما" حسنت النون، ومثل "إمّا" ههنا قوله: {فإمّا ترينّ من البشر أحداً} وقوله: {قل رّبّ إمّا ترينّي ما يوعدون ربّ فلا تجعلني زفي القوم الظّالمين} فالجواب في قوله: {فلا تجعلني}، وأشباه هذا في القرآن والكلام كثير.
وأما "إمّا" في غير هذا الموضع الذي يكون للمجازاة؛ فلا تستغني حتى ترد "إمّا" مرتين، نحو قوله: {إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}، ونحو قوله: {حتّى إذا رأوا ما يوعدون إمّا العذاب وإمّا السّاعة} وإنما نصب لأنّ "إمّا" هي بمنزلة "أو" ولا تعمل شيئاً، كأنه قال: "هديناه السبيل شاكراً أو كفورا" فنصبه على الحال، و"حتى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة" فنصبه على البدل.
وقد يجوز الرفع بعد "إمّا" في كل شيء يجوز فيه الابتداء، ولو قلت: "مررت برجل إمّا قاعدٍ وإمّا قائمٍ" جاز، وهذا الذي في القرآن جائز أيضاً، ويكون رفًعا إلا أنه لم يقرأ.
وأما التي تستغني عن التثنية فتلك تكون مفتوحة الألف أبدًا، نحو قولك "أمّا عبد الله فمنطلق"، وقوله: {فأمّا اليتيم فلا تقهر (9) وأمّا السّائل فلا تنهر}، و{وأمّا ثمود فهديناهم}، فكلّ ما لم يحتج فيه إلى تثنية "أمّا" فألفها مفتوحة إلا تلك التي في المجازاة، و"أمّا" أيضاً لا تعمل شيئا ألا ترى أنك تقول: {وأمّا السّائل فلا تنهر} فتنصبه بـ"تنهر" ولم تغيّر "أمّا" شيئاً منه.
باب الإضافة:
أما قوله: {فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم} فانفتحت هذه الياء على كل حال؛ لأن الحرف الذي قبلها ساكن، وهي الألف التي في "هدى"، فلما احتجت إلى حركة الياء حركتها بالفتحة؛ لأنها لا تحرك إلا بالفتح، ومثل ذلك قوله: {عصاي أتوكّأ عليها}، ولغة للعرب يقولون: "عصيّ يا فتى"، و(هديّ فلا خوفٌ عليهم)، لما كان قبلها حرف ساكن وكان ألفاً، قلبته إلى الياء حتى تدغمه في الحرف الذي بعده، فيجرونها مجرى واحداً وهو أخف عليهم.
وأما قوله: {هذا ما لديّ عتيدٌ} و{هذا صراطٌ عليّ مستقيمٌ} و{ثمّ إليّ مرجعكم} فإنما حركت بالإضافة لسكون ما قبلها، وجعل الحرف الذي قبلها ياء، ولم يقل: "علاي" ولا "لداي" كما تقول: "على زيد" و"لدى زيد" ليفرقوا بينه وبين الأسماء، لأن هذه ليست بأسماء. و"عصاي" و"هداي" و"قفاي" أسماء. وكذلك {أفتوني في رؤياي} و(يا بشرايا هذا غلامٌ) لأنّ آخر "بشرى" ساكن، وقال بعضهم: (يا بشراي هذا غلام) لا يريد الإضافة، كما تقول "يا بشارة".
فإذا لم يكن الحرف ساكناً؛ كنت في الياء بالخيار، إن شئت أسكنتها، وإن شئت فتحتها، نحو: {إنّي أنا اللّه} و(إنّيَ أنا اللّه)، و{ولمن دخل بيتي مؤمناً} و(بيتيَ)، و{فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً} و(دعائيَ إلاّ).
وكذلك إذا لقيتها ألف ولام زائدتان؛ فإن شئت حذفت الياء لاجتماع الساكنينن وإن شئت فتحتها كيلا يجتمع حرفان ساكنان، إلا أن أحسن ذلك الفتح، نحو قول الله تبارك وتعالى: {جاءني البيّنات من رّبّي} و{نعمتي الّتي} وأشباه ذا، وبها نقرأ.
وإن لقيته أيضاً ألف وصل بغير لام؛ فأنت فيه أيضاً بالخيار، إلاّ أن أحسنه في هذا الحذف، وبها نقرأ، {إنّي اصطفيتك على النّاس} و{هارون أخي اشدد به أزري} فإذا كان شيء من هذا في الدعاء، حذفت منه الياء نحو: {يا عباد فاتّقون} و{ربّ قد آتيتني من الملك} و{رّبّ إمّا ترينّي ما يوعدون}.
ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدعاء وغيره من كل شيء. وذلك قبيح قليل إلا ما في رؤوس الآي، فإنه يحذف في الوقف. كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي نحو قوله:

أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا = حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
وقوله:

ألا هبّي بصحنك فاصبحينا = ولا تبقي خمور الأندرين
إذا وقفوا، فإذا وصلوا قالوا: "من بعضي" و"الأندرينا"، وذلك في رؤوس الآي كثير نحو قوله: {بل لّمّا يذوقوا عذاب} و{وإيّاي فاتّقون}، فإذا وصلوا أثبتوا الياء، وقد حذف قوم الياء في السكوت والوصل، وجعلوه على تلك اللغة القليلة، وهي قراءة العامة، وبها نقرأ؛ لأن الكتاب عليها، وقد سكت قوم بالياء ووصلوا بالياء، وذلك على خلاف الكتاب؛ لأن الكتاب ليست فيه ياء، وهي اللغة الجيدة، وقد سمعنا عربياً فصيحاً ينشد:

فما وجد النّهدي وجداً وجدته = ولا وجد العذريّ قبل جميل
يريد "قبلي" فحذف الياء، وقد أعمل بعضهم "قبل" إعمال ما ليس فيه ياء، فقال: "قبل جميل"، وهو يريد: "قبلي"، كما قال بعض العرب: "يا ربّ اغفر لي" فرفع، وهو يريد "يا ربّي".
وأما قوله: {وتظنّون باللّه الظّنونا} و{أضلّونا السّبيلا} فتثبت فيه الألف؛ لأنهما رأس آية؛ لأن قوماً من العرب يجعلون أواخر القوافي إذا سكتوا عليها على مثل حالها إذا وصلوها، وهم أهل الحجاز، وجميع العرب إذا ترنموا في القوافي: أثبتوا في أواخرها الياء والواو والألف، وأما قوله: {يا أبت إنّي أخاف} فأنث هذا الاسم بالهاء كقولك "رجلٌ ربعةٌ" و"غلامٌ يفعةٌ"، أو يكون أدخلها لما نقص من الاسم عوضا، وقد فتح قوم كأنهم أرادوا "يا أبتا" فحذفوا الألف كما يحذفون الياء، كما قال الشاعر:

ولست بمدرك ما فات مني = "لهف" ولا بـ"ليت" ولا لوآني"
يريد: "لهفاه". ومما يدلك على أن هذا الاسم أنث بالهاء قول الشاعر:

تقول ابنتي لما رأتني شاحباً = كأنّك فينا يا أبات غريب
فرد الألف وزاد عليها الهاء، كما أنث في قوله "يا أمتاه" فهذه ثلاثة أحرف، ومن العرب من يقول: "يا أمّ لا تفعلي" رخّم كما قال: "يا صاح"، ومنهم من يقول: "يا أميّ" و"يا أبي" على لغة الذين قالوا: "يا غلامي"، ومنهم من يقول: "يا أب" و"يا أمّ"، وهي الجيدة في القياس).
[معاني القرآن: 1/53-57]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({قلنا اهبطوا منها} قال ابن عباس -في رواية أبي صالح عنه-: "كما يقال: هبط فلان أرض كذا"). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)}
الفائدة في ذكر الآية: أنه عزّ وجلّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه يجازيهم بالجنة عليها وبالنّار على تركها، وأن هذا الابتلاء وقع عند الهبوط على الأرض.
وإعراب (إمّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاء، إلا أن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها "ما"، ومعنى لزومها إياها معنى التوكيد، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد، والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه.
وفتح ما قبل النون في قوله: {يأتينّكم} لسكون الياء وسكون النون الأولى، وجواب الشرط في الفاء مع الشر ط الثاني وجوابه، وهو {فمن تبع هداي}، وجواب {فمن تبع هداي} قوله: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
و{هداي}: الأكثر في القراءة والرواية عن العرب {هداي فلا خوف} فالياء في {هداي} فتحت؛ لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح، فالأصل أن تقول: هذا غلاميَ قد جاء -بفتح الياء-؛ لأنها حرف في موضع اسم مضمر منع الإعراب، فألزم الحركة كما ألزمت "هو" وحذف الحركة جائز؛ لأن الياء من حروف المد واللين، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من تحريكها، فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح، ومن العرب من يقولون: "هدي" و"عصى"، فمن قرأ بهذه القراءة: فإنما قلبت الألف إلى الياء، للياء التي بعدها، إلا أن شأنّ ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها، فجعل بدل كسر ما قبلها -إذ كانت الألف لا يكسر ما قبلها، لا يكسر هي- قلبها ياء، وطيء تقول في: "هدى" و"عصا" و"أفعى" وما أشبه هذا -في الوقف-: "هُدَيْ" و"عَصَيْ" و"أفعى" بغير إضافة.
وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين:

تبشري بالرفه والماء الروى= وفرج منك قريب قد أتى
وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف -في الأصل- مجراه في الوقف وليس هذا الوجه الجيد، وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف الياء؛ أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها، وحكى أيضاً أن قوما يقولون في الوقف "حبلو" و"أفعو".
وإنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها، ليتميز الجيد المستقيم المطرد من غيره، ويجتنب غير الجيّد، فالباب في هذه الأشياء أن تنطق بها في الوصل والوقف بألف، فليس إليك أن تقلب الشيء لعلة ثم تنطق به على أصله والعلة لم تزل، فالقراءة التي ينبغي أن تلزم هي: {هداي فلا خوف} إلا أن تثبت برواية صحيحة "هديّ" فيقرأ بها. ووجهه من القياس ما وصفنا.
فأمّا قوله: {هذا صراط عليّ مستقيم} وقوله: {إليّ مرجعكم} فلا يجوز أن يقرأ "هذا صراط علاي"، ولا "ثمّ إلاي مرجعكم"، لأن الوصل كان في هذا: "إلاي" و "عَلاَي" ولكن الألف أبدلت منها مع المضمرات الياء، ليفصل بين ما آخره مما يجب أن نعرب ويتمكن، وما آخره مما لا يجب أن يعرب، فقلبت هذه الألف ياء لهذه العلة). [معاني القرآن: 1/117-119]

تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

تفسير قوله تعالى: ({يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم...}
المعنى: لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذكر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه -والله أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا تنسوا. وفي حرف عبد الله: "ادّكروا". وفي موضع آخر: "وتذكّروا ما فيه"، ومثله في الكلام أن تقول: "اذكر مكاني من أبيك".
وأمّا نصب الياء من "نعمتي"؛ فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسال والسّكون، والفتح، فإذا لقيتها ألفٌ ولام، اختارت العرب اللغة التي حرّكت فيها الياء وكرهوا الأخرى؛ لان اللاّم ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتي التي)، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما.
وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام؛ وقد قال الله: {يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم} فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمّا قوله: {فبشّر عباد * الّذين يستمعون القول} فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة؛ وعلى هذا يقاس كل ما في القرآن منه، وقوله: {فما آتاني اللّه خيرٌ ممّا آتاكم} زعم الكسائيّ أن العرب تستحبّ نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: {إن أجري إلاّ على اللّه} و{إنّي أخاف اللّه} ولم أر ذلك عند العرب؛ رأيتهم يرسلون الياء فيقولون: "عندي أبوك"، ولا يقولون: "عنديَ أبوك" بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة في الياء في هذا ومثله. وأما قولهم: "لي ألفان"، و"بي أخواك كفيلان"، فإنهم ينصبون في هذين لقلتهما، فيقولون: "ليَ أخواك"، و"لي ألفان"، لقلتهما، والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد). [معاني القرآن: 1/29-30]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون}
أما قوله: {يا بني إسرائيل} فمن العرب من يهمز ومنهم من لا يهمز، ومنهم من يقول: (إسرائل)، يحذف الياء التي بعد الهمزة ويفتح الهمزة ويكسرها.
باب المجازاة:
فأما قوله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} فإنما جزم الآخر؛ لأنه جواب الأمر، وجواب الأمر مجزوم مثل جواب ما بعد حروف المجازاة، كأنه تفسير "إن تفعلوا أوف بعهدكم"، وقال في موضع آخر: {ذرونا نتّبعكم} وقال: {فذرهم في خوضهم يلعبون} فلم يجعله جواباً، ولكنه كأنهم كانوا يلعبون فقال: "ذرهم في حال لعبهم"، وقال: {ذرهم يأكلوا ويتمتّعوا ويلههم الأمل} وليس من أجل الترك يكون ذلك، ولكن قد علم الله أنه يكون وجرى على الإعراب، كأنه قال: "إن تركتهم ألهاهم الأمل"، وهم كذلك تركهم أو لم يتركهم، كما أن بعض الكلام يعرف لفظه، والمعنى على خلاف ذلك، وكما أن بعضهم يقول: "كذب عليكم الحجّ". فـ"الحجّ" مرفوع وإنما يريدون أن يأمروا بالحج، قال الشاعر:

كذب العتيق وماء شنٍّ باردٍ = إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
وقال:

وذبيانيةٌٍ توصي بنيها = ألا كذب القراطف والقروف
قال أبو عبد الله: "القراطف"، واحدها "قرطفٌ" وهو: كل ما له خملٌ من الثياب، و"القروف" واحدها "قرفٌ" وهو: وعاءٌ من جلود الإبل كانوا يغلون اللحم ويحملونه فيه في أسفارهم.
ويقولون: "هذا جحر ضبٍّ خربٍ" والخرب هو: الجحر، ويقولون: "هذا حبّ رمّاني"، فيضيف الرمّان إليه وإنما له الحبّ، وهذا في الكلام كثير.
وقوله: {قل لّلّذين آمنوا يغفروا للّذين لا يرجون أيّام اللّه} و{وقل لّعبادي يقولوا الّتي هي أحسن} فأجراه على اللفظ حتى صار جواباً للأمر، وقد زعم قوم: إن هذا إنما هو على "فليغفروا" و"قل لعبادي فليقولوا"، وهذا لا يضمر كله -يعني: الفاء واللام- ولو جاز هذا لجاز قول الرجل: "يقم زيدٌ"، وهو يريد "ليقم زيدٌ"، وهذه الكلمة أيضاً أمثل؛ لأنك لم تضمر فيها الفاء مع اللام.
وقد زعموا أن اللام قد جاءت مضمرة، قال الشاعر:

محمّد تفد نفسك كلّ نفسٍ = إذا ما خفت من شيءٍ تبالا
يريد: "لتفد"، وهذا قبيح.
وقال: "تق اللّه امرؤٌ فعل كذا وكذا" ومعناه: "ليتّق اللّه". فاللفظ يجيء كثيرا مخالفاً للمعنى. وهذا يدل عليه. قال الشاعر في ضمير اللام:

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي = لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى
يريد "ليبك من بكى" فحذف، وسمعت من العرب من ينشد هذا البيت بغير لام:

فيبك على المنجاب أضياف قفرةٍ = سروا وأسارى لم تفكّ قيودها
يريد: "فليبك"، فحذف اللام.
باب تفسير أنا وأنت وهو:
وأما قوله: {وإيّاي فارهبون} و{وإيّاي فاتّقون} فقال: {وإيّاي} وقد شغلت الفعل بالاسم المضمر الذي بعده الفعل؛ لأن كل ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو فهو منصوب نحو قولك: "زيداً فاضرب أخاه"؛ لأن الأمر والنهي مما يضمران كثيراً، ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضاً جائز على أن لا يضمر. قال الشاعر:

وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم = وأكرومة الحيّين خلّو كما هيا
وأما قوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحدٍ مّنهما} و{والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} فزعموا -والله أعلم- أن هذا على الوحي، كأنه يقول "وممّا أقصّ عليكم الزانية والزاني، والسارقة والسارق" ثم جاء بالفعل من بعد ما أوجب الرفع على الأول على الابتداء وهذا على المجاز؛ كأنه قال "أمر السارق والسارقة وشأنهما مما نقصّ عليكم"، ومثله قوله: {مّثل الجنّة الّتي وعد المتّقون} ثم قال: {فيها أنهارٌ مّن مّاءٍ}، كأنه قال: "وممّا أقصّ عليكم مثل الجنة" ثم أقبل يذكر ما فيها بعد أن أوجب الرفع في الأول على الابتداء. وقد قرأها قوم نصباً إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأول، وهو في الأمر والنهي، وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام نحو قوله: {أبشراً منّا واحداً نتّبعه}، وإنما فعل هذا في حروف الاستفهام؛ أنه إذا كان بعده اسم وفعل كان أحسن أن يبتدئ بالفعل قبل الاسم، فإن بدأت بالاسم أضمرت له فعلا حتى تحسن الكلام به، وإظهار ذلك الفعل قبيح.
وما كان من هذا في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي؛ فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير، وهذا الحرف قد قرئ نصباً ورفعا ً {وأمّا ثمود فهديناهم}.
وأما قوله: {إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ} فهو يجوز فيه الرفع، وهي اللغة الكثيرة غير أن الجماعة اجتمعوا على النصب، وربما اجتمعوا على الشيء كذلك مما يجوز والأصل غيره؛ لأن قولك: "إنّا عبد اللّه ضربناه" مثل قولك: "عبد اللّه ضربناه"؛ لأن معناهما في الابتداء سواء، قال الشاعر:

فأمّا تميمٌ تميمُ بن مرٍّ = فألفاهم القوم روبى نياما
وقال:

إذا ابن أبي موسى بلالٌ بلغته = فقام بفأسٍ بين وصليك جازر
ويكون فيهما النصب؛ فمن نصب {وأما ثمود} نصب على هذا.
وأما قوله: {يدخل من يشاء في رحمته والظّالمين أعدّ لهم}، وقوله: {أأنتم أشدّ خلقاً أم السّماء بناها} ثم قال: {والأرض بعد ذلك دحاها}، وقال: {الرحمن (1) علّم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علّمه البيان} ثم قال: {والسّماء رفعها ووضع الميزان}، وقال: {وكلاًّ ضربنا له الأمثال وكلاًّ تبّرنا تتبيراً} فهذا إنما ينصب، وقد سقط الفعل على الاسم بعده؛ لأن الاسم الذي قبله قد عمل فيه، فأضمرت فعلاً فأعملته فيه حتى يكون العمل من وجه واحد، وكان ذلك أحسن، قال الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيئاً = ونرخصه إذا نضج القدور
يريد "نغالي باللحم"، فإن قلت: {يدخل من يشاء} ليس بنصب في اللفظ، فهو في موضع نصب قد عمل فيه فعل، كما قلت: "مررت بزيدٍ وعمراً ضربته"، كأنك قلت: "مررت زيداً"، وقد يقول هذا بعض الناس، قال الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا = أَمْلِك رأس البعير إن نفرا
والذيب أخشاه إن مررت به = وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وكلّ هذا يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب أجود وأكثر.
وأما قوله: {يغشى طائفةً مّنكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم} فإنما هو على قوله "يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ في هذه الحال"، و هذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول: "ضربت عبد اللّه وزيدٌ قائم". وقد قرئت نصبا لأنها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنه قد يسقط الفعل على شيء من سببها وقبلها منصوب بفعل، فعطفتها عليه وأضمرت لها فعلها فنصبتها به، وما ذكرنا في هذا الباب من قوله: {والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا} ليس في قوله: {فاقطعوا} و{فاجلدوا} خبر مبتدأ؛ لأن خبر المبتدأ هكذا لا يكون بالفاء، فلو قلت "عبد اللّه فينطلق" لم يحسن، وإنما الخبر هو المضمر الذي فسرت لك من قوله: (ومما نقص عليكم)، وهو مثل قوله:

وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم = وأكرومة الحيّين خلوٌ كما هيا
كأنه قال: "هؤلاء خولان"، كما تقول: "الهلال فانظر إليه"، كأنك قلت: "هذا الهلال فانظر إليه" فأضمر الاسم.
فأما قوله: {واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما} فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ، لأن "الذي" إذا كان صلته فعل جاز أن يكون خبره بالفاء نحو قول الله عز وجل: {إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ثم قال: {فأولئك مأواهم جهنّم}). [معاني القرآن: 1/57-62]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأوفوا بعهدي} أي: أوفوا لي بما قبلتموه من أمري ونهيي.
{أوف بعهدكم} أي: أوف لكم بما وعدتكم على ذلك من الجزاء). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون (40)}
نصب {بني إسرائيل} لأنه نداء مضاف، وأصل النداء النصب لأن معناه معنى "ناديت" و "دعوت". و"إسرائيل" في موضع خفض إلا إنّه فتح آخره لأنه لا ينصرف، وفيه شيئان يوجبان منع الصرف، وهما أنّه أعجمي وهو معرفة، وإذا كان الاسم كذلك لم ينصرف، إذا جاوز ثلاثة أحرف عند النحويين، وفي قوله: {نعمتي الّتي أنعمت عليكم} وجهان، أجودهما فتح الياء؛ لأنّ الذي بعدها ساكن -وهو لام المعرفة- فاستعمالها كثير في الكلام فاختير فتح الياء معها لالتقاء السّاكنين، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كان فتحها أقوى في اللغة، ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء السّاكنين فتقرأ: (نعمت التي)أنعمت بحذف الياء، والاختيار: إثبات الياء وفتحها؛ لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب؛ لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤه من كتاب اللّه بكل حرف حسنة، فإن إثباته أوجه في اللغة، فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزّ وجلّ: {هارون أخي (30) اشدد به أزري (31)}؛ فلم يكثر القراء فتح هذه الياء، وقال أكثرهم بفتحها مع الألف واللام.
ولعمري إن اللام المعرفة أكثر في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار "أخيَ اشدد" بفتح الياء لالتقاء السّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد، وإن حذفت فالحذف جائز حسن، إلا أن الأحسن ما وصفنا.
وأمّا معنى الآية في التذكير بالنعمة، فإنهم ذكروا بما أنعم به على آبائهم من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً} فالذين صادفهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أنبياء، وإنّما ذكّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها، يفاخر الرجل الرجل فيقول: "هزمناكم يوم ذي قار"، ويقول: "قتلناكم يوم كذا"، معناه: قتل آباؤنا آباءكم.
وقوله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} معناه -واللّه أعلم- قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه} فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنّا ما يدل على ذكر العهد قبل هذا، وفيه كفاية.
وقوله عزّ وجلّ: {وإيّاي فارهبون} نصب بالأمر كأنه في المعنى "أرهبوني" ويكون الثاني تفسير هذا الفعل المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: "وأنا فارهبون"، ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وإيّاي فارهبون) حذفت الياء وأصله "فارهبوني"؛ لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية؛ ليكون النظم على لفظ متسق، ويسمّي أهل اللغة رؤوس الآي: الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي.
ويقال: "وفيت له بالعهد فأنا واف به"، و"أوفيت له بالعهد فأنا موف به". والاختيار: أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وقال: {وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم} وقال: {فأوفوا الكيل والميزان}، وكل ما في القرآن بالألف، وقال الشاعر في "أوفيت" و"وفيت"، فجمع بين اللغتين في بيت واحد:

أما ابن عوف فقد أوفى بذمته= كما وفى بقلاص النجم حاديها
). [معاني القرآن: 1/119-122]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَوْفُواْ بِعَهْدِي}: بأمري. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: بوعدكم). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...} وكل ما كان في القرآن من هذا قد نصب فيه الثّمن، وأدخلت الباء في المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين، لا يكونان ثمناً معلوماً مثل "الدنانير" و"الدراهم"؛ فمن ذلك: اشتريت ثوباً بكساء؛ أيّهما شئت تجعله ثمناً لصاحبه؛ لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل: الرقيق والدّور وجميع العروض فهو على هذا، فإن جئت إلى "الدراهم" و"الدنانير" وضعت الباء في الثّمن، كما قال في سورة يوسف: {وشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةٍ}؛ لأن "الدراهم" ثمنٌ أبداً، والباء إنما تدخل في الأثمان، فذلك قوله: {اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً}، {اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة}، {اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة}، فأدخل الباء في أي هذين شئت حتى تصير إلى "الدنانير" و"الدراهم"، فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض، فإذا اشتريت أحدهما -يعني: "الدنانير" و"الدراهم"- بصاحبه أدخلت الباء على أيّهما شئت؛ لأن كل واحد منهما في هذا الموضع بيعٌ وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العروض وبين "الدراهم"، فإنك تعلم أن من اشترى عبداً بألف درهم معلومة، ثم وجد به عيبا فردّه لم يكن له على البائع أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عبدا بجارية ثم وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العروض ليست بأثمان). [معاني القرآن: 1/30]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ به...}
فوحّد "الكافر" وقبله جمعٌ، وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ في الاسم إذا كان مشتقّاً من فعل، مثل الفاعل والمفعول؛ يراد به: "ولا تكونوا أوّل من يكفر" فتحذف "من" ويقوم الفعل مقامها، فيؤدّي الفعل عن مثل ما أدّت "من" عنه من التأنيث والجمع وهو في لفظ توحيد، ولا يجوز في مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضل رجلٍ؛ ولا أنتما خير رجل؛ لأن الرجل يثنّى ويجمع ويفرد، فيعرف واحده من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولـ(من) فيؤدّى عنهما وهو موحّد؛ ألا ترى أنك قد تقول: الجيش مقبلٌ والجند منهزمٌ، فتوحّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ؛ ففي هذا تبيان؛ وقد قال الشاعر:

وإذا هم طعموا فألأم طاعم = وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ). [معاني القرآن: 1/32-33]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وآمنوا بما أنزلت مصدّقا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإيّاي فاتّقون (41)}
يعني: القرآن، ويكون أيضاً {ولا تكونوا أوّل كافر}: بكتابكم وبالقرآن، إن شئت عادت الهاء على قوله: {لما معكم}، وإنما قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}، لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع، فلذلك قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}.
فإن قال قائل: كيف تكون الهاء لكتابهم؟
قيل له: إنهم إذا كتموا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابهم، فقد كفروا به، كما إنّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به.
ومعنى {ولا تكونوا أوّل كافر به} -إذا كان بالقرآن-: لا مؤنة فيه؛ لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن، ومعنى {أوّل كافر}: أول الكافرين.
قال بعض البصريين في هذا قولين:
قال الأخفش: معناه: أول من كفر به، وقال البصريون أيضا: معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر به، أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين صواب حسن.
وقال بعض النحويين: إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول، تقول: الجيش منهزم، والجيش مهزوم، ولا يجوز فيما ذكر: الجيش رجل، والجيش فرس، وهذا في فاعل ومفعول أبين، لأنك إذا قلت: الجيش منهزم، فقد علم أنك تريد هذا الجيش، فنقطت في لفظه بفاعل؛ لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع، فهو "فعال" و"مفعول" يدل على ما يدل عليه الجيش، وإذا قلت: الجيش رجل، فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله، فأمّا إذا عرف معناه، فهو سائغ جيد.
تقول: جيشهم إنّما هو فرس ورجل، أي: ليس بكثير الأتباع، فيدل المعنى على أنك تريد: الجيش خيل ورجال، وهذا في "فاعل" و"مفعول" أبين كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ {أوّل كافر به} اللغة العليا والقدمى: الفتح في الكاف، وهي لغة أهل الحجاز، والإمالة في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة؛ لأن فاعلا ً إذا سلم من حروف الإطباق وحروف المستعلية: كانت الإمالة فيه سائغة إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة بني تميم، وغيرهم من العرب، ولسان الناس الذين هم بالعراق جار على لفظ الإمالة، فالعرب تقول: هذا عابد وهو عابد، فيكسرون ما بعدها إلا أن تدخل حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، لا يجوز في قولك: فلان ظالم، "ظالم" ممال، ولا في: طالب، "طالب" ممال، ولا في: صابر، "صابر" ممال، ولا في: ضابط، "ضابط" ممال، وكذلك حروف الاستعلاء وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في: غافل، "غافل" ممال، ولا في: خادم، "خادم" ممال، ولا في: قاهر، "قاهر" ممال، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا -في هذا الموضع- هو المقصود وقدر الحاجة).
[معاني القرآن: 1/122-124]

تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون...}
إن شئت جعلت {وتكتموا} في موضع جزم؛ تريد به: ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ولا تكتموا الحقّ، فتلقى "لا" لمجيئها في أوّل الكلام، وفي قراءة أبيّ: (ولا تكونوا أوّل كافرٍ به وتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً)، فهذا دليلٌ على أنّ الجزم في قوله: {وتكتموا الحقّ} مستقيمٌ صوابٌ، ومثله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام}، وكذلك قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، وإن شئت جعلت هذه الأحرف المعطوفة بالواو نصباً على ما يقول النحويّون من الصّرف؛ فإن قلت: وما الصّرف؟
قلت: أن تأتى بالواو معطوفةً على كلامٍ في أوّله حادثةٌ لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصّرف؛ كقول الشاعر:

لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله = عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة "لا" في "تأتى مثله"؛ فلذلك سمّى صرفاً إذ كان معطوفاً ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله، ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب، وهي معطوفة على مرفوع قولهم: لو تركت والأسد لأكلك، ولو خلّيت ورأيك لضللت، لمّا لم يحسن في الثاني أن تقول: لو تركت وترك رأيك لضللت؛ تهّيبوا أن يعطفوا حرفاً لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله.
قال: فإنّ العرب تجيز الرّفع؛ لو ترك عبد الله والأسد لأكله، فهل يجوز في الأفاعيل التي نصبت بالواو على الصّرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصّرف؟
قلت: نعم؛ العرب تقول: لست لأبي إن لم أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لأضربنّك أو تسبقنّي في الأرض، فهذا مردودٌ على أوّل الكلام، ومعناه : الصّرف؛ لأنهّ لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بـ(لم)، ولا إعادة اليمين على: والله لتسبقنّي، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام، والصّرف في غير "لا" كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه). [معاني القرآن: 1/32-33]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون (42)}
يقال: لبست عليهم الأمر أَلبِسُه، إذا أعمّيته عليهم، ولبست الثوب ألبسه، ومعنى الآية: {لا تلبسوا الحق} و"الحق" ههنا: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أتى به من كتاب الله -عزّ وجلّ-، وقوله {بالباطل} أي: بما يحرفون.
وقوله عزّ وجلّ: {وأنتم تعلمون} أي: تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرة.
وإعراب {ولا تلبسوا} الجزم بالنهي، وعلامة الجزم سقوط النون، أصله: "تلبسون" و"تكتمون"، يصلح أن يكون جزماً على معنى {ولا تكتموا الحق}، ويصلح أن يكون نصباً، وعلامة النصب أيضاً سقوط النون، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو.
ومذهب الخليل وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين: أن جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار "أن"، كأنك قلت: لا يكن منكم إلباس الحق وكتمانه، كأنّه قال: وإن تكتموه، ودلّ "تلبسوا" على لبس، كما تقول: من كذب كان شرّا، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفته).
[معاني القرآن: 1/124-125]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 44 إلى 59]

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}

تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} أي: وتتركون أنفسكم، كما قال: {نسوا اللّه فنسيهم} أي: تركوا اللّه فتركهم). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)}
فالألف: ألف استفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ ههنا، كأنه قيل لهم: أنتم على هذه الطريقة، ومعنى هذا الكلام -واللّه أعلم-: أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به؛ لأن جحدهم النبي صلى الله عليه وسلم: هو تركهم التمسك به.
ويجوز -واللّه أعلم-: أنهم كانوا يأمرون ببذل الصدقة وكانوا يضنون بها، لأنهم وصفوا بأنهم قست قلوبهم وأكلوا الربا والسّحت، وكانوا قد نهوا عن الربا فمنع الصدقة داخل في هذا الباب). [معاني القرآن: 1/125]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وتنسون أنفسكم} أي: تتركونها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]

تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنها لكبيرةٌ إلاّ على الخاشعين}
العرب تقتصر على أحد هذين الاسمين، فأكثره الذي يلى الفعل، قال عمرو بن امرئ القيس -من الخزرج-:


نحن بما عندنا وأنت بما= عندك راضٍ والرأي مختلف
الخبر للآخر؛ وفي القرآن مما جعل معناه على الأول قوله: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها}.
"الخاشعون": المخبتون المتواضعون). [مجاز القرآن: 1/39]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلاّعلى الخاشعين}
باب الواو:
أما قوله: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ} فلأنه حمل الكلام على "الصلاة"، وهذا كلام منه ما يحمل على الأول ومنه ما يحمل على الآخر، وقال: {واللّه ورسوله أحقّ أن يرضوه} فهذا يجوز على الأول والآخر، وأقيس هذا -إذا ما كان بالواو -أن يحمل عليهما جميعاً، تقول: "زيد وعمرو ذاهبان" وليس هذا مثل "أو"، لأن "أو" إنما يخبر فيه عن أحد الشيئين، وأنت في "أو" بالخيار إن شئت جعلت الكلام على الأول وإن شئت على الآخر، وأن تحمله على الآخر أقيس؛ لأنك إن تجعل الخبر على الاسم الذي يليه فهو أمثل من أن تجاوزه إلى اسم بعيد منه، قال: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها} فحمله على الأول، وقال في موضع آخر: {ومن رّحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه}، وقال: {ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً} فحمله على الآخر، قال الشاعر:

أمّا الوسامة أو حسن النساء فقد = أوتيت منه لو أنّ العقل محتنك
وقال ابن أحمر:

رماني بداءٍ كنت منه ووالدي = بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
وقال الآخر:

نحن بما عندنا وأنت بما = عندك راضٍ والرأي مختلف
وهذا مثل قول البرجمي:

من يك أمسى بالمدينة داره = فإنّي وقيّاراً بها لغريب
وأما قوله: {باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم} فانتصب {العجل}؛ لأنه مفعول به، تقول: "عجبت من ضربك زيداً"، وقوله: {بارئكم} مهموز لأنه من "برأ اللّه الخلق يبرأ برءاً"، وقد قرأ بعضهم هذه الهمزة بالتخفيف فجعلها بين الهمزة وبين الياء، وقد زعم قوم أنها تُجزم، ولا أرى ذلك إلا غلطاً منهم، سمعوا التخفيف فظنوا أنه مجزوم، والتخفيف لا يفهم إلا بمشافهة ولا يعرف في الكتاب، ولا يجوز الإسكان، إلا أن يكون أسكن وجعلها نحو: "علم" و"قد ضرب" و"قد سمع" ونحو ذلك.
سمعت من العرب من يقول: (جاءت رسلنا) جزم اللام، وذلك لكثرة الحركة، قال الشاعر:

وأنت لو باكرت مشمولةً = صهباء مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك ما فيهما = وقد بداهنك من المئزر
وقال امرؤ القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقبٍ = إثماً من اللّه ولا واغل
وقال آخر:

..... = إنّ بني ثمرة فؤادي
وقال آخر:

يا علقمة يا علقمة يا علقمة = خير تميمٍ كلّها وأكرمه
وقال:

إذا اعوججن صاحب قوّم = بالدّوّ أمثال السفين العوّم
ويكون "رسلنا" على الإدغام، يدغم اللام في النون ويجعل فيها غنة.
والإسكان في {بارئكم} على البدل، لغة الذين قالوا: "أخطيت"، وهذا لا يعرف). [معاني القرآن: 1/62-64]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الخاشعون}: المخبتون المتواضعون). [غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واستعينوا بالصّبر} أي: بالصوم، في قول مجاهد رحمه اللّه.
ويقال لشهر رمضان: شهر الصبر، وللصائم صابر، وإنما سمّي الصائم صابراً؛ لأنه حبس نفسه عن الأكل والشرب، وكلّ من حبس شيئاً فقد صبره، ومنه "المصبورة" التي نهي عنها، وهي: البهيمة تجعل غرضًا وترمى حتى تقتل.
وإنما قيل للصابر على المصيبة صابر؛ لأنه حبس نفسه عن الجزع). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين (45)}
إن قال قائل: لم قيل لهم "استعينوا بالصبر" وما الفائدة فيها ؟
فإن هذا الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم، فقيل لهم: استعينوا على ما يذهب عنكم شهوة الرياسة بالصلاة؛ لأن الصلاة يتلى فيها ما يرغب فيما عند اللّه، ويزهد في جميع أمر الدنيا، ودليل ذلك قوله: {إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} المعنى: إن الصلاة التي معها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم كبيرة؛ تكبر على الكفار وتعظم عليهم مع الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخاشع: المتواضع المطيع المجيب؛ لأن المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفر إذا انتقل إلى الإيمان). [معاني القرآن: 1/125-126]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({واستعينوا بالصبر} أي: الصوم، والصائم صابر، بحبسه نفسه عن الأكل والشرب، والصبر أصله: الحبس عن الشيء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26-27]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصَّبْرِ}: الصوم. {الْخَاشِعِ}: المتواضع). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} معناها: يوقنون، فالظن على وجهين: يقين، وشك؛ قال دريد بن الصّمّة:

فقلت لهم ظنّوا بألفى مدجّج= سراتهم في الفارسيّ المسرّد
"ظنّوا" أي: أيقنوا.

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى= غوايتهم وأنني غير مهتد
أي: حيث تابعتهم؛ وجعله يقيناً). [مجاز القرآن: 1/39-40]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين يظنّون أنّهم مّلاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون}
باب اسم الفاعل:
قال: {الّذين يظنّون أنّهم مّلاقو ربّهم} فأضاف قوله: {مّلاقو ربّهم} ولم يقع الفعل، وإنما يضاف إذا كان قد وقع الفعل تقول: "هم ضاربوا أبيك" إذا كانوا قد ضربوه، وإذا كانوا في حال الضرب أو لم يضربوا قلت: "هم ضاربون أخاك"، إلا أن العرب قد تستثقل النون فتحذفها في معنى إثباتها وهو نحو {مّلاقو ربّهم} مثل {كلّ نفسٍ ذائقةُ الموت} ولم تذق بعد. وقد قال بعضهم: (ذائقةٌ الموت) على ما فسرت لك.
وقال الله -جل ثناؤه-: {إنّا مرسلو النّاقة} وهذا قبل الإرسال، ولكن حذفت النون استثقالا. وقال: {وكلبهم باسطٌ ذراعيه} فأثبت التنوين لأنه كان في الحال. وقال: {إنّا كاشفو العذاب قليلاً} على ذلك أيضاً. وزعموا أن هذا البيت ينشد هكذا:

هل أنت باعث دينارٍ لحاجتنا = أو عبد ربٍّ أخا عمرو بن مخراق
فأضاف ولم يقع الفعل ونصب الثاني على المعنى لأن الأول فيه نية التنوين، كقول الله جل وعزّ {وجعل اللّيل سكناً والشّمس والقمر حسباناً}، ولو جررت "الشمس" و"القمر" و"عبد رب أخا عمرو" على ما جررت عليه الأول جاز وكان جيدا.
وقال: {إنّا منجّوك وأهلك إلاّ امرأتك} فالنصب وجه الكلام لأنك لا تجرى الظاهر على المضمر، والكاف في موضع جرّ لذهاب النون. وذلك لأن هذا إذا سقط على اسم مضمر ذهب منه التنوين والنون إن كان في الحال وإن لم يفعل، تقول: "هو ضاربك الساعة أو غداً" و"هم ضاربوك"، وإذا أدخلت الألف واللام قلت: "هو الضارب زيداً" ولا يكون أن تَجُرّ "زيداً" لأن التنوين كأنه باق في "الضارب" إذا كان فيه الألف واللام، لأن الألف واللام تعاقبان التنوين. وتقول: "هما الضاربان زيداً" و"هما الضاربا زيدٍ" لأن الألف واللام لا تعاقبان التنوين في الاثنين والجمع. فإذا أخرجت النون من الاثنين، والجمع من أسماء الفاعلين، أضفت وإن كان فيه الألف واللام، لأن النون تعاقب الإضافة، وطرح النون ههنا كطرح النون في قولك: "هما ضاربا زيد" ولم يفعلا، لأن الأصل في قولك: "الضاربان" إثبات النون لأن معناه وإعماله مثل معنى "الذي فعل" وإعماله. قال الشاعر:

الحافظو عورة العشير لا = يأتيهم من ورائنا نطف
وفي كتاب الله {والمقيمي الصّلاةِ}، وقد نصب بعضهم فقال: (والمقيمي الصّلاةَ)،
و"الحافظو عورة" استثقالاً للإضافة كما حذفت نون "اللذين" و"الذين". قال الشاعر:

أبني كليبٍ إنّ عمّيّ اللذا = قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا
وقال:

فإنّ الذي حانت بفلجٍ دماؤهم = هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
فألقى النون. وزعموا أن عيسى بن عمر كان يجيز:

فألفيته غير مستعتبٍ = ولا ذاكر اللّه إلا قليلا
كأنه إنما طرح التنوين لغير معاقبة إضافة، وهو قبيح إلا في كل ما كان معناه "اللذين" و"الذين" فحينئذ يطرح منه ما طرح من ذلك. ولو جاز هذا البيت لقلت: "هم ضاربو زيدا" وهذا لا يحسن. وزعموا أن بعض العرب قال: {واعلموا أنّكم غير معجزي اللّه} وهو أبو السمّال وكان فصيحا. وقد قرئ هذا الحرف {إنّكم لذائقو العذاب الأليم} وهو في البيت أمثل لأنه أسقط التنوين لاجتماع الساكنين. وإذا ألحقت النون نصبت لأن الإضافة قد ذهبت، قال: {والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة} [و] قال: {والذّاكرين اللّه كثيراً} قال الشاعر:

النازلون بكلّ معترك = والطيبون معاقد الأزر
). [معاني القرآن: 1/65-67]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم}: يوقنون). [غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} أي: يعلمون.
و"الظن" بمعنيين: شك ويقين، على ما بينا في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون (46)}
"الظن" ههنا في معنى: اليقين، والمعنى: الذين يوقنون بذلك، ولو كانوا شاكين كانوا ضلالا كافرين، و"الظن" بمعنى اليقين موجود في اللغة، قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مقاتل = سراتهم في الفارسيّ المسرّد
ومعناه: أيقنوا.
وقد قال بعض أهل العلم من المتقدمين: إن "الظن" يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإن كان قام في نفسك حقيقته وهذا مذهب، إلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا.
قال أبو إسحاق: وهذا سمعته من إسماعيل بن إسحاق القاضي -رحمه اللّه-، رواه عن زيد بن أسلم.
وقوله {أنّهم} ههنا لا يصلح في موضعها (إنهم) -بالكسر- لأن الظن واقع فلا بد من أن تكون تليه "أنّ"، إلا أن يكون في الخبر لام.
ويصلح في {أنّهم إليه راجعون} الفتح والكسر، إلا أن الفتح هو الوجه الذي عليه القراءة، فإذا قلت: (وإنهّم إليه راجعون) -في الكلام– حملت الكلام على المعنى كأنه "وهم إليه راجعون" ودخلت أن مؤكدة، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت: ظننت إنك لعالم.
ومعنى {ملاقو ربّهم}: ملاقون ربهم، لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون تحذف استخفافا، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف، لأن أتباع المصحف أصل أتباع السنة). [معاني القرآن: 1/126-127]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({الذين يظنون}: يتيقنون، و"يظنون" في مكان آخر: يشكون).
[ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الذين يظنون أنهم} أي: يعلمون ويوقنون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَظُنُّونَ}: يوقنون). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأنّي فضّلتكم على العالمين} أي: على عالمي زمانهم. وهو من العام الذي أريد به الخاصّ). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (47)}
أذكرهم الله عزّ وجلّ نعمته عليهم في أسلافهم، والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ نجّيناكم من آل فرعون} والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله.
ولكنه عزّ وجلّ ذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إنعام عليهم، والدليل على ذلك: أن العرب وسائر الناس يقولون: أكرمتك بإكرامي أخاك، وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه، والعرب خاصة تجعل ما كان لآبائها فخرا لها، وما كان فيه ذم يعدونه عارا عليها، وإن كان فيما قدم من آبائها وأسلافها). [معاني القرآن: 1/127-128]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({على العالمين} خاص، أريد بهم على عالم زمانهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً...} فإنه قد يعود على اليوم والليلة، ذكرهما مرّة بالهاء وحدها ومرة بالصّفة فيجوز ذلك؛ كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئا وتضمر الصفة، ثم تظهرها فتقول: لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا.
وكان الكسائيّ لا يجيز إضمار الصفة في الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة ها هنا لأجزت: أنت الذي تكلمت، وأنا أريد: الذي تكلمت فيه. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر في مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدني بعض العرب:

يا ربّ يوم لو تنزّاه حول = ألفيتنى ذا عنزٍ وذا طول
وأنشدني آخر:

قد صبّحت صبّحها السّلام
=
بكبدٍ خالطها سنام
=
في ساعة يحبّها الطّعام
ولم يقل: يحبّ فيها.
وليس يدخل على الكسائيّ ما أدخل على نفسه؛ لأن الصفة في هذا الموضع والهاء متّفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتك، كان غير: كلّمت فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان "في"، ولا إضمار "في" مكان الهاء). [معاني القرآن: 1/31-32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً ولا يقبل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم ينصرون}
باب إضافة الزمان إلى الفعل:
قال: {واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً} فنوّن "اليوم" لأنه جعل "فيه" مضمرا، وجعله من صفة "اليوم"، كأنه قال "يوماً لا تجزى نفسٌ عن نفسٍ فيه شيئاً". وإنما جاز إضمار "فيه" كما جاز إضافته إلى الفعل تقول: "هذا يوم يفعل زيد". وليس من الأسماء شيء يضاف إلى الفعل غير أسماء الزمان، ولذلك جاز إضمار "فيه".
وقال قوم: إنّما أضمر الهاء أراد "لا تجزيه" وجعل هذه الهاء اسما لليوم مفعولا، كما تقول: "رأيت رجلاً يحبّ زيدٌ" تريد: "يحبّه زيد". وهو في الكلام يكون مضافا، تقول: "اذكر يوم لا ينفعك شيء" أي: "يوم لا منفعة"، وذلك أن أسماء الحين قد تضاف إلى الفعل قال: {هذا يوم لا ينطقون} أي: "يوم لا نطق"، وقد يجوز فيه "هذا يوم لا ينطقون" إذا أضمرت "فيه" وجعلته من صفة "يوم" لأنّ "يوما" نكرة وقد جعلت الفعل لشيء من سببه وقدمت الفعل. فالفعل يكون كله من صفة النكرة كأنك أجريته على اليوم صفة له إذا كان ساقطا على سببه، وقد قال بعضهم {هذا يوم لا ينطقون} وكذلك {هذا يوم الفصل} وكل ما أشبه هذا فهو مثله. ولا يضاف إلى الفعل شيء إلا الحين، إلا أنهم قد قالوا:

بآية تقدمون الخيل زورا = كأنّ على سنابكها مداما
[وقالوا]:

ألا من مبلغٌ عنّي تميماً = بآية ما تحبّون الطّعاما
فأضاف "آية" إلى الفعل. وقالوا: "اذهب بذي تسلم" و"بذي تسلمان" فقوله: "ذي" مضاف إلى "تسلم" كأنه قال: "اذهب بذي سلامتك" وليس يضاف إلى الفعل غير هذا.
ولو قلت في الكلام: "واتقوا يوم لا تجزى نفسٌ فيه" فلم تنون اليوم جاز، كأنك أضفت وأنت لا تريد أن تجيء بـ"فيه" ثم بدا لك بعد فجئت به، كما تقول: "اليوم آتيك فيه" فنصبت "اليوم" لأنك جئت بـ"فيه" بعد ما أوجبت النصب.
وقال قوم: "لا يجوز إضمار "فيه"، ألا ترى أنك لا تقول: "هذا رجلٌ قصدت" وأنت تريد: "إليه"، ولا "رأيت رجلاً أرغب" وأنت تريد: "فيه"، والفرق بينهما أن أسماء الزمان يكون فيها ما لا يكون في غيرها، وإن شئت حملتها على المفعول في السعة، كأنك قلت: "واتقوا يوما لا تجزيه نفسٌ" ثم ألقيت الهاء كما تقول: "رأيت رجلاً أحبّ" وأنت تريد "أحبه".
باب من التأنيث والتذكير:
أما قوله: {تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً} فهو مثل قولك: "لا تجزي عنك شاة" و"يجزى عنك درهم" و"جزى عنك درهمٌ" و"وجزت عنك شاةٌ". فهذه لغة أهل الحجاز لا يهمزون. وبنو تميم يقولون في هذا المعنى: "أجزأت عنه وتجزئ عنه شاة".
وقوله {شيئا} كأنه قال: "لا تجزئ الشاة مجزى ولا تغني غناءٌ".
وقوله: {عن نّفسٍ} يقول: "منها" أي: لا تكون مكانها.
وأما قوله: {ولا يقبل منها شفاعةٌ} فإنما ذكر الاسم المؤنث لأن كل مؤنث فرقت بينه وبين فعله حسن أن تذكر فعله، إلاّ أنّ ذلك يقبح في الإنس وما أشبههم مما يعقل، لأنّ الذي يعقل أشد استحقاقا للفعل. وذلك أن هذا إنما يؤنث ويذكر ليفصل بين معنيين، والموات كـ"الأرض" و"الجدار" ليس بينهما معنى كنحو ما بين الرجل والمرأة. فكل ما لا يعقل يشبه بالموات، وما يعقل يشبه بالمرأة والرجل نحو قوله: {رأيتهم لي ساجدين} لما أطاعوا صاروا كمن يعقل، قال: {ولو كان بهم خصاصةٌ} فذكر الفعل حين فرّق بينه وبين الاسم، وقال: {لا يؤخذ منكم فديةٌ} وتقرأ {تؤخذ}. وقد يقال أيضاً ذاك في الإنس، زعموا أنهم يقولون "حضر القاضي امرأةٌ". فأما فعل الجميع فقد يذكّر ويؤنث لأن تأنيث الجميع ليس بتأنيث الفصل ألا ترى أنك تؤنث جماعة المذكرّ فتقول: "هي الرّجال" و"هي القوم"، وتسمي رجلا بـ"بعال" فتصرفه لأن هذا تأنيثٌ مثل التذكير، وليس بفصل. ولو سميته بـ"عناق" لم تصرفه، لأن هذا تأنيث لا يكون للذكر، وهو فصل مابين المذكر والمؤنث تقول: "ذهب الرجل" و"ذهبت المرأة" فتفصل بينهما. وتقول: "ذهب النساء" و"ذهبت النساء" و"ذهب الرجال" و"ذهبت الرجال". وفي كتاب الله: {كذّبت قوم نوحٍ المرسلين} و{وكذّب به قومك}. قال الشاعر:

فما تركت قومي لقومك حيّةً = تقلّب في بحرٍ ولا بلدٍ قفر
وقال: {جاءهم البيّنات} [و] {وقال نسوةٌ في المدينة}. [و] قال الشاعر أشد من ذا وقد أخر الفعل، قال:

فإمّا تري لمّتى بدّلّت = فإنّ الحوادث أوداى بها
أراد "أودت بها" مثل فعل المرأة الواحدة يجوز أن يذكر [فـ] ذكر هذا.
وهذا التذكير في الموات أقبح وهو في الإنس أحسن، وذلك أن كل جماعة من غير الإنس فهي مؤنثة تقول: "هي الحمير" ولا تقول "هم". إلا أنهم قد قالوا: "أولئك الحمير"، وذلك أن "أولئك" قد تكون للمؤنث والمذكر تقول: "رأيت أولئك النساء". قال الشاعر:

ذمّى المنازل بعد منزلة اللّوى = والعيش بعد أولئك الأيّام
). [معاني القرآن: 1/67-71]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واتّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً} أي: لا تقضي عنها ولا تغني. يقال: جزى عني فلان -بلا همز- أي: ناب عني. وأجزأني كذا -بالألف في أوله والهمز- أي: كفاني.
{ولا يؤخذ منها عدلٌ} أي: فدية، قال: {وإن تعدل كلّ عدلٍ لا يؤخذ منها} أي: إن تفتد بكل شيء لا يؤخذ منها.
وإنما قيل للفداء: عَدل لأنه مثل للشيء، يقال: هذا عدل هذا وعديله. فأمّا العِدل -بكسر العين- فهو ما على الظهر). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)} يعني به: يوم القيامة، وكانت اليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لها عند الله فأيئسهم اللّه من ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا يؤخذ منها عدل} العدل ههنا الفدية.
ومعنى: {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} أي: لا تجزي فيه، وقيل: لا تجزيه، وحذف (فيه) ههنا سائغ، لأن (في) مع الظرف محذوفة، تقول: أتيتك اليوم، وأتيتك في اليوم، فإذا أضمرت قلت: أتيتك فيه، ويجوز أن تقول: أتيتكه، قال الشاعر:

ويوما شهدناه سليما وعامرا = قليلا سوى الطّعن النهال نوافله
أراد: شهدنا فيه،
وقال بعض النحويين: إن المحذوف هنا الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها، وهذا قول الكسائي والبصريون وجماعة من الكوفيين يقولون: إن المحذوف "فيه".
وفصّل النحويون في الظروف، وفي الأسماء غير الظروف فقالوا: إن الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره، فكذلك الحذف في مضمره، لو قلت: الذي سرت اليوم، تريد: الذي سرت فيه، جائز، لأنك تقول: سرت اليوم وسرت فيه، ولو قلت: الذي تكلمت فيه زيد، لم يجز: الذي تكلمت زيد، لأنك تقول: تكلمت اليوم وتكلمت فيه، ولا يجوز في قولك: تكلمت في زيد "تكلمت زيدا".
وقوله عزّ وجلّ: {تقبل منها شفاعة} مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله، والاسم إذا لم يسم من فعل به رفع، لأن الفعل يصير حديثا عنه كما يصير حديثا عن الفاعل، وتقول: "لا يقبل منها شفاعة"، و"لا تقبل"، لأن معنى تأنيث ما لا ينتج غير حقيقة، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث، تقول: قبل منك الشفاعة، وقد قبلت منك الشفاعة، وكذلك {فمن جاءه موعظة} لأن معنى موعظة ووعظ، وشفاعة وشفع واحد.
فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظ والمعنى.
وأمّا ما يعقل ويكون منه النسل والولادة نحو "امرأة" و"رجل" و"ناقة" و"جمل"؛ فيصح في مؤنثة لفظ التذكير، ولو قلت: قام جارتك، ونحر ناقتك، كان قبيحا وهو جائز على قبحه، لأن "الناقة" و"الجارة" تدلان على معنى التأنيث، فاجتزئ بلفظهما عن تأنيث الفعل، فأمّا الأسماء التي تقع للمذكرين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من علم التأنيث لأن الكلام للفائدة، والقصد به الإبانة، فلو سمّيت امرأة بـ"قاسم" لم يجز أن يقال: جاءني قاسم، فلا يعلم أمذكرا عنيت أم مؤنثا، وليس إلى حذف هذه التاء -إذا كانت فارقة بين معنيين- سبيل، كما إنّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول: قد قام، ولا يجوز إلا أن تقول: قاما، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا). [معاني القرآن: 1/128-130]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لا تجزي نفس} أي: لا تغني. {عدل} فدية. والعدل: وزن الشيء، والعدل: قيمته).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({عَدْلٌ}: فدية). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يسومونكم سوء العذاب (49)}: يولونكم أشدّ العذاب.
{وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم (49)} أي: ما ابتليتم من شدة، وفي موضع آخر: البلاء الابتلا، يقال: الثناء بعد البلاء، أي: الاختبار، من بلوته، ويقال: له عندي بلاء عظيم، أي: نعمة ويد، وهذا من: ابتليته خيراً). [مجاز القرآن: 1/40]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ نجّيناكم مّن آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ مّن رّبّكم عظيمٌ}
أما قوله: {وإذ نجّيناكم مّن آل فرعون} و{وإذ فرقنا بكم البحر} وأمكنة كثيرة، فإنما هي على ما قبلها، إنما يقول: "اذكروا نعمتي" و"اذكروا إذ نجّيناكم" و"اذكروا إذ فرقنا بكم البحر" و"اذكروا إذ قلتم يا موسى لن نصبر".
وقال بعضهم: "فرّقنا".
باب أهل وآل:
وقوله: {مّن آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} وقد قال: {وإذ نجّيناكم مّن آل فرعون} فإنما حدث عما كانوا يلقون منهم.
و{يسومونكم} في موضع رفع، وإن شئت جعلته في موضع نصب على الحال، كأنه يقول "وإذ نجّيناكم من آل فرعون سائمين لكم"، والرفع على الابتداء.
وأما "آل" فإنها تحسن إذا أضيفت إلى اسم خاص نحو: "أتيت آل زيد" و"أهل زيد"، و"أهل مكة" و"آل مكة" و"أهل المدينة" و"آل المدينة". ولو قلت: "أتيت آل الرجل" و"آل المرأة" لم يحسن، ولكن: "أتيت آل اللّه" وهم زعموا: أهل مكة. وليس "آل" بالكثير في أسماء الأرضين وقد سمعنا من يقول ذلك، وإنما هي همزة أبدلت مكان الهاء، مثل "هيهات" و"أيهات"). [معاني القرآن: 1/71]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({آل فرعون}: قومه وأهل دينه. {يسومونكم سوء العذاب}: يولونكم.
{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}: أي نعمة عظيمة، ويقال: لي عنده بلاء عظيم، أي: نعمة ويد، والبلاء -في موضع آخر-: الاختبار، من قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}). [غريب القرآن وتفسيره: 69]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يسومونكم سوء العذاب} قال أبو عبيدة: يولونكم أشد العذاب. يقال: فلان يسومك خسفا، أي: يوليك إذلالا واستخفافا.
{وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيمٌ} أي: في إنجاء اللّه إياكم من آل فرعون نعمة عظيمة. و"البلاء" يتصرف على وجوه قد بينتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم (49)}
موضع {إذ} نصب، كأنه قال: "واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون".
و"آل فرعون": أتباعه ومن كان على دينه، وكذلك "آل الأنبياء" -صلوات اللّه عليهم-: من كان على دينهم، وكذلك قولنا: "صلى اللّه على محمد وآله" معنى "آله": من اتبعه من أهل بيته وغيرهم، ومعنى خطابهم ههنا: تذكيرهم بالنعمة عليهم في أسلافهم كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ: {يسومونكم سوء العذاب} معنى {يسومونكم} في اللغة: يولونكم، ومعنى {سوء العذاب}: شديد العذاب، وإن كان العذاب كله سوءًا، فإنما نكر في هذا الموضع لأنه أبلغ ما يعامل به مرعيّ، فلذلك قيل: {سوء العذاب}، أي: ما يبلغ في الإساءة ما لا غاية بعده.
وفسره بقوله: {يذبّحون أبناءكم} والقراءة المجمع عليها {يذبّحون} -بالتشديد-، ورواية شاذة (يذبحون أبناءكم)، والقراءة المجمع عليها أبلغ، لأن {يذبّحون} للتكثير، و(يذبحون) يصلح أن يكون للقليل وللكثير، فمعنى التكثير ههنا أبلغ.
و{أبناءكم} جمع: ابن، والأصل كأنه إنما جمع "بني" و"بنو"، ويقال: ابن بيّن البنوة، فهي تصلح أن تكون "فعَل" و "فِعْل" كأنه أصله "بناية"، والذين قالوا: "بنون" كأنّهم جمعوا "بَنا" وبنون، فأبناء جمع "فعَل" و"فِعْل".
و "بنت" يدل على أنه يستقيم أن يكون فعلا، ويجوز أن يكون "فعل" نقلت إلى "فعل" كما نقلت "أخت" من "فَعَل" إلى "فُعْل"، فأمّا "بنات" فهو ليس بجمع "بنت" على لفظها، إنما ردت إلى أصلها فجمعت "بنات" على أن الأصل في بنت "فِعْله" كأنّها مما حذفت لامه،
والأخفش يختار أن يكون المحذوف من "ابن" الواو، قال: لأن أكثر ما تحذف الواو بثقلها. والياء تحذف أيضا للثقل.
قال أبو إسحاق: والدليل على ذلك أن "يدا" قد أجمعوا على أن المحذوف منه الياء، ولهم دليل قاطع على الإجماع قال: يديت إليه يدا، و"دم" محذوف منه الياء، يقال: "دم" و"دميان".
قال الشاعر:

فلو أنّا على حجر ذبحنا = جرى الدّميان بالخبر اليقين
والبنوة ليست بشاهد قاطع في الواو، لأنهم يقولون الفتوة والفتيان في التثنية، قال عزّ وجلّ: {ودخل معه السجن فتيان}.
فـ"ابن" يجوز أن يكون المحذوف منه الواو أو الياء. وهما عندي متساويان.
وقوله عزّ وجل: {وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم} يعني: في النجاة من آل فرعون، والبلاء ههنا: النعمة، يروي عن الأحنف أنه قال: "البلاء ثم الثناء"، أي الأنعام ثمّ الشكر.
قال زهير:

جزى اللّه بالإحسان ما فعلا بنا = وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وقال الله عزّ وجلّ: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا}). [معاني القرآن: 1/130-132]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({يستحيون} أي: يستبقون). [ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يسومونكم} أي: يولونكم بلا نقمة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({آلِ فِرْعَوْنَ}: قومه.{يَسُومُونَكُمْ}: يولونكم.{سُوَءَ الْعَذَابِ}: أشده.{بَلاءٌ}: نقمة).
[العمدة في غريب القرآن: 75]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({آل فرعون (50)} قومه وأهل دينه، ومثلها: {أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب}
[غافر: 46]). [مجاز القرآن: 1/40]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}
{وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم} يقول: فرقنا بين الماءين حين مررتم فيه). [معاني القرآن: 1/72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و"آل فرعون": أهل بيته وأتباعه وأشياعه. و"آل محمد": أهل بيته وأتباعه وأشياعه. قال اللّه عز وجل: {أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب} [غافر: 46]). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50)}
موضع {إذ} نصب كالتي قبلها.
ومعنى {فرقنا بكم البحر}: جاء تفسيره في آية أخرى، وهو قوله عزّ وجلّ: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلّ فرق كالطّود العظيم (63)} أي: فانفرق البحر فصار كالجبال العظام، وصاروا في قراره، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77)} معناه: طريقا ذا يبس.
وقوله: {وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} فيه قولان:
قالوا: وأنتم ترونهم يغرقون. ويجوز أن يكون: {وأنتم تنظرون} أي: وأنتم مشاهدون تعلمون ذلك، وإن شغلهم عن أن يروه في ذلك الوقت شاغل، يقال من ذلك: دور آل فلان تنظر إلى دور بني فلان، أي: هي بإزائها والدّور يعلم أنها لا تبصر شيئا). [معاني القرآن: 1/132-133]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً...}
ثم قال في موضع آخر: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشرٍ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً}، فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمّها بالعشر، والأربعون قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسةٍ وعشرين وخمسة عشر؟
قيل: كان ذلك -والله أعلم- أنّ الثّلاثين كانت عدد شهر، فذكرت الثلاثون منفصلة لمكان الشّهر، وأنّها ذو القعدة، {وأتممناها بعشر} من ذي الحجة، كذلك قال المفسّرون. ولهذه القصّة خصّت العشر والثلاثون بالانفصال). [معاني القرآن: 1/36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}
قال: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً} أي: واعدناه انقضاء أربعين ليلة، أي: رأس الأربعين، كما قال: {وسأل القرية}، وهذا مثل قولهم: "اليوم أربعون يوماً منذ خرج" و"اليوم يومان" أي: "اليوم تمام الأربعين" و"تمام يومين"). [معاني القرآن: 1/72]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51)}
ويقرأ: (وإذ وعدنا موسى)، وكلاهما جائز حسن، واختار جماعة من أهل اللغة (وإذ وعدنا) بغير ألف، وقالوا: إنما اخترنا هذا لأن المواعدة إنما تكون لغير الآدميين، فاختاروا (وعدنا) وقالوا دليلنا قوله عزّ وجلّ {إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ} وما أشبه هذا، وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا و{واعدنا} هنا جيد بالغ، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من اللّه عزّ وجلّ: وعد، ومن موسى: قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} ذكرهم بكفر آبائهم مع هذه الآيات العظام، وأعلمهم أن كفرهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مع وضوح أمره وما وقفوا عليه من خبره في كتبهم ككفر آبائهم.
وكان في ذكر هذه الأقاصيص دلالة على تثبيت نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن هذه الأقاصيص ليست من علوم العرب، وإنما هي من علوم أهل الكتاب، فأنبأهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما في كتبهم، وقد علموا أنه من العرب الذين لم يقرأوا كتبهم، فعلموا أنّه لم يعلم هذه الأقاصيص إلا من جهة الوحي، ففي هذه الآيات إذكارهم بالنعمة عليهم في أسلافهم، وتثبيت أمر الرسالة كما وصفنا). [معاني القرآن: 1/133-134]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون} ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون أراد {وإذ آتينا موسى الكتاب} يعني: التوراة، ومحمدا صلى الله عليه وسلم {الفرقان}، {لعلّكم تهتدون}. وقوله: {وإذ آتينا موسى الكتاب} كأنّه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم موسى ومحمد عليهما السلام {لعلكم تهتدون}؛ لأن التوراة أنزلت جملةً ولم تنزل مفرّقة كما فرّق القرآن؛ فهذا وجه.
والوجه الآخر: أن تجعل التوراة هدىً والفرقان كمثله، فيكون: ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا -صلى الله عليه وسلم- الهدى. وكلّ ما جاءت به الأنبياء فهو هدىً ونورٌ. وإنّ العرب لتجمع بين الحرفين وإنّهما لواحدٌ إّذا اختلف لفظاهما؛ كما قال عدي بن زيد:

وقدّمت الأديم لراهشيه = وألفى قولها كذباً ومينا
وقولهم: "بعداً وسحقاً"، و"البعد" و"السّحق" واحدٌ، فهذا وجهٌ آخر.
وقال بعض المفسّرين: {الكتاب}: التّوراة، {والفرقان}: انفراق البحر لبنى إسرائيل.
وقال بعضهم: {الفرقان}: الحلال والحرام الذي في التّوراة). [معاني القرآن: 1/36-37]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({آتينا موسى الكتاب (53)} أي: التوراة. {والفرقان (53)}: ما فرّق بين الحق والباطل). [مجاز القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الفرقان}: ما فرق بين الحق والباطل). [غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون (53)}
{آتينا} بمعنى: أعطينا، و{الكتاب} مفعول به، و{الفرقان} عطف عليه. ويجوز أن يكون {الفرقان}: الكتاب بعينه إلا إنّه أعيد ذكره، وعنى به: أنه يفرق بين الحق والباطل.
وقد قال بعض النحويين -وهو قطرب-: المعنى: وآتينا محمدا الفرقان، ودليله قوله عزّ وجلّ {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} يعني به: القرآن.
والقول الأول هو القول؛ لأن "الفرقان" قد ذكر لموسى في غير هذا الموضع، قال الله عزّ وجلّ: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتّقين (48)}.
وقوله عزّ وجلّ: {لعلّكم تهتدون} "لعل" إنما ذكرت هنا -واللّه يعلم أيهتدون أم لا يهتدون- على ما يفعل العباد ويتخاطبون به، أي إن هذا يرجى به الهداية، فخوطبوا على رجائهم. ومثله قوله: {لعلّه يتذكّر أو يخشى}، إنما المعنى: اذهبا على رجائكما، واللّه عزّ وجلّ عالم بما يكون وهو من ورائه). [معاني القرآن: 1/134]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({والفرقان}: ما فرق بين الحق والباطل،
وقيل: هو القرآن، على إضمار اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَالْفُرْقَانَ}: بين الحق والباطل). [العمدة في غريب القرآن: 75]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وإذ قال موسى لقومه (54)} معناها: وقال موسى لقومه.
{بارئكم (54)}: خالقكم، من "برأت"). [مجاز القرآن: 1/41]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بارئكم}: خالقكم يقال: برأ الله الخلق). [غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فتوبوا إلى بارئكم} أي: خالقكم، {فاقتلوا أنفسكم} أي: ليقتل بعضكم بعضا، على ما بينت في كتاب «المشكل».
وقوله: {فتاب عليكم} أي: ففعلتم فتاب عليكم، مختصر). [تفسير غريب القرآن: 49]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التّوّاب الرّحيم (54)}
والقراءة {يا قومِ} بكسر الميم، وهو نداء مضاف، والاختيار فيه: حذف الياء، لأن الياء حرف واحد، والنداء باب حذف، وهي في آخر الاسم، كما أنّ التنوين في آخره، فحذفت الياء، وبقيت الكسرة تدل عليها، ويجوز في الكلام أربعة أوجه.
فأمّا في القرآن فالكسر وحذف الياء لأنه أجود الأوجه، وهو إجماع القراء، فالذي يجوز في الكلام:
أن تقول: "يَا قَوْمِ إنكم" كما قرئ في القرآن، ويجوز: "يا قومِي" بإثبات الياء وسكونها، ويجوز: "يا قوْمِيَ" بتحريك الياء، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة، ويجوز: "يا قومُ" بضم الميم على معنى: يا أيها القوم.
ومعنى قوله {ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل} يقال لكل من فعل فعلا يعود عليه بمكروه: إنما أسأت إلى نفسك وظلمت نفسك، وأصل "الظلم" في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، والعرب تقول: (ومن أشبه أباه فما ظلم)، معناه: لم يقع له الشبه غير موقعه، ويقال: "ظلم الرجل سقاءه من اللبن"، إذا شرب منه وسقي منه قبل إدراكه، و"أرض مظلومة" إذا حفر فيها ولم يكن حفر فيها قبل، أو جاء المطر بقربها وتخطاها.
قال النابغة:

إلاّ أواريّ لأيا ما أبيّنها = والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ومعنى قوله {باتخاذكم العجل} أي: اتخذتموه إلها.
ومعنى قوله {فتوبوا إلى بارئكم} أي: إلى خالقكم، يقال: برأ اللّه الخلق، فالبارئ: الخالق، والبريّة والخلق: المخلوقون، إلا أن البريّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة وأصلها {أولئك هم خير البريّة} وأكثر القراء والكلام "البريّة" بغير همز.
وقد قرأ قوم (البريئة) بالهمز، والاختيار ما عليه الجمهور، وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ (إلى بارئْكم) بإسكان الهمز، وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسرة، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لما روى عن أبي عمرو، والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف الكسرة في مثل هذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرار من الشعر، أنشد سيبويه -وزعم أنّه مما يجوز في الشعر خاصة-:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
بإسكان الباء، وأنشد أيضا:

فاليوم أشرب غير مستحقب = إثما من اللّه ولا واغل
فالكلام الصحيح أن تقول "يا صاحبُ أقبل"، أو "يا صاحب أقبل" ولا وجه للإسكان، وكذلك "فاليوم أشرب" يا هذا، وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر، رووا هذا البيت على ضربين:
رووا: فاليوم فاشرب غير مستحقب.
ورووا أيضا: فاليوم أسقى غير مستحقب.
ورووا أيضا: إذا اعوججن قلت صاح قوم.
ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاء اللّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي روى.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا {إلى بارئِكم} بالكسر، وكذلك {عند بارئِكم}.
ومعنى {فاقتلوا أنفسكم} امتحنهم اللّه عزّ وجلّ بأن جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا، فيقال: إنهم صفوا صفين يقتل بعضهم بعضا، فمن قتل كان شهيدا؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه، ويقال: إن السبعين الذين اختارهم موسى -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا ممن عبد العجل، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون، والأول أشبه بالآية لأن قوله عزّ وجلّ {فاقتلوا أنفسكم} يدل على أنها توبة عبدة العجل، وإنما امتحنهم الله عزّ وجلّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام). [معاني القرآن:1/134-137]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَارِئِكُمْ}: خالقكم). [العمدة في غريب القرآن: 75]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلتم يا موسى لن نّؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون}
باب الفعل:
أما قوله: {حتّى نرى اللّه جهرةً} فيقول: "جهاراً"، أي: عيانا يكشف ما بيننا وبينه، كما تقول: "جهرت الركيّة"، إذا كان ماؤها قد غطاه الطين فَنُقّي ذلك حتى يظهر الماء [و] يصفو). [معاني القرآن: 1/72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({نرى اللّه جهرةً} أي: علانية ظاهرا، لا في نوم ولا في غيره.
{فأخذتكم الصّاعقة} أي: الموت. يدلك على ذلك قوله: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم} [البقرة: 56]. و"الصاعقة" تتصرف على وجوه قد ذكرتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 49]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون (55)}
معنى {جهرة}: غير مستتر عنّا بشيء، يقال: فلان يجاهر بالمعاصي، أي: لا يستتر من الناس منها بشيء.
وقوله: {فأخذتكم الصاعقة} معنى الصاعقة: ما يصعقون منه، أي: يموتون، فأخذتهم الصاعقة: فماتوا.
الدليل على أنهم ماتوا قوله عزّ وجلّ: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون (56)} وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا.
مثل قوله تعالى: {فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه}، ومثل قوله عزّ وجلّ: {فقال لهم اللّه موتوا ثم أحياهم} وذلك احتجاج على مشركي العرب الذين لم يكونوا موقنين بالبعث، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأخبار عمن بعث بعد الموت في الدنيا مما توافقه عليه اليهود والنصارى، وأرباب الكتب فاحتج -صلى الله عليه وسلم- بحجة اللّه التي يوافقه عليها جميع من خالفه من أهل الكتب.
وقوله {لعلّكم تشكرون} أي: في أن بعثكم بعد الموت، وأعلمكم أن قدرته عليكم هذه القدرة، وأن الإقالة بعد الموت لا شيء بعدها، وهي كالمضطرة إلى عبادة اللّه). [معاني القرآن: 1/137-138]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصاعقة}: الموت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({جَهْرَةً}: ظاهرا. {الصَّاعِقَةُ}: الموت). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}

تفسير قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {المنّ والسّلوى...}
بلغنا أن "المنّ" هذا الذي يسقط على الثّمام والعشر، وهو حلو كالعسل؛ وكان بعض المفسّرين يسمّيه الّترنجبين الذي نعرف. وبلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين)). وأما "السّلوى" فطائر كان يسقط عليهم لما أجموا "المنّ" شبيهٌ بهذه "السّماني"، ولا واحد للسّلوى). [معاني القرآن: 1/37-38]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({المنّ (57)}: شيءٌ كان يسقط في السّحر على شجرهم فيجتنونه حلواً يأكلونه.
{والسّلوى (57)}: طائر بعينه، وهو الذي سمّاه المولّدون "سماني"). [مجاز القرآن: 1/41]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
أما قوله: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى} فـ"الغمام" واحدته "غمامةٌ"، مثل "السّحاب" واحدته "سحابة". وأما "السّلوى" فهو طائر لم يسمع له بواحد، وهو شبيه أن يكون واحده "سلوى" مثل جماعته، كما قالوا: "دفلى" للواحد والجماعة، و"سلامى" للواحد والجماعة. وقد قالوا "سلاميات". وقالوا "حبارى" للواحد، وقالوا للجماعة: "حباريات"، وقال بعضهم للجماعة "حبارى". قال الشاعر:

وأشلاء لحمٍ من حبارى يصيدها = إذا نحن شئنا صاحبٌ متألّف
وقالوا: "شكاعى" للواحد والجماعة، وقال بعضهم للواحد: "شكاعاة"). [معاني القرآن: 1/72-73]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({المن}: صمغة كانت تسقط فيجتنبوها. {والسلوى}: طائر بعينه).
[غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الغمام}: السحاب. سمّي بذلك لأنه يغمّ السماء أي يسترها. وكلّ شيء غطيته فقد غممته. ويقال: جاءنا بإناء مغموم. أي مغطى الرأس. وقيل له "سحاب" بمسيره، لأنه كأنه ينسحب إذا سار.
{المنّ} يقال: هو الطّرنجبين. {والسّلوى}: طائر يشبه السّماني لا واحد له. {وما ظلمونا} أي: ما نقصونا. {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي: ينقصون.
والظلم يتصرّف على وجوه قد بينتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 49-50]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)}
سخر اللّه لهم السحاب يظللهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة. وأنزل عليهم المنّ والسلوى. و جملة المن: ما يمن اللّه به مما لا تعب فيه ولا نصب، وأهل التفسير يقولون: إن "المنّ" شيء يسقط على الشجر حلو يشرب.
ويقال إنّه "التَّرَنْجِين"، ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين))، ومعنى "المنّ" على ما وصفنا في اللغة: ما يمن اللّه به من غير تعب ولا نصب، و"السلوى": طائر كالسماني، وذكر إنّه كان يأتيهم من هذين ما فيه كفايتهم.
وقوله: {كلوا من طيّبات ما رزقناكم}
قالوا: إن معناه: من هذه الطيبات، وقالوا -أيضا-: مما هو حلال لكم). [معاني القرآن: 1/138-139]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{المن}: العسل. و{السلوى} طائر، و"السلوى" -في غير القرآن-: العسل). [ياقوتة الصراط: 173]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الغمام}: السحاب. {المن}: الترنجبين. و{السلوى} طائر، لا واحد له).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمَنَّ}: صمغة. {السَّلْوَى}: طائر). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وقولوا حطّةٌ...} يقول -والله أعلم- قولوا ما أمرتم به؛ أي: هي حطة، فخالفوا إلى كلام بالنّبطية، فذلك قوله: {فبدّل الّذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}.
وبلغني أنّ ابن عباس قال: "أمروا أن يقولوا: نستغفر الله"؛ فإن يك كذلك فينبغي أن تكون "حطّة" منصوبة في القراءة؛ لأنك تقول: قلت لا إله إلا الله، فيقول القائل: قلت كلمةً صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمار ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول، كقولك: مررت بزيد، ثم تجعل هذه كلمةً فتقول: قلت كلاما حسنا، ثم تقول: قلت: زيدٌ قائمٌ، فيقول: قلت كلاما. وتقول: قد ضربت عمرا، فيقول أيضا: قلت كلمةً صالحة.
فأما قول الله تبارك وتعالى: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم} إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفعٌ لأن قبله ضمير أسمائهم؛ سيقولون: هم ثلاثة، إلى آخر الآية. وقوله: {ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيراً لكم} رفع؛ أي: قولوا: الله واحدٌ، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثةٌ. وقوله: {قالوا معذرةً إلى ربّكم} ففيها وجهان:
إن أردت: ذلك الذي قلنا معذرةٌ إلى ربكم، رفعت، وهو الوجه.
وإن أردت: قلنا ما قلنا معذرةً إلى الله؛ فهذا وجه نصب.
وأما قوله: {ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا} فإن العرب لا تقوله إلاّ رفعا؛ وذلك أنّ القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم: سمعٌ وطاعةٌ، أي: قد دخلنا أوّل هذا الدّين على أن نسمع ونطيع فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثم يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل: {فإذا برزوا من عندك[بيّت طائفةٌ منهم غير الذي تقول]} [أي]: فإذا خرجوا من عندك بدّلوا. ولو أردت -في مثله من الكلام- أي: نطيع، فتكون الطاعة جوابا للأمر بعينه جاز النصب، لأنّ كلّ مصدر وقع موقع فعل ويفعل جاز نصبه، كما قال الله تبارك وتعالى: {معاذ الله أن نأخذ} [معناه -والله أعلم-: نعوذ بالله أن نأخذ]. ومثله في النور: {قل لا تقسموا طاعّةٌ معروفةٌ} الرفع على: ليكن منكم ما يقوله أهل السّمع والطاعة. وأما قوله في النحل: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين} فهذا قول أهل الجحد؛ لأنهم قالوا لم ينزل شيئا، إنما هذا أساطير الأوّلين، وأما الذين آمنوا فإنهم أقرّوا فقالوا: أنزل ربّنا خيراً، ولو رفع "خيرٌ" على: الذي أنزله خيرٌ لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} و(قل العفو) النّصب على الفعل: ينفقون العفو، والرفع على: الذي ينفقون عفو الأموال. وقوله: {قالوا سلاماً قال سلامٌ} فأما السلام فقولٌ يقال، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنّك قلت: قلت كلاماً. وأما قوله: {قال سلامٌ} فإنه جاء فيه نحن"سلامٌ" وأنتم "قومٌ منكرون". وبعض المفسرين يقول: {قالوا سلاماً قال سلامٌ} يريد سلّموا عليه فردّ عليهم، فيقول القائل: ألا كان السّلام رفعاً كلّه أو نصباً كلّه؟ قلت: السّلام على معنيين:
إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه "عليكم" رفعته.
فإن شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته في أحدهما، وإن شئت رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلامٌ: سلامٌ، على معنى قالوا السلام عليكم فرّد عليهم الآخرون. والنصب يجوز في إحدى القراءتين "قالوا سلاماً قال سلاماً". وأنشدني بعض بني عقيل:

فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها = فما كان إلاّ ومؤها بالحواجب
فرفع "السّلام"؛ لأنه أراد سلّمنا عليها فاتّقت أن تردّ علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك: قلنا الكلام، قلنا السلام، ومثله: قرأت "الحمدَ" وقرأت "الحمدُ"، إذا قلت قرأت "الحمدَ" أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية على قرأت "الحمدُ لله"). [معاني القرآن: 1/38-40]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقولوا حطّةٌ (58)} رفع، وهي مصدر من: حطّ عنا ذنوبنا؛ تقديره "مدّة" من: مددت، حكاية؛ أي: قولوا: هذا الكلام، فلذلك رفع). [مجاز القرآن: 1/41]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطّةٌ نّغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}
قوله: {وقولوا حطّةٌ} أي: قولوا: لتكن منك حطّةٌ لذنوبنا، كما تقول للرجل: سمعك إليّ. كأنهم قيل لهم: قولوا: يا رب لتكن منك حطّةٌ لذنوبنا. وقد قرئت نصبا على أنه بدل من اللفظ بالفعل. وكل ما كان بدلا من اللفظ بالفعل فهو نصب بذلك الفعل، كأنه قال: أحطط عنّا حطّةً، فصارت بدلا من "حطّ" وهو شبيه بقولهم: سمعٌ وطاعةٌ، فمنهم من يقول: سمعاً وطاعة، إذا جعله بدل: أسمع سمعا وأطيع طاعةً. وإذا رفع فكأنه قال: أمري سمعٌ وطاعةٌ. قال الشاعر:

أناخوا بأيدي عصبةٍ وسيوفهم = على أمّهات الهام ضرباً شآميا
وقال الآخر:

تركنا الخيل وهي عليه نوحاً = مقلّدةً أعنّتها صفونا
وقال بعضهم: "وهي عليه نوحٌ"، جعلها في التشبيه هي النوح لكثرة ما كان ذلك منها، كما تقول: إنّما أنت شرٌّ وإنّما هو حمارٌ، في الشبه، أو تجعل الرفع كأنه قال: "وهي عليه صاحبة نوحٍ"، فألقى الصاحبة وأقام النوح مقامها. ومثل ذلك قول الخنساء:

ترتع ما رتعت حتّى إذا ذكرت = فإنّما هي إقبالٌ وإدبار
ومثله {قالوا معذرةً إلى ربّكم} كأنهم قالوا: موعظتنا إياهم معذرةٌ، وقد نصب على: نعتذر معذرةً، وقال: {فأولى لهم * طاعةٌ وقولٌ مّعروفٌ} على قوله: {إذا جاءتهم ذكراهم} {فأولى لهم * طاعةٌ وقولٌ مّعروفٌ} جعل «الطاعة» مبتدأ فقال: طاعةٌ وقولٌ مّعروفٌ خير من هذا، أو جعل الطاعة مبتدأ فقال: طاعةٌ وقولٌ معروف خيرٌ من هذا. وزعم يونس أنه قيل لهم "قولوا حطةٌ" أي: تكلموا بهذا الكلام. كأنه فرض عليهم أن يقولوا هذه الكلمة مرفوعة). [معاني القرآن: 1/73-74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): (وقوله {حطة}: أي حط عنا ذنوبنا). [غريب القرآن وتفسيره: 70]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله {وقولوا حطّةٌ} رفع على الحكاية. وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من "حططت"، أي: حطّ عنّا ذنوبنا). [تفسير غريب القرآن: 50]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58)} الرغد: الواسع الذي لا يعنّي.
وقوله: {وادخلوا الباب سجّدا} أمروا بأن يدخلوا ساجدين.
{وقولوا حطّة} معناه: وقولوا مسألتنا حطة، أي: حط ذنوبنا عنا، وكذلك القراءة، ولو قرئ "حطةً" كان وجهها في العربية، كأنهم قيل لهم قولوا احطط عنّا ذنوبنا حطة. فحرّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي أمروا بها، وجملة ما قالوا أنه أمر عظيم سماهم الله به فاسقين.
وقوله: {نغفر لكم} جزم جواب الأمر، المعنى: أن تقولوا ما أمرتم به نغفر لكم خطاياكم، وقرأ بعضهم "نغفر لكم خطيئاتكم" والقراءة الأولى أكثر، فمن قال "خطيئاتكم"، فهو جمع خطيئة بالألف والتاء، نحو: سفينة وسفينات، وصحيفة وصحيفات، والقراءة كما وصفنا {نغفر لكم خطاياكم}، والأصل في خطايا "خطائئ" فتجمع همزتان تقلب الثانية ياء فتصير "خطائي"، فأعلّ مثل: حظاعي، ثم يجب أن تقلب الياء والكسرة إلى الفتحة والألف فتصير "خطاء"، مثل: حظاعا، فيجب بأن تبدل الهمزة ياء، لوقوعها بين ألفين، لأن الهمزة مجانسة للألفات فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، وهذا الذي ذكرناه مذهب سيبويه .
ولسيبويه مذهب آخر أصله للخليل، وهو أنه زعم أن "خطايا" أصلها "فعائل"، فقلبت إلى "فعالى" فكان الأصل عنده "خطائى" مثل: خطائع -فاعلم- ثم قدمت الهمزة فصارت "خطائي" مثل: خطاعي، ثم قلبت بعد ذلك على المذهب الأول.
وهذا المذهب ينقص في الإعلال مرتبه واحدة، واللفظ يؤول في اللفظين "خطايا"). [معاني القرآن: 1/139-140]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حطة} أي: لا إله إلا الله، وقيل: معناه: حط عنا ذنوبنا).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حِطَّةٌ}: حط ذنوبنا). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الرّجز (59)}: العذاب). [مجاز القرآن: 1/41]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فبدّل الّذين ظلموا قولاً غير الّذي قيل لهم فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزاً مّن السّماء بما كانوا يفسقون}
قال: {فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزاً من السّماء} وقال: {والرُّجز فاهجر} وقال بعضهم: (والرِّجْزَ). وذكروا أن "الرجز": صنم كانوا يعبدونه فأما "الرجز" فهو: الرجس. [والرجس: النجس] وقال: {إنّما المشركون نجسٌ} و"النجس": القذر). [معاني القرآن: 1/74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الرجز}: العذاب، والرجز والرجس واحد). [غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فبدّل الّذين ظلموا قولًا غير الّذي قيل لهم} أي: قيل لهم: قولوا: حطّة، فقالوا: حطّا سمقاتا، يعني: حنطة حمراء. و{الرّجز}: العذاب). [تفسير غريب القرآن: 50]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فبدّل الّذين ظلموا قولا غير الّذي قيل لهم فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزا من السّماء بما كانوا يفسقون (59)} العذاب، وكذلك الرّجس، قال الشاعر:

كم رامنا من ذي عديد مبزى = حتى وقمنا كيده بالرجز
وقوله عزّ وجلّ: {بما كانوا يفسقون} أي: تبديلهم ما أمروا به من أن يقولوا حطة. ويقال: فَسَقَ يفْسُق ويفْسِقُ ويفسُقُ على اللغتين وعليها القراء، ومعنى الفسق: الخروج عن القصد والحق، وكل ما خرج عن شيء فقد فسق، إلا أنّه خص من خرج عن أمر اللّه بأن قيل: فاسق، ولم يحتج إلى أن يقال: فسق عن كذا، كما أنه يقال لكل من صدق بشيء: هو مؤمن بكذا، ويقال للمصدق بأمر اللّه: مؤمن فيكفي، والعرب تقول: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها). [معاني القرآن: 1/140]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الرجز}: العذاب). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الرِّجْزُ}: العذاب). [العمدة في غريب القرآن: 76]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:14 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 60 إلى 66]

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اضرب بّعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً...} معناه -والله أعلم-: فضرب فانفجرت، فعرف بقوله: {فانفجرت} أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب؛ لأنه قد أدّى عن المعنى، فكذلك قوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} ومثله في الكلام أن تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى: فتجرت فاكتسبت.
وأما قوله: {قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم...}
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم، ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمنّ من الله والتّفضل على عباده، ولم يقل {قد علم كل أناسٍ مشربهم} لغيرهم؟
وإنما كان ذلك -والله أعلم- لأنّه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سبطٍ عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيون، فإذا احتاجوا انفجرت العيون من تلك المواضع، فأتّى كل سبطٍ عينهم التي كانوا يشربون منها).
[معاني القرآن: 1/40-41]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بّعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم كلوا واشربوا من رّزق اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
قال: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً} يكسر الشين بنو تميم، وأما أهل الحجاز فيسكنون {اثنتا عشرة عيناً}.
وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} من "عثي" "يعثى"، وقال بعضهم: "يعثو" من "عثوت" فـ"أنا أعثو" مثل: "غزوت" فـ"أنا أغزو").
[معاني القرآن: 1/74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({لا تعثوا}: لا تفسدوا، من "عثا يعثا عثوا"، وهو أشد الفساد. ويقال: "عاث يعيث" مثله). [غريب القرآن وتفسيره: 71]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولا تعثوا} من "عثى"، ويقال -أيضا- من "عثا"، وفيه لغة أخرى "عاث يعيث"، وهو أشد الفساد.
وكان بعض الرواة ينشد بيت ابن الرّقاع:


لولا الحياء وأنّ رأسي قد عنا= فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
وينكر على من يرويه: «عسا». وقال: كيف يعسو الشيب وهو إلى أن يرقّ في كبر الرجل ويلين، أقرب منه إلى أن يغلظ ويعسو أو يصلب؟
واحتج بقول الآخر:
وأنبتت هامته المرعزى
يريد أنه لما شاخ رقّ شعره ولان، فكأنه مرعزى، [والمرعزى: نبت أبيض]). [تفسير غريب القرآن:50-51]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كلّ أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)}
موضع (إذ) نصب على ما تقدمه، كأنّه قيل: واذكر إذ استسقى موسى لقومه، إلا أن (إذ) لا يظهر فيها الإعراب؛ لأنّها لا تتم إلا بأن توصل، وجميع ما لا يتم من هذه المهمة إلا بصلة لا يعرب، لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم التام، ولكن إذ كُسِرَت لالتقاء الساكنين، ومعنى "استسقى": استدعى أن يسقى قومه، وكذلك استنصرت: استدعيت النصرة.
وقوله عزّ وجلّ: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا}
أكثر القراء {اثنتا عشْرة} بإسكان الشين، ولغة أخرى (اثنتا عشِرة عينا) -بكسر الشين- وقد قرأ بعض القراء: (عشِرة) على هذه اللغة، وكلاهما جيد بالغ.
و{عينا} نصب على التمييز، وجمع ما نصب على التمييز في العدد على معنى دخول التنوين، وإن لم يذكر في "عشرة"، لأن التنوين حذف ههنا مع الإعراب، ومعنى قول الناس: عندي عشرون درهما، معناه: عندي عشرون من الدراهم، فحذف لفظ الجمع، و "من" هذه التي خلص بها جنس من جنس وعبر الواحد عن معنى الجمع، فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز.
وفي التفسير: أنهم فجّر اللّه لهم من حجر اثنتي عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق عين يشربون منها، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحملوا الحجر غير متفجر منه ماء.
وقوله عزّ وجلّ: {قد علم كلّ أناس مشربهم} كان يتفجر لهم الماء من اثني عشر موضعا لا يختلف في كل منزل فيعلم كل أناس مشربهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} يقال: عثا يعثا عثوا وعثوّا، والعثو أشد الفساد). [معاني القرآن: 1/140-142]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ولا تعثوا}: تفسدوا، وهو أشد الفساد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({تَعْثَوْاْ}: تفسدوا). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وأما قوله: {وفومها وعدسها وبصلها...}
فإن "الفوم" -فيما ذكر- لغةٌ قديمة، وهى: الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فوّموا لنا، بالتشديد لا غير، يريدون اختبزوا، وهي في قراءة عبد الله "وثومها" بالثاء، فكأنّه أشبه المعنيين بالصّواب؛ لأنّه مع ما يشاكله: من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثّاء فيقولون: جدثٌ وجدفٌ، ووقعوا في: عاثور شرٍّ وعافور شرٍّ، والأثاثيّ والأثافيّ. وسمعت كثيرا من بنى أسد يسمّي المغافير: "المغاثير"). [معاني القرآن: 1/41]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ...} أي: الذي هو أقرب، من الدّنوّ، ويقال: من الدّناءة. والعرب تقول: إنه لدنيّ [ولا يهمزون] يدنّي في الأمور، أي: يتّبع خسيسها وأصاغرها. وقد كان زهير الفرقبى يهمز: "أتستبدلون الذي هو أدنأ بالّذي هو خيرٌ"، ولم نر العرب تهمز "أدنى" إذا كان من الخسّة، وهم في ذلك يقولون إنه لدانئٌ خبيثٌ [إذا كان ماجنا] فيهمزون. وأنشدني بعض بنى كلاب:

باسلة الوقع سرابيلها = بيضٌ إلى دانئها الظّاهر
يعني: الدروع على خاصتها -يعني الكتيبة- إلى الخسيس منها، فقال: "دانئها" يريد: الخسيس.
وقد كنا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانئاً ولقد دَناتَ، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلاّ وقد سمعوه). [معاني القرآن: 1/42]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اهبطوا مصراً...} كتبت بالألف، وأسماء البلدان لا تنصرف خفّت أو ثقلت، وأسماء النساء إذا خفّ منها شيءٌ جرى إذا كان على ثلاثة أحرفٍ وأوسطها ساكنٌ مثل دعدٍ وهند وجمل. وإنما انصرفت إذا سمّى بها النّساء؛ لأنها تردّد وتكثر بها التّس‍مية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود.
فإن شئت جعلت الألف التي في "مصرا" ألفا يوقف عليها، فإذا وصلت لم تنوّن، كما كتبوا "سلاسلاً" و"قواريراً" بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت "مصر" غير المصر التي تعرف، يريد: اهبطوا مصراً من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار.
والوجه الأوّل أحبّ إليّ؛ لأنها في قراءة عبد الله "اهبطوا مصر" بغير ألف، وفي قراءة أبيّ: "اهبطوا فإنّ لكم ما سألتم واسكنوا مصر" وتصديق ذلك أنها في سورة يوسف بغير ألف: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين}. وقال الأعمش -وسئل عنها- فقال: هي مصر التي عليها صالح بن عليّ).
[معاني القرآن: 1/42-43]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وفومها} الفوم: الحنطة، وقالوا: هو الخبز.
{اهبطوا مصراً} من الأمصار لأنهم كانوا في تيه. قالوا: اثني عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ يتيهون متحيرين لا يجاوزون ذلك إلاّ أن الله ظلّل عليهم بالغمام، وآتاهم رزقهم هذا المنّ والسّلوى، وفجّر لهم الماء من هذه الحجارة، وكان مع كل سبط حجر غير عظيم يحملونه على حمار، فإذا نزلوا وضعوا الحجر فبجس الله لهم منه الماء. وبعض حدود التيه بلاد أرض بيت المقدس إلى قنّسرين.
{الذّلّة}: الصّغار.
{والمسكنة}: مصدر المسكين، يقال: ما في بني فلان أسكن من فلان أي أفقر منه.
{باؤوا بغضبٍ}: أي احتملوه). [مجاز القرآن: 1/41-42]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلتم يا موسى لن نّصبر على طعامٍ واحدٍ فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ اهبطوا مصراً فإنّ لكم مّا سألتم وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضبٍ مّن اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون}
باب زيادة "من":
أما قوله: {يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها} فدخلت فيه (من) كنحو ما تقول في الكلام: "أهل البصرة يأكلون من البرّ والشعير"، وتقول: "ذهبت فأصبت من الطّعام"، تريد: "شيئا" ولم تذكر الشيء. وكذلك {يخرج لنا ممّا تنبت الأرض} شيئا، ولم يذكر الشيء، وإن شئت جعلته على قولك: "ما رأيت من أحدٍ"، تريد: "ما رأيت أحداً"، و"هل جاءك من رجلٍ" تريد: هل جاءك رجلٌ.
فإن قلت: "إنما يكون هذا في النفي والاستفهام" فقد جاء في غير ذلك، قال: {ويكفّر عنكم مّن سيّئاتكم} فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول: "زيد من أفضلها" تريد: هو أفضلها، وتقول العرب: "قد كان من حديثٍ فخلّ عنّي حتّى أذهب" يريدون: قد كان حديثٌ. ونظيره قولهم: "هل لك في كذا وكذا" ولا يقولون: حاجة، و"لا عليك" يريدون: لا بأس عليك.
وأما قوله: {اهبطوا مصراً} وقال: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه} فزعم بعض الناس أنه يعني فيهما جميعا "مصر" بعينها، ولكن ما كان من اسم مؤنث على هذا النحو "هند" و"جمل" فمن العرب من يصرفه ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم: أما التي في "يوسف" فيعني بها "مصر" بعينها، والتي في "البقرة" يعني بها مصراً من الأمصار.
وأما قوله: {وباءوا بغضبٍ مّن اللّه} يقول: "رجعوا به" أي: صار عليهم، وتقول "باء بذنبه يبوء بوءاً". وقال: {إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} مثله.
باب من تفسير الهمز:
أما قوله: {ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ} [و] {ويقتلون الأنبياء} كل ذلك جماعة العرب تقوله.
ومنهم من يقول (النّباء) أولئك الذين يهمزون "النبيء" فيجعلونه مثل "عريف" و"عرفاء". والذين لم يهمزوه جعلوه مثل بنات الياء، فصار مثل: "وصيّ" و"أوصياء" ويقولون أيضاً: "هم وصيّون". وذلك أن العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتى يصير كبنات الياء، يجتمعون على ترك همزة نحو: "المنسأة"، ولا يكاد أحد يهمزها إلا في القرآن فإن أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ، وهي من "نسأت".
وجاء ما كان من "رأيت" على"يفعل" أو"تفعل" أو"نفعل" أو"أفعل" غير مهموز، وذلك أن الحرف الذي كان قبل الهمزة ساكن، فحذفت الهمزة وحرك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول: "من أبوك". قال: {أفتمارونه على ما يرى}، وقال: {لترونّ الجحيم}، وقال: {إنّي أرى ما لا ترون}، وقال: {إنّا لنراك في ضلالٍ مّبينٍ}.
وأما قوله: {أرأيت الّذي يكذّب بالدّين} و{أرأيت إن كان على الهدى} وما كان من "أرأيت" في هذا المعنى ففيه لغتان، منهم من يهمز ومنهم من يقول "أريت". وإنما يفعل هذا في "أرأيت" هذه التي وضعت للاستفهام لكثرتها. فأما "أرأيت زيداً" إذا أردت: "أبصرت زيداً" فلا يتكلم بها إلاّ مهموزة أو مخففة. ولا يكاد يقال: "أريت" لأنّ تلك كثرت في الكلام فحذفت كما حذفت في "[أمانه] ظريف" يريدون: "أما إنّه ظريفٌ" [فـ] يحذفون ويقولون -أيضاً-: "لهنّك لظريفٌ" يريدون: "[لـ] إنّك لظريفٌ". ولكن الهمزة حذفت كما حذفوا في قولهم:

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسبٍ = عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
وقال الشاعر:
أرأيت إن أهلكت مالي كلّه = وتركت ما لك فيم أنت تلوم
[فهمز]، وقال الآخر:

أريت امرءاً كنت لم أبله = أتاني وقال اتّخذني خليلا
فلم يهمز. وقال:

يا خاتم النّباء إنّك مرسلٌ = بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا
وأما قوله: {بما عصوا} [فـ] جعله اسما هنا كالعصيان يريد: بعصيانهم، فجعل "ما" و"عصوا" اسما). [معاني القرآن: 1/75-78]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ("الفوم":
قال المفسرون: هو الخبو والحنطة، ويجلى عن أهل اللغة أنهم يقولون: فوموا لنا، أي: اخبزوا. وقالوا: الفوم: الحبوب. وقال آخرون: الفوم هو الثوم بعينه إلا أن العرب تبدل مكان الثاء، كما قالوا: "جدف" و"جدث".
{الذلة}: الصغار. {والمسكنة}: الحاجة.
{وباؤا بغضب من الله}: أي رجعوا، وقال الله {وباؤا بغضب} أي استحقوا الغضب من الله). [غريب القرآن وتفسيره:71-72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و"الفوم" فيه أقاويل:
يقال: هو الحنطة والخبز جميعا. قال الفراء: هي لغة قديمة يقول أهلها: فوّموا، أي: اختبزوا. ويقال: الفوم: الحبوب. ويقال: هو الثوم، والعرب تبدل الثاء بالفاء فيقولون "جدث" و"جدف" و"المغاثير" و"المغافير". وهذا أعجب الأقاويل إليّ، لأنها في مصحف عبد اللّه: «وثومها».
{وباؤوا بغضبٍ} أي: رجعوا، يقال: بؤت بكذا فأنا أبوء به، ولا يقال: باء بالشيء). [تفسير غريب القرآن: 51]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير اهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}
{فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض}
{يخرج} مجزوم وفيه غير قول:
قال بعض النحويين: المعنى: سله وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو، وقال في قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، قالوا: المعنى: قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا.
وقال قوم: معنى {يخرج لنا} معنى الدعاء كأنّه قال: أخرج لنا. وكذلك {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} المعنى: قل لعبادي أقيموا، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل) فجعل بمنزلة جواب الأمر.
وكلا القولين مذهب، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من لفظ الأمر الذي، ليس معه جازم مرفوع قال اللّه -عزّ وجلّ-: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللّه} ثم جاء بعد تمام الآية {يغفر لكم}، المعنى: آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا يغفر لكم.
وقوله عزّ وجلّ: {من بقلها وقثّائها وفومها}
في "القثاء" لغتان، يقال القُثَّاء والقِثَّاء يا هذا، و قد قرأ بعضهم (قُثائها) بالضم، والأجود الأكثر {وقِثائها} بالكسر.
{وفومها} الفوم: الحنطة، ويقال: الحبوب، وقال بعض النحويين: إنه يجوز عنده الفوم ههنا الثوم، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم، وههنا ما يقطع هذا. محال أن يطلب القوم طعاما لا برّ فيه، والبرّ أصل الغذاء كله، ويقال: فوّموا لنا، أي: اخبزوا لنا. ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم.
وقوله عزّ وجلّ: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير} يعني أن المنّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم، و {أدنى} القراءة فيه بغير الهمز، وقد قرأ بعضهم "أدنأ بالذي هو خير"، وكلاهما له وجه في اللغة إلا أن ترك الهمزة أولى بالاتباع.
أما (أدنى) غير مهموز، فمعناه: الذي هو أقرب وأقل قيمة، كما تقول: هذا ثوب مقارب، فأما الخسيس فاللغة فيه أنه مهموز، يقال: دنوء، دناءة، وهو دنيء، بالهمزة، ويقال: هذا أدنا منه بالهمزة.
وقوله عزّ وجلّ: {اهبطوا مصرا} الأكثر في القراءة إثبات الألف، وقد قرأ بعضهم "اهبطوا مصر فإن لكم" بغير ألف، فمن قرأ {مصرا} بالألف فله وجهان:
جائز أن يراد بها مصرا من الأمصار لأنهم كانوا في تيه، وجائز أن يكون أراد "مصر" بعينها، فجعل (مصرا) اسما للبلد فصرف لأنه مذكر سمي مذكرا.
وجائز أن يكون (مصر) بغير ألف على أنه يريد مصرا، كما قال عزّ وجلّ: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين}، وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو مذكر سمي به مؤنث.
وقوله عزّ وجلّ: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة}
{الذّلّة}: الصغار، {المسكنة}: الخضوع، واشتقاقه من السكون، إنما يقال: "مسكين" للذي أسكنه الفقر، أي: قلل حركته.
وقوله جلّ وعزّ: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه} يقال: بؤت بكذا وكذا، أي: احتملته.
وقوله جلّ وعزّ: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه} معنى ذلك -واللّه أعلم-: الغضب حل بهم بكفرهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ} القراءة المجمع عليها في "النبيين" و"الأنبياءِ" و"البريَّة" طرح الهمزة، وجماعة من أهل المدينة يهمزون جميع ما في القرآن من هذا فيقرأون (النبيئين بغير حق) و(الأنبياء)، واشتقاقه من "نبّأ" و"أنبأ"، أي: أخبر.
والأجود ترك الهمزة، لأن الاستعمال يوجب أن ما كان مهموزا من "فعيل" فجمعه "فعلاء"، مثل: ظريف وظرفاء، ونبيء ونبآء. فإذا كان من ذوات الياء فجمعه "أفعلاء"، نحو: غني وأغنياء، ونبي وأنبياء.
وقد جاء "أفعلاء" في الصحيح، وهو قليل، قالوا: خميس وأخمساء وأخمس، ونصيب وأنصباء، فيجوز أن يكون "نبي" من "أنبأت" مما ترك همزه لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون من "نبأ ينبوء" إذا ارتفع، فيكون "فعيلا" من الرفعة). [معاني القرآن: 1/142-145]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الفوم": الثوم، و"الفوم" -أيضا-: الحنطة). [ياقوتة الصراط: 173]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وباءوا}: رجعوا.
و"الفوم": قيل: هو الخبز، وقيل: الحنطة، وقيل: الثوم، وهو بالثاء في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الفُومِ}: الحنط، الحبوب، الثوم. {الذِّلَّةُ}: الذل. {الْمَسْكَنَةُ}: الحاجة. {وَبَاؤُوْاْ}: احتملوا ورجعوا). [العمدة في غريب القرآن:76-77]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الذّين هادوا (62)} أي: الذين تابوا ممن تهوّد أي: هدنا إلى ربنا.
{والصّابئين (62)} يقال: صبأت من دينك إلى دين آخر، إذا خرجت، كما تصبأ النجوم تخرج من مطالعها، ويقال: صبأت ثنيةً إذا طلعتها).
[مجاز القرآن: 1/42-43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الصابئين}: ملة من اليهود والنصارى والمجوس لهم دين. يقال: صبأت من دينك إلى دين آخر، إذا خرجت منه، ومن ذلك: صبأت ثنيته، إذا طلعت). [غريب القرآن وتفسيره: 72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين هادوا} هم: اليهود. {والصّابئين} قال قتادة: "هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون [إلى] القبلة، ويقرؤون الزّبور".
وأصل الحرف من صبأت: إذا خرجت من شيء إلى شيء ومن دين إلى دين. ولذلك كانت قريش تقول في الرجل إذا أسلم واتبع النبي -صلى اللّه عليه وعلى آله-: قد صبأ فلان -بالهمز-، أي: خرج عن ديننا إلى دينه). [تفسير غريب القرآن:51-52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجل: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصّابئين من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)} لا يجوز أن يكون لأحد منهم إيمان إلا مع إيمانه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ودليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه أضلّ أعمالهم * والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وآمنوا بما نزّل على محمّد وهو الحقّ من ربّهم كفّر عنهم سيّئاتهم}، فتأويله: من آمن باللّه واليوم الآخر وآمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلهم أجرهم.
وجاز أن يقال: {فلهم} لأن من لفظها لفظ الواحد وتقع على الواحد والاثنين والجمع والتأنيث والتذكير، فيحمل الكلام على لفظها فيُوحّد ويذكر، ويحمل على معناها فيثنّى ويجمع ويؤنث.
قال الشاعر:

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني = نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
و"هادوا" أصله في اللغة: تابوا، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {إنّا هدنا إليك} أي: تبنا إليك.
وواحد "النصارى" قيل فيه قولان:
قالوا يجوز أن يكون واحدهم "نصران" كما ترى، فيكون: نصران ونصارى، على وزن: ندمان وندامى، قال الشاعر:

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها = كما أسجدت نصرانة لم تحنّف
فـ"نصرانة" تأنيث "نصران".
ويجوز أن يكون النصارى واحدهم "نصرى"، مثل: بعير مهري وإبل مهارى.
ومعنى "الصابئين": الخارجين من دين إلى دين، يقال: صبأ فلان إذا خرج من دينه يصبأ يا هذا، ويقال: صبأت النجوم، إذا ظهرت، وصبأ نابه، إذا خرج.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} القراءة الجيدة: الرفع، وكذلك إدا كررت (لا) في الكلام، قلت: لا رجل عندي ولا زيد، و{لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47)}.
وإن قرئ (فلا خوفَ عليهم) فهو جيد بالغ الجودة وقد قرئ به). [معاني القرآن: 1/145-147]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({والصابئين} الخارجون، من: صبأت النجوم، إذا ظهرت وخرجت.
وهم قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون للقبلة). [تفسير المشكل من غريب القرآن:28-29]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({هَادُواْ}: تابوا. "الصَّابِئِ": الخارج من دينه). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ...} يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فيه). [معاني القرآن: 1/43]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الطّور} جبل كان رفع عليهم حيث قيل لهم: {قولوا حطّة (58)}).
[مجاز القرآن: 1/43]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واذكروا ما فيه لعلّكم تتّقون}
قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فهذا على الكلام الأول. يقول: "اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا" يقول: "فقلنا لكم: خذوا". كما تقول: "أوحيت إليه: قم"، كأنه يقول: "أوحيت إليه فقلت له: قم" وكان في قولك: "أوحيت إليه" دليل على أنّك قد قلت له). [معاني القرآن: 1/78]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الطور}: جبل). [غريب القرآن وتفسيره: 72]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ):{الطّور}: الجبل. ورفعه فوقهم مبين في سورة الأعراف). [تفسير غريب القرآن: 52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّة واذكروا ما فيه لعلّكم تتّقون (63)} المعنى: اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم. و"الطور" ههنا: الجبل.
ومعنى {أخذنا ميثاقكم}: يجوز أن يكون ما أخذه اللّه عزّ وجلّ حين أخرج الناس كالذر. ودليل هذا قوله: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظلّة} ثم قال من بعد تمام الآية: {وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم} فهذه الآية كالآية التي في البقرة. وهو أحسن المذاهب فيها.
وقد قيل: أن أخذ الميثاق هو: ما أخذ الله من الميثاق على الرسل ومن اتبعهم. ودليله قوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه} فالأخذ على النبيين -صلى الله عليهم وسلم- الميثاق يدخل فيه من اتبعهم.
{ورفعنا فوقكم الطّور} أي: جئناكم بآية عظيمة، وهي أن الطور -وهو الجبل- رفع فوقهم حتى أظلهم وظنوا أنه واقع بهم، فأخبر اللّه بعظم الآية التي أروها بعد أخذ الميثاق، وأخبر بالشيء الذي لو عذبهم بعده لكان عدلا في ذلك، ولكنه جعل لهم التوبة بعد ذلك وقال: {ثمّ تولّيتم من بعد ذلك} "ذلك" أي: من بعد الآيات العظام.
{فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته} أي: لولا أن منّ اللّه عليكم بالتوبة بعد أن كفرتم مع عظيم هذه الآيات {لكنتم من الخاسرين}.
وقوله عزّ وجلّ: {خذوا ما آتيناكم بقوّة} موضع "ما" نصب، و {ما آتيناكم}: الكتاب الذي هو التوراة، ومعنى "خذوه بقوة" أي: خذوه بجد واتركوا الريب والشك لما بان لكم من عظيم الآيات.
وقوله عزّ وجلّ: {واذكروا ما فيه} معناه: ادرسوا ما فيه، وجاز في اللغة أن تقول: "خذ" و"خذا"، وأصله "أوخذ" وكذلك "كل" أصله "أوكل"، ولكن "خذ" و"كل" اجتمع فيهما كثرة الاستعمال والتقاء همزتين وضمة، فحذفت فاء الفعل وهي الهمزة التي كانت في "أَخذ" و"آكل" فحذفت لما وصفنا من كثرة الاستعمال واجتماع ما يستقلون). [معاني القرآن: 1/148-149]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الطُّورَ}: جبل). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({خاسئين}: مبعدين، يقال: خسأته عني، وخسأت الكلب: باعدته، وخسأ الرجل، إذا تباعد). [مجاز القرآن: 1/43]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}
أما قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت} يقول: "ولقد عرفتم"، كما تقول: "لقد علمت زيداً ولم أكن أعلمه". وقال: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} يقول: "يعرفهم". وقال: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} أي: لا تعرفهم نحن نعرفهم. وإذا أردت العلم الآخر قلت: "قد علمت زيداً ظريفاً" لأنك تحدث عن ظرفه. فلو قلت: "قد علمت زيداً" لم يكن كلاما.
وأما قوله: {كونوا قردةً خاسئين} فلأنك تقول: خسأته فخسئ يخسأ خسأً شديدا، فهو خاسئٌ وهم خاسئون). [معاني القرآن: 1/78-79]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({خاسئين}: مبعدين، يقال خسأته عني، وخسأت الكلب أي: باعدته، وقال المفسرون: "صاغرين" في معنى: "مبعدين"). [غريب القرآن وتفسيره: 72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({اعتدوا منكم في السّبت} أي: ظلموا وتعدّوا ما أمروا به من ترك الصيد في يوم السبت.
{فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} أي: مبعدين. يقال: خسأت فلانا عني، وخسأت الكلب أي: باعدته، ومنه يقال للكلب: اخسأ، أي: تباعد).
[تفسير غريب القرآن: 52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65)}
معنى {علمتم} هنا: عرفتم، ومثله قوله عز وجل {لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} ومعناه: لا تعرفونهم اللّه يعرفهم.
ومعنى {اعتدوا}: ظلموا وجاوزوا ما حدّ لهم، كانوا أمروا ألا يصيدوا في السبت، وكانت الحيتان تجتمع لأمنها في السبت، فحبسوها في السبت وأخذوها في الأحد، فعدوا في السبت لأن صيدهم منعها من التصرف، فجعل الله جزاءهم في الدنيا بعدما أراهم من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين، معنى {خاسئين}: مبعدين، يقال: خسأت الكلب أخسؤه خسئا، أي: باعدته وطردته). [معاني القرآن: 1/149]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اعتدوا منكم} أي: تعدوا. {خاسئين}: مبعدين من رحمة الله).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({خَاسِئِينَ}: مباعدين). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فجعلناها نكالاً لّما بين يديها وما خلفها وموعظةً لّلمتّقين...} يعني: المسخة التي مسخوها، جعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها، ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مسخوا فيمسخوا). [معاني القرآن: 1/43]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فجعلناها نكالاً لّما بين يديها وما خلفها وموعظةً لّلمتّقين}
أما قوله: {فجعلناها نكالاً} فتكون على القردة، وتكون على العقوبة التي نزلت بهم فلذلك أنّثت.
{وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزواً قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين}
أما قوله: {أتتّخذنا هزواً} فمن العرب والقراء من يثقله، ومنهم من يخففه، وزعم عيسى بن عمر أنّ كل اسمٍ على ثلاثة أحرف أوّله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو: "اليُسُرِ"، و"العُسُرِ"، و"الرُّحُمِ".
وقال بعضهم (عذراً) خفيفة (أو نذراً) مثقلة، وهي كثيرة وبها نقرأ.
وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر تحرك أيضاً ثانية بالضم). [معاني القرآن: 1/79]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فجعلناها نكالًا} أي: قرية أصحاب السبت.
{نكالا}: أي عبرة، {لما بين يديها}: من القرى، {وما خلفها}: ليتعظوا بها.
ويقال: {لما بين يديها}: من ذنوبهم، {وما خلفها}: من صيدهم الحيتان في السبت، وهو قول قتادة. والأول أعجب إليّ). [تفسير غريب القرآن: 52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتّقين (66)}
(ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت، ويجوز أن يكون للفعلة.
ومعنى {لما بين يديها} يحتمل شيئين من التفسير:
يحتمل أن يكون {لما بين يديها}: لما أسلفت من ذنوبها، ويحتمل أن يكون {لما بين يديها}: للأمم التي تراها.
{وما خلفها} ما يكون بعدها.
ومعنى قولك: "نكّلت به"، أي: جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله، فيناله مثل الذي ناله.
وقوله عزّ وجلّ: {وموعظة للمتقين} أي: يتعظ بها أهل التقوى فيلزمون ما هم عليه). [معاني القرآن: 1/149]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نكالا} أي: عبرة. والهاء في {جعلناها} تعود على المسخة، وقيل: على الحيتان).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:25 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 67 إلى 74]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أتتّخذنا هزواً قال...} وهذا في القرآن كثيرٌ بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى أوّله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا؛ فكأنّ حسن السّكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه في رءوس الآيات -لأنها فصولٌ- حسناً؛ من ذلك: {قال فما خطبكم أيّها المرسلون * قالوا إنّا أرسلنا}، والفاء حسنة مثل قوله: {فقال الملأ الّذين كفروا} ولو كان على كلمة واحدة لم تسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قمت ففعلت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا: قلت قال، حتى يقولوا: قلت فقال، وقمت فقام؛ لأنها نسقٌ وليست باستفهام يوقف عليه؛ ألا ترى أنه {قال}: فرعون {لمن حوله ألا تستمعون * قال رب‍ّكم وربّ آبائكم الأوّلين} فيما لا أحصيه.
ومثله من غير الفعل كثيرٌ في كتاب الله بالواو وبغير الواو؛ فأما الذي بالواو فقوله: {قل أؤنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم} ثم قال بعد ذلك: {الصّابرين والصّادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}. وقال في موضع آخر: {التّائبون العابدون الحامدون} وقال في غير هذا: {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} ثم قال في الآية بعدها: {إنّ الّذين آمنوا} ولم يقل: وإنّ.
فاعرف بما جرى تفسير ما بقى، فإنّه لا يأتي إلا على الذي أنبأتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ. وأنشدني بعض العرب:


لمّا رأيت نبطاً أنصارا
=
شمّرت عن ركبتي الإزارا
=
كنت لها من النّصارى جارا
). [معاني القرآن: 1/43-44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجل: {وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتّخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين (67)}
المعنى: واذكروا إذ قال موسى لقومه، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فيمن قتله فلم يعلم قاتله، فأمر اللّه عزّ وجلّ بضرب المقتول بعضو من أعضاء البقرة.
وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى أو الذنب، وأحب الله تعالى أن يريهم كيف إحياء الموتى،
وفي هذه الآية احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلا من قرأ الكتب أو أوحى إليه، وقد علم المشركون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون -وهم يخالفونه- أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.
{قالوا أتتّخذنا هزوا} فانتفى موسى من الهزؤ، لأن الهازئ جاهل لاعب فقال: {أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} فلما وضح لهم أنه من عند الله {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي} وإنّما سألوا ما هي؟ لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت). [معاني القرآن: 1/149-150]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك...}
و"العوان" ليست بنعتٍ للـ"بكر"؛ لأنها ليست بهرمة ولا شابّة؛ انقطع الكلام عند قوله: {ولا بكرٌ} ثم استأنف فقال: {عوانٌ بين ذلك} و"العوان" يقال منه: قد عوّنت.
و"الفارض": قد فَرَضَت، وبعضهم: قد فَرُضَت.
وأما "البكر" فلم نسمع فيها بفعل؛ والبكر يكسر أوّلها إذا كانت بكرا من النّساء، والبكر مفتوح أوّله من بكارة الإبل.
ثم قال {بين ذلك} و"بين" لا تصلح إلاّ مع اسمين فما زاد، وإنمّا صلحت مع "ذلك" وحده؛ لأنّه في مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان بـ"ذلك" و"ذاك"؛ ألا ترى أنّك تقول: أظنّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بدّ لـ"كان" من شيئين، ولا بدّ لـ"أظن" من شيئين، ثم يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنّ ذلك.
وإنما المعنى في الاسمين اللذين ضمّهما "ذلك": بين الهرم والشّباب.
ولو قال في الكلام: بين هاتين، أو بين تينك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما لم يظهر إلا بتثنية؛ لأنهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول في الأفعال فتوحّد فعلهما بعدها. فتقول: إقبالك وإدبارك يشقّ عليّ، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورني.
ومما يجوز أن يقع عليه "بين" وهو واحدٌ في اللّفظ مما يؤدّى عن الاثنين فما زاد قوله: {لا نفرّق بين أحدٍ منهم} ولا يجوز: لا نفرق بين رجل منهم؛ لأنّ "أحدا" لا يثنّى كما يثنى الرجل ويجمع، فإن شئت جعلت "أحدا" في تأويل اثنين، وإن شئت في تأويل أكثر؛ من ذلك قول الله عزّ وجلّ: {فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين} وتقول: بين أيّهم المال؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى "من" و"أيّ" مجرى أحد، لأنّهما قد يكونان لواحد ولجمع). [معاني القرآن: 1/44-45]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ}
{لا فارض}: مسنّة، {ولا بكر}: صغيرة. {بين ذلك}: والعرب تقول: لا كذا ولا كذا ولكن بين ذلك؛ فمجاز هذه الآية: بين هذا الوصف، ولذلك قال: {بين ذلك}، وقال رؤبة:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلق
فـ"الخطوط" مؤنثة و"السواد" و"البلق" اثنان، ثم قال:
كأنه في الجلد توليع البهق
قال أبو عبيدة: فقلت لرؤبة: إن كانت خطوط فقل: كأنها، وإن كان سواد وبلق فقل: كأنهما، فقال: كأنّ ذاك ويلك توليع البهق، ثم رجع إلى السواد والبلق والخطوط فقال:
يحسبن شاماً أو رقاعاً من بنق
جماعة "شأمة"). [مجاز القرآن: 1/43-44]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون}
أما قوله: {إنّها بقرةٌ لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوان} فارتفع ولم يصر نصبا كما ينتصب النفي، لأن هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها، إنما هو اسم مبتدأ وخبره مضمر، وهذا مثل قولك: "عبد اللّه لا قائمٌ ولا قاعدٌ" أدخلت "لا" للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه "لا"). [معاني القرآن: 1/79]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({إنها بقرة لا فارض}: لا مسنة، كما يقال: فرضت تفرض، إذا أسنت.
{ولا بكر} أي: لا صغيرة). [غريب القرآن وتفسيره:72-73]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({لا فارضٌ} أي: لا مسنّة، يقال: فرضت البقرة فهي فارض، إذا أسنّت. قال الشاعر:

يا ربّ ذي ضغن وضب فارض= له قروء كقروء الحائض
أي: ضغن قديم.
{ولا بكرٌ} أي: ولا صغيرة لم تلد، ولكنها {عوانٌ بين} تينك.
ومنه يقال في المثل: «العوان لا تعلّم الخمرة» يراد أنها ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر). [تفسير غريب القرآن:52-53]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({قال إنه يقول إنّها بقرة لا فارض ولا بكر}
ارتفع {فارض} بإضمار هي، ومعنى {لا فارض}: لا كبيرة، {ولا بكر}: لا صغيرة، أي: ليست بكبيرة ولا صغيرة.
{عوان} العوان: دون المسنة وفوق الصغيرة.
ويقال من الفارض: فرضت تفرض فروضا، ومن العوان: قد عوّنت تعوّن، ويقال: حرب عوان، إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية. قال زهير:

إذا لقحت حرب عوان مضرّة = ضروس تهرّ الناس أنيابها عصل
ومعنى {بين ذلك} بين البكر والفارض، وبين الصغيرة والكبيرة وإنما جاز {بين ذلك} و "بين" لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر، لأن ذلك ينوب عن الخمل، فتقول: ظننت زيدا قائما، فيقول القائل: "ظننت ذلك"). [معاني القرآن: 1/150]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (وكل عوان فهو بعد شيء، يقال: حرب عوان، إذا كانت قبلها حرب، هذا أصل العوان، والعوان -في غير هذا من الحيوان-: الشيء بين الشيئين، لا كبير ولا صغير). [ياقوتة الصراط: 174]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا فارض} لا مسنة، {ولا بكر} صغيرة، {عوان} أي: بين صغيرة وكبيرة).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("الفَارِض": المسنة. "البِكْر": الصغيرة). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما لونها...}
"الّلون" مرفوعٌ؛ لأنك لم ترد أن تجعل "ما" صلةً فتقول: (بيّن لنا ما لونها)، ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد -والله أعلم-: ادع لنا ربك يبيّن لنا أي شيء لونها، ولم يصلح للفعل الوقوع على "أيّ"؛ لأن أصل "أيّ" تفرّق جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداء هي أم صفراء؟ فلما لم يصلح للتّبيّن أن يقع على الاستفهام في تفرّقه لم يقع على أيّ؛ لأنها جمع ذلك المتفرّق، وكذلك ما كان في القرآن مثله، فأعمل في "ما" "وأيّ" الفعل الذي بعدهما، ولا تعمل الذي قبلهما إذا كان مشتقّاً من العلم؛ كقولك: ما أعلم أيّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أيّهم قال ذاك، وما أدري أيّهم ضربت، فهو في العلم والإخبار والإنباء وما أشبهها على ما وصفت لك.
منه قول الله تبارك وتعالى: {وما أدراك ما هيه}، {وما أدراك ما يوم الدّين} "ما" الثانية رفعٌ، فرفعتها بـ"يوم"؛ كقولك: ما أدراك أي شيء يوم الدّين، وكذلك قول الله تبارك وتعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى} رفعته بـ"أحصى"، وتقول -إذا كان الفعل واقعا على "أيّ"-: ما أدرى أيّهم ضربت.
وإنما امتنعت من أن توقع على "أي" الفعل الذي قبلها من العلم وأشباهه؛ لأنك تجد الفعل غير واقع على "أي" في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيّهما قام، أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الذي أعلمك، كما أنك تقول: سل أيّهم قام، والمعنى: سل الناس أيّهم قام. ولو أوقعت الفعل على "أيّ" فقلت: اسأل أيّهم قام، لكنت كأنك تضمر أيّاً مرّة أخرى؛ لأنك تقول: سل زيدا أيّهم قام، فإذا أوقعت الفعل على زيد فقد جاءت "أيّ" بعده. فكذلك "أيّ" إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك إن أردته جائز، تقول: لأضربنّ أيّهم يقول ذاك؛ لأنّ الضرب لا يقع على [اسم ثم يأتي بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على] اثنين، وأنت تقول في المسألة: سل عبد الله عن كذا، كأنك قلت: سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عبد الله كذا وكذا، إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا.
وقول الله: {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعةٍ أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّاً} من نصب (أيّاً) أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثم لنستخرجن العاتي الذي هو أشد. وفيها وجهان من الرفع:
أحدهما: أن تجعل الفعل مكتفيا بـ"من" في الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا من كل طعام، ثم تستأنف أيّاً فترفعها بالذي بعدها، كما قال جلّ وعزّ: {يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب} أي ينظرون أيّهم أقرب. ومثله {يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم}.
وأما الوجه الآخر: فإن في قوله تعالى: {ثم لننزعنّ من كلّ شيعةٍ} لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشدّ وأخبث، وأيهم أشدّ على الرحمن عتيّاً، والشيعة ويتشايعون سواء في المعنى.
وفيه وجه ثالث من الرفع: أن تجعل {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعةٍ} بالنداء؛ أي: لننادين أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّاً، وليس هذا الوجه يريدون.
ومثله مما تعرفه به قوله: {أفلم ييأس الّذين آمنوا أن لو يشاء اللّه لهدى النّاس جميعاً}، فقال بعض المفسرين: {أفلم ييأس الّذين آمنوا}: ألم يعلم، والمعنى -والله أعلم-: أفلم ييأسوا علما بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك {لننزعنّ} يقول: يريد ننزعهم بالنداء).
[معاني القرآن: 1/46-48]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بقرةٌ صفراء} إن شئت صفراء، وإن شئت سوداء، كقوله: {جمالاتٌ صفر} أي: سود. {فاقعٌ لونها} أي: ناصع). [مجاز القرآن: 1/44]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لّونها تسرّ النّاظرين}
أما قوله: {بقرةٌ صفراء فاقعٌ} فـ"الفاقع": الشديد الصفرة. ويقال: "أبيض يققٌ": أي: شديد البياض، و"لهاقٌ" و"لهقٌ" و"لهاقٌ"، و"أخضر ناضرٌ" و"أحمر قانئٌ" و"ناصعٌ" و"فاقمٌ". ويقال: "قد قنأت لحيته فهي تقنأ قنوءا" أي: احمّرت. قال الشاعر:

............. = كما قنأت أنامل صاحب الكرم
و "قاطف الكرم". وقال آخر:

من خمرّ ذي نطفٍ أغنّ كأنّما = قنأت أنامله من الفرصاد
). [معاني القرآن: 1/79-80]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({بقرة صفراء} قالوا: سوداء. كقوله {جمالات صفر} أي: سود. {فاقع لونها}: أي ناصع). [غريب القرآن وتفسيره: 73]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({صفراء فاقعٌ لونها} أي: ناصع صاف.
وقد ذهب قوم إلى أن الصفراء: السوداء، وهذا غلط في نعوت البقر. وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل؛ يقال: بعير أصفر، أي أسود، وذلك أن السّود من الإبل يشوب سوادها صفرة. قال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي= هنّ صفر أولادها كالزّبيب
أي: سود.
ومما يدلك على أنه أراد الصفرة بعينها قوله {فاقع لونها}، والعرب لا تقول: أسود فاقع -فيما أعلم-، إنما تقول: أسود حالك، وأحمر قاني وأصفر فاقع). [تفسير غريب القرآن:53-54]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين}
موضع (ما) رفع بالابتداء، لأن تأويله الاستفهام، كقولك: ادع لنا ربك يبين لنا أيّ شيء لونها، ومثله {فلينظر أيّها أزكى طعاما}.
ولا يجوز في القراءة {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها} على أن يجعل (ما) لغوا، ولا يقرأ القرآن إلا كما قرأت القرّاء المجمع عليهم في الأخذ عنهم.
{قال إنه يقول إنها} ما بعد القول من باب "إن" مكسور أبدا، كأنك تذكر القول في صدر كلامك، وإنما وقعت "قلت" في كلام العرب أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ، تقول: قلت زيد منطلق. كأنك قلت: زيد منطلق، وكذلك: إن زيدا منطلق، لا اختلاف بين النحويين في ذلك، إلا أن قوما من العرب -وهم بنو سليم- يجعلون باب "قلت" أجمع كباب "ظننت"، فيقولون: قلت زيدا منطلقا، فهذه لغة لا يجوز أن يوجد شيء منها في كتاب الله عزّ وجلّ، ولا يجوز (قال أنه يقول إنها)، لا يجوز إلا الكسر.
وأمّا قوله عزّ وجلّ: {صفراء فاقع لونها}
{فاقع} نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال: أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قان، قال الشاعر:

يسقي بها ذو تومتين كأنما = قنأت أنامله من الفرصاد
أي: احمرت حمرة شديدة، ويقال: أحمر قاتم وأبيض يقق، ولهق ولهاق، وأسود حالك وحلوك وحلوكي ودجوجي، فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قالوا: إن {صفراء} ههنا: سوداء.
ومعنى {تسر الناظرين} أي: تعجب الناظرين). [معاني القرآن: 1/150-152]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت 437هـ): ({صفراء}: سوداء، وقيل: هي صفراء وليست سوداء. {فاقع} أي: ناصع).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({صَفْرَاء}: سوداء، وقيل: صفراء حتى قرنها وظلفها. {فَاقِعٌ}: ناصع).
[العمدة في غريب القرآن:77-78]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون}
أما قوله: {إنّ البقر تشابه علينا} [فـ] جعل "البقر" مذكرا مثل "التمر" و"البسر"، كما تقول: إنّ زيداً تكلم يا فتى.
وإن شئت قلت (يشّابه) وهي قراءة مجاهد.
ذكّر "البقر" يريد {يتشابه} ثم أدغم التاء في الشين. ومن أنّث "البقر" قال: {تشّابه} فادغم، وإن شاء حذف التاء الآخرة ورفع كما تقول "إنّ هذه تكلّم يا فتى" لأنها في "تتشابه" إحداهما تاء "تفعل" والأخرى التي في "تشابهت" فهو في التأنيث معناه "تفعل". وفي التذكير معناه "فعل" و"فعل" أبدا مفتوح كما ذكرت لك والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث لأنك تريد "تشابهت فهي تتشابه" وكذلك كل [ما كان] من نحو "البقر" ليس بين الواحد والجماعة [فيه] إلا الهاء، فمن العرب من يذكره ومنهم من يؤنثه، ومنهم من يقول: "هي البرّ والشعير" وقال: {والنّخل باسقاتٍ لّها طلعٌ نّضيدٌ} فأنث على تلك اللغة وقال: {باسقات} فجمع لأن المعنى جماعة.
وقال الله -جل ثناؤه-: {ألم تر أنّ اللّه يزجي سحاباً ثمّ يؤلّف بينه} فذكر في لغة من يذكر، وقال: {وينشئ السّحاب الثّقال} فجمع على المعنى لأن المعنى معنى سحابات، وقال: {ومنهم مّن ينظر إليك}، وقال: {ومنهم مّن يستمعون إليك} على المعنى واللفظ.
وقد قال بعضهم: (إنّ الباقر) مثل "الجامل"، يعني: "البقر" و"الجمال" قال الشاعر:

مالي رأيتك بعد أهلك موحشا = خلقاً كحوض الباقر المتهدّم
وقال:
[فإن تك ذا شاءٍ كثيرٍ فإنّهم] = ذوو جاملٍ لا يهدأ اللّيل سامره
وأما قوله: {إنّها بقرةٌ لاّ ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ}
{مسلمة} على "إنّها بقرةٌ مسلّمةٌ"). [معاني القرآن: 1/80-82]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {مسلّمةٌ لا شية فيها...} غير مهموز؛ يقول: ليس فيها لونٌ غير الصّفرة.
وقال بعضهم: هي صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران). [معاني القرآن: 1/48]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلّمةٌ لاشية فيها} أي: لون سوى لون جميع جلدها). [مجاز القرآن: 1/44]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قالوا الآن جئت بالحقّ} أي: الآن تبّينا ذلك، ولم تزل جائياً بالحق). [مجاز القرآن: 1/44]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لاّ ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لاّ شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون}
{لاّ شية فيها} يقول: "لا وشي فيها" من "وشيت شيةً" كما تقول: "وديته ديةً" و"وعدته عدةً".
وإذا استأنفت (ألآن) قطعت الألفين جميعا، لأن الألف الأولى مثل ألف "الرّجل" وتلك تقطع إذا استؤنفت، والأخرى همزة ثابتة تقول "ألآن" فتقطع ألف الوصل، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في {قالوا} لأنه إنّما كان يذهبها لسكون اللام، واللام قد تحرّكت لأنه قد حوّل عليها حركة الهمزة). [معاني القرآن: 1/82]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({لا شية فيها}: لا لون فيها سوى لون جلدها.
وقال بعضهم: هي صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({لا ذلولٌ} يقال في الدّواب: دابّة ذلول بيّنة الذل -بكسر الذال-، وفي الناس: رجل ذليل بيّن الذّل -بضم الذال-.
{تثير الأرض} أي تقلّبها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة.
{ولا تسقي الحرث} أي لا يسنى عليها فيستقي بها الماء لسقي الزرع.
{مسلّمةٌ} من العمل.
{لا شية فيها} أي: لا لون فيها يخالف معظم لونها، كالقرحة والرثمة والتحجيل، وأشباه ذلك.
و"الشّية": مأخوذة من وشيت الثوب فأنا أشيه، وهي من المنقوص أصلها "وشية" مثل: "زنة" و"عدة"). [تفسير غريب القرآن: 54]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قال إنه يقول إنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون} معناه: ليست بذلول ولا مثيرة.
وقوله: {ولا تسقي الحرث} يقال: سقيته إذا ناولته فشرب، وأسقيته جعلت له سقيا، فيصح ههنا (ولا تُسقي) بالضم.
وقوله: {لا شية فيها} أي: ليس فيها لون يفارق لونها، و"الوشي" في اللغة: خلط لون بلون وكذلك في الكلام، يقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشيا، كقولك: وديت فلانا أديه دية، ونصب {لا شية} فيه على النّفي، ولو قرئ (لَا شيةٌ) فيها لجاز، ولكن القراءة بالنصب.
وقوله: {الآن جئت بالحقّ} فيه أربعة أوجه حكى بعضها الأخفش:
فأجودها: (قالوا الآن) بإسكان اللام وحذف الواو من اللفظ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول: (قالوا ألآن جئت بالحقّ) وهذه رواية، وليس له وجه في القياس ولا هي عندي جائز، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين -وهما جيدان في العربية-:
يجوز: (قالوا لآن) على إلقاء الهمزة، وفتح اللام من الآن، وترك الواو محذوفة لالتقاء الساكنين، ولا يعتد بفتحة اللام.
ويجوز: (قالوا لان جيت بالحق) ولا أعلم أحدا قرأ بها، فلا يقرأن بحرف لم يقرأ به وإن كان ثابتا في العربية.
والذين أظهروا الواو: أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسكونها، فلما تحركت ردوها.
والأجود في العربية حذفها؛ لأن قرأ (ب تقول "الأحمر"، ويلقون الهمزة فيقولون "لحمر" فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون، وبعضهم يقول "لحمر" ولا يقرّ ألف الوصل يريد: الأحمر.
فأمّا نصب {الآن} فهي حركة لالتقاء السّاكنين، ألا ترى أنك تقول: أنا الأن أكرمك، وفي الآن فعلت كذا وكذا، وإنما كان في الأصل مبنيا وحرك لالتقاء السّاكنين.
وبنى {الآن} وفيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم. إنما تقول: الغلام فعل كذا، إذا عهدته أنت ومخاطبتك، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الإشارة. المعنى أنت إلى هذا الوقت تفعل، فلم يعرب {الآن} كما لا يعرب هذا). [معاني القرآن: 1/152-153]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (و"الشية": لون مخالف لسائر الجلد). [ياقوتة الصراط: 174]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا شية} أي: لا لون فيها سوى لون جلدها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("الشِيَةَ": اختلاط الألوان.
{لاَّ ذَلُولٌ}: لا تمتهن بالعمل. {تُثِيرُ}: تقلع. {الْحَرْثَ}: الزرع.{مُسَلَّمَةٌ}: مسلمة من كل عمل). [العمدة في غريب القرآن: 78]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها...}، وقوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً}، {وإذ فرقنا بكم البحر} يقول القائل: وأين جواب "إذ" وعلام عطفت؟ ومثلها في القرآن كثيرٌ بالواو ولا جواب معها ظاهرٌ؟
والمعنى -والله أعلم- على إضمار "واذكروا إذ أنتم" أو "إذ كنتم" فاجتزئ بقوله: "اذكروا" في أوّل الكلام، ثم جاءت "إذ" بالواو مردودةً على ذلك.
ومثله من غير "إذ" قول الله: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} وليس قبله شيء تراه ناصباً لـ"صالح"؛ فعلم بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمرسل إليه أنّ فيه إضمار "أرسلنا"، ومثله قوله: {ونوحاً إذ نادى من قبل}، {وذا النّون إذ ذهب مغاضباً}، {وإبراهيم إذ قال لقومه} يجرى هذا على مثل ما قال في "ص": {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق} ثم ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير "واذكر" لأنّ معناهم متّفق معروفٌ، فجاز ذلك. ويستدل على أنّ "واذكروا" مضمرة مع "إذ" أنه قال: {واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض}، {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم} فلو لم تكن ها هنا "واذكروا" لاستدللت على أنّها تراد؛ لأنّها قد ذكرت قبل ذلك.
ولا يجوز مثل ذلك في الكلام بسقوط الواو إلاّ أن يكون معه جوابه متقدّما أو متأخّرا؛ كقولك: ذكرتك إذ احتجت إليك أو إذ احتجت ذكرتك). [معاني القرآن: 1/35]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فادّارأتم فيها}: اختلفتم فيها، من التدارئ والدرء). [مجاز القرآن: 1/45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ مّا كنتم تكتمون}
أما قوله: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} فإنما هي "فتدارأتم"، ولكن التاء تدغم -أحياناً- كذا في الدال لأن مخرجها من مخرجها، فلما أدغمت فيها حوّلت فجعلت دالا مثلها، وسكنّت فجعلوا ألفاً قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها كما قالوا: "اضرب" فألحقوا الألف حين سكنت الضاد.
ألا ترى أنك إذا استأنفت قلت "ادّارأتم" ومثلها {يذّكّرون} و{تذّكّرون} [و] {أفلم يدّبّروا القول} ومثله في القرآن كثير، وإنما هو "يتدبّرون" فأدغمت التاء في الدال، لأن التاء قريبة المخرج من الدال، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين، ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكل ما قرب مخرجه فافعل به هذا، ولا تقل في "يتنزّلون": "ينّزّلون" لأن النون ليست من حروف الثنايا كالتاء). [معاني القرآن: 1/82]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({فادارأتم فيها} أي: اختلفتم فيها). [غريب القرآن وتفسيره: 74]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فادّارأتم فيها}: اختلفتم، والأصل: تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت الألف ليسلم السكون للدال الأولى، يقال: كان بينهم تدارؤا في كذا، أي: اختلاف.
ومنه قول القائل في رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلم-: «كان شريكي فكان خير شريك؛ لا يماري ولا يداري» أي: لا يخالف).
[تفسير غريب القرآن:54-55]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها واللّه مخرج ما كنتم تكتمون} معناه: فتدارأتم فيها، أي: تدافعتم، أي: ألقى بعضكم على بعض، يقال: "درأت فلانا" إذا دافعته، و"داريته" إذا لاينته، و"درّيته" إذا ختلته، ولكن التاء أدغمت في الدال لأنها من مخرج واحد، فلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل، فتقول: "ادارأ القوم" أي: تدافع القوم.
وقوله عزّ وجلّ: {مخرج ما كنتم تكتمون} الأجود في {مخرجٌ} التنوين؛ لأنه إنما هو لما يستقبل أو للحال، ويجوز حذف التنوين استخفافا فيقرأ(مخرجُ ما كنتم تكتمون)، فإن كان قرئ به وإلا فلا يخالف القرآن كما شرحنا.
وقوله عزّ وجلّ: {إن البقر تشابه علينا} القراءة في هذا على أوجه،
فأجودها والأكثر {تشابه علينا} على فتح الهاء والتخفيف، ويجوز "تشّابه علينا"، و"يشّابه علينا" بالتاء والياء.
وقد قرئ "إن الباقر يشّابه علينا" والعرب تقول في جمع "البقر والجمال": "الباقر والجامل"، يجعلونه اسما للجنس، قال طرفة بن العبد:

وجامل خوّع من نيبه=زجر المعلّى أصلا والسفيح
ويروي "مني به" وهو أكثر الرواية، وليس بشيء، وقال الشاعر:

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا = خلقا كحوض الباقر المتهدم
وما كان مثل بقرة وبقر، ونخلة ونخل، وسحابة وسحاب، فإن العرب تذكره وتؤنثه، فتقول: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل.
فمن ذكّر؛ فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه، فيقال: فتقول هذا جمع، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة، فتقول: هذه جماعة وهذه فرقة، قال اللّه عزّ وجلّ: {ألم تر أنّ اللّه يزجي سحابا ثمّ يؤلّف بينه} فذكر، وواحدته "سحابة"، وقال: {والنخل باسقات} فجمع على معنى جماعة، ولفظها واحد.
فمن قرأ (إن البقر تشابه علينا) فمعناه أن (جماعة البقر تتشابه علينا)، فأدغمت التاء في الشين لقرب مخرج التاء من الشين، ومن قرأ (تشّابه علينا)أراد (تتشابه)، فحذف التاء الثانية لاجتماع تاءين كما قرئ {لعلكم تذكرون}، ومن قرأ (يشّابه علينا) -بالياء- أراد جنس البقر -أيضا-، والأصل (يتشابه علينا)، فأدغم التاء في الشين). [معاني القرآن: 1/153-155]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({فادرأتم}: اختلفتم وتدافعتم. و"الدرء": الدفع). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({فََادَّارَأْتُمْ}: اختلفتم). [العمدة في غريب القرآن: 78]

تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فقلنا اضربوه ببعضها...} يقال: إنه ضرب بالفخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضرب بالذّنب.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {كذلك يحيي اللّه الموتى} معناه -والله أعلم-: {اضربوه ببعضها} فيحيا {كذلك يحيي اللّه الموتى}، أي: اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر "فيحيا"، كما قال: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} والمعنى -والله أعلم-: فضرب البحر فانفلق).
[معاني القرآن: 1/48-49]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فقلنا اضربوه ببعضها} أي: اضربوا القتيل ببعضها، ببعض البقرة.
{ويريكم آياته} أي: عجائبه، ويقال: فلان آية من الآيات، أي: عجب من العجب، ويقال: اجعل بيني وبينك آية، أي: علامة، وآيات بينات، أي: علامات وحجج، و"الآية" من القرآن: كلام متصل إلى انقطاعه). [مجاز القرآن: 1/45]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({ويريكم آياته}: أي عجائبه، يقال: اجعل بيني وبينك آية، أي: علامة، و"الآية" من القرآن: كلام متصل إلى انقطاعه). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فقلنا اضربوه ببعضها} أي: اضربوا القتيل ببعض البقرة.
قال بعض المفسرين: فضربوه بالذّنب. وقال بعضهم: بالفخذ، فحيي). [تفسير غريب القرآن: 55]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({بِبَعْضِهَا} قيل: بالذنب، وقيل: بالفخذ. {آيَاتِهِ}: علاماته). [العمدة في غريب القرآن: 78-79]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار...} تذكير {منه} على وجهين:
إن شئت ذهبت به -يعني "منه"- إلى أن البعض حجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا في المعنى فذكّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربني بعضكنّ.
وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: {ومن يقنت منكنّ للّه} "ومن تقنت" بالياء والتاء، على المعنى، وهي في قراءة أبيّ: "وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منها الأنهار"). [معاني القرآن: 1/49]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قست قلوبكم} أي: جفت، والقاسي: الجافي اليابس). [مجاز القرآن: 1/45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ثمّ قست قلوبكم مّن بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً}، وليس قوله: {أو أشدّ} كقولك: "هو زيدٌ أو عمرو" إنّما هذه {أو} التي في معنى الواو، نحو قولك: "نحن نأكل البرّ أو الشعير أو الأرزّ، كلّ هذا نأكل" فـ{أشدّ} ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو "وهي أشدّ قسوةً".
وقال بعضهم (فهْي كالحجارة) فأسكن الهاء، وبعضهم يكسرها، وذلك أن لغة العرب في "هي" و"هو" ولام الأمر، إذا كان قبلهن واو أو فاء أسكنوا أوائلهن، ومنهم من يدعها، قال: (وَهُوَ اللّه لا إله إلاّ هو) [و] قال: (وَهُوَ العزيز الحكيم). [و] قال: وَ(لِْيَتُوبوا) وقف وكسر. وقال: (فَلِيَعْبُدُوا) وقف وكسر.
باب إنّ وأنّ.
قال: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط} فهذه اللاّم لام التوكيد، وهي منصوبة تقع على الاسم الذي تقع عليه "إنّ" إذا كان بينها وبين "إنّ" حشو نحو هذا، [و] هو مثل: "إنّ في الدار لزيداً"، وتقع أيضاً في خبر "إنّ" وتصرف "إنّ" إلى الابتداء، تقول: "أشهد إنّه لظريفٌ "قال الله عزّ وجل: {واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}، وقال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصّل ما في الصّدور * إنّ ربّهم بهم يومئذٍ لّخبيرٌ}، وهذا لو لم تكن فيه اللام كان "أنّ ربّهم" لأن "أنّ" الثقيلة إذا كانت هي وما عملت فيه بمنزلة "ذاك" أو بمنزلة اسم فهي أبدا "أنّ" مفتوحة، وإن لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم فهي "إنّ" على الابتداء، ألا ترى إلى قوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين}، يقول: "اذكروا هذا" وقال: {فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث}، لأنه يحسن في مكانه "لولا ذاك" وكل ما حسن فيه "ذاك" أن تجعله مكان "أنّ" وما عملت فيه فهو "أنّ"، وإذا قلت {يعلم إنّك لرسوله} لم يحسن أن تقول: "يعلم لذالك"، فإن قلت: اطرح اللام أيضاً وقل "يعلم ذاك"، فاللام ليست مما عملت فيه "إنّ".
وأما قوله: {إلاّ إنّهم ليأكلون الطّعام} فلم تنكسر هذه من أجل اللام، [و] لو لم تكن فيها لكانت "إنّ" أيضاً، لأنه لا يحسن أن تقول "ما أرسلنا قبلك إلاّ ذاك" و"ذاك" هو القصة، قال الشاعر:

ما أعطياني ولا سألتهما = إلاّ وإني لحاجزي كرمي
فلو ألقيت من هذه اللام أيضاً لكانت "أن"، وقال: {ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النّار} كأنه قال: "ذاك الأمر"، وهذا قوله: {وأنّ للكافرين عذاب النّار} تقع في مكانه "هذا"، وقال: {ذلكم وأنّ اللّه موهن كيد الكافرين} كأنه على جواب من قال: "ما الأمر"؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون: "ذلكم" كأنه قال: "ذلكم الأمر وأنّ اللّه موهن كيد الكافرين" فحسن أن يقول: "ذلكم" و"هذا"، وتضمر الخبر أو تجعله خبر مضمر.
وقال: {إنّ لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى} لأنه يجوز أن تقول: "إنّ لك ذاك" و"هذا" وهذه الثلاثة الأحرف يجوز فيها كسر "إنّ" على الابتداء، {فنادته الملائكة.. أنّ اللّه يبشّرك} فيجوز أن تقول: "فنادته الملائكة بذاك" وإن شئت رفعته على الحكاية كأنه يقول: (فنادته الملائكة فقالت: "إنّ اللّه يبشّرك") لأنّ كلّ شيء بعد القول حكاية، تقول: (قلت: "عبد اللّه منطلقٌ") و(قلت: "إنّ عبد اللّه زيداً منطلقٌ") إلاّ في لغة من أعمل القول من العرب كعمل الظن، فذاك ينبغي [له] أن يفتح "أنّ".
وقال: {إنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً} فيزعمون أنّ هذا "ولأنّ هذه أمّتكم أمّةٌ واحدةٌ وأنا ربّكّم فاتّقون" يقول: "فاتّقون لأنّ هذه أمّتكم"، وهذا يحسن فيه كَذَاكَ، فإن قلت: "كيف تلحق اللام ولم تكن في الكلام"؟
فإن طرح اللام وأشباهها من حروف الجرّ من "أنّ" حسن ألا تراه يقول "أشهد أنّك صادقٌ" وإنّما هو "أشهد على ذلك".
وقال: {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً} يقول: "فلا تدعوا مع الله أحدا لأنّ المساجد لله"، وفي هذا الإعراب ضعف، لأنه عمل فيه ما بعده، أضافه إليه بحرف الجر، ولو قلت "أنّك صالحٌ بلغني" لم يجز، وإن جاز في "ذلك"، لأنّ حرف الجر لما تقدم ضميره قوي، وقد قرئ مكسورا، قال بعضهم: إنّما هذا على {أوحي إليّ أنّه استمع نفرٌ مّن الجنّ} و"أوحي إلي أنّ المساجد للّه" و"أوحي إليّ أنه لمّا قام عبد اللّه"، وقد قرئ {وأنّه تعالى جدّ ربّنا} ففتح كل "أن" يجوز فيه على الوحي، وقال بعضهم (وإنّه تعالى جدّ ربّنا) فكسروها من قول الجن، فلما صار بعد القول صار حكاية وكذاك ما بعده مما هو من كلام الجن.
وأما "إنّما" فإذا حسن مكانها "أنّ" فتحتها، وإذا لم تحسن كسرتها، قال: {إنّما أنا بشرٌ مّثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحدٌ} فالآخرة يحسن مكانها "أنّ" فتقول: "يوحى إليّ أنّ إلهكم إلهٌ واحد"، قال الشاعر:

أراني -ولا كفران للّه- إنّما = أواخي من الأقوام كلّ بخيل
لأنّه لا يحسن ههنا "أنّ" [فـ] لو قلت: "أراني أنما أواخي من الأقوام" لم يحسن. وقال:

أبلغ الحارث بن ظالم المو = عد والناذر النّذور عليّا
أنّما تقتل النّيام، ولا تقـ = ـتل يقظان ذا سلاحٍ كميّا
فحسن أن تقول: "أنّك تقتل النّيام".
وأمّا قوله عز وجل: {أيعدكم أنّكم إذا متٌّم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مّخرجون} فالآخرة بدلٌ من الأولى.
وأمّا "إن" الخفيفة فتكون في معنى "ما" كقول الله عز وجل: {إن الكافرون إلاّ في غرورٍ} أي: ما الكافرون، وقال: {إن كان للرّحمن ولدٌ} أي: ما كان للرحمن ولد، {فأنا أول العابدين} من هذه الأمة للرّحمن، بنفي الولد عنه، أي: أنا أول العابدين بأنّه ليس للرحمن ولد، وقال بعضهم (فأنا أول العبدين) يقول: "أنا أول من يغضب من ادّعائكم للّه ولدا"، ويقول: "عبد يعبد عبدا" أي: غضب.
وقال: {وتظنّون إن لّبثتم إلاّ قليلاً} فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى "ما"، وكذلك {ولقد مكّناهم فيما إن مّكّنّاكم فيه} فـ"إن" بمنزلة "ما"، و"ما" التي قبلها بمنزلة "الذي"، ويكون للمجازاة نحو قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}، {وإن تعفوا وتصفحوا}، وتزاد "إن" مع "ما"، يقولون: "ما إن كان كذا وكذا" أي: "ما كان كذا وكذا"، و"ما إن هذا زيدٌ"، ولكنها تغير "ما" "فلا ينصب بها الخبر، وقال الشاعر:

وما إن طبنا جبنٌ ولكن = منايانا وطعمة آخرينا
وتكون خفيفة في معنى الثقيلة، وهي مكسورة ولا تكون إلاّ وفي خبرها اللام، يقولون: "إن زيدٌ لمنطلقٌ" ولا يقولونه بغير لام مخافة أن تلتبس بالتي معناها "ما".
وقد زعموا أن بعضهم يقول: "إن زيداً لمنطلقٌ" يعملها على المعنى وهي مثل {إن كلّ نفسٍ لّمّا عليها حافظٌ} يقرأ بالنصب والرفع، و"ما" زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد وهي التي في قوله: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} ولكنها إنما وقعت على الفعل حين خففت كما تقع "لكن" على الفعل إذا خففت. ألا ترى أنك تقول: "لكن قد قال ذاك زيد" ولم يعرّوها من اللام في قوله: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} وعلى هذه اللغة فيما نرى -والله أعلم- {إن هذان لساحران} وقد شددها قوم فقالوا (إنّ هذان)، وهذا لا يكاد يعرف إلا أنهم يزعمون أن بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا فيقولون: "رأيت أخواك" و"رأيت الرجلان" و"أوضعته علاه" و"ذهبت إلاه" فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ، وزعم أبو زيد أنه سمع أعرابياً فصيحا من بلحارث يقول: "ضربت يداه" و"وضعته علاه" يريد: يديه وعليه. وقال بعضهم (إنّ هذين لساحران) وذلك خلاف الكتاب، قال الشاعر:

طاروا عليهن فشلٌ علاها
=
واشدد بمثنى حقبٍ حقواها
=
ناجيةً وناجياً أباها
وأمّا "أن" الخفيفة فتكون زائدةً مع "فلمّا" و"لمّا"، قال: {فلمّا أن جاء البشير} وإنما هي "فلمّا جاء البشير"، وقال: {ولمّا جاءت رسلنا} يقول "ولمّا جاءت"، وتزاد أيضاً مع "لو" يقولون: "أن لو جئتني كان خيراً لك" يقول "لو جئتني".
وتكون في معنى "أي" قال: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} يقول "أي امشوا".
وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله: {أن الحمد للّه} و{أنّ لعنة اللّه عليه} على قولك "أنه لعنة اللّه" و"أنه الحمد للّه"، وهذه بمنزلة قوله: {أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً} [و] {وحسبوا ألاّ تكون فتنةٌ} ولكن هذه إذا خففت وهي إلى جنب الفعل لم يحسن إلا "إن" معها "لا" حتى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار، ولا تعوض "لا" في قوله: {أن الحمد للّه} لأنها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم، وعوّضتها "لا" إذا كانت مع الفعل لأنهم أرادوا أن يبيّنوا أنها لا تعمل في هذا المكان وأنها ثقيلة في المعنى، وتكون "أن" الخفيفة تعمل في الفعل وتكون هي والفعل اسما للمصدر، نحو قوله: {على أن نّسوّي بنانه} إنما هي "على تسوية بنانه"). [معاني القرآن: 1/83-89]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({قست قلوبكم}: جفت وعست، و"عتتت" مثلها). [غريب القرآن وتفسيره: 74]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ثمّ قست قلوبكم} أي: اشتدت وصلبت). [تفسير غريب القرآن: 55]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافل عمّا تعملون}
تأويل {قست} في اللغة: غلظت ويبست وصلبت، فتأويل القسو في القلب: ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه.
ومعنى {من بعد ذلك} أي: من بعد إحياء الميت لكم بعضو من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها -فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزّ وجلّ ما يزيل كل شك- أن يلين قلبه ويخضع،
ويحتمل أن يكون {من بعد ذلك} من بعد إحياء الميت والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير، ونحو رفع الجبل فوقهم، ونحو انبجاس الماء من حجر يحملونه معهم، وإنما جاز ذلك وهؤلاء الجماعة مخاطبون، ولم يقل "ذلكم" -ولو قال "ذلكم" كان جيدا- وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد "ذلك" وبعد "ذلكم"؛ لأن الجماعة تؤدي عن لفظها: الجميع والفريق، فالخطاب في لفظ واحد، ومعنى جماعة.
وقوله عزّ وجلّ: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة} وقد روي (أو أشدَّ قسوة) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد بيناه، ودخول "أو" ههنا لغير معنى الشك، ولكنها (أو) التي تأتي للإباحة، تقول: الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن أو ابن سيرين، فلست بشاك، وإنما المعنى ههنا: هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم، فإن أخذته عن الحسن فأنت مصيب، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب، وإن أخذته عنهما جميعا فأنت مصيب، فالتأويل: اعلموا أن قلوب هؤلاء إن شبهتم قسوتها بالحجارة فأنتم مصيبون أو بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون (أو) ههنا بمعنى الواو.
وكذلك قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا... أو كصيّب} أي: إن مثلتهم بالمستوقد فذلك مثلهم، وإن مثلتهم بالصيّب فهو لهم مثل، وقد شرحناه في مكانه شرحا شافيا كافيا إن شاء اللّه.
فمن قرأ {أشد قسوة} رفع أشد بإضمار "هي" كأنّه قال: أو هي أشد قسوة، ومن نصب (أو أشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف. ولكن "أشد" أفعل لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل، وهو نعت ففتح وهو في موضع جر.
ويجوز في قوله تعالى {فهي كالحجارة}: (فهْي كالحجارة) -بإسكان الهاء-، لأن الفاء مع هي قد جعلت الكلمة بمنزلة (فخذ)، فتحذف الكسرة استثقالا، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في "هي" الإسكان في الياء من (هي) ولا أعلم أحدا قرأ بها، وهي عندي لا يجوز إسكانها ولا إسكان الواو في هو، لا يجوز "هو ربكم" وقد روى الإسكان بعض النحويين وهو رديء لأن كل مضمر فحركته -إذا انفرد- الفتح، نحو (أنا ربكم)، فكما لا تسكن نون أنا لا تسكن هذه الواو.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار} بين عزّ وجلّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة، وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار، ومنها ما يشّقّق فيخرج منه الماء يعني: العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهارا، ومنها ما يهبط من خشية الله، فقالوا: إن الذي يهبط من خشية الله نحو الجبل الذي تجلى اللّه له حين كلم موسى عليه السلام، وقال قوم: إنها أثر الصنعة التي تدل على أنّها مخلوقة، وهذا خطأ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها وإنما الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزّ وجلّ: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية اللّه}، وكما قال: {ألم تر أنّ اللّه يسجد له من في السّماوات}، ثم قال: {والنّجوم والجبال} فأعلم أن ذلك تمييز أراد اللّه منها، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب}، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره).
[معاني القرآن: 1/155-158]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({قست قلوبكم} أي: اشتدت وصلبت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({قَسَتْ}: صلبت). [العمدة في غريب القرآن: 79]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:32 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 75 إلى 86]

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

تفسير قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} هذه الألف ألف استخبار، وتجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار والنهي إذا لم يكن معها نفي، كأنّه أيئسهم من الطمع في إيمان هذه الفرقة من اليهود، فإذا كان في أول الكلام نفي، فإنكار النفي تثبيت، نحو قوله عزّ وجلّ: {ألم يأتكم نذير * قالوا بلى}،
فجواب {أفتطمعون} "لا" كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه} يروي في التفسير أنهم سمعوا كلام اللّه لموسى -عليه السلام- فحرفوه فقيل في هؤلاء الذين شاهدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كفروا وحرفوا، فلهم سابقة في كفرهم). [معاني القرآن: 1/158]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم...} هذا من قول اليهود لبعضهم؛ أي: لا تحدّثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- في التوراة وأنتم لا تؤمنون به، فتكون لهم الحجة عليكم، {أفلا تعقلون}.
قال الله: {أولا يعلمون أنّ اللّه يعلم ما يسرّون وما يعلنون} هذا جوابهم من قول الله). [معاني القرآن: 1/50]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم} أي: بما منّ الله عليكم، وأعطاكم دونهم).[مجاز القرآن: 1/45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون}
المعنى: أتخبرونهم بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره موجود في كتابكم وصفته.
{ليحاجّوكم به عند ربّكم} أي: لتكون لهم الحجة في إيمانهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عليكم، إذ كنتم مقرّين به تخبرون بصحة أمره من كتابكم فهذا بين حجته عليكم عند اللّه.
{أفلا تعقلون} أي: أفلا تعقلون حجة الله عليكم في هذا). [معاني القرآن: 1/158-189]

تفسير قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}

تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم...}
فـ"الأمانيّ " على وجهين في المعنى، ووجهين في العربية؛
فأما في العربية؛ فإنّ من العرب من يخفّف الياء فيقول: "إلاّ أماني وإن هم" ومنهم من يشدّد، وهو أجود الوجهين.
وكذلك ما كان مثل "أمنيّة"، ومثل "أضحيّة"، و"أغنيّة"، ففي جمعه وجهان: التخفيف والتشديد، وإنما تشدّد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشدّدة لاجتماع الياء من جمع الفعل والياء الأصلي، وإن خفّفت حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القراقير والقراقر، فمن قال (الأماني) بالتخفيف فهو الذي يقول القراقر، ومن شدّد (الأمانيّ) فهو الذي يقول القراقير.
والأمنيّة في المعنى: التلاوة، كقول الله عزّ وجلّ: {إلاّ إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} أي: في تلاوته، والأمانيّ -أيضا-: أن يفتعل الرجل الأحاديث المفتعلة؛ قال بعض العرب لابن دأب وهو يحدّث الناس: أهذا شيء رويته أم شيء تمنّيته؟ يريد: افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب الله، وهذا أبين الوجهين). [معاني القرآن: 1/49-50]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم إلاّ يظنّون}
باب من الاستثناء.
{ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ} منصوبة لأنه مستثنى ليس من أول الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى "لكن" خارجا من أول الكلام إنما يريد "لكن أمانيّ" و"لكنّهم يتمنّون"، وإنما فسرناه بـ"لكن" لنبين خروجه من الأول، ألا ترى أنك إذا ذكرت "لكن" وجدت الكلام منقطعاً من أوله، ومثل ذلك في القرآن كثير [منه قوله عز وجل] {وما لأحدٍ عنده من نّعمةٍ تجزى * إلاّ ابتغاء وجه ربّه} وقال: {ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ} وقال: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلاً} يقول: "فهلاّ كان منهم من ينهى"، ثم قال: "ولكن قليلاً منهم من ينهى"، ثم قال "ولكن قليلٌ منهم قد نهوا"، فلما جاء مستثنى خارجاً من الأول انتصب، ومثله {فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس} يقول: "فهلاّ كانت"، ثم قال: "ولكنّ قوم يونس" فـ"إلا" تجيء في معنى "لكنّ"، وإذا عرفت أنها في معنى "لكنّ" فينبغي أن تعرف خروجها من أوله، وقد يكون {إلاّ قوم يونس} رفعا، تجعل "إلاّ" وما بعده في موضع صفة بمنزلة "غير" كأنه قال: "فهلا كانت قريةٌ آمنت غير قرية قوم يونس"، ومثلها {لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ اللّه لفسدتا} فقوله: {إلاّ اللّه} صفة [و] لولا ذلك لانتصب، لأنه مستثنى مقدم يجوز إلقاؤه من الكلام، وكل مستثنى مقدم يجوز إلقاؤه من الكلام نصب، وهذا قد يجوز إلقاؤه [فـ] لو قلت "لو كان فيهما آلهةٌ لفسدتا" جاز، فقد يجوز فيه النصب ويكون مثل قوله "ما مرّ بي أحدٌ إلاّ زيداً مثلك"، قال الشاعر فيما هو صفة:


أنيخت فألقت بلدةً فوق بلدةٍ = قليلٌ بها الأصوات إلاّ بغامها
وقال:

وكلّ أخٍ مفارقه أخوه = لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومثل المنصوب الذي في معنى "لكن" قول الله عز وجل: {وإن نّشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلاّ رحمةً مّنّا} وهو في الشعر كثير وفي الكلام، قال الفرزدق:

وما سجنوني غير أني ابن غالب = وأني من الأثرين غير الزعانف
يقول: "ولكنّني"، وهو مثل قولهم: "ما فيها أحدٌ إلا حماراً" لما كان ليس من أول الكلام جعل على معنى "لكنّ" ومثله:

ليس بيني وبين قيسٍ عتاب = غير طعن الكلا وضرب الرقاب
وقوله:

حلفت يميناً غير ذي مثنويّةٍ = ولا علم إلاّ حسن ظنٍّ بغايب
وبصاحب.
باب الجمع.
وأمّا تثقيل {الأمانيّ} فلأن واحدها "أمنيّة" مثقّل، وكلّ ما كان واحده مثقلا مثل: "بختيّة" و"بخاتيّ" فهو مثقّل، وقد قرأ بعضهم (إلاّ أماني) فخفف، وذلك جائز لأن الجمع على غير واحده وينقص منه ويزاد فيه، فأما "الأثافي" فكلّهم يخفّفها وواحدها "أثفيّة" مثقّلة، وإنما خففوها لأنهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا، وتثقيلها في القياس جائز، ومثل تخفيف "الأماني" قولهم: "مفتاح" و"مفاتح" وفي "معطاء": "معاطٍ"،
قال الأخفش: قد سمعت بلعنبر تقول: "صحاري" و"معاطيّ" فتثقل.
وقوله: {وإن هم إلاّ يظنّون} أي: فماّ هم إلاّ يظنّون). [معاني القرآن: 1/89-91]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({الأماني} الأمنية في المعنى: التلاوة، ويقال للحديث: المفتعل، قيل لبعضهم في حديث: تمنيته أم حديث رويته؟ أي: افتعلته). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ} أي: لا يعلمون الكتاب إلّا أن يحدثهم كبراؤهم بشيء، فيقبلونه ويظنون أنه الحق وهو كذب، ومنه قول عثمان -رضي اللّه عنه-: «ما تغنّيت ولا تمنّيت» أي: ما اختلقت الباطل.
وتكون الأمانيّ: التّلاوة، قال اللّه عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} يريد: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
يقول: فهم لا يعلمون الكتاب إلّا تلاوة ولا يعلمون به، وليسوا كمن يتلوه حقّ تلاوته، فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه).
[تفسير غريب القرآن:55-56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ وإن هم إلّا يظنّون}
معنى "الأمّي" في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلّة أمّته، أي: لا يكتب فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه، وارتفع {أمّيّون} بالابتداء و{منهم} الخبر، ومن قول الأخفش يرتفع {أمّيّون} بفعل "هم"، كان المعنى: واستقر منهم أمّيّون.
ومعنى {إلّا أمانيّ} قال الناس في معناه قولين:
قالوا: معناه: لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، كما قال عزّ وجلّ: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وقد قيل: الأماني أكاذيب العرب، تقول أنت إنما تتمنى هذا القول، أي: تختلقه.
ويجوز أن يكون أماني منسوبا إلى القائل إذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه، وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حقيقة له وهو يحبه: هذا منى، وهذه أمنية.
وفي لفظ أماني وجهان:
العرب تقول هذه أمان وأمانيّ يا هذا، بالتشديد والتخفيف، فمن قال (أمانيّ) بالتشديد فهو مثل أحدوثة وأحاديث، وقرقورة وقراقير، ومن قال (أمان) بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياء.
والعرب تقول في أثفية أثافيّ وأثاف، والتخفيف أكثر لكثرة استعمالهم أثاف، والأثافي: الأحجار التي تجعل تحت القدر). [معاني القرآن: 1/159-190]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (و"الأماني": التلاوة). [ياقوتة الصراط: 175]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({إلا أماني} إلا أباطيل وأكاذيب، قال عثمان رضي الله عنه: "ما تمنيت منذ أسلمت" أي: ما كذبت.
أي: لا يعلمون الكتاب إلا أن يحدثهم كبراؤهم بشيء فيقبلونه ويظنون أنه الحق وهو باطل كذب.
(الأماني) في غير هذه: التلاوة، وكقوله تعالى: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أي: تلاوته). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("الأمنية": التلاوة). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({فويلٌ لّلّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لّهم مّمّا كتبت أيديهم وويلٌ لّهم مّمّا يكسبون}
{فويلٌ لّلّذين يكتبون الكتاب} يرفع "الويل" لأنه اسم مبتدأ جعل ما بعده خبره، وكذلك "الويح و"الويل" و"الويس" إذا كانت بعدهنّ هذه اللام ترفعهن، وأما "التعس" و"البعد" وما أشبههما فهو نصب أبدا، وذلك أنّ كل ما كان من هذا النحو تحسن إضافته بغير لام فهو رفع باللام، ونصب بغير لام، نحو: {ويلٌ لّلمطفّفين} و"ويلٌ لزيدٍ"، ولو ألقيت اللام قلت: "ويل زيدٍ" و"ويح زيدٍ" و"ويس زيدٍ"، فقد حسنت إضافته بغير لام فلذلك رفعته باللام مثل: {ويلٌ يومئذٍ لّلمكذّبين}.
وأما قوله: {ألا بعداً لّمدين} و{ألا بعداً لّثمود} و{والّذين كفروا فتعساً لّهم} فهذا لا تحسن إضافته بغير لام، ولو قلت: "تعسهم" أو "بعدهم" لم يحسن، وانتصاب هذا كله بالفعل، كأنك قلت: "أتعسهم اللّه تعساً" و"أبعدهم اللّه بعدا"، وإذا قلت: "ويل زيدٍ" فكأنك قلت: "ألزمه اللّه الويل"، وأما رفعك إياه باللام؛ فإنما كان لأنك جعلت ذلك واقعا واجبا لهم في الاستحقاق، ورفعه على الابتداء، وما بعده مبني عليه، وقد ينصبه قوم على ضمير الفعل وهو قياس حسن، فيقولون: "ويلاً لزيد" و"ويحاً لزيد"، قال الشاعر:

كسا اللؤم تيماً خضرةً في جلودها = فويلاً لتيمٍ من سرابيلها الخضر
قال الأخفش: "حدثني عيسى بن عمر أنه سمع الأعراب ينشدونه هكذا بالنصب، ومنهم من يرفع ما ينصب في هذا الباب، قال أبو زبيد:

أغار وأقوى ذات يومٍ وخيبةٌ = لأوّل من يلقى غيٌ ميسّر
باب اللام.
وقوله: {ليشتروا به ثمناً قليلاً} فهذه اللام إذا كانت في معنى "كي" كان ما بعدها نصبا على ضمير "أن"، وكذلك المنتصب بـ"كي" هو أيضاً على ضمير "أن" كأنه يقول: "الاشتراء"، فـ"يشتروا" لا يكون اسما إلا بـ"أن"، فـ"أن" مضمرة وهي الناصبة وهي في موضع جر باللام. وكذلك {كي لا يكون دولةً} "أن" مضمرة وقد جرتها "كي"، وقالوا: "كيمه" فـ"مه" اسم لأنه "ما" التي في الاستفهام وأضاف "كي" إليها، وقد تكون "كي" بمنزلة "أن" هي الناصبة وذلك قوله: {لّكيلا تأسوا} فأوقع عليها اللام، ولو لم تكن "كي" وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام وكذلك ما انتصب بعد "حتّى" إنّما انتصب بمضمر "أن" قال: {حتّى يأتي وعد اللّه} و{حتّى تتّبع ملّتهم} إنّما هو "حتّى أن يأتي " و"حتّى أن تتّبع"، وكذلك جميع ما في القرآن من "حتّى"، وكذلك {وزلزلوا حتّى يقول الرّسول} أي: "حتّى أن يقول"، لأنّ "حتّى" في معنى "إلىّ"، تقول "أقمنا حتّى الليل" أي: "إلى اللّيل".
فإن قيل: إظهار "أن" ههنا قبيح؛ قلت: "قد تضمر أشياء يقبح إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها"، ألا ترى أنّ قولك: "إن زيداً ضربته" منتصب بفعل مضمر لو أظهرته لم يحسن، وقد قرئت هذه الآية (وزلزلوا حتّى يقولُ الرّسولُ) يريد: "حتّى الرّسول قائلٌ"، جعل ما بعد "حتّى" مبتدأ، وقد يكون ذلك نحو قولك: "سرت حتّى أدخلها" إذا أردت: "سرت فإذا أنا داخلٌ فيها"، و"سرت أمس حتّى أدخلها اليوم" أي: حتّى "أنا اليوم أدخلها فلا أمنع"، وإذا كان غاية للسير نصبته، وكذلك ما لم يجب مما يقع عليه "حتّى" نحو: {لا أبرح حتّى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقباً}.
وأما {ولن يخلف اللّه وعده} فنصب بـ"لن" كما نصب بـ"أن"، وقال بعضهم: إنما هي "أن" جعلت "لا" كأنه يريد "لا أن يخلف اللّه وعده" فلما كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميع "لن" في القرآن.
وينبغي لمن قال ذلك القول أن يرفع "أزيدٌ لن تضرب" لأنه في معنى "أزيد لا ضرب له"، وكذلك ما نصب بـ"إذن" تقول: "إذن آتيك" تنصب بها كما تنصب بـ"أن" وبـ"لن" فإذا كان قبلها الفاء أو الواو رفعت نحو قول الله عز وجل: {وإذاً لاّ تمتّعون إلاّ قليلاً} وقال: {فإذاً لاّ يؤتون النّاس نقيراً} وقد يكون هذا نصبا أيضاً عنده على إعمال "إذن"، وزعموا أنّه في بعض القراءة منصوب؛ وإنّما رفع لأنّ معتمد الفعل صار على الفاء والواو ولم يحمل على "إذن"، فكأنه قال: "فلا يؤتون الناس إذا نقيرا" [و] "ولا تمتّعون إذن"، وقوله: {لّئلاّ يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيءٍ} [و] {وحسبوا أن لا تكون فتنةٌ} و{أن لا يرجع إليهم قولاً} فارتفع الفعل بعد "أن لا" لأنّ ["أن"] هذه مثقّلة في المعنى، ولكنها خففت وجعل الاسم فيها مضمرا، والدليل على ذلك أنّ الاسم يحسن فيها والتثقيل، ألا ترى أنّك تقول "أفلا يرون أنّه لا يرجع إليهم"، وتقول: "أنّهم لا يقدرون على شيء" [و] "أنّه لا تكون فتنة". وقال: {آيتك أن لا تكلّم الناس} نصب لأن هذا ليس في معنى المثقّل، إنما هو {آيتك أن لا تكلّم} كما تقول: (آيتك أن تكلّم) وأدخلت "لا" للمعنى الذي أريد من النفي، ولو رفعت هذا جاز على معنى (آيتك أنك لا تكلم)، ولو نصب الآخر جاز على أن تجعلها "أن" الخفيفة التي تعمل في الأفعال، ومثل ذلك {إنّه ظنّ أن لّن يحور} وقال: {تظنّ أن يفعل بها فاقرةٌ} وقال: {إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه} وتقول: "علمت أن لا تكرّمني" و"حسبت أن لا تكرمني"، فهذا مثل ما ذكرت لك، فإنما صار "علمت" و"استيقنت" ما بعده رفع لأنه واجب، فلما كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده "أن" التي تعمل في الأفعال، لأن تلك إنما تكون في غير الواجب، ألا ترى أنك تقول "أريد أن تأتيني" فلا يكون هذا إلا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنه، وأما "خشيت أن لا تكرمني" فهذا لم يقع، ففي مثل هذا تعمل "أن" الخفيفة، ولو رفعته على أمر قد استقر عندك وعرفته كأنك جريته فكان لا يكرمك فقلت: "خشيت أن لا تكرمني" أي: "خشيت أنّك لا تكرمني" جاز.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان "كي" وأنشدوا هذا البيت، فزعم أنه سمعه مفتوحا:

يؤامرني ربيعة كلّ يومٍ = لأهلكه وأقتني الدّجاجا
وزعم خلف أنها لغة لبني العنبر وأنه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا:

فقلت لكلبيّي قضاعة إنّما = تخبّر تماني أهل فلجٍ لأمنعا
يريد "من أهل فلجٍ".
وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أن أصل اللام الفتح وإنما كسرت في الإضافة ليفرق بينها وبين لام الابتداء.
وزعم أبو عبيدة أنه سمع لام "لعلّ" مفتوحة في لغة من يجرّبها ما بعدها في قول الشاعر:

لعلّ اللّه يمكنني عليها = جهاراً من زهيرٍ أو أسيد
يريد "لعلّ عبد اللّه" فهذه اللام مكسورة لأنها لام إضافة.
وقد زعم أنه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام "كي"، وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد "كيما" وأنشد:

إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما = يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع
فهذا جعل "ما" اسما وجعل "يضرّ" و"ينفع" من صلته جعله اسما للفعل وأوقع "كي" عليه وجعل "كي" بمنزلة اللام.
وقوله: {ألم يعلموا أنّه من يحادد اللّه ورسوله فأنّ له نار جهنّم}، وقوله: {أنّه من عمل منكم سوءًا بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفورٌ رّحيمٌ} فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة "ما" ويكون الذي بعد الفاء بدلا من "أن" التي قبلها، وأجوده أن تكسر "إن" وأن تجعل الفاء جواب المجازاة، وزعموا أنهم يقولون "أخوك فوجد" "بل أخوك فجهد" يريدون "أخوك وجد" و"بل أخوك جهد" فيزيدون الفاء، وقد فسر الحسن {حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها} على حذف الواو، وقال: "معناها: قال لهم خزنتها"، فالواو في هذا زائدة، قال الشاعر:

فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن = إلاّ كلمّة حالمٍ بخيال
وقال:

فإذا وذلك ليس إلاّ حينه = وإذا مضى شيءٌ كأن لم يفعل
كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير). [معاني القرآن: 1/92-96]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فويلٌ للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه} أي: يزيدون في كتب اللّه ما ليس منها، لينالوا بذلك غرضا حقيرا من الدنيا). [تفسير غريب القرآن: 56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون}
"الويل" في اللغة: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصله في العذاب والهلاك، وارتفع "ويل" بالابتداء، وخبره {للّذين}، ولو كان في غير القرآن لجاز (فويلا للذين) على معنى: جعل الله ويلا للذين، والرفع على معنى: ثبوت الويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا.
يقال: إن هذا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كتبوا صفته على غير ما كانت عليه في التوراة،
ويقال في التفسير: إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة، فبدّلوا فألزمهم الله الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك، لأنهم أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا). [معاني القرآن: 1/160]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {إلاّ أيّاماً مّعدودةً...}
يقال: كيف جاز في الكلام: لآتينك أياما معدودة، ولم يبين عددها؟
وذلك أنهم نووا الأيام التي عبدوا فيها العجل، فقالوا: لن نعذّب في النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل، فلما كان معناها مؤقّتا معلوما عندهم وصفوه بـ"معدودة" و"معدودات"، فقال الله: قل يا محمد: هل عندكم من الله عهدٌ بهذا الذي قلتم {أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون}). [معاني القرآن: 1/50]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({اتخذتم عند الله عهداً} أي: وعداً، والميثاق: العهد يوثق له). [مجاز القرآن: 1/45]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({عند الله عهدا} أي: وعدا). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وقالوا لن تمسّنا النّار إلّا أيّاماً معدودةً} قالوا: إنما نعذّب أربعين يوما قدر ما عبد أصحابنا العجل.
{قل أتّخذتم عند اللّه عهداً} أي أتخذتم بذلك من اللّه وعدا؟). [تفسير غريب القرآن: 56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة قل أتّخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون}
{تمسنا} نصب بـ{لن}، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ"لن".
فروي عن الخليل قولان؛
أحدهما: أنها نصبت كما نصبت "أن" وليس ما بعدها بصلة لها، لأن "لن يفعل"، نفي "سيفعل" فقدم ما بعدها عليها، نحو قولك: زيدا لن أضرب، كما تقول: زيدا لم أضرب،
وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل أنه قال: الأصل في "لن": "لا أن"، ولكن الحذف وقع استخفافا، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد، لو كان كذلك لم يجز (زيدا لن أضرب)، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين، وقد حكى هشام عن الكسائي في "لن" مثل هذا القول الشاذ عن الخليل، ولم يأخذ به سيبويه ولا أصحابه.
ومعنى {أيّاما معدودة} قالوا: إنّما نعذّب لأننا عبدنا العجل أياما، قيل في عددها قولان، قيل: سبعة أيام، وقيل: أربعون يوما، وهذه الحكاية عن اليهود، هم الذين قالوا: {لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة}.
وقوله عزّ وجلّ: {قل أتّخذتم عند اللّه عهدا} بقطع الألف هي تقرأ على ضربين: {أتخذتم} بتبيين الذال، و(اتختم) بإدغام الذال في التاء، والألف قطع لأنها ألف استفهام وتقرير.
وقوله عزّ وجلّ: {عند اللّه عهدا} المعنى: عهد اللّه إليكم في أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار.
وقوله عزّ وجلّ: {فلن يخلف اللّه عهده} أي: إن كان لكم عهد فلن يخلفه اللّه، {أم تقولون على الله ما لا تعلمون}). [معاني القرآن: 1/160-161]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({إلا أياما معدودة} قالوا: نعذب قدر ما عبدنا العجل، أربعين يوما.
وقيل: قالوا: إنما نعذب سبعة أيام، لكل ألف سنة من سني الدنيا يوم، وعمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({عَهْداً}: وعدا). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {بلى من كسب سيّئةً...}
وضعت "بلى" لكل إقرار في أوّله جحد، ووضعت "نعم" للاستفهام الذي لا جحد فيه، فـ"بلى" بمنزلة "نعم" إلا أنها لا تكون إلاّ لما في أوّله جحد؛ قال الله تبارك وتعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً قالوا نعم} فـ"بلى" لا تصلح في هذا الموضع.
وأما الجحد فقوله: {ألم يأتكم نذيرٌ. قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ} ولا تصلح ها هنا "نعم" أداة؛ وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب بـ "نعم" و"لا" ما لم يكن فيه جحدٌ، فإذا دخل الجحد في الاستفهام لم يستقم أن تقول فيه "نعم" فتكون كأنك مقرٌّ بالجحد وبالفعل الذي بعده؛ ألا ترى أنّك لو قلت لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلت: "نعم" كنت مقرّاً بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت :"نعم مالي مالٌ"، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما بعده فاختاروا "بلى" لأنّ أصلها كان رجوعا محضاً عن الجحد إذا قالوا: ما قال عبد الله بل زيدٌ، فكانت "بل" كلمة عطف ورجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فقالوا: "بلى"، فدلّت على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ "بل" على الرجوع عن الجحد فقط). [معاني القرآن: 1/52-53]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ثم قال عزّ وجلّ: {بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} ردا لقولهم: {لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة}.
وقوله عزّ وجلّ: {وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} فألحق في هذه الآية، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزّ وجلّ في ذكرهم،
وقد قيل: {من كسب سيئة}: الشرك باللّه، {وأحاطت به خطيئته}: الكبائر، والذي جرى في هذه الأقاصيص إنما هو إخبار عن اليهود).
[معاني القرآن: 1/162]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه...}
رفعت {تعبدون} لأنّ دخول "أن" يصلح فيها، فلمّا حذف الناصب رفعت، كما قال الله: {أفغير اللّه تأمرونّي أعبد} (قرأ الآية)، وكما قال: {ولا تمنن تستكثر}، وفي قراءة عبد الله "ولا تمنن أن تستكثر" فهذا وجهٌ من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت، وفي قراءة أبيّ: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا" ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين، ألا ترى أنه قد قال: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون في الكلام أن تقول: واللّه قم، ولا أن تقول: والله لا تقم، ويدلّ على أنه نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وقولوا للنّاس حسناً} كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا، وإن شئت جعلت {لا تعبدون} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد.
وإنّما جاز أن تقول (لا يعبدون) و(لا تعبدون) وهم غيّبٌ، كما قال: "قل للّذين كفروا سيغلبون" و"ستغلبون" بالياء والتاء؛ "سيغلبون" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين، وكذلك قولك: استحلفت عبد الله ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفته لتقومنّ، لأني قد كنت خاطبته، ويجوز في هذا: استحلفت عبد الله لأقومنّ؛ أي: قلت له احلف لأقومنّ، كقولك: قل لأقومنّ، فإذا قلت: استحلفت، فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعله أن يكون بالياء والتاء والألف، وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك: حلف عبد الله ليقومنّ فلم يقم، وحلف عبد الله لأقومنّ؛ لأنهّ كقولك: قال لأقومنّ، ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلفٌ سقط الخطاب.
وقوله: {قالوا تقاسموا باللّه لنبيّننّه وأهله} فيها ثلاثة أوجهٍ: "لتبيّتنّه" و"ليبيّتنّه" و"لنبيّتنّه" بالتاء والياء والنون، إذا جعلت "تقاسموا" على وجه فعلوا، فإذا جعلتها في موضع جزمٍ قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنكّ تقول للرجل: احلف لتقومنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ، ولا يجوز أن تقول للرّجل: احلف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما في اليمين). [معاني القرآن: 1/53-45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً مّنكم وأنتم مّعرضون}
قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} وقوله: {وبالوالدين إحساناً} فجعله أمراً، كأنّه يقول: "وإحساناً بالوالدين" أي: "أحسنوا إحسانا".
وقال: {وقولوا للنّاس حسناً} فهو على أحد وجهين؛ إمّا أن يكون يراد بـ"الحُسْنِ": "الحَسَنُ" كما تقول: "البَخَل" و"البُخْل"، وإمّا أن يكون جعل "الحُسْن" هو "الحَسَن" في التشبيه كما تقول: "إنّما أنت أكلٌ وشربٌ"، قال الشاعر:

وخيلٍ قد دلفتٌ لها بخيلٍ = تحيّة بينهم ضربٌ وجيعٌ
"دلفت": "قصدت" فجعل التحية ضربا، وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثيرة وقد جاءت في القرآن.
وقد قرأها بعضهم (حَسَنًا) يريد: "قولوا لهم حسناً"، وقال بعضهم (قولوا للناس حسنى) يؤنثها ولم ينّونها، وهذا لا يكاد يكون لا "الحسنى" لا يتكلم بها إلا بالألف واللام، كما لا يتلكم بتذكيرها إلا بالألف واللام [فـ] لو قلت: "جاءني أحسن وأطول" لم يحسن حتّى تقول: "جاءني الأحسن والأطول" فكذلك هذا يقول: "جاءتني الحسنى والطولى"، إلاّ أنهم قد جعلوا أشياء من هذا أسماء نحو "دنيا" و"أولى"، قال الراجز:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت
ويقولون: "هي خيرة النساء" ["هنّ خيرات النّساء"] لا يكادون يفردونه وإفراده جائز، وفي كتاب الله عز وجل: {فيهنّ خيراتٌ حسان} وذلك أنه لم يرد "أفعل" وإنما أراد تأنيث الخير لأنه لما وصف فقال: "فلان خيرٌ" أشبه الصفات فأدخل الهاء للمؤنث.
وأما قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ثم قال: {وقولوا للنّاس حسناً} ثم قال: {ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم} فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير، قال الشاعر:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ = لدينا ولا مقليةٌ إن تقلّب
وإنما يريدون: "تقلّيت"، وقال الآخر:

شطّت مزار العاشقين فأصبحت = عسراً عليّ طلابك ابنةٌ مخرم
إنّما أراد: "فأصبحت ابنة مخرمٍ عسراً على طلابها"، وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال: "شطّت مزار العاشقين" كأنه قال: "شططت مزار العاشقين" لأنه إيّاها يريد بهذا الكلام، ومثله مما يخرج من أوله قوله:
إنّ تميماً خلقت ملموما
فأراد القبيلة بقوله: "خلقت" ثم قال "ملموما" على الحي أو الرجل، ولذلك قال:
مثل الصّفا لا تشتكي الكلوما
ثم قال:
قوماً ترى واحدهم صهميما
فجاء بالجماعة لأنه أراد القبيلة أو الحي، ثم قال:
لا راحم الناس ولا مرحوما
وقال الشاعر:

أقول له والرمح يأطرمتنه = تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا
و "تبيّن خفافاً"، يريد: "أنا هو"، وفي كتاب الله عز وجل: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لأن ذلك يدل على المعنى، وقال الأسود:

وجفنةٍ كإزاء الحوض مترعةٍ = ترى جوانبها بالشّحم مفتونا
فيكون على أنه حمله على المعنى، أي: ترى كلّ جانبٍ منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام، وقوله "مأطر متنه" يثنى متنه. وكذلك {الحمد للّه ربّ العالمين} ثم قال: {إيّاك نعبد} لأن الذي أخبر عنه هو الذي خاطب، قال رؤبة:

الحمد للّه الأعزّ الأجلل = أنت مليك الناس ربّاً فاقبل
وقال زهير:

فإنّي لو ألاقيك اجتهدنا = وكان لكلّ منكرةٍ كفاء
فأبرئ موضحات الرأس منه = وقد يشفى من الجرب الهناء
وقال الله تبارك وتعالى: {ذوقوا فتنتكم هذا الّذي كنتم به تستعجلون} فذكّر بعد التأنيث، كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون، ومثله {فلماّ رأى الشّمس بازغةً قال هذا ربّي هذا أكبر فلمّا أفلت} فيكون هذا على: الذي أرى ربّي، أي: هذا الشيء ربي، وهذا يشبه قول المفسرين {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} قال: إنّما دخلت "إلى" لأن معنى "الرفث" و"الإفضاء" واحد، فكأنه قال: "الإفضاء إلى نسائكم"، وإنما يقال: "رفث بامرأته" ولا يقال: "إلى امرأته"، وذا عندي كنحو ما يجوز من "إلى" في مكان "الباء" ، في مكانها، وفي مكان "على" في قوله: {فأثابكم غمّاً بغمٍّ} إنما هو "غمّاً على غمٍّ" [وقوله] {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ} أي: "على قنطارٍ"، كما تقول: "مررت به" و"مررت عليه"، كما قال الشاعر -وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب-:

إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ = لعمر اللّه أعجبني رضاها
يريد: "عنى"، وذا يشبه {وإذا خلوا إلى شياطينهم} لأنك تقول: "خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا" و"خلوت به"، وإن شئت جعلتها في معنى قوله: {من أنصاري إلى اللّه} أي: "مع اللّه"، وكما قال: {ونصرناه من القوم} أي: "على القوم"). [معاني القرآن: 1/97-100]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): (و"الميثاق": العهد). [غريب القرآن وتفسيره: 75]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه} أمرناهم بذلك فقبلوه، وهو أخذ الميثاق عليهم.
{وبالوالدين إحساناً} أي: وصّيناهم بالوالدين إحسانا، مختصر كما قال: {وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناً} أي: ووصى بالوالدين). [تفسير غريب القرآن: 56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم وأنتم معرضون} القراءة على ضربين، (تعبدون) و(يعبدون) بالياء والتاء، وقد روي وجه ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف، قرأ ابن مسعود: (لا تعبدوا).
ورفع {لا تعبدون} -بالتاء- على ضربين، على أن يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس} فجاء جواب القسم باللام فكذلك هو بالنفي بـ"لا"، ويجوز أن يكون رفعه على إسقاط "أن" على معنى "ألا تعبدوا" فلما سقطت "أن" رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيره من النحويين،
فأما القراءة بالتاء؛ فعلى معنى الخطاب والحكاية، كأنّه قيل: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأمّا (لا يعبدون) بالياء فإنهم غيب، وعلامة الغائب الياء.
ومعنى "أخذ الميثاق والعهد" قد بيّناه قبل هذا الموضع.
وقوله عزّ وجلّ: {وبالوالدين إحسانا} نصب على معنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، بدل من اللفظ (أحسنوا).
{وذي القربى واليتامى}: جمع على فعالى، كما جمع أسير على أسارى، يقال: يَتِم يَيْتَم يُتْمًا ويَتْمًا إذا فقد أباه، هذا للإنسان فأمّا غيره فيتمه من قبل أمه.
أخبرني بذلك محمد بن يزيد، عن الرياشي، عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم،
{والمساكين} مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنّه قد أسكنه الفقر.
وقوله عزّ وجلّ: {وقولوا للنّاس حسنا} فيها ثلاثة أقوال:
(حسْنًا) بالتنوين وإسكان السين، و(حسَنًا) بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش (حسنى) غير منون.
فأما الوجهان الأولان؛ فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما "حسنى" فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن والحسنى، والأفضل والفضلى، لا يستعمل إلا بالألف واللام، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى} وقال: {للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.
وفي قوله {حسنا} بالتنوين قولان:
المعنى: قولوا للناس قولا ذا حسن، وزعم الأخفش أنّه يجوز أن يكون (حُسْنًا) في معنى (حَسَنًا)، فأمّا (حُسْنًا) فصفة، المعنى: قولا حسنا،
وتفسير: {قولوا للناس حسنا} مخاطبة لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم} يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق،
وقوله {وأنتم معرضون} أي: وأنتم -أيضا- كأوائلكم في الإعراض عمّا عهد إليكم فيه،
ونصب {إلّا قليلا} على الاستثناء، والمعنى: استثني قليلا منكم). [معاني القرآن: 1/162-164]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("المِيثَاقَ": العهد). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا تسفكون دماءكم} سفك دمه: أي صبّ دمه، كما يسفح نحي السمن: يهريقه).
[مجاز القرآن: 1/45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم مّن دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}
[وقوله] {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} فرفع هذا، لأنه كلّ ما كان من الفعل على "يفعل هو" و"تفعل أنت" و"أفعلٌ أنا" و"نفعل نحن" فهو أبداً مرفوع، لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة، وليس شيء من ذلك ههنا وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء، ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: "استحلفناهم لا يعبدون" أي: قلنا لهم: "واللّه لا تعبدون"، وذلك أنها تقرأ (يعبدون) و{تعبدون}.
قال: {وحفظاً مّن كلّ شيطان مّاردٍ * لاّ يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون} فإن شئت جعلت "لا يسّمّعون" مبتدأ، وإن شئت قلت: هو في معنى "أن لا لا يسّمّعوا" فلما حذفت "أن" ارتفع، كما تقول: "أتيتك تعطيني وتحسن إليّ وتنظر في حاجتي"، ومثله: "مره يعطيني" إن شئت جعلته على "فهو يعطيني"، وإن شئت على "أن يعطيني"، فلما ألقيت "أن" ارتفع، قال الشاعر:

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغي = وأن أتبع اللّذّات هل أنت مخلدي
فـ"أحضر" في معنى "أن أحضر"). [معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دم بعض.
{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره ويغلبه عليها.
{ثمّ أقررتم} أي: ثمّ قبلتم ذلك وأقررتم به.
{وأنتم تشهدون} على ذلك). [تفسير غريب القرآن:56-57]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} يقال: سفكت الدم أسفكه سفكا إذا صببته، ورفع {لا تسفكون} على القسم، وعلى حذف "أن" كما وصفنا في قوله: {لا تعبدون}، ومثل حذف "أن" قول طرفة:

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى= وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وواحد الدماء دم -يا هذا- مخفف، وأصله "دمى" في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر:

فلو أنّا على حجر ذبحنا= جرى الدّميان بالخبر اليقين
وقال قوم: أصله "دمي" إلا إنّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا.
وقوله عز وجل: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} عطف على {لا تسفكون دماءكم}.
وقوله: {ثم أقررتم} أي: اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق).
[معاني القرآن: 1/164-165]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دماء بعض، وكذلك {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم...}
إن شئت جعلت {هو} كناية عن الإخراج، {وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم} أي: وهو محرّم عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا حال بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بـ{محرم}؛ كما قال الله جل وعزّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} فالمعنى -والله أعلم-: ليس بمزحزحه من العذاب التّعمير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد في الظّنّ لأنّه ناصب، وفي "كان" و"ليس" لأنهما يرفعان، وفي "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصبن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ،
قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع في كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا رأيت الواو في موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح في ذلك العماد؛ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛ لأنّ الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الواو الاسم أدخلوا لها "هو" لأنّه اسمٌ .
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاس أحسابهم، وأنشدني بعض العرب:

فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته = على العيس في آباطها عرقٌ يبس
بأنّ السّلامي الذي بضريّةٍ = أمير الحمى قد باع حقّي بني عبس
بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ = فهل هو مرفوعٌ بما ها هنا رأس
فجعل مع "هل" العماد وهي لا ترفع ولا تنصب؛ لأن "هل" تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا"، تقول: ما هو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد). [معاني القرآن: 1/50-52]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ الّعذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: (تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) فجعلها من "تتظاهرون" وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ، وقد قرئت {تظاهرون} مخففة بحذف التاء الآخرة لأنّها زائدة لغير معنى، وقال: (وإن يأتوكم أسرى) وقرئت {أسارى}، وذلك لأن "أسير" "فعيل"، وهو يشبه "مريضاً" لأنّ به عيبا كما بالمريض، وهذا "فعيل" مثله، وقد قالوا في جماعة "المريض": "مرضى"، وقالوا: "أسارى" فجعلوها مثل "سكارى" و"كسالى"، لأنّ جمع "فعلان" الذي به علة قد يشارك جمع "فعيل" وجمع "فعل" نحو: "حبطٌ" و"حبطى" و"حباطى" و"حبجٌ" و"حبجى" و"حباجى"، وقد قالوا: "أسارى" كما قالوا: "سكارى".
وقال بعضهم: (تفدوهم) من "تفدى"، وبعضهم: {تفادوهم} من "فادى" يفادي" وبها نقرأ، وكل ذلك صواب.
وقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ}، وقال: {ما هذا إلاّ بشرٌ مّثلكم} و{وما أمرنا إلاّ واحدةٌ} رفع، لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر "ما" فهو رفع، لأن "ما" لا تشبه في ذلك الموضع بالفعل، وإنما تشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى "ليس" لا يشركها معه شيء، وذلك قول الله عز وجل: {ما هذا بشراً}، وتميم ترفعه، لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا "ما" بالفعل.
وقال: {ثمّ أنتم هؤلاء} وفي موضع آخر {ها أنتم هؤلاء} كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب، وردّد التنبيه توكيدا، وتقول: "ها أنا هذا" و"ها أنت هذا" فتجعل "هذا" للذي يخاطب، وتقول: "هذا أنت"، وقد جاء أشد من ذا، قال الله عز وجل: {ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة} والعصبة هي تنوء بالمفاتيح، قال:

تنوء بها فتثقلها = عجيزتها......
يريد: "تنوء بعجزيتها"، أي: "لا تقوم إلا جهدا بعد جهد"، قال الشاعر:

مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت = نجران أو بلغت سوآتهم هجر
وهو يريد أن السوآت بلغت هجراً، و"هجر" رفعٌ لأنّ القصيدة مرفوعة، ومثل ذا قول الشاعر:

وتلحق خيلٌ لا هوادة بينها = وتشقى الرّماح بالضياطرة الحمر
والضياطرة هم يشقون بالرماح، و"الضياطرة" هم العظام وواحدهم "ضيطار" مثل "بيطار"، ومثل قول الشاعر:

لقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي = على وعلٍ بذي الفقارة عاقل
يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي). [معاني القرآن: 1/101-103]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقد بينت معنى هذه الآية في المشكل.
{تظاهرون}: تعاونون، والتّظاهر: التعاون، ومنه قوله: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه} أي: تعاونا عليه، و"اللّه ظهير" أي: عون. وأصل التّظاهر من الظّهر، فكأنّ التظاهر: أن يجعل كلّ واحد من الرجلين أو من القوم، الآخر له ظهرا يتقوّى به ويستند إليه).
[تفسير غريب القرآن: 57]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}
{ثم أنتم هؤلاء} الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم وهذا نقض عهدهم
وقوله عزّ وجلّ: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} قرئت بالتخفيف والتشديد، {تظاهرون} و(تظّاهرون)، فمن قرأ بالتشديد؛ فالأصل فيه (تتظاهرون) فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين، ومن قرأ بالتخفيف؛ فالأصل فيه -أيضا- (تتظاهرون) فحذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين.
وتفسير {تظاهرون}: تتعاونون، يقال: قد ظاهر فلان فلانا إذا عاونه، منه قوله {وكان الكافر على ربه ظهيرا} أي: معينا.
وقوله عزّ وجلّ: {بالإثم والعدوان} العدوان: الإفراط في الظلم؛ ويقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء، هذا كله معناه: المجاوزة في الظلم. وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعدوا في السّبت} إنما هو من هذا، أي: لا تظلموا فيه.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} القراءة في هذا على وجوه:
(أسرى تَفْدوهم) و(أسرى تُفَادوهم)، و(أُسَارى تفادوهم)، ويجوز (أَسَارى) ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع "فُعالى".
أعلم الله مناقضتهم في كتابه وأنه قد حرّم عليهم قتلهم وإخراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونهم إذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبّخهم فقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا} يعني: ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا إلى الشام،
و(بني) قريظة أبيدوا -حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذراري- فقال الله عزّ وجلّ: {ذلك لهم خزي في الدّنيا}، ولغيرهم من سائر الكفار: الخزي في الدنيا: القتل وأخذ الجزية مع الذلة والصغار.
ثم أعلم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك غير مكفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم، فقال: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}.
ومعنى {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}
{هؤلاء} في معنى "الذين"، و{تقتلون} صلة لـ{هؤلاء}، كقولك: ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ومثله قوله: {وما تلك بيمينك يا موسى}.
وقوله عزّ وجلّ: {وهو محرم عليكم إخراجهم}
{هو} على ضربين:
جائز أن يكون بإضمار الإخراج الذي تقدم ذكره، قال: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ... وهو محرم عليكم إخراجهم}، ثم بين -لتراخي الكلام- أن ذلك الذي حرم الإخراج.
وجائز أن يكون للقصة والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إخراجهم، كما قال عزّ وجلّ: {قل هو اللّه أحد} أي: الأمر الذي هو الحق توحيد اللّه عزّ وجلّ .
{خزي} يقال في الشر والسوء: خزي الرجل خزيا، ويقال في الحياء: خزي يخزي خزاية.
ومعنى {يردون إلى أشد العذاب}، و{عذاب عظيم}، و{عذاب أليم} أن العذاب على ضربين، على قدر المعاصي.
والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلّا الأشقى * الّذي كذّب وتولّى} فهذه النار الموصوفة ههنا لا يدخلها إلا الكفار). [معاني القرآن: 1/165-168]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{تظاهرون}: تعاونون). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{الخزي}: المباعدة من الخير). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تظاهرون} أي: تعاونون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تَظَاهَرُونَ}: تعاونون). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:39 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة